الرئيسية / الأممية الشيوعية الثورية / بيانات ومنظورات / رئاسة ترامب تخلق اضطرابات هائلة في جميع أنحاء العالم

رئاسة ترامب تخلق اضطرابات هائلة في جميع أنحاء العالم

ننشر هنا خطابًا ألقاه الرفيق خورخي مارتن حول المنظورات العالمية، وذلك يوم الثلاثاء 28 يناير خلال اجتماع اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية الثورية. يتناول الخطاب الاضطرابات التي شهدتها العلاقات الدولية نتيجة سياسات رئاسة ترامب، وانعكاساتها على أوكرانيا والشرق الأوسط وأوروبا بأكملها.


كما يقولون في الطائرات، “سيداتي وسادتي، يرجى البقاء جالسين مع ربط أحزمة الأمان، لأننا دخلنا منطقة مضطربة”.

لم يمض سوى أسبوع واحد منذ تولى ترامب السلطة، ولم تمر إلا أسابيع قليلة منذ انتخابه في نوفمبر، فإذا بالوضع العالمي قد تحول بأكمله.

لقد شهدنا -من وجهة نظر تصرفات ترامب فقط- وقف إطلاق النار في غزة، والتهديد بالعمل العسكري ضد الدنمارك التي هي بلد عضو في حلف شمال الأطلسي وحليف للولايات المتحدة، وبنما. وسمعنا فكرة أنه يجب أن تصير كندا الولاية رقم 51 للولايات المتحدة، أي ضم الجار الشمالي العضو في حلف شمال الأطلسي.

وليس كل هذا سوى غيض من فيض. إن ما نراه حقا هو تسارع هائل في وتيرة الأحداث في العلاقات العالمية والاقتصاد والسياسة. ومن الواضح أن هذا يؤثر على الوعي أيضا.

بالطبع ليس ترامب هو السبب في كل هذا. إنه بالتأكيد أحد أعراض السيرورات العميقة التي تحدث، لكنه في الوقت نفسه عامل يسرع الأحداث بشكل هائل. لا شك في ذلك.

وبالإضافة إلى الأحداث التي أثارتها تصرفاته، فقد شهدنا في الأسابيع القليلة الماضية أيضا عددا من الأحداث الأخرى: سقوط الحكومة في فرنسا، وسقوط الحكومة في ألمانيا، وسقوط الحكومة في كندا. كما شهدنا إلغاء الانتخابات في رومانيا، والذي كان من شأنه، في أي ظرف آخر، أن يكون حدثا كبيرا، لكنه الآن طغت عليه كل تلك الأحداث الأخرى الأكثر أهمية.

وأمس شهدنا انهيار أسهم التكنولوجيا في السوق الأمريكية. فقد خسرت شركة إنفيديا للتكنولوجيا أكثر من 600 مليار دولار من قيمتها السوقية. وذلك في يوم واحد فقط. هذا أكبر سقوط تشهده أي شركة في يوم واحد، من حيث مقدار الأموال المفقودة، في التاريخ.

الكثير من هذه الأمور مدهشة في حد ذاتها. فقد رأينا، على سبيل المثال، مكالمة هاتفية بين ترامب وفريدريكسن، رئيسة الوزراء الدنماركية، حول رغبة ترامب في ضم غرينلاند، والتي لم تسر على ما يرام على ما يبدو. ووفقا لصحيفة فاينانشال تايمز، التي نقلت عن بعض المصادر الدنماركية، فقد قالت فريدريكسن إنهم صُدموا وأنهم أدركوا الآن أن هذا أمر جدي!

هذه هي المسألة، فترامب بسبب أسلوبه، يمكنك أن تعتقد أنه يتحدث فقط. أو أن كلامه مجرد بداية للمفاوضات. لكنه ليس مجرد مؤثر على وسائل التواصل الاجتماعي. إنه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الإمبريالية الأكثر أهمية وقوة على وجه الأرض. وبالتالي فإنه عندما يقول شيئا ما، فقد يكون متهورا بعض الشيء في الطريقة التي يقوله بها، لكن عليك أن تنتبه لما يقوله.

قال معلق برجوازي نقلت عنه صحيفة نيويورك تايمز: “لا ينبغي لك أن تأخذ ما يقوله ترامب حرفيا، لكن عليك أن تأخذه على محمل الجد”.

وكما لو أن كل هذا لم يكن كافيا، فقد شهدنا بالأمس صداما بين ترامب وكولومبيا. كان صداما قصير الأمد، لكنني أعتقد أنه كان معبرا للغاية. فقد قام الرئيس الكولومبي بيترو بنشر تغريدة في الرابعة صباحا يحتج فيها على معاملة المهاجرين الكولومبيين المرحلين من قبل الولايات المتحدة. إنهم يتعرضون لمعاملة سيئة. وهو من وجهة نظر ترامب سلوك استعراضي. إنه يحاول أن يظهر أنه يرحل الناس، من خلال معاملتهم كمجرمين يجب ترحيلهم وتقييدهم بالأغلال والأصفاد.

لقد احتج الرئيس الكولومبي بيترو، وأعلن أنه لن يسمح لطائرتين عسكريتين أمريكيتين كانتا تنقلان مهاجرين كولومبيين بالهبوط في البلاد. كانت إحدى الطائرتين في الجو بالفعل، على ما يبدو. فماذا حدث بعد ذلك؟ أصدر ترامب منشورا على وسائل التواصل الاجتماعي يقول فيه إن “الرئيس الاشتراكي لكولومبيا، الذي لا يحظى أصلا بشعبية كبيرة بين شعبه” قرر رفض تلك الطائرات، وبالتالي فإنه سيفرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على جميع السلع الكولومبية، اعتبارا من الآن.

وأضاف أنه سيسحب التأشيرات وتصاريح الدخول إلى الولايات المتحدة من الرئيس بيترو وحكومته وأسرهم. وكل مؤيديهم! أي ملايين الأشخاص!

كما وجه عددا من التهديدات الأخرى. لكنها في الواقع لم تكن مجرد تهديدات. فقد بدأ على الفور في التصرف بناء عليها. ففي اليوم التالي كان هناك حوالي 1500 شخص لديهم مواعيد لتقديم طلبات التأشيرة في السفارة الأمريكية في بوغوتا. فتم بعث رسائل إليهم تفيد بإلغاء جميع المواعيد.

رد بيترو بأن هذا غير مقبول وأن كولومبيا ستفرض تعريفات متبادلة على جميع الواردات الأمريكية. وعلاوة على ذلك فقد قرر إصدار منشور طويل جدا على وسائل التواصل الاجتماعي. لا أعرف ما إذا كنتم قد رأيتموه، قال فيه الكثير من الأشياء. وأشار إلى تراث ساكو وفانزيتي [مناضلين لاسلطويين إيطاليين أُعدما في الولايات المتحدة]، ووصف ترامب بأنه “مالك أبيض للعبيد” وقال إنه لن يصافحه.

ومع ذلك، فبحلول نهاية اليوم، اضطر بيترو إلى التراجع على طول الخط، وأصدر ترامب منشورا آخر على وسائل التواصل الاجتماعي يقول فيه إنه علمه درسا، وأن “أمريكا صارت تحظى بالاحترام مرة أخرى”.

صدر مقال اليوم في صحيفة نيويورك تايمز يصف هذا الصدام، وعنوانه هو “وراء انفجار كولومبيا: رسم خرائط لتكتيكات ترامب للتصعيد السريع”، وتقول الفقرة الافتتاحية:

“لم تكن هناك اجتماعات في غرفة العمليات ولا مكالمات هادئة لتهدئة النزاع مع الحليف. كانت هناك فقط تهديدات وتهديدات مضادة ثم استسلام، ومؤشر على النهج الذي سيتخذه الرئيس تجاه غرينلاند وبنما”.

أدلى السفير الأمريكي السابق، تشارلز فريمان، بملاحظة مثيرة للاهتمام حول ترامب، حيث قال عنه إنه رجل أعمال. إنه لا يعرف ولا يهتم بمعايير الدبلوماسية والعلاقات الدولية بين البلدان، والإجراءات الرسمية والبروتوكول، وكل ذلك. وأضاف أنه ليس مجرد رجل أعمال. خلفيته في مجال العقارات في نيويورك. وهذا قطاع لا توجد فيه أية قواعد أخلاقية على الإطلاق. وكله يعتمد على التنمر والطعن في الظهر.

يبدو بالتأكيد أن هذا هو أسلوب ترامب الذي هو الآن رئيس الولايات المتحدة. وبالطبع فإن هذا له تأثير. من الواضح أن هناك عنصر قوي من هذا في تصرفاته التي قد تبدو أحيانا غير متوقعة. لكن يوجد بالطبع منطق وراء جنونه. ولهذا السبب نحتاج إلى مناقشة ما وراء كل هذا.

حرب ترامب ضد “الدولة العميقة”

يشعر ترامب أنه عندما كان في منصب الرئيس لأول مرة، حاول استيعاب مختلف أجنحة الحزب، وحاول العمل ضمن قواعد الدولة. وأنه نتيجة لذلك تعرض للعرقلة والحصار من طرف ما وصفه بـ “الدولة العميقة” وتم منعه من تنفيذ أجندته الحقيقية. وهناك عنصر من الحقيقة في هذا الاسم.

لكنه الآن أقوى مما كان عليه في المرة الأولى. لديه الآن سيطرة كاملة، أو دعنا نقل سيطرة ساحقة، على الحزب الجمهوري، أكثر بكثير مما كان عليه الحال في عام 2016.

ومن المؤكد أنه يتمتع بسلطة سياسية أكبر بكثير، وهو أقل استعدادا لتقديم أية تنازلات أو السماح لأشخاص آخرين بأن يملوا عليه السياسة التي عليه تطبيقها. وليس عليكم سوى أن تنظروا إلى بعض التدابير الأخرى التي اتخذها في الأسبوع الماضي.

يوم الأربعاء الماضي تم إرسال مسؤولين في مجلس الأمن القومي إلى منازلهم، بعضهم في إجازة وبعضهم الآخر في حالة إيقاف. وهؤلاء هم الأشخاص الذين يقدمون المشورة للحكومة بشأن قضايا مثل إيران وكوريا الشمالية وأوكرانيا والشرق الأوسط بشكل عام، وعدد كبير من الأشياء الأخرى. كان القرار سريعا للغاية، لدرجة أن بعضهم، وفقا لصحيفة نيويورك تايمز، لم يتمكنوا من مغادرة المبنى، لأن تصاريحهم تم إبطالها حتى قبل أن يتم إخبارهم بأنه سيتم تسريحهم.

ثم في يوم الاثنين، وقع الرئيس ترامب على أمر تنفيذي، بتعليق جميع المساعدات الأجنبية لمدة 90 يوما، في انتظار مراجعة كاملة. فتم تعليق جميع المساعدات الأجنبية وقيل للأشخاص الذين يعملون في المنظمات غير الحكومية في جميع أنحاء العالم، “لا تنفقوا سنتا واحدا من الآن فصاعدا حتى إشعار آخر”. وقد حدث ذعر كبير في أوكرانيا حول ما إذا كان هذا سيؤثر على المساعدات العسكرية أم لا. وكانت هناك الكثير من المشاورات طوال الأسبوع حول هذا الموضوع.

قال ترامب إن هذه التدابير كانت للتأكد من أن الجميع على دراية بسياساته. كما علق أيضا جميع برامج DEI  (برامج “التنوع والمساواة والإدماج”)، ولم يكتف بذلك، بل أصدر تعليماته للموظفين الحكوميين بالإبلاغ عن زملائهم إذا حاولوا بطريقة ما الحفاظ على سياسات مثل هذه، رغم أوامره. وتم إنشاء عنوان بريد إلكتروني سري حيث يمكن للأشخاص الإبلاغ عن زملائهم في القطاعات الحكومية.

إنه في حالة حرب مع المؤسسة الرسمية وما يسميه “الدولة العميقة”. هذا لا يعني بالضرورة أنه سيفوز في جميع المناسبات، لأن الدولة الرأسمالية قوية جدا. لكن وبغض النظر عن النتيجة، فمن الواضح أنه في حالة حرب معها وقد قرر الدفاع عن أجندته، أيا كانت.

نحن أمام تغيير حاسم في الوضع العالمي، وهو تغيير له العديد من الآثار المهمة.

يشكل انتخاب ترامب، الذي تم قبل شهرين فقط -والذي يبدو الآن وكأنه قد حدث منذ فترة طويلة!- تغيرا كبيرا في حد ذاته. وقد استخدمت الطبقة السائدة في الولايات المتحدة والمؤسسة الأمريكية كل الحيل التي في ترسانتها لمنعه من الفوز في تلك الانتخابات. ومع ذلك، فقد فاز. وفاز بنصر مقنع للغاية.

ماذا يعني ذلك؟ لقد رأينا الليبراليين ووسائل الإعلام وما يسمى باليسار يطلقون صرخات عالية قائلين إن ذلك يمثل “تحولا نحو اليمين” في الولايات المتحدة، وأنه جزء من تحول عام نحو اليمين في السياسة العالمية.

لكن هذا لا يفسر شيئا. لأنه إذا قبلت هذه الحجة، فماذا تعني؟ هل كان بايدن يساريا؟ هذا هو المعنى الضمني. دعونا ننظر إلى السياسة الخارجية: لقد كان ترامب “مرشح السلام”، بينما كان بايدن مرشح الحرب. وقد لعبت هذه المسألة دورا في نتيجة الانتخابات، وخاصة في عدد من المناطق ذات النسبة العالية من الناخبين المسلمين والعرب.

بالطبع هناك عناصر رجعية مكنت ترامب من النجاح. لكنها في حد ذاتها لا تفسر أسباب انتصاره. وعلى سبيل المثال فقد كانت هناك العديد من الولايات التي فاز فيها ترامب، أو ارتفعت فيها الأصوات لصالحه بشكل كبير، والتي صوتت في نفس الوقت لصالح المبادرات التشريعية لأجل ترسيخ حقوق الإجهاض في قانون الولايات. وشمل ذلك فلوريدا، حيث حصل التصويت المؤيد للإجهاض على نتيجة أعلى من النتيجة التي حصلت عليها [كامالا] هاريس، على الرغم من أنها لم تصل إلى الحد الأدنى المطلوب.

إن ما شرحناه، وأعتقد أنه صحيح تماما، هو أن السبب الرئيسي وراء فوز ترامب، هو أنه كان قادرا على التقاط ذلك المزاج العميق والواسع الانتشار المناهض للمؤسسة الموجود في الولايات المتحدة، والاتصال به وتوجيهه.

نفس المزاج موجود أيضا في العديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة الأخرى. إنه يعبر عن نفسه بطرق مختلفة عديدة. والمؤشر الآخر على ذلك، والذي كان لافتا للغاية، هو رد الفعل على اغتيال الرئيس التنفيذي لشركة United Healthcare على يد لويجي مانجيوني. كان الاغتيال في حد ذاته حدثا مهما، لكن رد فعل الناس على الاغتيال كان أكثر أهمية، حيث كان عبارة عن رد فعل متفهم ومتعاطف؛ ليس مع الرئيس التنفيذي بل مع مانجيوني.

لقد أصبح نوعا من البطل الشعبي. ولم يكن رد الفعل هذا مقتصرا على الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم يساريين فحسب، بل وأيضا العديد من الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم محافظين وجمهوريين، بمن في ذلك العديد من أنصار ترامب. وهذه هي المسألة المهمة.

هذه ظاهرة غريبة للغاية، أليس كذلك؟ وترامب يركب موجة المزاج المناهض للمؤسسة الرسمية. إن هناك أزمة شرعية في كل المؤسسات البرجوازية. وهناك غضب ضد الشركات الكبرى، وضد الساسة من كل الأنواع، وضد الدولة وما إلى ذلك. لكنه ملياردير هو أيضا، والجميع يعلمون أنه ملياردير. كما أنه يحيط نفسه بأصحاب الملايير.

هذا تعبير مشوه للغاية عن ذلك المزاج. لكن من المؤكد أنه تعبير عنه. والسبب واضح أيضا، فقد شهدنا في كل من الولايات المتحدة وأوروبا الإفلاس الكامل لليسار، الذي وقف عاجزا تماما عن البناء اعتمادا على ذلك المزاج.

لقد خرجنا من فترة كانت فيها الشخصيات والأحزاب اليسارية المناهضة للمؤسسة تشهد صعودا في كل مكان في أوروبا وأمريكا، في أعقاب أزمة عام 2008 والحركات الضخمة المناهضة للتقشف في عام 2011. فبوديموس، سيريزا، ميلينشون، كوربين، ساندرز: كلهم ​​فشلوا بشكل كامل. وقد اتضح إفلاس أفكارهم الإصلاحية في الممارسة العملية بطريقة أو بأخرى.

وقد كان المثال الأكثر تطرفا هو حكومة سيريزا في عام 2015، لكن أيضا تأييد بيرني ساندرز لكلينتون في عام 2016. لقد استسلموا وتركوا المجال مفتوحا على مصراعيه لأشخاص مثل ترامب.

العلاقات العالمية

ما الذي سيفعله ترامب؟ أعتقد أنه حتى هو يجهل ما الذي سيفعله.

في خطاب تنصيبه قال “سنفعل أشياء ستصدم الناس”. والناس مصدومون بالتأكيد، على الأقل أنا مصدوم.

وقد قال فريد كيمبي، رئيس Atlantic Council، الذي هو مركز أبحاث يميني، إن ترامب “هو نتيجة وسبب” عصر جديد “سيتميز بمزيد من التدخل الحكومي، وقلة القضايا المشتركة، والمزيد من النزعة التجارية (Mercantilism)، وتراجع التجارة الحرة، والمزيد من تبجح القوى الكبرى”.

هناك بالفعل عنصر قوي من التبجح في الطريقة التي يتصرف بها ترامب. فالقوة الكبرى تُظهر للصغار من هو السيد. ويمكن رؤية ذلك بوضوح في الطريقة التي تعامل بها مع بيترو.

من الواضح أن الشخصيات تلعب دورا كبيرا في التاريخ. والمادية التاريخية لا تنفي ذلك، بل على العكس تؤكده.

وفي الوقت نفسه فإن ترامب هو أيضا انعكاس وتجسيد لاتجاهات أعمق في العلاقات العالمية والسياسة العالمية وأزمة الرأسمالية التي لا بد من تفسيرها.

لقد شرحنا تلك الاتجاهات الأساسية في وثيقة منظورات عالمية لعام 2023، وفي بيان الأممية الشيوعية الثورية وفي المقالات والمناقشات التي أجريناها حول المنظورات والعلاقات العالمية. لقد أدركنا أن الوضع العالمي يهيمن عليه:

أ) الانحدار النسبي للإمبريالية الأمريكية.

ب) صعود قوى إمبريالية جديدة وشابة وديناميكية مثل الصين، والتي بدأت هي أيضا إلى حد ما تصل إلى أقصى حدودها. ويمكننا أن ندرج روسيا ضمن هذه الفئة، بطريقة مختلفة وإلى حد ما.

ج) حقيقة أن هذه الاتجاهات تسمح لعدد من القوى المتوسطة بالتصرف بطريقة أكثر استقلالية، وموازنة كتلة ضد أخرى، وهو ما يمكن رؤيته في العديد من الحالات المختلفة، مثل تركيا والمملكة العربية السعودية والهند وغيرها.

لقد تحدثنا عن الانحدار النسبي للإمبريالية الأمريكية وصعود الصين التي تتحدى الولايات المتحدة للهيمنة على العالم. لكن هناك اتجاه آخر إضافي لم ننتبه إليه كثيرا، وهو الاتجاه الذي أصبح الآن في مركز المعادلة، وهو الأزمة طويلة الأمد للرأسمالية الأوروبية.

أعتقد أن هذا الإطار العام يسمح لنا بتفسير معنى السياسة الخارجية لترامب.

هناك بعض الاختلافات المهمة بين سياسته الخارجية وسياسة بايدن. كانت سياسة بايدن الخارجية تقوم على رفض الاعتراف بحدود القوة الأمريكية، ونتيجة لذلك الاستمرار بحماقة في محاولة الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة على العالم بأسره.

استمرت تلك الهيمنة قائمة طيلة 30 عاما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنها لم تعد موجودة.

يمكن رؤية أحد مظاهر ذلك في حرب أوكرانيا. كانت فكرة الولايات المتحدة هو أنها ستهزم روسيا وتضعفها إلى الحد الذي لن تتمكن معه من غزو أي بلد آخر ضد إرادة واشنطن. وكان بايدن قد قام برحلة شهيرة إلى بولندا في بداية الحرب، حيث قال إن هدف الحرب في أوكرانيا هو تغيير النظام في موسكو.

ولدينا موقف مماثل في الشرق الأوسط، حيث أعطى بايدن لنتنياهو شيكا مفتوحا مع كل العواقب المترتبة على ذلك. وذلك على الرغم من أن بعض تلك العواقب لم تكن بالضرورة تصب في مصلحة الولايات المتحدة في المنطقة.

وعلى النقيض من ذلك فإن سياسة ترامب تتلخص في أن الولايات المتحدة بحاجة إلى الدفاع عن مصالحها الأمنية الوطنية. وأن الولايات المتحدة لديها مجال نفوذها الخاص، والذي يتركز بشكل أساسي في المحيط القريب وفي أمريكا الشمالية. وأنه يجب على الولايات المتحدة تعزيز موقفها هناك، بدلا من إنفاق الكثير من الأموال والرجال في خوض حروب في أماكن بعيدة لا تهم الولايات المتحدة.

وقد تحدث في مؤتمره الصحفي قبل تنصيبه، عن غرينلاند وقناة بنما وكندا والمكسيك.

وكجزء من تلك الخطة لتعزيز مكانة الولايات المتحدة والتركيز على مصالحها الأمنية الوطنية، أعلن أنه يريد إنهاء الحرب في الشرق الأوسط والحرب في أوكرانيا. وهو ما قد يؤدي أيضا، ربما، إلى التقارب مع روسيا وفصلها عن الصين.

إنه يعتقد أن مثل هذه السياسة ستسمح للولايات المتحدة بالتركيز على ما يشكل التهديد الرئيسي لهيمنتها على العالم، أي: الصين. ويجب أن نعترف أن هذه السياسة، من وجهة نظر المصالح العامة للطبقة السائدة في الولايات المتحدة، هي أكثر منطقية بكثير من سياسة بايدن.

قد يكون بعضكم قد استمعوا إلى بودكاست Against the Stream وكانت لدينا فيه حلقة تحدثنا فيها كثيرا عن بودكاست لغيديون ريتشمان، وهو ليبرالي من فاينانشال تايمز، أجرى فيه مقابلة مع مستشار فريق ترامب في البنتاغون، دان كالدويل.

واعتقد أن ما قاله كالدويل كان مثيرا جدا للاهتمام. أول شيء قاله هو أنه من قدامى المحاربين في الجيش الأمريكي، وكان قد شارك في الحرب في العراق. هناك الكثير من هؤلاء، أليس كذلك؟ الكثير من قدامى المحاربين في الجيش الذين تم تسييسهم من خلال تجربتهم في المغامرات العسكرية الإمبريالية للولايات المتحدة. وهناك الكثير منهم بين أنصار ترامب ومستشاريه.

يشرح دان كالدويل أن الولايات المتحدة قد قتلت “ما يصل إلى مليون عربي وعراقي وسوري” وأنه تم “قتل أكثر من 4000 جندي أمريكي. إضافة إلى مقتل عدة آلاف آخرين من المتعاقدين”. وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت “التكاليف المالية كبيرة. أكثر من 02 تريليون دولار وما زالت مستمرة لأن حرب العراق ما تزال مستمرة”. ويستنتج أن هذه “سياسة خارجية لا أعتقد أنه يمكن لأي شخص أن يقول إنها جعلت الولايات المتحدة أكثر أمانا، أو أنها جعلت العالم أكثر أمانا واستقرارا”.

ولذلك يخلص إلى أن الولايات المتحدة يجب ألا تنتهج هذه السياسة بعد الآن. يجب على الولايات المتحدة أن تركز على مصالحها الأمنية الوطنية الطبيعية. فيسأله الليبرالي غيديون ريتشمان، وهو في حالة من الذعر: “لكن ماذا عن أوكرانيا؟”.

قال ترامب إن حرب أوكرانيا لم يكن ينبغي أن تبدأ أصلا. وقال أيضا إن زيلينسكي لم يكن ينبغي له أن يذهب إلى الحرب أبدا لأن الروس لديهم دبابات أكثر بكثير من أوكرانيا. يمكنكم أن تستنتجوا من هذا طريقة تفكير ترامب: “لا تخض معركة مع عدو أكبر منك”. فموقفه يقوم على الاعتراف بميزان القوى.

وبالعودة إلى دان كالدويل، فإنه عندما سُئل عن أوكرانيا، قال: “للإجابة على سؤالك، وليس للتهرب منه، أقول إن الحرب مأساة. لكن بالنسبة للولايات المتحدة، فإن سيطرة روسيا على دونباس أو شبه جزيرة القرم من عدمها، لا تمثل مصلحة حيوية لنا”.

وكان ترامب قد أدلى بتصريحات مشابهة قال فيها إن الحرب في أوكرانيا كان ينبغي ألا تبدأ أبدا، وأنها نتيجة لاستفزازات حلف شمال الأطلسي ضد روسيا، وأنه يستطيع أن يفهم أن روسيا لديها مصالح أمنية وطنية في أوكرانيا.

يضع دان كالدويل الأمر من حيث الحاجة إلى أن تعترف الولايات المتحدة بأن هناك أشياء يمكنها القيام بها، وأشياء لا يمكنها القيام بها.

“أعتقد أن الولايات المتحدة يجب أن تسعى جاهدة لكي تبقى البلد الأكثر قوة في العالم. لكن هذا من وجهة نظري يختلف عن محاولة تحقيق التفوق. في رأيي إن محاولة أن تكون القوة المهيمنة تختلف عن محاولة أن تكون البلد الأكثر قوة… أنا لا أدعو أو أتبنى أو أقبل بالتراجع الأمريكي. أنا أدافع عن العكس، ونحن بحاجة إلى القيام بأشياء تمكننا من عكس مسار التراجع الأمريكي. وأعتقد أن سعينا وراء التفوق جعلنا أضعف في نهاية المطاف”.

هذه وجهة نظر مثيرة جدا للاهتمام وتعطينا فكرة عن نهج ترامب في السياسة الخارجية. وهذا له آثار معينة. إنه اعتراف بأن الولايات المتحدة لديها مصالحها الأمنية الوطنية الخاصة ومجالات نفوذها الخاصة. ولكن الخلاصة التي تنتج عن ذلك هي أن القوى الأخرى لها أيضا مصالحها الخاصة ويجب التوصل إلى نوع من التفاوض والاتفاق معها.

يتجلى هذا في مقولة ترامب: “السلام من خلال القوة”. وهذا من شأنه أن يجعل العالم بأسره في وضع أقرب إلى ما كان موجودا قبل الحرب العالمية الأولى، مع وجود قوى مختلفة تتقاتل لتقسيم العالم. وهذا له آثار مهمة للغاية ليس فقط على أوكرانيا، التي يريد ترامب الخروج منها، ولكن أيضا، أود أن أقول، على الوضع في تايوان.

السؤال الواضح الذي يطرح نفسه هو: هل من المصلحة الوطنية للولايات المتحدة الدفاع عن تايوان ضد الصين؟ سبق لترامب، في يوليوز من العام الماضي، أن قال إن: “تايوان تبعد 9500 ميل عن الولايات المتحدة. وتبعد 68 ميلا عن الصين… وتكلفنا الكثير من المال”، بينما لا تحصل الولايات المتحدة على أي شيء في المقابل.

قال دان كالدويل، في البودكاست الذي ذكرته، إنه لن يقدم أي التزامات أمنية لتايوان وأنه بدلا من تزويدها بأسلحة متطورة، يجب على الولايات المتحدة أن تزودها بطائرات بدون طيار ودفاعات جوية أرخص حتى تتمكن من ردع الصين عن الاستيلاء عليها.

وجهة نظر ترامب هي أن الصين تشكل فعلا المنافس الرئيسي للولايات المتحدة في العالم. لا شك في ذلك. لكن هذا لا يعني أنه يجب على الولايات المتحدة أن تلتزم بالدخول في حرب معها بشأن تايوان.

ما هو الاستنتاج الذي سيتوصل إليه شي جين بينغ من هزيمة حلف شمال الأطلسي في حرب أوكرانيا؟ سوف يتوصل إلى الاستنتاج الواضح بأن هناك حدودا معينة لمدى القوة الأمريكية.

هناك بالطبع آراء مختلفة، حتى داخل معسكر ترامب، حول الصين. إذ يرى البعض أنها في الجوهر منافس اقتصادي، بينما يعتبر آخرون أنها أصبحت بالفعل خصما عسكريا.

هذه بعض الخطوط العريضة التي تحدد السياسة الخارجية لترامب، فضلا عن حقيقة أنه رجل أعمال في المقام الأول، وبالتالي فإنه أكثر حرصا على استخدام الوسائل الاقتصادية بدلا من الوسائل العسكرية. هذا ما رأيناه في الصدام مع كولومبيا، إذ لم يهدد بإرسال مشاة البحرية، أو تنظيم انقلاب عسكري، بل هدد بإلحاق الألم الاقتصادي من خلال الرسوم الجمركية. وقد استخدم القوة الاقتصادية للولايات المتحدة في مواجهة كولومبيا من أجل تحقيق أهدافه.

وكانت هناك حالة مماثلة مع الدنمارك بشأن غرينلاند. أجل لقد قال إنه لا يستبعد العمل العسكري، لكن السؤال كله كان مطروحا حول شراء غرينلاند، وهدد الدنمارك برسوم جمركية انتقامية.

يوجد ترامب على رأس أقوى قوة إمبريالية في العالم وسياسته إمبريالية بالتأكيد، لكنها سياسة، على عكس سياسة بايدن، تستند إلى درجة معينة من الاعتراف بأن الولايات المتحدة ليست القوة العالمية الوحيدة وأن قوتها لها حدود معينة.

تمكن ترامب، حتى قبل توليه منصبه، من التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، في حين أن بايدن لم يتمكن من القيام بذلك. وهذا له العديد من التداعيات المهمة.

أولها هو أن هذا أمر غير مسبوق على الاطلاق، لأن الشخص الذي أجبر نتنياهو على توقيع الاتفاق -أي مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف- هو رجل أعمال. كما أنه يأتي من قطاع العقارات، مثله مثل ترامب نفسه، وفي الوقت الذي كان يتجول في الشرق الأوسط، كان مواطنا عاديا. لم يكن لديه أي منصب رسمي. لم يكن ترامب قد تولى منصبه بعد. ومع ذلك فقد كان هو من أرغم نتنياهو على التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار.

كان ذلك الاتفاق لوقف إطلاق النار مطروحا على الطاولة منذ ماي من العام الماضي على الأقل. وكانت حماس قد قبلته بالفعل في يوليوز 2024. وكان بايدن يدفع في اتجاهه، لكن نتنياهو بدأ في اختراع كل أنواع الأعذار والذرائع لتخريبه.

وكان أحد أعذاره الرئيسية هي أن إسرائيل يجب أن تحتفظ بالسيطرة على ممر فيلادلفيا، الذي هو شريط ضيق من الأرض يفصل غزة عن مصر. وكان قد أصر، في يوليوز، ثم في شتنبر، على أن تلك مسألة حاسمة للأمن القومي الإسرائيلي. وأنه لا يمكن للجيش الإسرائيلي الانسحاب منه تحت أي ظرف من الظروف، وإلا فستصير حماس قادرة على العبور إلى مصر ذهابا وإيابا واستخدامه كخط إمداد لها.

لكن الاتفاق الحالي يقول العكس تماما. إذ سينسحب الجيش الإسرائيلي من ممر فيلادلفيا، وكذلك من ممر نتساريم، الذي حفره الجيش الإسرائيلي لتقسيم قطاع غزة إلى نصفين. وهذا ما يعطيكم مؤشرا على أن كل احتجاجات نتنياهو وأعماله التخريبية لم تكن لها علاقة بالرهائن، ولا بمسائل جدية تتعلق بالأمن القومي، بل بالأحرى بالحفاظ على استمرار الحرب حتى يتمكن من البقاء في السلطة.

كانت المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار قد استؤنفت في دجنبر، لكن ومع اقتراب موعد تنصيب ترامب كان من الواضح أنها على وشك الانهيار. قال ترامب: “أريد صفقة قبل تنصيبي”. فماذا حدث في تلك اللحظة؟ وصفت الصحيفة الصهيونية الليبرالية، هآرتس، الأمر على النحو التالي:

كان ويتكوف في الدوحة، حيث كانت تجري هذه المفاوضات، وقد أدرك في مرحلة معينة أن المفاوضين الإسرائيليين كانوا يضيعون الوقت فقط، وأنهم لم تكن لديهم النية ولا السلطة لتوقيع أي شيء أو الموافقة على أي شيء.

لذلك اتصل ويتكوف بمكتب نتنياهو وقال: “أريد اجتماعا معك غدا، السبت”. لقد حاول مكتب نتنياهو تأخير العملية برمتها، بحجة أنه من غير الممكن الاجتماع يوم السبت لأنه كان يوم العطلة اليهودي، وأن الاجتماع يجب تأجيله، إلخ.

ووفقا لصحيفة هآرتس، فقد قدم ستيف ويتكوف ردا “لاذعا”، موضحا أنه لا يهتم إذا كان يوم السبت -يوم العطلة اليهودي- وأن الاجتماع سيعقد رغم كل شيء. لا نعرف ما الذي حدث في ذلك الاجتماع، لكن لا بد أن ويتكوف قد ضرب الطاولة وتمكن من جعل نتنياهو يوقع على تلك الصفقة.

لقد ترك توقيع وقف إطلاق النار بايدن مكشوفا تماما. فقد أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة كانت لديها بالتأكيد القوة للضغط على نتنياهو لتغيير سياسته. لكن سياسة بايدن المتمثلة في الدعم الكامل لحملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة لم تمنح واشنطن أي نفوذ على نتنياهو، بل العكس.

أدى اتفاق وقف إطلاق النار إلى أزمة كبرى في إسرائيل، أو بالأحرى، تسريع الأزمة السياسية فيها. فقد انسحب من حكومة نتنياهو أحد الحزبين اليمينيين المتطرفين اللذين يشاركان في الائتلاف، وهدد الحزب الآخر بالانسحاب.

وكان نتنياهو، قبل بضعة أشهر، قد أدخل حزبا آخر إلى الائتلاف، هو حزب جدعون ساعر، وذلك حتى لا يعتمد كثيرا على دعم سموتريتش وبن غفير، زعيمي الحزبين اليمينيين المتطرفين.

كما كشف وقف إطلاق النار بشكل أكثر وضوحا أن إحدى المصالح الرئيسية لنتنياهو طوال الحرب كانت هي إبقاء الصراع مستمرا، بل وحتى تصعيده، لكي يتمكن من البقاء في السلطة. مسألة بقاءه السياسي الشخصي لعبت دورا رئيسيا. وهذا أحد الأسباب التي تجعله يحاول الآن إثارة حرب مفتوحة في الضفة الغربية.

إن اتفاق وقف إطلاق النار ليس في مصلحته، وبالتالي ليس من المؤكد أن هذا الاتفاق سوف يصمد. وكان  نتنياهو قد صرح علنا إنه تلقى ضمانات من بايدن وترامب بأنه يمكنه استئناف الحرب على غزة بعد المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار.

وفي الأيام القليلة الماضية، كان هناك شبه انهيار لوقف إطلاق النار في لبنان. فتدخلت إدارة ترامب مرة أخرى للتأكد من عدم انهياره بشكل كامل.

من الواضح في كل الأحوال أن اتفاق وقف إطلاق النار لا يمكن وصفه بانتصار لإسرائيل. فهي لم تحقق أيا من أهدافها في الحرب، والتي كانت تتلخص في إطلاق سراح الرهائن بالقوة العسكرية وتدمير حماس.

الجيش الإسرائيلي واحد من أقوى الجيوش في الشرق الأوسط -إن لم يكن أقواها على الإطلاق- فهو يتمتع بتكنولوجيا متقدمة للغاية، ومصادر استخباراتية، وأسلحة عالية التقنية، وأسلحة منخفضة التقنية، وإمدادات واسعة النطاق من المدفعية وما إلى ذلك. ومع ذلك فإنه لم يتمكن من إنقاذ الرهائن، والأهم من ذلك هو أنه لم يتمكن من سحق حماس، وهو الهدف الحقيقي للحرب.

ووفقا لبعض التقارير الاستخباراتية الأمريكية في الأيام القليلة الماضية، فقد نجحت حماس منذ بداية الحرب في تجنيد 15 ألف عضو جديد، وهو تقريبا نفس عدد الأشخاص الذين يقول الإسرائيليون إنهم قد قتلوهم. رغم أن هؤلاء المجندين بالتأكيد لن يتم تدريبهم أو دمجهم في الهياكل العسكرية بنفس الدرجة التي تم بها تدريب أولئك الذين قتلتهم إسرائيل. من الواضح أن حماس قد أضعفت بسبب هذا، لكنها بالتأكيد لم يتم تدميرها بعد.

ماذا رأينا في الأيام القليلة الماضية؟ ماذا حدث بمجرد انسحاب القوات الإسرائيلية؟ لقد سيطرت هياكل حماس على الأوضاع. فيوم أمس، في الساحة الرئيسية بمدينة غزة، كان رجال شرطة حماس منتشرين في كل مكان، بزيهم الرسمي النظيف، وهم يجهزون المسرح للرهائن الذين كان من المقرر إطلاق سراحهم، وكان هناك عدد كبير من الرجال المسلحين الذين أظهروا بكل وضوح أنهم ما زالوا يسيطرون على المكان. كان ذلك في الساحة الرئيسية بمدينة غزة، وهو المكان الذي قام الجيش الإسرائيلي بتفتيشه بدقة شديدة للتأكد من عدم وجود حماس فيه.

هذا أمر عجيب تماما. فقد أمضى مقاتلو حماس شهورا تحت الأرض في الأنفاق. وقطعوا كل الاتصالات فيما بينهم خوفا من تتبع أثرهم. وها هم الآن يخرجون، بعد أن جندوا الآلاف من الأعضاء الجدد، ويسيطرون على قطاع غزة مرة أخرى.

كل هذه السلسلة من الأحداث: هجوم حماس في السابع من أكتوبر؛ وفشل الحملة الإسرائيلية في غزة؛ وموقف نتنياهو الكلبي من الرهائن.. لابد أن يكون لها عاجلا أم آجلا تأثير على وعي الطبقة العاملة الإسرائيلية.

لقد استمرت الطبقة السائدة الصهيونية، على مدى عقود من الزمان، في حشد الشعب الإسرائيلي حول سياساتها بحجة أن الطريقة الوحيدة لضمان سلامة ورفاهية اليهود في إسرائيل هي من خلال دولة قوية تهزم كل أعدائها. لكن أسطورة الدولة التي لا تهزم قد تحطمت الآن. ولابد أن تترسخ في نهاية المطاف الفكرة القائلة بأنه لا يمكن أن يكون هناك سبيل للسلام طالما بقيت التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني دون حل.

من الجدير أن نسأل: ما هي سياسة ترامب في الشرق الأوسط؟

[ملاحظة: لقد أُلقي خطاب المنظورات العالمية هذا  قبل أسبوعين من زيارة نتنياهو للبيت الأبيض وإعلان ترامب عن خطته للسيطرة على غزة].

يبدو لي أن ما يريده ترامب هو اتفاق لوقف إطلاق النار من شأنه أن يؤدي بعد ذلك إلى استئناف اتفاقيات إبراهيم، أي تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. وفي منشوره على وسائل التواصل الاجتماعي الذي أعلن فيه مسؤوليته عن الاتفاق، ذكر اتفاقيات إبراهيم وقال إن غزة ينبغي ألا تبقى “ملاذا للإرهابيين” بعد الآن.

حسب رأيي، إنه يعتقد ربما أنه إذا تمكن من خلق النمو الاقتصادي في المنطقة، فإن كل المشاكل سوف تُحل وسوف يكون الجميع سعداء.

لكنه لم يكتف بقول ذلك، فهو الآن يسأل، لماذا لا ننقل كل السكان من غزة إلى الأردن ومصر؟ حيث يمكننا أن نبني لهم منازل في مكان يمكنهم العيش فيه بسلام.

يبدو له أن هذا منطقي. فقد تم تدمير غزة بالكامل. وسوف يستغرق الأمر سنوات لإعادة بنائها، وإزالة الأنقاض، وبناء منازل وبنية أساسية جديدة. نحن نتحدث عن عقود من إعادة الإعمار التي ستكلف الكثير من المال. وما يفكر فيه بالأساس هو: “لماذا لا يدفع شخص آخر ثمن هذا؟”.

وهو في الوقت نفسه، ربما يفكر بأنه “بهذه الطريقة يمكنني إرضاء اليمين المتطرف الصهيوني. إنهم يريدون تطهير غزة من الفلسطينيين، لذا فلنمنحهم ذلك أيضا”. ربما يريد إقناع السعوديين ودول الخليج بدفع المال. ويمكنكم بالفعل رؤية الخطوط العريضة لمثل هذه الخطة.

لكن من غير المرجح أن ذلك النهج العملي المقاولاتي الذي يتبناه ترامب سينجح في التعامل مع الأوصاع السياسية في الشرق الأوسط، أو في أي مكان آخر.

لا أعتقد أن المملكة العربية السعودية تستطيع الموافقة على صفقة تطبيع مع إسرائيل طالما لم يكن هناك شكل من أشكال دولة فلسطينية، حتى ولو كانت مجرد دويلة بلا أسنان. وهذا ليس لأن الحكام السعوديين يهتمون بالتطلعات الوطنية للفلسطينيين، بل لأنهم قلقون من الإطاحة بهم إذا ما ظهروا بأنهم باعوا الفلسطينيين بطريقة أكثر وضوحا.

وبالإضافة إلى ذلك، كيف سيمكن إقامة دولة فلسطينية، في ظل الظروف الحالية دون سيطرة حماس على غزة؟ لقد حاول الإسرائيليون لمدة 15 شهرا التخلص من حماس بحملة وحشية، لكنهم لم يتمكنوا من تحقيق ذلك. إن هذه مشكلة مستعصية حقا في حدود الحلول الرأسمالية. هذا هو الاستنتاج الوحيد الذي يمكن استخلاصه من ذلك. وسوف يصبح الموقف أكثر تعقيدا بالنسبة لترامب مع مرور الوقت.

سقوط نظام الأسد

أود أن أتحدث بإيجاز عن سوريا، لأن هذا حدث كبير آخر وقع في الأسابيع القليلة الماضية بطريقة مفاجئة للغاية.

لقد قمنا بالفعل بتحليل سقوط نظام الأسد في عدد من المقالات. كان ذلك جزءا من الوضع العالمي العام الذي وصفناه سابقا. كانت روسيا متورطة في أوكرانيا؛ وتعرضت إيران للضعف في لبنان بسبب الحملة الإسرائيلية.

كانت لتركيا شراكة من نوع ما مع روسيا تم التوصل إليها في سياق النكسات التي عانت منها تركيا في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية السورية. لكن تركيا وروسيا ليستا حليفتين حقا. لذا فإنه بالنظر إلى الضعف النسبي للقوى الأخرى التي كانت تدعم الأسد، فقد قررت تركيا أن تتحرك.

بدأت بالضغط على الأسد للتوصل إلى نوع من الاتفاق، والذي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة سيطرة وكلاء تركيا في سوريا، والسماح بعودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين الموجودين حاليا في تركيا.

لكن الأسد قرر، لسبب ما، عدم إبرام الصفقة. كان في نفس الوقت يتحاور مع بلدان أخرى، بمن في ذلك القطريين، وكان تحت ضغط من الإسرائيليين. ولم يكن يريد عقد صفقة مع أردوغان.

نتيجة لذلك قامت تركيا بالضغط عليه، وبمجرد أن بدأت في الضغط، انهار البناء بأكمله. كان نظام الأسد متعفنا لدرجة أنه لم يبق منه اي شيء.

تكون لديك في بعض الأحيان خزانة خشبية نخرها السوس. لا يمكنك رؤية الضرر من الخارج، ولكن في يوم من الأيام تذهب وتفتح الباب فينهار كل شيء.

والوضع الذي نشأ بعد انهيار نظام الأسد، هو أن تركيا صارت أكثر هيمنة لكنها ما تزال لا تسيطر على البلاد بأكملها. وما نراه هو تقسيم سوريا بين قوى إقليمية مختلفة.

استغلت إسرائيل هذا الوضع، من أجل توسيع مساحة الأراضي التي تسيطر عليها في الجنوب، بجوار مرتفعات الجولان، المطلة على جنوب لبنان. بينما تسيطر تركيا على الشمال والشمال الغربي والعاصمة دمشق. في حين يسيطر الدروز على الزاوية الجنوبية. ويسيطر الكورد على الشمال الشرقي، لكن موقفهم هش للغاية.

يوجد درس هنا: لقد راهن الكورد في سوريا بكل أوراقهم على الإمبريالية الأمريكية، وقد صاروا الآن يعتمدون كليا على دعمها من أجل بقائهم. ولهذا السبب بعث زعيم وحدات حماية الشعب الكوردية للتو رسالة انبطاح إلى ترامب، قال فيها: “يمكننا أن نكون أصدقاء. نحن أفضل المدافعين عن مصالحكم في هذه المنطقة”.

علينا أن نناقش، بطريقة رفاقية، هذا الدرس مع هؤلاء اللاسلطويين واليساريين في الغرب، الذين كان لديهم موقف غير نقدي على الإطلاق تجاه روج آفا. ففي نهاية المطاف، ليست حقوق الأمم الصغيرة سوى أوراق لعب هزيلة في مكائد القوى الكبرى.

الحرب في أوكرانيا

ثم نأتي إلى الحرب في أوكرانيا. أعتقد أن الغرب قد خسر الحرب في أوكرانيا، وأن حلف شمال الأطلسي قد انهزم. وأعتقد أنه لا توجد طريقة يمكنهم من خلالها تحويل نتيجة تلك الحرب. روسيا تتقدم على طول خط المواجهة، ومعدل التقدم يتسارع.

وفي كل منعطف من منعطفات هذه الحرب، فشلت محاولات الولايات المتحدة لتوفير “أسلحة متفوقة” قادرة على تغيير مسار الحرب. رأينا أولا دبابات ليوبارد، ثم صواريخ HIMARS، ثم طائرات إف-16، ثم صواريخ ATACMS. ومؤخرا تم منح أوكرانيا الإذن باستخدام صواريخ ATACMS لضرب أهداف داخل الأراضي الروسية. لكن هذا فشل في كل مرة في تحويل مسار الحرب.

العامل الحاسم حاليا هو تفوق روسيا في أعداد القوات المقاتلة وعدم قدرة أوكرانيا على تجنيد المزيد من الجنود للجبهة.

هناك عوامل أخرى بالطبع، مثل استنفاد مخزونات الأسلحة في الغرب وتناقص قدرة الصناعة العسكرية الغربية على مواصلة إمداد أوكرانيا، مقارنة بقدرة الصناعة العسكرية الروسية على إمداد قواتها الخاصة.

وبالمناسبة، هناك نقطة مثيرة للاهتمام يجب طرحها فيما يتعلق بهذه المسألة. فقبل بضعة أشهر عندما كان الغرب يعقد مناقشات مع صناع الأسلحة، كان أرباب الصناعات العسكرية يقولون: “أجل، يمكننا إنتاج المزيد. إننا نستطيع أن نستثمر في بناء مصانع جديدة حتى نتمكن من إنتاج المزيد من القذائف والمعدات العسكرية، لكن شريطة أن تمنحونا عقدا طويل الأجل. أما إذا كان الأمر يتعلق فقط بزيادة الإنتاج على مدى الأشهر الستة المقبلة، فلن نستثمر بشكل كبير في رأس المال الثابت الذي لسنا متأكدين من قدرتنا على استخدامه في وقت لاحق”. هكذا تعمل الاستثمارات الرأسمالية.

لكن هذا ليس هو الحال في روسيا، حيث تتبنى الدولة الآن سياسة التدخل في الاقتصاد، لضمان فوزها بالحرب. تقول الدولة إن هذه المصانع سوف تعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع وأنها سوف توفر المواد اللازمة للجيش. وسواء كانت تلك المصانع مملوكة للدولة أو مملوكة للقطاع الخاص، فإنها الآن تحت سيطرة الدولة.

هذا مثال يوضح أن التخطيط الحكومي هو، بطريقة أو بأخرى، متفوق إلى حد كبير على فوضى اقتصاد السوق الحرة، حتى عندما يتعلق الأمر بتوفير الأسلحة للحرب.

وهذه نقطة كان تيد غرانت قد أشار إليها أثناء الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت، أنشأت بريطانيا مجالس صناعية تم من خلالها إخبار المصانع وأصحاب رأس المال الخاص بما يجب عليهم أن ينتجوه وحددت لهم الأجل الزمني والكمية. كان ذلك في الواقع شكلا من أشكال التخطيط الحكومي. فحتى الرأسماليون أنفسهم لا يتركون الأمر للسوق الحرة عندما يتعلق الأمر بالأشياء المهمة.

لقد اتضح أن الفكرة القائلة بأن العقوبات الغربية ستلحق الضرر بالاقتصاد الروسي إلى حد أنه قد يمنع أو يعيق جهود الحرب، كانت خاطئة تماما. الاقتصاد الروسي ينمو وينتج ما يكفي لدعم هذه الحرب.

وعندما نأخذ كل العوامل الأخرى في الاعتبار، فإن العامل الحاسم هو عدم قدرة أوكرانيا على تجنيد عدد كاف من الجنود لأجل القتال. كانت هذه هي الحال منذ أشهر. لقد تسربت بعض المعلومات إلى مقالات في وسائل الإعلام الغربية، لكن الوضع الحقيقي كارثي تماما.

في بداية الحرب تطوع العديد من الناس للقتال. في ذلك الوقت، كان يُنظر إلى الحرب على أنها حرب دفاع وطني وكانت هناك موجة من النزعة الوطنية. بقي هؤلاء الناس في الجبهة لسنوات حتى الآن دون أي تناوب. لقد استنفدوا قواهم تماما. لكنهم على الأقل جنود مدربون ومتمرسون في المعارك ويعرفون شيئا ما عن كيفية القتال.

لكن ما نشهده الآن هو استعمال طرق استبدادية وعنيفة بشكل متزايد تحاول الدولة من خلالها تجنيد أعداد كبيرة للجيش بالقوة من خلال ‘خدمة التجنيد والتعبئة’ (TCC). ومؤخرا كانت هناك فضيحة في البرلمان الأوكراني حيث قال عضو في البرلمان من حزب زيلينسكي الحاكم: “لا يمكن أن يستمر هذا بعد الآن، ضباط التجنيد في خاركوف، يتصرفون مثل جيش احتلال، بما في ذلك إنشاء نقاط تفتيش”. إنهم يبحثون عن الرجال في سن الخدمة العسكرية، ويكدسونهم في شاحنات ويرسلونهم مباشرة إلى الجبهة. أي أنه يتم اختطافهم حرفيا.

وقد أدى هذا إلى اندلاع مقاومة وردود فعل عنيفة. ومنذ أشهر صار ضباط التجنيد يستخدمون شاحنات صغيرة غير مميزة، لأن المفاجأة هي الطريقة الوحيدة التي يمكنهم بها القبض على الناس.

أجرت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية حوارا حول “يوم في حياة ضابط تجنيد أوكراني”. وفي نهاية المقال سألوه: “لماذا تفعل هذا؟” قال: “أعتقد أنه من الأفضل العمل لصالح خدمة التجنيد والتعبئة (TCC) بدلا من الاختباء منها”. دافعه الوحيد هو أنه من الأفضل أن يقوم بمطاردة الناس بدلا من أن يكون هو المطارَد! وكونه ضابط تجنيد يعني على الأقل أنه لن يذهب إلى الجبهة حيث سيموت بالتأكيد. هذا هو المزاج الحقيقي الموجود الآن في أوكرانيا.

مثال آخر: قرر زيلينسكي -بأسلوبه الفريد الذي يخضع فيه كل ما يفعله لاحتياجات العلاقات العامة للإبقاء الغرب إلى جانبه- تشكيل ثمانية ألوية جديدة سيتم تدريبهم من قبل الغرب وفقا لأفضل معايير الناتو.

كانت إحدى تلك المجموعات هي اللواء الآلي 155. يبلغ عدد أفراد اللواء 3500 رجل. وقد تم إرسالهم إلى فرنسا لتلقي تدريب عالي الجودة. كانت هذه أيضا خطوة دعائية من جانب ماكرون، الذي كما نعلم يواجه الكثير من الصعوبات في الداخل ويريد أن يظهر بمظهر الرجل القوي.

تم تدريب اللواء 155 ثم عاد إلى أوكرانيا، حيث تم إرساله إلى الجبهة في بوكروفسك، التي هي إحدى أكثر المناطق سخونة على خط المواجهة، والتي كان الروس يحاصرونها تدريجيا منذ أشهر. فما الذي حدث؟ لقد اختفى اللواء قبل أن يطلق رصاصته الأولى، حيث فر حوالي 1700 رجل، وغابوا دون إذن. وكان حوالي 50 فردا منهم قد فروا بالفعل في فرنسا.

كان الصحفي الأوكراني يوري بوتوسوف هو من وصف هذا الحدث. وهو بالتأكيد ليس مواليا لروسيا. إذ نشر تقريرا طويلا يقول فيه إن الوضع في الجيش جنوني بشكل كامل. هذا وكانت مجموعة من المحللين العسكريين الأوكرانيين قد طرحت نقاطا مماثلة.

لا يريد زيلينسكي سماع الحقيقة، ولذلك فإن الجنرالات من حوله لا يخبرونه بحقيقة الوضع. وعندما لا يقوم القادة المتواجدون في الميدان، والذين من المفترض أن يبلغوا عن أي تغييرات أو مشاكل في قطاعهم، بذلك، يصبح من المستحيل التخطيط لأي شيء.

لنفترض أن وحدة ما قد تم دفعها للخلف من الموقع الذي كانت تحتله. لا يتم إبلاغ القيادة عن هذا الأمر خوفا من التعرض للعقاب. لذا لا توجد معلومات صادقة. فتعتقد الوحدة المجاورة لتلك الوحدة أن الموقع ما يزال أوكرانيا. ثم فجأة، تحاصرهم القوات الروسية بشكل كامل.

قد يصل العدد الإجمالي للجنود الأوكرانيين الذين اخلوا أماكنهم دون إذن إلى 200.000! وقد تم توجيه تهمة الفرار رسميا إلى أكثر من 90.000 منذ عام 2022، والغالبية العظمى منهم في عام 2024، مما يعني أن المعدل يتسارع. إن هؤلاء هم أناس قرروا ذات يوم أنهم لا يريدون البقاء على الخطوط الأمامية، فيغادرون، أو يتم منحهم إجازة طبية ثم لا يعودون أبدا إلى وحداتهم.

وأحدث فضيحة في أوكرانيا هي أنهم الآن صاروا يرسلون متخصصين من القوات الجوية إلى الجبهة كجنود مشاة. هؤلاء أناس تم تدريبهم على استخدام الطائرات المسيرة، ورصد الصواريخ القادمة وما إلى ذلك، لصالح الدفاع الجوي. إنهم أفراد متخصصون ومدربون تدريبا عاليا، لكن يتم إخراجهم الآن من القوات الجوية وإرسالهم إلى الجبهة. وهو ما يعتبر، من وجهة نظر عسكرية، نزيفا للمهارات.

يبدو لي أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر لفترة أطول. نحن ديالكتيكيون، لذا فإننا نعرف أن الوضع سوف يصل إلى نقطة حيث قد تصبح هذه الخسائر التدريجية الصغيرة انهيارا كاملا للجبهة.

وتيرة الإحباط داخل صفوف الجيش -والذي هو انعكاس للإحباط الموجود داخل المجتمع- قد تسارعت مع وصول ترامب إلى السلطة. لقد قال إنه سيضع حدا للحرب في غضون أربع وعشرين ساعة، وأنه سيعقد صفقة مع بوتين. برأيكم ما هو تأثير هذا في أوكرانيا على القيادة السياسية والقيادة العسكرية وعلى الجنود في الجبهة؟

تقول بعض التقارير في وسائل الإعلام الغربية عن رأي القوات أن الجنود الأوكرانيين يدعمون ترامب، لأنهم يريدون إنهاء الحرب. ونقلت بوليتيكو عن وزير أوكراني سابق حديثه عن تأثير ترامب على الحرب، حيث قال: “قد لا يكون الأمر جيدا، لكنه سيكون أفضل بكثير مما كان عليه في عهد بايدن… [بايدن] أدار الحرب كأزمة، وكان يعتقد أنه إذا صمد لفترة كافية، فإن العاصفة ستمر. لكنها لم تمر. بينما ترامب يتبنى وجهة نظر مفادها أنه يتعين علينا إيقاف العاصفة. وهو غير مهتم بكيفية إيقافها”.

هذا هو تكتيك ترامب على ما يبدو: إنهاء الحرب. ليس من الواضح كيف ينوي تحقيق ذلك، أو حتى ما إذا كان من الممكن أن يحققه. لكن الشيء الواضح هو أنه إذا قال ترامب إن الولايات المتحدة ستنسحب من تلك الحرب، وهو ما يحاول تحقيقه، فإن الحرب ستنتهي.

إن الوضع الحالي هو أن أوكرانيا قد خسرت الحرب بالفعل، لكن الحرب لم تنته بعد. لكن إذا انسحبت الولايات المتحدة، وأوقفت إمداد المساعدات العسكرية والأسلحة والمؤن وما إلى ذلك، فإن الأمر سيكون قد انتهى.

إن هزيمة حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا سيكون لها تأثير كبير على الوضع العالمي. ولن يكون ذلك مثل الوقت الذي اضطرت فيه الولايات المتحدة إلى مغادرة أفغانستان، عاجزة عن هزيمة بلد متخلف للغاية في الواقع. نحن نتحدث هنا عن حرب كبرى بالوكالة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا.

سوف تخرج روسيا من هذه الحرب باعتبارها القوة الإمبريالية الوحيدة التي تمتلك جيشا انخرط في أساليب الحرب الحديثة واختبر فيها. لقد شكلت الحرب في أوكرانيا، مثل كل الحروب، أرض اختبار لأحدث أساليب الحرب، واستخدام الطائرات المسيرة، واستخدام الحرب الإلكترونية لمواجهتها، وأنواع جديدة من الصواريخ، وما إلى ذلك.

كيف ستنتهي حرب أوكرانيا؟

هل يمكن التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب؟ سأقول إن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها التوصل إلى اتفاق هي الخضوع لشروط بوتين. فهو يفوز بالحرب على أرض المعركة وكلما طالت الحرب، كلما فاز بأراضٍ أكثر.

ما هي شروطه؟ أولا وقبل كل شيء، سيحافظ على كل الأراضي التي استولى عليها. كما أنه يريد التزاما صارما بأن أوكرانيا لن تنضم أبدا إلى حلف شمال الأطلسي وستبقى بلدا محايدا. وهذا يتضمن أيضا تقليص حجم الجيش الأوكراني.

ما قاله بوتين في الفترة التي سبقت الحرب في دجنبر 2021 كان: “نريد بنية أمنية جديدة في أوروبا”. وهذا يعني: “نريد من أوروبا والولايات المتحدة أن تعترفا بأن روسيا قوة، وأن تتوقفا عن التدخل في فنائنا الخلفي والقيام بخطوات عدوانية ضد روسيا”.

خلال المناقشات التي أجريناها حول الحرب في أوكرانيا عندما بدأت، قال بعض الرفاق إن الغرب لا يمكن أن يسمح بخسارتها. لقد قالوا إن هذه الحرب بالنسبة للغرب مسألة مهمة تتعلق بالهيبة، وبالتالي، فإن الدول الغربية ستستمر في تصدير الأسلحة لأوكرانيا مهما طال الأمر.

وقد اعتقدت في ذلك الوقت، أن الحرب في أوكرانيا ستنتهي في وقت أقرب بكثير إذا تم التوصل إلى اتفاق. اعتقدت أن الغرب سيكون مستعدا للاعتراف بالحالة الحقيقية للوضع في وقت أقرب بكثير. وأعتقد أنني قلت إنه سيكون هناك اتفاق بحلول خريف عام 2022. وإذا كنتم تتذكرون، فقد تمت في تركيا محاولة التوصل إلى صفقة، لكن بعد ذلك سارع بوريس جونسون إلى كييف وأخبرهم بعدم التوقيع عليها وأن الغرب سيستمر في دعمهم “مهاما طال الأمر”، إلى حين تحقيق النصر على روسيا.

لقد كنت مخطئا ومن الواضح أن هؤلاء الرفاق كانوا على حق.

لقد استمر الغرب في إرسال الأسلحة إلى حرب كان من الواضح منذ مدة طويلة أنه لا يمكن كسبها. وقد كان ذلك إلى حد كبير لأسباب تتعلق بالهيبة. فبعد أن انخرط الغرب في تلك الحرب، لم يعد يمكن له أن يظهر بمظهر المنهزم. كان الخطأ الذي ارتكبته هو المبالغة في تقدير قدرة الإمبريالية الغربية على التصرف بشكل منطقي وعقلاني.

لكن هناك حدود معينة -مالية ومادية وسياسية- لقدرة الغرب على الاستمرار في إرسال الأسلحة. وقد تم الوصول إلى تلك الحدود منذ مدة طويلة.

ربما يعتقد ترامب أنه يستطيع الإفلات من تبعات التأثير الذي قد يخلفه على العلاقات العالمية تضرر هيبة الولايات المتحدة وفقدان لمكانتها، لأنه يستطيع إلقاء اللوم في ذلك على بايدن.

إنه يقول: “هذه ليست حربي، هذه الإهانة ليست موجهة لي، هذا خطأ أو حتى جريمة ارتكبها بايدن. ونحن نخرج منها. لقد مات الكثير من الناس بالفعل”.

ترامب نرجسي أيضا. وقد قال البعض إنه يريد جائزة نوبل للسلام! ولن يكون ذلك مخالفا لمعايير لجنة نوبل؛ فقد سبق لها بالفعل أن منحت الجائزة لكثير من الشخصيات غير المستساغة.

لذا فإن ترامب ربما يعتقد أنه إذا تمكن من الجلوس مع بوتين، واستعمل سحره الشخصي وعلاقاته الشخصية، فسيكون قادرا على التوصل إلى صفقة مفيدة للجميع.

كان هذا هو محتوى منشور ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي: “أنا أحب الروس. لقد ساعدنا الروس كثيرا خلال الحرب العالمية الثانية. الاقتصاد الروسي في حالة سيئة وسأقدم خدمة لبوتين من خلال التوصل إلى اتفاق”.

لكن من الواضح أن بوتين ليس أحمقا. يمكن وصفه بأشياء كثيرة، لكنه ليس أحمقا. إنه يعرف ما هو الوضع الحقيقي، فيما يتعلق بالاقتصاد الروسي (الذي يزدهر) والوضع العسكري.

يعتقد ترامب أن الحرب في أوكرانيا خطأ وإهدار للمال وإهدار للوقت، ويريد وضع حد لها. لكن الحياة الواقعية أكثر تعقيدا من نوايا ترامب وحدها.

من المؤكد أنه يتمتع بقدر كبير من النفوذ على أوكرانيا. إنه يعتبر زيلينسكي مصدر إزعاج. وسيرغب في الدخول في مفاوضات مباشرة مع بوتين ثم الالتفات إلى زيلينسكي وإخباره بأنه “يجب أن تقبل هذا”.

ورد عن رئيس جهاز الأمن الأوكراني بودانوف أنه قال في اجتماع مغلق مع قادة الفرق البرلمانية والقادة العسكريين إنه ما لم ينخرطوا في مفاوضات جادة، فإن أوكرانيا ستواجه في غضون ستة أشهر “تهديدا وجوديا”. كما قال زيلينسكي إن الحظر المفروض على أي مفاوضات مع بوتين، والذي روج له قبل أشهر، لا ينطبق عليه وأنه مستعد للجلوس إلى الطاولة. من الواضح أن الحكومة الأوكرانية قد صارت مجبرة على الاعتراف بالواقع. وسيحاولون الحصول على أكبر قدر ممكن من تلك المفاوضات، لكنهم لا يمتلكون ما يكفي من القوة.

ماذا سيحدث إذا اعترض الأوروبيون على المفاوضات أو على شروط الصفقة المحتملة؟ سيقول ترامب: “حسنا، هذه حربكم. امضوا قدما. نحن سنخرج منها”. وأوروبا ليست في وضع يسمح لها بمواصلة الحرب بالوكالة ضد روسيا بدون الولايات المتحدة، ليس من وجهة نظر اقتصادية فحسب، بل وسياسية وعسكرية أيضا. هذه هي الخطوط العريضة العامة للموقف.

ترامب يمزق كتاب القواعد الإمبريالية

ما الذي يعنيه كل هذا؟ لقد حدث تغير كبير في العلاقات العالمية. كما أنه تغير في طريقة تصرف الولايات المتحدة.

نشرت مجلة الإيكونوميست افتتاحية تقول إن الولايات المتحدة لديها الآن “للمرة الأولى منذ أكثر من قرن من الزمان… رئيس إمبريالي”! وأنا على يقين من أن الكثير من الناس في فيتنام والعراق وتشيلي وفنزويلا وكوبا سوف يفاجأون. من الواضح أن جميع رؤساء الولايات المتحدة كانوا إمبرياليين منذ زمن بعيد، منذ أكثر من قرن من الزمان بالتأكيد.

لكن مجلة الإيكونوميست ربما تكون على حق في ما ما يلي: فطيلة الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، أو ربما حتى قبل ذلك، حافظت الإمبريالية الأمريكية على تظاهرها بالعمل باسم حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، وتبني “النظام القائم على القواعد” والدفاع عن “المبدأ المقدس المتمثل في حرمة الحدود الوطنية”، وما إلى ذلك.

لقد كانوا يتصرفون من خلال مؤسسات دولية “متعددة الأطراف”، والتي كانت تبدو محايدة، حيث كان لكل البلدان رأي: الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، وما إلى ذلك.

في الواقع، لم يكن ذلك سوى قناع. لقد كان دائما مجرد مهزلة. فعندما لا يكون من الممكن الدفاع عن مصالح الإمبريالية الأمريكية من خلال تلك المؤسسات، كانت تتجاهلها تماما.

والفرق الموجود الآن هو أن ترامب لا يكترث على الإطلاق بأي من تلك المزاعم. ويبدو أنه عازم على تمزيق كتاب القواعد بأكمله والتعبير عن الأمور بصراحة أكبر، كما هي في الواقع. وعندما يقول إن قناة بنما وغرينلاند جزء من مصالح الأمن القومي الأمريكي، فإنه يعبر بشكل علني عن وجهة نظر الطبقة السائدة الأمريكية.

إن الصراحة والوضوح التي يتحدث بهما ترامب عن مصالح الإمبريالية الأمريكية سيكون لهما تأثير مهم على الوعي. لقد صار الآن في إمكانية غالبية الناس في العالم أن يروا كيف هو العالم حقا، وكيف تشتغل الإمبريالية حقا. وقد تسارعت هذه التغييرات في الوعي بشكل كبير بسبب الحرب على غزة.

سبق لنا أن تحدثنا عن الانحدار النسبي للإمبريالية الأمريكية وصعود الصين وروسيا باعتبارهما قوتين إمبرياليتين على الساحة العالمية، لكن هذه السيرورات تسير جنبا إلى جنب مع الانحدار طويل الأمد للقوى الإمبريالية الأوروبية، والذي يتسارع الآن بشكل هائل. كما سبق لنا أن أوضحنا ذلك في عدد من المقالات، بما في ذلك مقالتنا عن تقرير ماريو دراغي حول “القدرة التنافسية الأوروبية”، ومقالنا الأخير حول أزمة صناعة السيارات الأوروبية.

أوروبا في أزمة عميقة، وهي أزمة لا يمكنها الفرار منها، وليست لديها الوسائل للخروج منها. لقد دخلت ألمانيا الآن في حالة ركود منذ عامين، ويقول بعض الخبراء الاقتصاديين البرجوازيين إن الركود سيستمر طوال سنة 2025، وهو الشيء غير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.

لقد تسارعت هذه السيرورة بشكل كبير نتيجة لحرب أوكرانيا والعقوبات الأوروبية على روسيا. لم تؤد تلك العقوبات إلى عرقلة المجهود الحربي الروسي، لكنها أضرت بأوروبا بشكل هائل، وخاصة ألمانيا.

القدرة التنافسية لأوروبا متخلفة عن القدرة التنافسية للولايات المتحدة والصين/ / الصورة: Fair Use

ولإعطاء بعض الأرقام لتوضيح السيرورة نشير إلى أن: الإنتاج الصناعي الألماني انخفض بنسبة 7% منذ عام 2021، لكن الصناعات كثيفة الطاقة سجلت انخفاضا بنسبة 20%! من الواضح أن ألمانيا هي البلد الأكثر تضررا في أوروبا، لأنها كانت الأكثر اعتمادا على إمدادات الطاقة الروسية الرخيصة.

لكن البلدان الأخرى ليست بعيدة عن الركب. ففي بريطانيا، عانى الإنتاج الصناعي من انحدار طويل الأمد. ومع ذلك، فإن الأرقام التي تُظهر انهيار الإنتاج منذ بدء حرب أوكرانيا صادمة: فمنذ عام 2021، انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 9%، وعرف قطاع التعدين انخفاضا بنسبة 35%، وانخفض قطاع المواد الكيميائية بنسبة 38%، وقطاع الأسمنت بنسبة 39%، كما أن قطاع انتاج المعدات الكهربائية قد انخفض بنسبة لا تصدق بلغت 49%! هذه مجزرة حقيقية.

وما يعكسه هذا، إلى جانب تأثير العقوبات الطاقية على روسيا، هو سيرورة أساسية أعمق تم شرحها بوضوح في تقرير دراغي. إن القدرة التنافسية لأوروبا متخلفة عن القدرة التنافسية للولايات المتحدة والصين. تقوم الرأسمالية على إعادة استثمار فائض القيمة من أجل تطوير تقنيات الإنتاج وتطوير وسائل الإنتاج، من أجل الإنتاج بطريقة أكثر كفاءة.

وبينما شهدت إنتاجية العمل في الولايات المتحدة بعض الزيادات في الفترة الأخيرة، فإن أوروبا متخلفة بشكل كبير. ويشرح تقرير دراغي جيدا أن مستوى التكامل الاقتصادي في أوروبا لا يكفي للتنافس مع الاقتصاديات الضخمة وأسواق رأس المال الكبرى في الصين والولايات المتحدة.

كانت الفكرة الأصلية وراء بناء الاتحاد الأوروبي هي محاولة من جانب الطبقات السائدة الأوروبية للتكاثف معا خوفا من أن تتعرض للشنق بشكل منفرد. لكن وجود تنظيمات مختلفة، وأسواق رأس المال منفصلة وما إلى ذلك، تمنع تعبئة القوة المشتركة للطبقات الرأسمالية الأوروبية المختلفة في جهد أوروبي مشترك في أي مجال من المجالات. هناك استثناءات قليلة جدا لهذه الظاهرة. وتعد شركة إيرباص واحدة من تلك الاستثناءات القليلة.

اليوم، خلال مرحلة الأزمة والمنافسة العالمية المتزايدة بين التكتلات، تجد أوروبا نفسها، تتنابذ في اتجاهات مختلفة، بدلا من الوقوف صفا واحدا. وسوف يتفاقم هذا الوضع بشكل متزايد.

هذه هي الحال، على سبيل المثال، في النمسا التي تمتلك طبقتها الرأسمالية الكثير من المصالح في روسيا. وبالتالي، يتم سحبها في ذلك الاتجاه. بينما يتم سحب بلدان أخرى نحو الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، فإن أي محاولة لوضع سياسة أوروبية مشتركة لمواجهة هذه الأزمة سوف تفشل.

لا يمكنهم الاتفاق حول التعريفات الجمركية على السيارات الكهربائية الصينية، لأن البلدان الأوروبية المختلفة لديها مصالح مختلفة. يُنظر إلى السيارات الكهربائية الصينية على أنها تهديد لصناعة السيارات الأوروبية، التي توظف الملايين من العمال. لكن الأوروبيين ما زالوا غير قادرين على الاتفاق على التعريفات الجمركية، حيث أن بعض البلدان تتودد للشركات الصينية لكي تفتح مصانع السيارات الكهربائية أو البطاريات عندها بدلا من غيرها.

إن هذه الأزمة متعددة الأوجه هي السر وراء صعود الديماغوجيين اليمينيين في جميع أنحاء أوروبا. إن هذه الظاهرة ليست ظاهرة مقتصرة على الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن فوز ترامب في الانتخابات أدى إلى تسريع صعود التشكيلات الديماغوجية اليمينية في أوروبا بشكل كبير، فإنها كانت موجودة بالفعل من قبل.

وبينما توجد بعض الاختلافات بينها -حيث تتشكل كل واحدة من تلك الأحزاب من خلال خصائص قومية وتاريخية، وخصائص وطنية وما إلى ذلك- فإن السيرورة متشابهة على نطاق واسع وأسبابها مشتركة.

لقد أدى فوز ترامب في الانتخابات إلى تسريع صعود التشكيلات الديماغوجية اليمينية في أوروبا بشكل كبير./ الصورة: Gage Skidmore، Flickr

نرى، على سبيل المثال، صعود حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي، بالإضافة إلى إلقاءه اللوم على المهاجرين، يركب موجة الغضب المناهض للمؤسسة الرسمية، وخاصة موقفه المعارض للحرب في أوكرانيا والتأثير الاقتصادي للعقوبات المفروضة على روسيا في ألمانيا.

خلال الانتخابات العامة في بريطانيا في يوليوز 2024، كان هناك تقدم واضح لحزب الإصلاح، بقيادة فاراج. لكن استطلاعات الرأي الآن تضعه على نفس مستوى حزب العمال، بل إن أحد الاستطلاعات جعله متقدما بنقطتين.

ويعمل ماسك على تأجيج هذه السيرورة. لقد تدخل بأسلوب مشابه لأسلوب ترامب، حيث هاجم ستارمر وماكرون وشولتز، ودعم بشكل علني حزب البديل من أجل ألمانيا من خلال ظهوره في مؤتمرهم الوطني.

كان تدخله مثيرا للجدل. فقد دعا الملك تشارلز إلى إقالة الحكومة البريطانية، ودعا الشعب البريطاني إلى الانتفاضة ضد حكومة ستارمر لأنه، وفقا لماسك، يحمي عصابات التغرير (Grooming gangs) و”يغطي على أكبر جريمة في تاريخ بريطانيا”.

تدخلاته معيبة بالطبع، لكنه ليس مجرد مالك لمنصة تواصل اجتماعي، بل هو في الوقت نفسه شخص يشغل منصبا رسميا في إدارة ترامب. وبالمناسبة فإن هذا موقف رسمي، لكنه موقف مرتبط مباشرة بالمكتب الرئاسي وخارج هيكل الدولة الأمريكية.

إنه يهاجم رؤساء الدول الأوروبية بشكل علني، دون أي اعتبار للدبلوماسية أو البروتوكول، فضلا عن استخدام ثروته ونفوذه على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر تلك الرسالة.

الليبراليون واليسار في حالة من الذعر بسبب هذا. إنهم يثيرون الضجيج والصخب بشأن المعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي و”التأثير الاستقطابي للخوارزميات”، ويطالبون بـ”تنظيم” القطاع.

نعم، بالطبع، هناك الكثير من المعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن السؤال الذي ينبغي طرحه هو: هل “وسائل الإعلام التقليدية” مليئة بالمعلومات الصحيحة؟ الجواب هو كلا. ما يزال بعضنا يتذكر “أسلحة الدمار الشامل” لصدام. والسؤال الثاني هو لماذا يميل الناس إلى تصديق المعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هذا لأن هناك درجة كبيرة من عدم الثقة في وسائل الإعلام التقليدية. لقد كانت طيلة فترة طويلة تكذب وتدافع عن النظام، وصار في مقدور الناس الآن أن يروا حقيقتها.

يقول الليبراليون إن الانتخابات الرئاسية الرومانية قد تم التلاعب بها من خلال رسائل تيك توك ممولة من طرف روسيا وأن هذا هو ما أدى إلى فوز جورجيسكو. هذا ادعاء سخيف تماما. إنهم لم يقدموا أي دليل على ذلك بعد، لكن المحكمة العليا قد ألغت بالفعل نتيجة الجولة الأولى على أساس تلك الادعاءات.

في الواقع، إذا كان الأمر بهذه البساطة، فلماذا لم ينظم الليبراليون حملة على تيك توك بأنفسهم؟ المسألة ليس حول الوسيلة التي انتشرت من خلالها الحملة، بل السؤال الذي يجب طرحه هو: ما هو محتوى الحملة؟ كانت حملة جورجيسكو مبنية على معارضة الحرب في أوكرانيا، وضد حلف شمال الأطلسي، حيث طرح السؤال التالي: لماذا ننفق الكثير من المال على الحرب في أوكرانيا بينما يضطر أبناء شعبنا إلى الهجرة إلى أوروبا الغربية بسبب غياب الوظائف في رومانيا؟ ومن الواضح أن هذا قد لاقى صدى واسعا لدى ملايين الرومانيين.

هذه القضية تفضح حقا طبيعة الليبراليين. إن ما يقولونه هو أنه إذا فاز المرشح الخطأ في الانتخابات -خطأ من وجهة نظر حلف شمال الأطلسي، وبروكسل، وما إلى ذلك- فإننا ببساطة نلغي الانتخابات. هذه هي حقيقة تعلق الليبراليين بالديمقراطية و”حق التصويت” الذي يستمرون في الحديث عنه، والذي يقولون إنه مهدد من قبل الديماغوجيين اليمينيين.

إذا نظرتم إلى أوروبا، سترون نفس الظاهرة في كل مكان. شعبية لوبان تتصاعد في فرنسا وقد تصل في النهاية إلى الرئاسة. وقد أصبح فاراج في بريطانيا متقدما بالفعل على حزب العمال في استطلاعات الرأي، وربما يصبح رئيسا للوزراء على رأس ائتلاف ما بين حزب الإصلاح وحزب المحافظين. وربما يصبح حزب الحرية النمساوي الشريك الأبرز داخل ائتلاف يميني في النمسا. وفي ألمانيا، نرى صعود حزب البديل من أجل ألمانيا الذي إما سيجذب المحافظين نحو مواقفه أو سوف يفرقهم. في حين أن ميلوني قد وصلت بالفعل إلى السلطة في إيطاليا.

لقد كنا نناقش لسنوات أزمة شرعية الديمقراطية البرجوازية، وكل مؤسساتها، وكل أحزابها القائمة. إنها ناجمة عن أزمة الرأسمالية، وقد تسارعت منذ عام 2008. ونتيجة لهذا لدينا مزاج مناهض للمؤسسة الرسمية، وهو ما ينعكس الآن في صعود الديماغوجيين اليمينيين.

يمكن تفسير صعود الديماغوجيين اليمينيين بهذين العاملين: المزاج المناهض للمؤسسة، وأيضا الانهيار والفشل والإفلاس التام لما يسمى “اليسار”.

لكن ما هو الموقف الذي يتخذه ما يسمى “اليسار” عندما يواجه هذا الموقف؟ إنه يقول: “يجب علينا أن نتحد جميعا للدفاع عن الجمهورية، ويجب علينا أن نتحد جميعا للدفاع عن الديمقراطية الليبرالية وحرية التعبير”، وما إلى ذلك. هذا هو أسوأ رد ممكن، وهو في الواقع رد يخدم مصلحة الديماغوجيين اليمينيين. إذ يمكنهم بعد ذلك أن يقولوا: “انظروا، إنهم جميعا متشابهون. إنهم جميعا يدافعون عن النظام”. وهذا صحيح في الواقع.

هناك أوهام قوية بين ملايين الناس في الولايات المتحدة بأن ترامب سيعيد “الأيام الخوالي السعيدة” لفترة ما بعد الحرب./ الصورة: Gage Skidmore، Flickr

إنه نفس النظام الذي يدمر الوظائف، وهو المسؤول عن ارتفاع تكاليف المعيشة، إلخ. يضيف الديماغوجيون اليمينيون إلى حجتهم، بطبيعة الحال، محاولة جعل المهاجرين كبش فداء ولومهم على تلك المشاكل.

السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: ما الذي سيحدث عندما تصل تلك التشكيلات إلى السلطة؟ ترامب في السلطة بالفعل في الولايات المتحدة. وقد أطلق العديد من الوعود. إنه يركب على توقعات الملايين من الناس الذين يعتقدون أنه فعلا سيجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى.

ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لشريحة كبيرة من الطبقة العاملة؟ جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى يعني بالنسبة لهم وظائف لائقة ذات أجر جيد. وهذا يعني أنه سيصير في مقدورهم الوصول إلى نهاية الشهر دون أن يضطروا إلى العمل في وظيفتين أو ثلاث وظائف مختلفة، أو الاضطرار إلى بيع بلازما دمهم لتغطية نفقاتهم.

هذا لن يحدث. بالتأكيد لن يحدث. هناك أوهام قوية بين ملايين الناس في الولايات المتحدة بأن ترامب سيعيد “الأيام الخوالي السعيدة” لفترة ما بعد الحرب. لكن هذا غير ممكن على الاطلاق.

إنهم يعتقدون أن سياسات ترامب ستجلب أوقاتا أفضل.

ولا يُستبعد أن يكون لبعض تلك التدابير -كالتعريفات الجمركية، على سبيل المثال، والتي ستعزز التنمية الصناعية في الولايات المتحدة على حساب بلدان أخرى- تأثيرا ما لفترة قصيرة من الزمن. وسيمنحه كثير من الناس فرصة لفترة من الزمن. كما يمكنه أيضا أن يستخدم المبرر القائل بأن المؤسسة، “الدولة العميقة”، هي التي لا تسمح له بتنفيذ سياساته.

لكن وبمجرد ما أن تسطع الحقيقة وتتبدد تلك الأوهام، سنرى تحولا حادا وعنيفا بنفس القدر للبندول نحو اليسار. والمزاج المناهض للمؤسسة الراسخ الذي دفع ترامب إلى السلطة، سوف يعبر عن نفسه على الجانب الآخر من الطيف السياسي.

هناك مقال لتروتسكي بعنوان “If America Should Go Communist” (إذا ما أصبحت أمريكا شيوعية)، يتحدث فيه عن المزاج الأمريكي والذي يصفه بأنه “نشط وعنيف”: “سيكون مناقضا للتقاليد الأمريكية إجراء تغيير كبير دون حدوث تقاطب حاد وتحطيم الرؤوس”.

العامل الأمريكي إنسان عملي ويطالب بنتائج ملموسة. وهو مستعد لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإنجاز الأمور.

فاريل دوبس، زعيم إضراب سائقي الشاحنات في مينيابوليس عام 1934، تحول مباشرة من كونه جمهوريا إلى كونه زعيما تروتسكيا. وفي روايته عن الإضراب، يشرح السبب، قائلا إنه بالنسبة له، كان التروتسكيون هم الذين قدموا الحلول الأكثر عملية وفعالية في التعامل مع المشاكل التي يواجهها العمال.

سأنهي بهذه المسألة: لقد ناقشنا لبعض الوقت كيف يحدث التحول في الوعي، وخاصة بين الشباب. وقد كان هذا هو الحال حتى قبل أن نطلق حملة “هل أنت شيوعي/ة”. هناك شريحة من الشباب تستخلص استنتاجات جذرية للغاية، وبعضهم يعتبرون أنفسهم شيوعيين.

لكن، بالمناسبة، ينبغي علينا ألا نبالغ في هذه المسألة. إذ ما تزال مجرد شريحة، لكن من ناحية الحجم يعتبر عدد الشباب الذين يرون أنفسهم شيوعيين كبير جدا بالنسبة لمنظمة صغيرة مثل منظمتنا.

هناك استطلاع رأي جديد في بريطانيا يظهر أن 47% من الشباب يوافقون على العبارة التالية: “يجب تغيير كامل الطريقة التي يتم بها تنظيم مجتمعنا بشكل جذري من خلال الثورة”. هذه في الواقع طريقة حادة للغاية لطرح السؤال، ومع ذلك فقد حظيت بتأييد 47% من الشباب.

تضمن الاستطلاع كذلك عددا من النتائج الأخرى المثيرة للاهتمام. يعتقد أغلب الشباب أن هناك حاجة إلى زعيم قوي غير مقيد بالبرلمان. لذا فإن هناك أيضا، بطبيعة الحال، الكثير من الارتباك، والرفض للسياسيين الفاسدين في البرلمان. ومع ذلك فإن حقيقة أن 47% من الشباب يعتقدون أن الثورة ضرورية لقلب كامل النظام السياسي الموجود اليوم لها أهمية بالغة.

وكما قلت في البداية، نحن نعيش في أوقات مضطربة للغاية. يبدو أن جميع التيارات اليسارية غارقة في مزاج اليأس والتشاؤم القاتم. لكننا متفائلون، نحن متفائلون لأننا نفهم السيرورات العميقة التي تعتمل تحت السطح.

ستؤدي تلك السيرورات إلى صدامات ضخمة في الصراع الطبقي. والشيء الواضح هو أن الحكومات سوف تجد صعوبة متزايدة في تنفيذ السياسات التي تحتاج إليها الطبقة الرأسمالية للتعامل مع الأزمة. فهي لا تستطيع الحصول على أغلبية برلمانية لفرض المزيد من السياسات التقشفية الأكثر قسوة، لأن أي حزب يصوت لصالح تلك السياسات سوف يتعرض للهزيمة في الانتخابات.

يبالغ مارك روته في تقدير حجم الخطر الروسي وذلك من أجل خدمة أجندته المتمثلة في زيادة الإنفاق العسكري./ الصورة: NATO, Flickr

قبل بضعة أيام، ألقى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، خطابا أمام البرلمان الأوروبي قال فيه إنهم لابد وأن يزيدوا من الإنفاق الدفاعي، وأن الهدف السابق المتمثل في 2% من الناتج المحلي الإجمالي ليس كافيا. ويطالب الآن بـ 4% أو حتى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن الواقع هو أن العديد من بلدان الحلف لا تصل حاليا حتى إلى 2%!

وأضاف روته إنه من أجل القيام بذلك سوف يحتاجون إلى خفض الإنفاق في مجالات أخرى. وذكر على وجه التحديد الإنفاق الاجتماعي، ومعاشات التقاعد، والتعليم، والرعاية الصحية، وما إلى ذلك. وقال للنواب الأوروبيين إن هذا قرار صعب يتعين عليهم اتخاذه، لكنهم إذا لم يفعلوا ذلك فقد يكون من الأفضل لهم أن يبدأوا “دورة لتعلم اللغة الروسية أو الهجرة إلى نيوزيلندا”.

إنه يبالغ، بالطبع، في تقدير حجم الخطر الروسي وذلك من أجل خدمة أجندته المتمثلة في زيادة الإنفاق العسكري. هناك عنصر من التخويف في خطابه. فروسيا ليست على وشك غزو أوروبا. لكن السياسة واضحة: زيادة الإنفاق العسكري وخفض الإنفاق الاجتماعي. وهذا يضاف إلى الوضع الصعب الذي يواجهه أبناء الطبقة العاملة بالفعل.

هذا هو الوضع الحقيقي الذي نعيشه، وهو الوضع الذي يدفع بالفعل إلى تصاعد التجذر السياسي الهائل، والذي يعبر جزء منه عن نفسه الآن بطريقة مشوهة للغاية.

إن قواتنا المتواضعة لا تسمح لنا بعد بالتدخل بشكل حاسم في الأحداث. قوانا ما زالت صغيرة للغاية. وهناك حاجة إلى قدر معين من الاستعجال في بناء قواتنا. فإذا تمكنا من الوصول إلى منظمة تضم 5.000 أو 10.000 عضو في بلد رأسمالي متقدم -منظمة كوادر، لها جذور بين الشباب والطبقة العاملة- قبل اندلاع أحداث ضخمة -والتي ستحدث بالتأكيد- فإننا سنكون في وضع جيد.

 وهذا ممكن تماما إذا ما نحن قمنا بعملنا بصبر ومنهجية، وإذا لم نفقد عقولنا وإذا تمكنا من التواصل مع نسبة ضئيلة من تلك الشريحة من الشباب المتجذرين للغاية الذين يبحثون عن بديل جدي للنضال ضد هذا النظام الرأسمالي المتعفن المحتضر.

خورخي مارتن

7 فبراير/شباط 2025

ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:

Trump’s presidency creates enormous turbulence across the world