«هذا التيار الذي ينمو جنبا إلى جنب مع نمو الثورة، والقادر على التنبؤ بغده وما بعد الغد، والذي يضع لنفسه أهدافا واضحة ويعرف كيفية تحقيقها.» (تروتسكي، حول سياسة حزب العمال الشيوعي الألماني، خطاب ألقاه في دورة اللجنة التنفيذية لأممية الشيوعية، 24 نوفمبر 1920)
[العنوان الأصلي: قرار التيار الماركسي الأممي حول الوضع الراهن]
إن الأحداث الدرامية في تركيا والبرازيل ومصر، مؤشر واضح على أننا دخلنا مرحلة جديدة كليا على الصعيد العالمي. ونحن بحاجة لدراسة العمليات الأساسية من أجل مكافحة أي ميل إلى الروتين.
منذ الحرب العالمية الثانية كانت هناك سبع حالات ركود اقتصادي، لكن هذا الأخير هو أخطر ركود في التاريخ. معدل التعافي أبطأ بكثير من أي انخفاض شهده الاقتصاد خلال المائة عام الماضية. وبعد خمس سنوات من بداية الأزمة، ما زال الاقتصاد العالمي غارقا في الركود والكساد.
إن الانتعاش في الولايات المتحدة الأمريكية بطيء وهش للغاية. وأوروبا في حالة ركود عميق. والقوة المحركة لنموها سابقا، أي ألمانيا، تقف على حافة الركود. أما اقتصادات جنوب أوروبا الأضعف فغارقة في ركود عميق. وفي الوقت نفسه يتسبب تباطؤ الاقتصاد الصيني في إثارة القلق، وتدخل اقتصادات ما يسمى بـ BRICا[1] بدورها في أزمة.
تمثل أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان 90٪ من الاستهلاك. إذا لم تستهلك هذه البلدان فإن الصين لا يمكنها أن تنتج. وإذا لم تنتج الصين (على الأقل بنفس القدر)، فإن بلدانا مثل البرازيل والأرجنتين وأستراليا لا يمكنها أن تبيع موادها الخام.
وبالتالي فإن العولمة تظهر باعتبارها الأزمة العالمية للرأسمالية. إن التراكم الهائل للديون يشكل ثقلا كبيرا على الاقتصاد، ويمنع أي انتعاش ذا مغزى. وعندما يقومون في كل مكان بتخفيض مستويات المعيشة، فإنهم يخفضون الطلب ويعمقون الأزمة.
وقد أثبتت محاولات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إبقاء أسعار الفائدة منخفضة بضخ السيولة في الاقتصاد (“التيسير الكمي”)[2] كونها غير مجدية في زيادة الإنتاج. يقترض الرأسماليون الأموال بأسعار فائدة منخفضة ويستخدمونها للمضاربة في أسواق الأسهم. يستخدمونها إما من أجل الاستيلاء على شركات أخرى، أو لشراء أسهم في شركاتهم الخاصة من أجل دفع سعر الأسهم إلى الارتفاع. وهذا ما يفسر ازدهار أسواق الأسهم في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد الأمريكي يشهد مجرد نمو بطيء فقط.
إن التيسير الكمي عملية قمار هائلة. لقد اعتقدوا أنه لا يمكن أن يكون هناك تضخم عندما تكون الأسواق ممتدة. لذلك قاموا بضخ المزيد من الأموال في الاقتصاد، على أمل تنشيط الاقتصاد. وكان هذا مثل قيام المدمن على المخدرات بضخ المخدرات في دمائه من أجل الوصول إلى “النشوة”. ولكن هذه السياسة تخضع لقانون تناقص المداخيل. والنتيجة هي بالتالي الحاجة إلى كميات أكبر للحصول على نفس النتائج.
أشار خبراء النقد (بشكل صحيح) إلى أن “التيسير الكمي” سيتسبب عاجلا أو آجلا في انفجار التضخم. هذا بدوره سيؤدي إلى زيادة حادة في أسعار الفائدة، وكرجل يدوس على فرامل السيارة، إلى انكماش جديد وأكثر عمقا. لكن بمجرد أن أعلن الاحتياطي الفيدرالي عن نيته إيقاف التيسير الكمي، حدثت تراجعات حادة في أسواق الأسهم في جميع أنحاء العالم. الشيء الذي أظهر درجة قلق البرجوازية والطبيعة الهشة للغاية للـ “الانتعاش”.
لا توجد سابقة للأزمة الحالية في درجة اتساعها وطابعها العالمي. صحيح أنه لا توجد أزمة نهائية للرأسمالية، لكن مجرد التأكيد على أن الرأسمالية يمكنها التعافي من الأزمات لا يخبرنا شيئا عن المرحلة التي تمر منها الرأسمالية.
والسؤال الذي يجب الإجابة عليه هو: كم ستدوم؟ وبأية طريقة سيتم العثور على الحل؟ وبأي ثمن؟ يتوقع بعض الاقتصاديين البرجوازيين أن الأمر سيستغرق 20 سنة لإيجاد حل لأزمة اليورو. إن عقدين من انخفاض مستويات المعيشة والتقشف يعني انفجار الصراع الطبقي في كل مكان. وهذا هو ما تخشاه الطبقة الحاكمة.
إن الطبقة الحاكمة لن ترفض فقط تقديم إصلاحات جديدة، بل لا يمكنها حتى أن تسمح بوجود تلك المكاسب التي تحققت في الماضي. هذه هي الوصفة الملائمة للصراع الطبقي. ولذلك، فإننا سنواجه سنوات، وربما عقودا، من انخفاض مستويات المعيشة. وسيكون لذلك تأثير عميق على الوعي.
من تركيا إلى البرازيل
أدى ازدهار الرأسمالية إلى إخفاء التناقضات الكامنة في المجتمع، لكن ليس لإزالتها. لم تتوزع مكاسب الازدهار الاقتصادي بشكل متساو. ووفقا للأمم المتحدة يملك أغنى 2% من سكان العالم أكثر من نصف الثروة العالمية، في حين لا يمتلك نصف سكان العالم الأكثر فقرا سوى 1% من الثروة العالمية.
لقد انفتحت هوة لا يمكن تجاوزها بين الأغنياء والفقراء في كل مكان. وعلى حد قول ماركس: «تراكم الثروة في قطب هو بالتالي، وفي نفس الوقت، تراكم للبؤس والعذاب والعبودية والكدح والجهل والهمجية والانحطاط الأخلاقي في القطب المعاكس، أي في جانب الطبقة التي تنتج منتجاتها الخاصة بها على شكل رأسمال» (كارل ماركس: رأس المال)
هذه هي الخلفية الاقتصادية للانفجارات الاجتماعية التي شهدتها تركيا والبرازيل، والتي تمثل تغيرا مفاجئا في الوضع. لقد كان ينظر لكلا البلدين باعتبارهما نماذج للنمو الاقتصادي والاستقرار السياسي والاجتماعي. أما الآن فكل شيء تحول إلى نقيضه.
يجد مأزق الرأسمالية التعبير عنه في قفزات مفاجئة للوعي عند الجماهير. التغييرات المفاجئة والحادة في الوعي مسألة متضمنة في الوضع ويجب أن نكون مستعدين لها. في كل مكان هناك غضب متصاعد تحت السطح، والذي عبر عن نفسه من خلال انفجار شامل في تونس ومصر واسبانيا واليونان وتركيا وبلغاريا ورومانيا والبرازيل وغيرها. وتواجه كل من روسيا والصين والمملكة العربية السعودية تطورات مماثلة.
إن ما نراه هو بداية الثورة العالمية. والأحداث التي يشهدها بلد واحد يكون لها تأثير كبير على الوعي في بلدان أخرى. كما أن أساليب الاتصال الحديثة تمكن من استنساخ الأحداث بسرعة البرق. وتنتقل الثورة من بلد إلى آخر كما لو أنه لم تعد للحدود القديمة أية أهمية.
تقع هذه الانفجارات بسبب قضايا ذات طابع عرضي على ما يبدو: مخطط لبناء مركز للتسوق في حديقة في اسطنبول، وزيادة في أسعار تذاكر الحافلات في ساو باولو. لكنها في الواقع انعكاسات لنفس الظاهرة: الضرورة تعبر عن نفسها من خلال الصدفة. إن هذا انعكاس لتناقضات تراكمت على مدى عقود تحت السطح. وبمجرد ما تصل السيرورة إلى نقطة حرجة، يصير في إمكان أي حادث صغير أن يدفع الجماهير إلى التحرك.
لقد فاجأت الأحداث في تركيا المعلقين الرأسماليين. لكن وفي غضون أيام اجتاحت احتجاجات حاشدة مماثلة البرازيل، العملاق الاقتصادي لأمريكا اللاتينية، مع خروج مئات الآلاف إلى الشوارع. كانت هذه أكبر مظاهرات منذ أكثر من عشرين عاما. وقد كشفت عن التناقضات التي تراكمت على شكل ضعف الرعاية الصحية، وضعف التعليم وتفشي الفساد.
إن ما أنقذ البرجوازية حتى الآن هو عدم وجود تنظيم وقيادة مناسبين. ويظهر هذا بشكل أكثر وضوحا في حالة مصر.
الثورة المصرية الثانية
ستتناوب فترات من الصراع الطبقي الحاد مع فترات من التعب واللامبالاة وفترات الهدوء، وحتى الردة. لكن هذه ستكون مجرد مقدمة لتطورات جديدة وأكثر تفجرا. ويظهر هذا بوضوح من خلال الثورة المصرية.
في مصر، وبعد شهور من خيبة الأمل والتعب، خرج 17 مليون متظاهر إلى الشوارع في انتفاضة شعبية لم يسبق لها مثيل. لقد نجحت الجماهير، بدون أي حزب أو تنظيم أو قيادة، في إسقاط حكومة مرسي المكروهة خلال بضعة أيام فقط.
حاولت وسائل الإعلام الغربية تصوير هذه الأحداث بكونها انقلابا. لكن الانقلاب هو بالتحديد حركة أقلية صغيرة تتآمر للاستيلاء على السلطة وراء ظهر الشعب. لكن هنا كان الشعب الثوري في الشوارع، وكان هو القوة المحركة الحقيقية وراء الأحداث.
في كل ثورة حقيقية تكون حركة الجماهير هي القوة المحركة. ومع ذلك فإن الماركسيين، وعلى عكس الفوضويين، لا يقدسون العفوية، التي لديها نقاط قوتها لكن لديها أيضا نقاط ضعفها. يجب علينا أن نفهم حدود العفوية.
كان بإمكان الجماهير في مصر أن تستولي على السلطة في نهاية يونيو. بل لقد كانت السلطة بين أيديها في الواقع، لكنها لم تكن على علم بذلك. يحمل هذا الوضع بعض أوجه التشابه مع مرحلة فبراير 1917 في روسيا، حيث أشار لينين إلى أن السبب الوحيد لعدم استيلاء العمال على السلطة لا علاقة له بالشروط الموضوعية، بل بالشروط الذاتية:
«لماذا لم يستولوا على السلطة؟ “لهذا السبب وذاك” يقول ستيكلوف. هذا هراء. الحقيقة هي أن البروليتاريا ليست منظمة وواعية طبقيا بما فيه الكفاية. لا بد من الاعتراف بذلك: إن القوة المادية في أيدي البروليتاريا لكن البرجوازية ظهرت مستعدة وواعية طبقيا. هذه حقيقة قبيحة، وينبغي أن يتم الاعتراف بها بصراحة ووضوح، ويجب إخبار الشعب بأنه لم يستول على السلطة لأنه كان غير منظم وغير واع بما فيه الكفاية». (لينين، الأعمال الكاملة، المجلد 36، الصفحة 437، -الطبعة الانجليزية- خط التشديد من عندنا).
العمال والشباب المصريون يتعلمون بسرعة في مدرسة الثورة. هذا هو السبب في أن انتفاضة يونيو كانت أوسع بكثير وأعمق وأسرع وأكثر وعيا من الثورة الأولى التي وقعت قبل سنتين ونصف. لكنهم ما زالوا يفتقرون إلى الخبرة اللازمة والنظرية الثورية التي من شأنها أن تمكن الثورة من تحقيق نصر سريع وغير مؤلم نسبيا.
إن الوضع الحالي هو وضع جمود لا يمكن فيه لأي طرف أن يدعي النصر الكامل. هذا هو ما مكن الجيش من رفع نفسه فوق المجتمع وتقديم نفسه باعتباره الحكم الأسمى للأمة، رغم أن السلطة الحقيقية في الواقع كانت في الشوارع. إن الثقة التي أعرب عنها بعض الناس في دور الجيش تظهر سذاجة كبرى. إن البونابارتية تمثل خطرا كبيرا على الثورة المصرية. وسيتخلص وعي الجماهير من هذه السذاجة بفضل مدرسة الحياة القاسية.
لقد تم إسقاط الثورة المضادة الواضحة للإخوان المسلمين من السلطة، لكن وبسبب حدود طبيعتها العفوية البحتة (أي غير المنظمة)، فشلت الثورة في الاستيلاء على السلطة. فمن ناحية ينظم الرجعيون الإسلاميون تمردا معاديا للثورة يهدد بانزلاق البلاد إلى حرب أهلية، ومن جهة أخرى تناور العناصر البرجوازية والجنرالات والإمبرياليون لسرقة النصر الذي حققته الجماهير بدمائها.
كانت الثورة قوية بما يكفي لتحقيق الهدف المباشر: الإطاحة بمرسي والإخوان المسلمين. لكنها لم تكن قوية بما يكفي لمنع سرقة ثمار انتصارها من طرف الجنرالات والبرجوازية. سيكون عليها أن تمر من مدرسة قاسية أخرى من أجل أن ترفع نفسها إلى مستوى ما هو ضروري لتغيير مسار التاريخ.
تمكن الثورة الناس من التعلم بسرعة. لو كان هناك قبل عامين في مصر حزب يشبه الحزب البلشفي بقيادة لينين وتروتسكي، مشكل ولو من 8000 عضو، كما كان الحال في شهر فبراير عام 1917، لكان الوضع كله سيكون مختلفا تماما. لكن مثل هذا الحزب غير موجود. ومن الضروري بناءه في خضم الأحداث.
لقد أصيب منظرو الرأسمالية بهلع حقيقي بسبب هذه التطورات. وإذا نحينا جانبا كل العناصر غير الأساسية والعرضية، سنجد أن ما يوحي بهذه الحركات ويقودها هو نفس الأشياء. إن ما لدينا هنا هو ظاهرة أممية: وجود اتجاه نحو حركة ثورية عالمية. ونحن نرى تطورات مماثلة قد بدأت في أوروبا.
أزمة اليورو
تعبر الأزمة في أوروبا بشكل أكثر درامية عن مرض الرأسمالية العالمية. كانت الفكرة هي جعل الطبقة العاملة تؤدي ثمن الأزمة من خلال فرض سياسات التقشف. لكن رغبة الجماهير في القبول بالمزيد من التخفيضات في مستويات المعيشة لها حدود، وقد وصلت لتلك الحدود. في البرتغال أدى الضغط المستمر على مستويات المعيشة إلى تصاعد التوترات الاجتماعية والسياسية، مما انعكس في إضراب عام ومظاهرات حاشدة أغرقت الحكومة في الأزمة.
اليورو ليس هو سبب الأزمة، لكن كل المحاولات لإنقاذ اليورو أجبرتهم على اعتماد خطط تقشف وحشية وهو ما يدفع بهم أعمق فأعمق في الركود. ونتيجة لذلك فإن البطالة تتزايد، والاقتصاد يتعثر، والسياسة الضريبية تفشل، والعجز يتفاقم بشكل مستمر.
هناك انقسام متزايد بين ألمانيا وبين البلدان الأضعف في جنوب أوروبا، وأيضا بين ألمانيا وبين فرنسا التي، وبسبب ضعفها، تصير أقرب إلى الجنوب. تود ألمانيا إلقاء كل عبء الأزمة على كاهل الأعضاء الأضعف في منطقة اليورو، مما يفرض تحديات هائلة على وحدة هذه المنطقة. وبالتالي فإنه ليس من المستحيل أن تؤدي هذه التحديات في النهاية إلى تفكك، ليس منطقة اليورو فقط، بل والاتحاد الأوروبي نفسه.
هذا الاحتمال يروع البرجوازية، ليس فقط على هذا الجانب من المحيط الأطلسي بل أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية. إذا تفكك الاتحاد الاوروبي فإن ذلك سيفتح الباب أمام حروب العملة والتنافس في تخفيض القيم والحروب التجارية، الشيء الذي من شأنه أن يعبد الطريق لركود عميق مع آثار كارثية على الصعيد العالمي.
العديد من الاقتصاديين يتحدثون الآن علنا على احتمال انهيار الاتحاد الأوروبي. وخوفا من النتائج قد ينجحون، على عكس كل التوقعات، في الإبقاء على نوع من الوحدة، ولكن حتى إذا فعلوا ذلك لن يبق الكثير في المشروع الأصلي.
الصراع الطبقي يحتد. والانفجارات الثورية على جدول الأعمال في أوروبا. الإمكانيات الثورية في أوروبا تظهر بشكل أوضح في بلدان مثل اليونان واسبانيا وايطاليا. لكن فرنسا ليست بعيدة بكثير، وقد كانت أعمال الشغب في بريطانيا تحذيرا من أن مثل هذه الأحداث ممكنة في بريطانيا خلال الفترة المقبلة.
تواجه البرجوازية مشكلة خطيرة: إذ يجب عليها أن تتراجع عن كل التنازلات التي قدمتها على مدى السنوات الخمسين الماضية. لكن ميزان القوى الطبقي غير موات بالنسبة لها.
في بلدان مثل اليونان يمكن للمرء أن يقول إن الثورة قد دخلت بالفعل مرحلتها الأولى. إن هذه السيرورة متفاوتة طبعا، حيث تتطور بسرعة هائلة في بعض البلدان، ولا سيما في جنوب أوروبا، وبوتيرة أبطأ في تلك البلدان التي راكمت طبقة من الدهون خلال الفترة الماضية. لكن في كل مكان تسير العملية في نفس الاتجاه.
اليونان
في اليونان هناك حركة في اتجاه الثورة. وقد أظهر العمال والشباب عزما هائلا ورغبة كبيرة في النضال، لكنهم لم يحصلوا على برنامج واضح لتغيير المجتمع. وهذا هو ما يريدونه لكنهم لا يعرفون كيفية التعبير عن ذلك، هذا بيت القصيد. لو توفر تيار ماركسي قوي لكانت اليونان على أهبة الانتفاضة الثورية. لكن قوتنا الصغيرة ليست قوية بما يكفي لتوفير القيادة اللازمة.
كان هناك هدوء مؤقت لأن العمال نظموا اضرابات عامة لمدة 24 ساعة الواحد بعد الآخر، لكنهم لم يحققوا شيئا. ما زال المزاج ثوريا. لكن النقابة الإصلاحية والقادة الستالينيون يقيدون الطبقة العاملة. إلا أن الصراع حول شركة البث العمومية (ERT) يدل على أن الحركة يمكنها أن تنفجر مرة أخرى في أي وقت. إذ لم يتم حل أي شيء.
حكومة ساماراس ضعيفة ومنقسمة. وساماراس تجريبي بحت. انه يترنح من أزمة إلى أخرى دون أية فكرة واضحة حول أين هو ذاهب. الحكومة أضعف من أن تفعل ما يجب القيام به. إنها منقسمة ولا يمكنها أن تستمر. عاجلا أو آجلا ستمرر البرجوازية الكأس المسمومة لتسيبراس وسيريزا[3].
يرغب قسم من الطبقة الحاكمة، بدون شك، في السير نحو الردة الرجعية. لكنهم يعرفون أن هذا سيعني اندلاع حرب أهلية، ليسوا متأكدين من الفوز فيها. ولذلك سوف يرسلون العمال إلى مدرسة الإصلاحية لتعلم الدرس. وسوف يكون درسا مؤلما جدا. من شأن حكومة بقيادة سيريزا أن تواجه خيارا واضحا: إما القطيعة مع البرجوازية والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، أو الاستسلام لضغوط البرجوازية وتنفيذ السياسات التي تمليها الترويكا. ليس هناك طريق ثالث.
لقد أصبح تسيبراس شعبيا جدا لأنه ظهر كمدافع عن سياسات راديكالية، وعن مقاطعة الاستفتاء، الخ. لكنه بمجرد ما اقترب من السلطة عمل على تخفيف لهجته. إنه يحرص على عدم الوعد بالكثير لكي لا يخيف البرجوازية ولكي يكبح تطلعات الجماهير.
ومع ذلك، فإن التطلعات ستكون كبيرة جدا. فإذا فشلت حكومة يسارية ائتلافية بقيادة سيريزا في اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد الشركات الكبرى، سوف يؤدي ذلك إلى موجة من خيبة الأمل المريرة، وسيعبد الطريق لصعود ائتلاف أكثر يمينية، ربما بين حزبي الديمقراطية الجديدة والفجر الذهبي.
في ظل هذه الظروف سينمو حزب الفجر الذهبي على اليمين، بينما على اليسار سينمو الحزب الشيوعي اليوناني. وطيلة مرحلة كاملة سوف تصعد حكومات ضعيفة واحدة بعد الأخرى. سوف تعطي تحالفات اليسار المجال لتحالفات اليمين. لكن لا يمكن لأي مزيج من القوى البرلمانية أن يحل الأزمة.
ستتحرك الطبقة الحاكمة اليونانية بحذر، ستعمل على اختبار الأرض عبر العمل تدريجيا على تمرير قوانين وتدابير رجعية لتقييد الحقوق الديمقراطية. وستحاول المضي نحو نظام بونابارتي برلماني قبل فرض ديكتاتورية مفتوحة.
لكن قبل وقت طويل من أن تتمكن الردة الرجعية من الانتصار سوف تكون هناك سلسلة كاملة من الانفجارات الاجتماعية، التي ستطرح مسألة السلطة. في ظل هذه الظروف، يمكن للتيار الثوري بناء قواته بسرعة. لدى الفرع اليوناني مسؤولية كبيرة على عاتقه، ويجب أن توضع المسألة اليونانية على رأس جدول أعمال المنظمة الأممية بأسرها.
الوعي
هناك تناقض بين مستوى وعي الحركة وبين المهام التي يطرحها التاريخ. ولا يمكن حل هذا التناقض إلا عن طريق التجربة الجماهيرية.
يميل الوعي دائما إلى أن يتخلف وراء الأحداث. لكن يمكن للوعي التطور بطفرة. وهذا هو المعنى الحقيقي للثورة. إن جوهر الثورة هو التغييرات السريعة في مزاج الجماهير. يمكن للانفجارات أن تحدث فجأة، دون سابق إنذار، وعندما تكون مستبعدة الحدوث. كان هذا هو معنى الأحداث في تركيا والبرازيل.
مع تفاقم الأزمة تتغير الحالة المزاجية للجماهير. ففي كل مكان هناك رد فعل عنيف ضد سياسات التقشف. هذا الواقع تم استيعابه حتى من قبل قسم من البرجوازية. هناك حدود واضحة لما يمكن للشعب أن يستحمله، وقد تم الوصول إلى هذه الحدود.
في فترة الازدهار، وعلى الرغم من الإرهاق وزيادة الاستغلال، كان يمكن للعديد من العمال إيجاد مخرج من خلال الحلول الفردية، مثل العمل لساعات إضافية. لكن هذا الطريق مغلق الآن. لم يعد من الممكن الدفاع عن ظروف العيش الحالية، ناهيك عن تأمين أخرى أفضل منها، إلا من خلال النضال. لقد بدأت نفسية العمال تشهد تغييرا جذريا. هناك مزاج من الغضب والمرارة.
بدأت فئات الطبقة العاملة، الواحدة منها بعد الأخرى، تدخل إلى ساحة النضال. وقد بدأت تلتحق بالبروليتاريا التقليدية فئات كانت تعتبر نفسها في الماضي من الطبقة الوسطى: كالمعلمين والموظفين والأطباء والممرضين، الخ.
لكن وبعد عقود من السلام الطبقي النسبي، يحتاج العمال إلى فترة أولية لتسخين عضلاتهم، مثل الرياضي الذي أصبحت عضلاته متصلبة. إن مدرسة الإضرابات الجماهيرية والتظاهرات تحضير لأشياء أكثر جدية. وبشكل عام لا يمكن للطبقة العاملة أن تتعلم إلا من التجربة.
تسبب اندلاع الأزمة في البداية في صدمة بين صفوف العمال الذين لم يتوقعوا ذلك. لقد أصيبوا بالذهول والعجز عن الرد في كثير من الحالات. لكن هذا الوضع يتغير الآن. فقد بدأ العمال والشباب، في بلد تلو الآخر، يدخلون طريق النضال، ومن خلال تجربة النضال بدأت الطبقة العاملة تشعر بنفسها كطبقة.
بعد فترة سوف يتم كنس جميع الأوهام الإصلاحية القديمة من وعي الطبقة العاملة، التي سوف تتصلب في أتون النضال. وعاجلا أو آجلا، سوف يكون لذلك بالتأكيد تأثير داخل المنظمات العمالية الجماهيرية.
المنظمات الجماهيرية
تتخلف المنظمات الجماهيرية كثيرا وراء الأحداث. في سنوات الثلاثينات (وفي سنوات السبعينات أيضا) ظهرت داخل الأحزاب العمالية، بسرعة إلى حد ما، تيارات وسطية جماهيرية. لم نصل بعد إلى هذه المرحلة. وعلى العكس من ذلك، بالكاد يجد مزاج الغضب بين الجماهير أي انعكاس له داخل المنظمات الجماهيرية.
إنها لمفارقة أن نفس تلك المنظمات، التي أسستها الطبقة العاملة لتغيير المجتمع، قد أصبحت الآن عائقا هائلا في طريق الطبقة العاملة. إن عقودا من الازدهار الرأسمالي أوصلت عملية انحطاط كل هذه المنظمات إلى حدود قصوى، سواء في الأحزاب السياسية (الاشتراكية الديمقراطية والأحزاب “الشيوعية” سابقا) أو النقابات.
لقد انتقمت جدلية التاريخ بشكل قاس من الإصلاحيين والستالينيين. حيث أنه بالضبط في اللحظة التي بدأ فيها النظام الرأسمالي ينهار، نجد القادة الإصلاحيين يعتنقون اقتصاد “السوق” بشكل أقوى حتى من ذي قبل. إنهم محكومون بالغرق معه. وهذه وصفة كاملة لاندلاع الأزمات في كل تلك المنظمات في المستقبل.
في فرنسا كانت بضعة أشهر فقط كافية لانهيار الدعم الانتخابي لهولاند إلى أدنى المستويات منذ عام 1958. وفي اليونان حزب باسوك[4] قد مسح نهائيا تقريبا. أما في إيطاليا فقد قام الحزب الشيوعي القديم بتصفية نفسه بينما يتعرض حزب إعادة التأسيس الشيوعي لتفكك سريع، حيث عاقبه العمال بسبب الخيانة التي اقترفها عند مشاركته في حكومة برودي الائتلافية. وفي إسبانيا لم يكسب الحزب الاشتراكي شيئا على الرغم من انهيار شعبية حكومة الحزب الشعبي.
قادة حزب العمال في بريطانيا مرعوبون من احتمال وصولهم إلى السلطة. إنهم لا يناضلون من أجل تحقيق الأغلبية. لا يقدمون أية وعود بالإصلاحات، الخ، لأنهم يخشون أن يؤدي ذلك إلى تشجيع العمال والنقابات على تقديم المزيد من المطالب. وعندما يلقون الخطب لا يوجهون خطابهم للعمال بل لأرباب العمل وأصحاب الأبناك، يستجدون رضاهم. لقد انتقلوا من الإصلاحات إلى تدمير الإصلاحات.
معظم البلدان شهدت انهيار اليسار. الإصلاحيون اليساريون تجريبيون ميؤوس منهم، مثلهم مثل اليمينيين. كلاهما ليسا سوى نوعين مختلفين من التجريبية. إنهم يتمسكون بوصفات الكينزية التي عفا عليها الزمن. ولا أحد منهم يتحدث عن الاشتراكية.
لقد عاقب التاريخ الستالينيين السابقين على جرائمهم الماضية. لقد انتقلوا بصورة حادة إلى اليمين، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم يعودوا الآن حتى ظلا لما كانوا عليه في الماضي. لقد صاروا يشككون بشدة في الاشتراكية وليست لديهم أية ثقة على الإطلاق في الطبقة العاملة.
على الأقل كان الستالينيون القدامى صورة كاريكاتورية عن النسخة الأصلية. لكنهم الآن مجرد تقليد شاحب للإصلاحية. وبالتالي ففي الوقت الذي تعيش فيه الرأسمالية أزمة عميقة، وعندما صار في إمكان الأفكار الشيوعية الحصول على تعاطف كبير، وقفوا هم عاجزين عن الوصول إلى الفئات الأكثر جذرية بين العمال والشباب. بل لقد اختفوا تماما في بعض البلدان.
قال تروتسكي إن الخيانة طبيعة ضمنية للإصلاحية. نحن لا نتكلم هنا عن خيانة واعية بالضرورة، لكن الواقع هو أنه إذا قبل المرء بالرأسمالية فعليه أن يقبل أيضا بقوانينها. وفي ظل هذه الظروف سوف يتطور بسرعة مزاج حاد للغاية. وعند نقطة معينة سوف نرى احتداد النقاشات بين صفوف القواعد وتبلور جناح يساري.
يتوق الإصلاحيون إلى العودة إلى “الحياة الطبيعية”، لكن هذا حلم طوباوي. فإدارة الرأسمالية في عصر انحطاطها هي إدارة الهجوم الشامل على مستويات المعيشة. إن هؤلاء القادة يعكسون الماضي، وليس الحاضر أو المستقبل. لم يعد هناك أي دعم أعمى بين العمال للقادة الاشتراكيين والشيوعيين السابقين. بل على العكس هناك موقف حاسم منهم بل وحتى تشكيك فيهم.
هذا لا يعني أن هذه الأحزاب سوف تختفي ببساطة، مثلما يتصور العصبويون. فلدى الإصلاحيين جذور عميقة في صفوف الطبقة العاملة، ويمكنهم التعافي حتى مما يبدو وضعا مستحيلا. عندما تبحث الجماهير عن بديل لا تبحث عن العصب، بل ستختبر وتعيد اختبار الأحزاب التقليدية المعروفة والقادة المعروفين، قبل أن تتخلص منهم أخيرا وتبدأ في البحث عن مرجعية سياسية جديدة.
سوف يختبر العمال الأحزاب الواحد منها بعد الآخر، والزعماء الواحد منهم بعد الآخر، في محاولة حثيثة لإيجاد وسيلة للخروج من الأزمة. وسوف يتخلصون منهم الواحد تلو الآخر. سيتأرجح البندول إلى اليسار وإلى اليمين. وعلى النقيض مما كان عليه الحال في الثلاثينات والسبعينات فإن اليسار الآن داخل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ضعيف. لكن ومع اشتداد الأزمة، سوف يكون هناك تمايز داخل المنظمات الجماهيرية.
إن الارتفاع السريع في شعبية سيريزا في اليونان والتقدم الذي حققه ميلينشون وجبهة اليسار في فرنسا، إشارة إلى السيرورات التي سوف تتكرر على نطاق أكبر في الفترة المقبلة. لكن في كلتا الحالتين لم تأت قوات الحركة اليسارية الجديدة من فراغ، بل ظهرت من انشقاقات شهدتها المنظمات الجماهيرية القائمة (الحزب الشيوعي اليوناني في اليونان والحزب الاشتراكي في فرنسا).
ستكون هناك في المستقبل سلسلة كاملة من الأزمات في كل من الأحزاب الاشتراكية والأحزاب الشيوعية، مما سيخلق ظروفا مواتية جدا لنمو تيارات ماركسية جماهيرية.
النقابات العمالية
قال تروتسكي إن القادة النقابيين هم القوة الأكثر محافظة في المجتمع. لقد صار هذا القول الآن أصدق من أي وقت مضى. لكن ليس للعمال أي مكان آخر يذهبون إليه. يمكن للحركة الجماهيرية أن تتطور عفويا، من أسفل، من دون قيادة من أعلى. وسوف يرتجل العمال جميع أنواع اللجان القاعدية والحملات.
سيرى الفوضويون والعصبويون في هذه الحركات بديلا عن النقابات. لكن الطبقة العاملة لا يمكنها الاستغناء عن النقابات، التي ستعود إليها لاحقا. إن مثل تلك الحركات لها دور لتلعبه، لكن ليس هناك بديل عن العمل الثوري الصبور لتغيير النقابات.
معظم القادة النقابيين يعيشون في الماضي وغير مستعدين تماما للمرحلة التي دخلنا فيها. ففي نفس الوقت الذي ينهار فيه النظام الرأسمالي في كل مكان، تجدهم يتشبثون بقوة باقتصاد “السوق” ويحاولون إنقاذه بأي ثمن- على حساب العمال.
لكن المنظمات الجماهيرية لا توجد في الفراغ. وهذا صحيح خصوصا بالنسبة للنقابات. سوف تكون هناك سيرورة انتقاء، سيتم خلالها كنس العناصر الميؤوس منها والمحبطة جانبا واستبدالها بعناصر أكثر شبابا وكفاحية، مشكلة من أناس على استعداد للمخاطرة بوظائفهم من أجل النضال ضد أرباب العمل والدفاع عن حقوق العمال.
تحت ضغط القواعد سوف يفرض على القادة النقابيين إما وضع أنفسهم في قيادة النضال أو سيتم كنسهم جانبا ويحل محلهم أناس أكثر ارتباطا بالقواعد. سيتم تحويل النقابات مرارا وتكرارا في مسار الصراع.
سيكون من الخطأ أن نتصور أن الإصلاحية فقدت مصداقيتها تماما حتى الآن. إن الجماهير سترغب في تحقيق إصلاحات. لكن في ظل الظروف الحالية لا يمكن الحصول حتى على أصغر الإصلاحات إلا من خلال النضال. إن انتقادنا للإصلاحيين ليس بسبب أنهم يدافعون عن الإصلاحات، بل لأنهم لا يناضلون من أجل الإصلاحات ولأنهم يقبلون بتدمير الإصلاحات ولأنهم يستسلمون لضغوط الشركات الكبرى.
نحو الثورة الأوروبية
قبل ثلاث سنوات تحدثت صحيفة فاينانشال تايمز عن “أوقات صعبة وخطيرة”. وقد تبين أن هذه الكلمات صحيحة جدا. تشعر الطبقة السائدة بالرعب من الآثار الاجتماعية والسياسية للأزمة وللتدابير التي ستضطر لاتخاذها. إن ما أنقذ الرأسمالية حتى الآن هم القادة الإصلاحيون الذين أظهروا أنفسهم بكونهم الخدم الأكثر ولاء للرأسمال.
تصطف الطبقات استعدادا لمواجهة حاسمة. وخلال السنوات الخمس أو العشر القادمة سوف نشهد المواجهة الأكثر جدية منذ سنوات الثلاثينات، هناك العديد من أوجه الشبه بين الوضع الحالي وبين سنوات الثلاثينات. لكن هناك أيضا اختلافات هامة.
إن الفرق الرئيسي هو التغير الجذري في ميزان القوى الطبقي. فالطبقة العاملة تمثل الآن أغلبية ساحقة في جميع البلدان الرأسمالية المتقدمة وتلعب دورا حاسما في بلدان مثل تركيا والبرازيل ومصر واندونيسيا. قبل الحرب العالمية الثانية، كانت البرجوازية الأوروبية تمتلك احتياطيات اجتماعية كبيرة على شكل فلاحين. وهذا ما يفسر جزئيا لماذا تمكنت من أن تتحرك بسرعة في اتجاه الفاشية في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا.
أما الآن فإن تغير ميزان القوى الطبقية يمنع مثل ذلك التحول السريع. يمكن للوضع الحالي أن يستمر لسنوات مع موجات مد وجزر. إن الحركة ستجري عبر سلسلة من التموجات، كما كان الحال عليه في إسبانيا، حيث كانت الثورة قد بدأت فعلا في عام 1930، مع موجة من الإضرابات والمظاهرات حتى قبل سقوط النظام الملكي في عام 1931.
في مرحلة ثورية مثل هذه، ليست كل فترات الهدوء والهزائم سوى مقدمة لانفجارات جديدة، سوف تتجاوز كل الحركات التي شهدها الماضي. لقد مرت الثورة الإسبانية من خلال سلسلة كاملة من المراحل، قبل أن تهزم في نهاية الأمر في شهر مايو من عام 1937 في برشلونة.
في تلك السنوات السبع كانت هناك فترات من التقدم الثورية العظيمة، مثلما حدث في عام 1931 مع إعلان الجمهورية، لكن أيضا فترات من اليأس وخيبة الأمل. كانت هناك هزائم رهيبة مثل هزيمة كومونة أستورياس في عام 1934، بل وحتى فترات الردة الرجعية القاتمة، كما هو الحال في Bienio Negro (السنتان القاتمتان) ما بين 1933 و1935.
اليوم في أوروبا تجري سيرورة مماثلة في كل مكان بوتيرة وكثافة مختلفتين. اليونان هي الحلقة الأضعف في سلسلة الرأسمالية الأوروبية، لكن هناك العديد من الحلقات الضعيفة. وقد وصلت السيرورة في اليونان أبعد مما وصلته في أي مكان آخر، لكنها فقط تبين بشكل حاد ما سوف يحدث في البلدان الأوروبية الأخرى.
كان إضراب ماي 1968 في فرنسا أعظم إضراب عام ثوري في التاريخ. لكنه كان من بعض النواحي حدثا معتدلا نسبيا. فبعد عقود من الرخاء كان وعي الشباب يتميز بنوع من السذاجة. لكن اليوم وفي ظل الظروف الأكثر قسوة، سيتم كنس ذلك النوع من الصبيانية شبه الفوضوية من وعي الشباب. هذا الجيل سيكون أكثر صلابة بكثير من الأجيال السابقة، وسوف تكون النضالات أيضا أكثر صلابة وأكثر قسوة.
الإستراتيجية والتكتيك
الإستراتيجية والتكتيكات ليست نفس الشيء. فمن الضروري أن نمتلك فهما شاملا للسيرورات، لكن التطبيق الملموس والعملي قد يكون مختلفا في أي لحظة، بل ويمكن للتكتيكات أن تتعارض مع الإستراتيجية في فترات معينة.
نحن نفهم أنه في مرحلة معينة سوف ينعكس الاستقطاب الحاد في المجتمع على شكل تقاطب داخل المنظمات الجماهيرية، بدءا من النقابات العمالية.
الانفجارات حتمية. لكنها من دون قيادة لن تكون كافية. لقد وصلت حركة احتلال الساحات في إسبانيا مستويات كبيرة جدا، لكنها لم تؤد إلى أية نتيجة، وسرعان ما تلاشت. إن القوى الماركسية صغيرة جدا لتحدد نتائج حركات جماهيرية من هذا القبيل. إنها تقتصر في معظم البلدان على نشاط الدعاية. ولكن يجب علينا أن نكون مستعدين.
يجب علينا تطوير مطالب انتقالية ذكية ومناسبة في كل مرحلة. لكن هذا غير كاف في الظروف الحالية. فبينما نتدخل بنشاط في كل النضالات (الإضرابات، والإضرابات العامة والمظاهرات الجماهيرية، الخ) يجب علينا أن نشرح بصبر أنه ليس هناك من حل للمشكلة سوى القطيعة الجذرية مع الرأسمالية.
يمكن للاقتصاد المؤمم المخطط أن يحل مشكلة البطالة من خلال التطبيق الفوري ليوم العمل من ست ساعات وأربعة أيام عمل في الأسبوع دون فقدان الأجر. يجب علينا أن نؤكد في دعايتنا على الخسارة الهائلة التي يتكبدها الإنتاج بسبب بطالة الملايين من العاطلين، وأثر ذلك على الشباب والنساء، الخ.
وفي نفس الوقت يجب علينا أن نشرح الإمكانات الإنتاجية الهائلة للتكنولوجيات الجديدة: المعلومات، والحواسيب، “والإنتاج في الوقت المناسب”، والروبوتات، الخ. إذا ما تم تشغيل ذلك بطريقة عقلانية، فإن ذلك يعني أن الناس سيعملون ساعات أقل، ليس أكثر من تلك الضرورية لتلبية الاحتياجات البشرية.
يجب علينا أن نبحث عن العناصر الأكثر ثورية وتثقيفهم بالأفكار الماركسية. يمكن في ظل وضع ثوري لمجموعة صغيرة تمتلك أفكارا صحيحة أن تنمو بسرعة – يمكن للنوع أن يتحول إلى كم ويمكن للكم أن يتحول إلى نوع. وبالتالي فإن المهمة هي بناء القوى الماركسية بشعور بالاستعجال، وفي هذه المرحلة لا يمكن العثور على تلك العناصر في المنظمات الجماهيرية الإصلاحية. إن الشباب خصوصا هم الذين يصيرون، في هذه المرحلة، أكثر تجذرا وأكثر انفتاحا على الأفكار الثورية.
لا يمكن حل التناقض بين مستوى وعي الجماهير وبين المهام التي يطرحها التاريخ إلا من خلال تجربة الأحداث العظيمة والمتفجرة. والوضع الحالي يحبل بمثل تلك الأحداث. ستكون هناك منعطفات حادة وتغيرات مفاجئة، خصوصا في الوعي.
في الماضي كانت الأفكار الثورية تستقبل بالريبة. أما الآن فإن الناس يبحثون عن هذه الأفكار. في اليونان قال 63% من الناس إنهم يريدون تغييرا جوهريا في المجتمع، في حين أن 23% يريدون ثورة. إن هذه أرقام رائعة: في الواقع 86% يتطلعون إلى الثورة كسبيل للخلاص.
يجب أن نكون مشبعين بفكرة تغيير جوهري في الوضع، وبالحاجة إلى شعور بالاستعجال في بناء منظمة ثورية. يجب أن نكافح كل نزعة روتينية. وقبل كل شيء، يجب علينا أن نولي اهتماما خاصا للنظرية والتثقيف السياسي، واللذان بدونهما نحن لا شيء.
هناك إمكانيات كبيرة. وقبل كل شيء، هناك فئات جديدة من الشباب ممن يدخلون ساحة النضال والذين يبحثون عن الأفكار الماركسية، ليس غدا أو بعد غد، بل في الوقت الحالي. يجب علينا أن نجدهم، وندخل في حوار معهم ونكسبهم للأفكار الماركسية.
التيار الماركسي الأممي
لندن 11 يوليوز 2013
هوامش:
[1] للإشارة إلى البرازيل وروسيا والهند والصين – المترجم –
[2] التيسير الكمي (Quantitative easing) هو سياسة نقدية تستخدمها بعض البنوك المركزية لزيادة المعروض من النقد. وعادة ما تـُستـَخدَم هذه السياسة عندما تفشل الطرق العادية في السيطرة على المعروض من النقد، أي عندما تكون الفائدة المصرفية عند، أو بالقرب من، الصفر. – المترجم –
[3] سيريزا هو ائتلاف اليسار الراديكالي، الشهيرة باختصارها ΣΥΡΙΖΑ، يرأسه حالياً أليكسيس تسيبراس – المترجم –
[4] الحزب الاشتراكي لعموم اليونان – المترجم –
عنوان النص بالإنجليزية: