كتبت هذه الوثيقة لنقاشها والمصادقة عليها في المؤتمر الوطني لرابطة العمل الشيوعي الذي انعقد أيام: 21 – 22 – 23 غشـت 2013 وبالتالي فإن بعض أرقامها قد تبدو متجاوزة في الوقت الحالي وينبغي على قرائنا تحيينها، إلا أن التحليل العام والخلاصات ما تزال صالحة وذات راهنية كبيرة، لأن تغير الأرقام لم يكن في الاتجاه المعاكس للتوقعات بل زاد في تأكيدها، فالبطالة تزداد ارتفاعا، ومؤشرات النمو في تراجع مستمر والأزمة تزداد عمقا. نفس الشيء يقال عن إفلاس البيروقراطية النقابية وعجز اليسار والمهام المطروحة على كاهل المناضلين الماركسيين.
إن حرصنا على تحديد منظورات دقيقة ما أمكن لاحتمالات تطور الأوضاع بالمغرب وعالميا نابع من حرصنا على بناء تدخلنا في الصراع الطبقي بالمغرب وصياغة شعاراتنا وتكتيكاتنا على أساس تصور واضح علمي.
المنظورات علم، إلا أنه علم ليس دقيقا كالرياضيات والفيزياء، إنه علم يعتمد على متغيرات كثيرة: الاقتصاد والسياسة وصراع قوى حية في واقع متغير باستمرار. وعليه فإنه علم يحتمل هوامش الخطأ. لكن هذا لا يقلل من أهميته ولا من ضرورته. مثلما أن هامش الخطأ في العلوم الأخرى لا يقلل أبدا من قيمتها ومن ضرورتها. إن ضرورة المنظورات نابعة أيضا من واقع أن الجماهير التي لا تنتظر منا فقط أن نصف لها واقعها، بل تحتاج منا أن نقدم لها إجابات عن احتمالات تطوره والتكتيكات المناسبة.
إن السؤال حول إلى أين يسير المغرب يفترض للإجابة عنه دراسة دقيقة للأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتحديد إمكانيات تطورها والاتجاهات الممكنة لذلك التطور. وهذا ضروري بالنسبة لنا نحن الماركسيين من أجل تحديد الشعارات السياسية التي نرفعها وطرق تدخلنا وتكتيكاتنا وأولوياتنا على المديين القريب والمتوسط. وهذا ما سنشتغل عليه في هذه الورقة لكي نجيب عن السؤال إلى أن يسير المغرب؟
الوضع الاقتصادي[1]
لحدود الأمس القريب كان الماركسيون، وبعض المحللين الاقتصاديين الجديين، هم الوحيدين الذين يقولون إن الأزمة العالمية لن تستثني المغرب بل ستضربه بقوة أعنف مما ستضرب البلدان الأوربية وحتى بعض بلدان ما يسمى بالعالم الثالث. وبالرغم من استمرار بعض المحللين البرجوازيين حتى اللحظة في استعمال لغة مطمئنة حول الأوضاع الاقتصادية، فإن الجميع بمن فيهم المسؤولين الحكوميين متفقون حول أن المغرب يعيش أزمة اقتصادية خانقة، وأن انعكاسات أزمة الرأسمالية العالمية قد ضربت بشدة. ولعل التقرير الأخير الذي أصدره بنك المغرب عن الوضع الاقتصادي أبرز دليل عن ذلك.
النمو:
تعتبر مؤشرات النمو واحدة من أهم الدلائل على حالة الاقتصاد، رغم أنها لا تمثل قيمة في حد ذاتها بالنسبة إلينا نحن الماركسيين، فقد تكون نسب النمو مرتفعة لكنها لا تنعكس بشكل ايجابي ملموس على أوضاع الجماهير، بل تزيد فقط في توسيع الهوة بين الأغنياء الذين يستولون على حصة الأسد من الثروة المحققة وبين الفقراء الذين لا ينالهم سوى الاستغلال. كما أنها قد تكون معدلات نمو قصيرة الأجل مبنية على سياسات مدمرة على المديين المتوسط والبعيد، مثل معدلات نمو العقد الماضي التي بنيت على أساس الخصخصة الكثيفة للقطاعات المنتجة، الخ.
الخلاصة هو أنه حتى عندما تكون معدلات النمو مرتفعة، بل ومرتفعة جدا، فإن ذلك لا يعكس بالضرورة وجود ازدهار وأن الصراع الطبقي سيعرف تراجعا[2]. لكن عندما تكون مؤشرات النمو في الأحمر فإن الوضع يكون أدهى وأمر.
صعد حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة على أساس وعود عجيبة بتحقيق نمو يصل إلى 7% كاملة!! فالكلمات رخيصة ولا تتطلب مجهودا. لكن وبعد حوالي عام ونصف فقط ما تقوله الأرقام هو ما يلي:
أفاد تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا٬ تم عرضه يوم الخميس 25 أبريل 2013 بأديس أبابا٬ أن نمو الناتج الداخلي الخام للمغرب تراجع من 4,1 إلى 2,8% في 2012. كما أن عجز الميزانية وصل إلى 22,9 مليار درهم أو 2,2% من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من العام.
بينما أعلنت المندوبية السامية للتخطيط في مذكرة أعدتها لسنة 2012، أن الاقتصاد الوطني عرف نموا بلغ نسبة 2,7% سنة 2012 عوض 5% سنة 2011.
وصرحت مديرية الدراسات والتوقعات المالية ٬ في تقرير بشأن تنافسية الصادرات٬ أن العجز التجاري تضاعف بحوالي 5 مرات منتقلا بذلك من 44 مليار درهم سنة 2000 إلى 201 مليار درهم في 2012.
وقد شهدت القيمـة المضافـة الفلاحيـة انخفـاضا بـ 8,9%. والجدير بالذكر هو أن هذا القطاع يشغل نحو 40% من اليد العاملة التي تزيد عن 11 مليون نسمة لكنه لا يساهم في الناتج الداخلي الخام للمغرب سوى بما بين 15 إلى 20%. مما يعكس الظروف المأساوية والفقر الذي يعيشه هؤلاء الفلاحون. ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن المغرب احتل الرتبة السابعة في قائمة أكبر البلدان المستوردة للحبوب في العالم بعد مصر والاتحاد الأوربي والبرازيل وأندونيسيا والجزائر واليابان ليتضح كذب الدعاية الرسمية عن مغرب فلاحي.
العقار
يعيش قطاع العقار أزمة خانقة. وقد أفاد تقرير مشترك للمصرف المركزي و”الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية” بأن سوق العقار شهد انكماشاً في الأشهر الأولى من السنة الحالية واقتصرت عمليات الشراء على 26 ألف منزل، وهي أضعف نسبة منذ العام 2008. وتراجع الطلب على الشقق 6,3% منذ مطلع السنة وبيعت نحو 17 ألف وحدة فقط.
ويعيش المستثمرون العقاريون على مخاوف من استمرار تراجع الطلب خلال النصف الثاني من السنة، ما قد يؤثر سلباً في أسعار الشقق التي لم تنمُ إلا 1,4%، في حين تراجعت أسعار الفيلات والمنازل التقليدية 1,7%.
وأشار التقرير المذكور إلى أن استقرار الأسعار شمل كل أنواع العقارات السكنية والتجارية والأراضي المعدّة للبناء، وسجل الطلب على العقارات الراقية تراجعاً بلغ 21%، ما قلص أسعارها نحو 5% في المتوسط، وراوح الانخفاض بين 7% في الدار البيضاء و2% في مراكش. وتراجعت أسعار الأراضي 1,8% بعدما كانت ارتفعت 2,6% خلال الربع الأخير من العام الماضي، كما انخفض الطلب 8%.
ويحتل قطاع البناء المركز الثالث من حيث عدد العمال المشتغلين، بعد الصناعة والزراعة، بحوالى مليون عامل، ويمثل نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي، وتقدر استثماراته السنوية بنحو 60 بليون درهم. كما أن هذا القطاع يشكل قاطرة تحرك النمو في العديد من القطاعات الصناعية الأخرى كالاسمنت والصلب، الخ.
مما يعني أن أزمته ستمتد لتأزم قطاعات أخرى عديدة، وفي هذا الصدد شهد الطلب على الاسمنت تراجعا كبيرا بنسبة 16,5% خلال الشهور الأربعة الأولى من العام الحالي -2013- مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية، حسب الإحصائيات التي نشرتها وزارة الإسكان. ويأتي هذا الانخفاض بعد هبوط مبيعات الإسمنت بنسبة 1,6% خلال العام الماضي، وهي المرة الأولى التي تعرف فيها مبيعات الإسمنت في المغرب انخفاضا منذ سنة 1999.
ويتوقع المحللون استمرار انكماش سوق الإسمنت، خصوصا مع إعلان الحكومة إلغاء 15 مليار درهم (1,8 مليار دولار) من الاستثمارات التي كانت مبرمجة في موازنة العام الحالي.
وكانَ رئيس مجلس إدارة هولسيم المغرب (وحدة الانتاج بسطَّات) دومينيك دروِّي، قد أكدَ فِي لقاء صحفِي، أن هولسيم المغرب تسير فِي منحًى موسوم بالتراجع خلال 2012، بحيث تراجعَ رقم المعاملات بنسبة 5%، إلى 2 مليار درهم. كمَا أنَّ نتائج الاستغلال تراجعت بـ 21% (873,7 مليون درهم)، زيادة على تراجع النتيجة الصَّافيَة للمجمُوعة، بـ14,7%.
وحسب إحصائيات الجمعية المهنية لمصنعي الإسمنت بالمغرب، فإن نسبة انخفاض استهلاك الإسمنت بلغت على المستوى الوطني ما بين ناقص 8% وناقص 50%.
سجلت مجموعة “لافارج المغرب” تراجعا، خلال السنة الماضية، في مبيعاتها من الإسمنت بناقص 6,8%، بالمقارنة مع النتائج المسجلة، خلال السنة الماضية.
كشفت النتائج المالية السنوية لشركة “اسمنت المغرب”، التابعة لمجموعة “إيطالسيمونتي” العالمية، عن تراجع رقم معاملاتها بنسبة 9,3% سنة2012، ليستقر في 3,601 مليون درهم.
وقال محلل مالي لـ”الشرق الأوسط” إن القدرة الإنتاجية الإجمالية لشركات الإسمنت الخمس بالمغرب تقدر بنحو 22 مليون طن في السنة، في حين أن الاستهلاك لم يتجاوز خلال العام الماضي 16 مليون طن، أي أن هناك فائضا في القدرة الإنتاجية يصل إلى نحو 6 ملايين طن.
والنتيجة الحتمية لهذا الوضع في ظل الرأسمالية هو كبح القدرات الإنتاجية لقوى الإنتاج وإغلاق المصانع. فقد قررت شركة “هولسيم المغرب” وقف العمل بمصنعها لإنتاج مادة الكلينكر التي يصنع منها الإسمنت في مدينة وجدة، و”تكييف” قدراتها الإنتاجية في مصانع فاس وسطات جراء حالة الانكماش التي تعرفها سوق الإسمنت في المغرب. وبعدما كانَ فرنَا وجدة ينتجان حوالَي 1.6 مليون طن من الإسمنت، ستتراجعُ إلَى النصف تقريباً.
ومن بين القطاعات الأخرى التي شهدت تراجعا كبيرا بفعل الأزمة هناك قطاع الصلب. فقد أعلنت الشركة المغربية للصلب والحديد “صوناسيد” انخفاض أرباحها الصافية نصف السنوية بنسبة 86,5% نتيجة لانخفاض الطلب على حديد البناء في السوق المغربية مع الهبوط الحاد لأسعار الصلب في السوق العالمية وانعكاسات ذلك على السوق المغربية. وبلغت الأرباح الصافية للشركة خلال النصف الأول من العام الحالي 115,2 مليون درهم مقابل 856,4 مليون درهم خلال الفترة نفسها من العام الماضي. وتراجع الهامش الصافي للشركة من 18,4% في منتصف سنة 2008 إلى 3,6% خلال النصف الأول من العام الحالي.
وقدرت الجمعية الدولية للصلب أن يكون المغرب قد حقق في العام الماضي إنتاجا من الصلب في حدود 455 ألف طن مقابل 479 ألف طن في سنة 2009، أي بانخفاض ناهز 5,1%. وحسب الإحصائيات نفسها، فإن المغرب أنتج 20 ألف طن في شهر دجنبر الماضي، وهو ما يشكل تراجعا كبيرا مقارنة بشهر دجنبر 2009 بنسبة 57%.
لا بد أن هذا الوضع سيجبر الطبقة السائدة على شن هجوم شرس على الطبقة العاملة في تلك القطاعات وغيرها من أجل تحميلها تبعات الأزمة، عبر تسريح العمال وإغلاق المعامل والزيادة في وتيرة الاستغلال وسوء ظروف العمل وتخفيض الأجور. الخ. وهو ما يعتبر أفضل وصفة لانتعاش الصراع الطبقي. إن الإضرابات العمالية في معاقل الطبقة العاملة الصناعية صارت مجددا على راس جدول الأعمال، وذلك بالرغم من كل المقاومة التي تبديها البيروقراطية النقابية لأي تحرك عمالي منظم.
نقول هذا وننتقل إلى جانب آخر من جوانب الأزمة وهي: المديونية.
المديونية
لقد شهدت المديونية ارتفاعا هائلا في ظل الحكومة الحالية، مما يدل على أن المسألة ليست متعلقة بشكل الحكومة ولون قناعها (لبرالي # إسلامي) بل تتعلق بطبيعتها وبطبيعة المصالح التي تعمل على خدمتها. إن أية حكومة تقدس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وترفض القطع مع الرأسمالية بإجراءات جذرية (مصادرة الملكيات الكبرى وتأميمها تحت الرقابة العمالية) لن تتمكن من تقديم أي حل للأزمة سوى المزيد من تحضير الشروط لانفجار أزمة أكبر وأعمق وأشد.
وفي هذا السياق لا تتوقف حكومة الإسلاميين الجديدة عن إغراق البلد في مستنقع المديونية. قال مسؤول مغربي لرويترز يوم الثلاثاء 23 أبريل الماضي إن المغرب اتفق على حزمة اقتراض من البنك الإسلامي للتنمية سيحصل بمقتضاها على 600 مليون دولار سنويا من 2013 إلى 2016.
كما لجأ المغرب إلى اقتراض 750 مليون دولار لتمويل عجز الميزانية، وقال نزار إنه لا يستبعد اللجوء إلى سوق الصكوك.
وقال وزير المالية المغربي يوم الأربعاء 8 ماي، إنه من المتوقع الحصول على قروض بقيمة مليار دولار سنويا من البنك الإفريقي للتنمية على مدى أربعة أعوام وتتطلع لاستخدام أموال البنك بالكامل. وكانت الحكومة قد وقعت اتفاقية مع البنك الإفريقي للتنمية للحصول على قرض لا يقل عن 650 مليون دولار سنويا في الفترة من 2012 إلى 2016 وقال أن المغرب حصل على 1,2 مليار دولار العام الماضي ويتوقع الحصول على نحو مليار دولار سنويا في السنوات الأربع المقبلة.
ارتأت حكومَة عبد الإله بنكيران، مؤخراً، اللجوءَ إلى الاقتراض من السوق الدوليَّة. حيثُ طَار وزير الاقتصاد والماليَّة، نزار بركة، رفقَة عددٍ من المسؤولين قبل أيام، إلى العاصمة البريطانيَّة، لعقد اجتماعات مع عدة بنوك، بعدَما كانَ قد اقترض السنة الماضية، 1,5 مليار دولار، بسبب نقص السيولة، الذي تفاقم وفقَ ما أوردهُ بنكُ المغرب، مبيناً عن بلوغه 66,8 مليار درهم، خلال أبريل المنصرم، بخلافِ 64,4 مليار درهم، فِي مارس الفائت.
واستناداً إلى ما ذكرته صحف اقتصاديَّة مختصَّة، فإنَّ المغربَ قد يقترض ما بينَ 500 مليون إلى مليَار دولار، حسبَ ما تتيحهُ إمكانيات السوق، من أجل الحفاظ على احتياطِي النقد، كي يتمكنَ من تغطيَة أزيد من أربعة أشهر من الواردات، بعدما تخطَّى عجزُ الميزانيَّة 21 مليار درهم، مرتفعاً بالضعف تقريباً مقارنةً بمَا كانَ عليه في الفترة نفسها، من السنة الماضية
وقد بلغ حجم الديون العمومية الإجمالي للمغرب نهاية سنة 2012، ما يعادل 583 مليار درهم، أي ما حوالي 71% من الناتج الداخلي الخام، منها 196 مليار درهم كديون عمومية خارجية، و387 مليار درهم كديون عمومية داخلية. وتبلغ كلفة المديونية 108 مليار درهم، وهو ما يعادل أكثر من ضعفي ميزانية التعليم لسنة 2012، و9 مرات ميزانية قطاع الصحة، وحوالي ميزانية الاستثمارات العمومية. وتمتص كلفة الدين حوالي 94 مليار درهم سنويا كمعدل لثماني سنوات الأخيرة (ما بين 2004 و2011)، منها 18,5 مليار درهم مخصصة للدين الخارجي، وأكثر من 75 مليار درهم للدين الداخلي.
والجدير بالذكر هو أن المديونية صارت حلقة مفرغة حتى أن الحكومة تقترض الآن من أجل أداء فوائد قروض سابقة، هذا وقد سبق للمغرب أن سدد بين 1983 و2011 ما يفوق 115 مليار دولار، أي ما يعادل 8 مرات ديْنه الأصلي، ومازال بذمته حوالي 23 مليار دولار حاليا.
بل ويقترض حتى من أجل تأمين أجور الموظفين حيث لجأت الحكومة مؤخرا إلى قرض جديد بقيمة 750 مليون دولار لأداء الأجور سيتم توزيع المبلغ على شطرين الأول بقيمة 500 دولار وتمتد فترة سداده إلى غاية 2022 والثاني بمبلغ 250 مليون دولار ينتهي تسديد أقساطه في سنة 2042.
وليست هذه القروض إلا حلقةً واحدة من بين حلقات أخرَى قادمة فِي المستقبل، كما أكد الدكتور نجيب أقصبي، والذي أضاف أن تكلفَتها ستكون جد باهضة، لأنَّ الأبناك التِي ستقرضُ المغربُ ستكونُ لها شروطها الخاصَّة. مما يعني حزمة تقويم هيكلي حتمية.
وقد جاءت بالفعل لجنة تابعة لصندوق النقد الدولي إلى المغرب، لتقوم بتقييم الاقتصاد المغربي وتضغط على الحكومة للقيام بإصلاحات هيكلية منها صندوق المقاصة وحذف الاستثمارات العمومية، بل وتهدد بتجميد القروض في حالة عدم التحرك. وتطالب المغرب بالالتزام بتلك الإجراءات لكي يستمر في الاستفادة من خط القرض الذي حصل عليه السنة الماضية بقيمة ستة ملايير و200 مليون دولار. والذي يعتبر القرض الأضخم من نوعه الذي حصل عليه المغرب في تاريخه حتى الآن.
ولا بد أن تأكيد رئيس الحكومة على ضرورة إصلاح صندوق المقاصة وحذف 15 مليار من الاستثمار العمومي إجراءات جاءت نتيجة ضغط مباشر من لجنة صندوق النقد الدولي، والذي يطالب أيضا بضرورة تخفيض قيمة الدرهم.
الحكومة الطيعة لم تتأخر في إبداء طاعتها فقد صرح وزير الاقتصاد والماليّة، نزار بركة لوكالَة “أورُو مونِي” قائلاً إنَّ المغربَ سيقلصَ ما يضخه من أموال صندوق المقاصَّة، من 6% إلى 4,2 من الناتج الداخلِي الخَام، أيْ أنَّ نفقات صندوق المقَاصَّة ستنخفض بـ1,8 نقطة من الناتج الداخلي الخام (2013)، فِي أفقِ توفِير 16 مليَار درهم، فِي حال سار الإجراء على النحو المسطر له.
كما أن رئيس الحكومة قال أمام البرلمان إنه لن يتراجع عن حذف 15 مليار درهم الخاصة بالاستثمارات العمومية معتبرا أن الضرورة الوطنية للحفاظ على الاقتصاد المغربي من عدم الانهيار هي التي أملت هذه السياسية.
رد فعل الجماهير
في ظل هذه الأزمة الخانقة لا تمتلك الطبقة السائدة من خيار آخر سوى فرض المزيد من الأعباء على كاهل الكادحين من عمال وبرجوازية صغرى وفلاحين. مما سيفتح الطريق لاحتداد الصراع الطبقي، ودخول الطبقة العاملة مجددا إلى ميدان الكفاح، عبر طرقها التقليدية من إضرابات ومسيرات واعتصامات وغيرها.
وليست كل الوصفات التي تقدمها الحكومة لتأجيل المعارك الحاسمة سوى عوامل تزيد مستقبلا في حدة الانفجار. فسياسة الاقتراض مثلا لتغطية العجز وأداء الأجور ستنتهي إلى مأزق عويص هو ضرورة أداء تلك الديون إضافة إلى فوائدها. من أين ستأتي بالأموال اللازمة لذلك؟ كما أن الوعود لا تشبع جائعا ولا تأوي مشردا ولا تشغل عاطلا، وسرعان ما سينتهي أثرها التخديري ليعود المخدوعون إلى النضال بشراسة أكبر ووعي أكبر.
أمام عجزه المطلق لا يجد النظام القائم في مواجهة تصاعد نضالات الشعب المغربي بكل فئاته الكادحة من وسيلة سوى القمع. لقد بلغ القمع السياسي مستويات رهيبة، فأغلب الحركات الاحتجاجية تتعرض للتدخل البوليسي بالضرب والاعتقالات، الحريات النقابية مقموعة، والمناضلون العماليون يتابعون ويسجنون بقوانين مغرقة في الرجعية. الصحافة الشرعية مكممة، ونضالات العمال الطلاب والمعطلين تقابل بقمع وحشي يؤدي أحيانا إلى الموت ناهيك عن الإصابات الخطيرة والاعتقالات.
وهذا ما تؤكده تقارير المنظمات الحقوقية الوطنية والعالمية، فقد سبق للائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان (ائتلاف يضم 18 هيئة حقوقية ومدنية) أن أكد وجود ما أسماه «الاعتداءات على الحقوق والحريات و[…] التراجعات الملحوظة بشان احترام حقوق الإنسان بالمغرب».. كما أشار إلى «تزايد حالات التضييق والاعتداء على الحقوق والحريات بمختلف مناطق البلاد وضد العديد من الفئات».
ومن جهتها تحدثت منظمة العفو الدولية عن قمع الاحتجاجات في المغرب، وفضحت تعرض العشرات من الناشطين الذين ينتمون إلى حركة 20 فبراير في المغرب للاعتقال بسبب التعبير السلمي عن آرائهم، وتعرض بعضهم للتعذيب وسوء المعاملة عند الاعتقال. كما أكدت أن عمليات القمع في المغرب تزايدت مؤخرا، وأن «السلطات اتهمت بصورة روتينية ناشطي الحركة بجرائم مثل الشتائم وممارسة العنف ضد رجال الشرطة وتهريب المخدرات والمشاركة في مظاهرات غير مصرح بها. وانتشار سوء معاملة الناشطين أثناء وبعد اعتقالهم على نطاق واسع».
كما أن نائبة مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، آن هاريسون، أكدت أن “السلطات المغربية تستمر في قمع منتقديها”. وأضافت أن «الإصلاحات المزعومة التي أطلقتها السلطات المغربية يبدو أنها تهدف إلى التخلص من انتقادات الشركاء الدوليين، لكونها مستمرة في قمع الاحتجاجات وعملت حتى الآن ضد حقوق الناس وليس لحمايتها. »
وهو ما يدل على أن الحديث عن الطبيعة الدكتاتورية القمعية للنظام القائم ليس مجرد كلام يردده “ثوريون ناقمون”، كما تدعي أبواق النظام، بل هو حقيقة من المستحيل إخفاؤها.
حركة عشرين فبراير
لقد مرت الآن أكثر من سنتين على انطلاق حركة عشرين فبراير. الحركة التي وضعت بصمتها على الحياة السياسية في المغرب وتمكنت من إخراج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع في أغلب مناطق المغرب على قاعدة مطالب سياسية واقتصادية جريئة.
إلا أن هذه الحركة قد بدأت تشهد تراجعا كبيرا في الزخم الجماهيري الذي ميزها في بدايتها. والسؤال الذي يطرح بحدة هو لماذا هذا التراجع؟ ولماذا لم تتمكن من إسقاط النظام القائم مثل نظيراتها في مصر وتونس؟
إن الحالة التي وصلت إليها حركة عشرين فبراير نتيجة لمجموعة من العوامل التي يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي. وقد سبق لنا نحن الماركسيين أن إلى نقاط ضعف الحركة عندما كانت الحركة ما تزال في عز مدها. وقدمنا مجموعة من المقترحات التي نراها كفيلة بتصحيح مسارها نحو تحقيق المطالب التي رفعتها. وموقفنا هذا يناقض موقف أعداء الحركة (من لبراليين وإعلام برجوازي، الخ) الذين كانوا يغدقون المديح على الحركة، وخاصة على نقاط ضعفها، فكانوا يمتدحون غياب التنظيم، وغياب التصور، وطغيان العفوية. وذلك لأسباب ليس من الصعب فهمها. إذ أن الحركة كلما حافظت على عفويتها وتشتتها وغموض تصورها كلما سهل عليهم الاستيلاء عليها وتحوير مصيرها في أفق القضاء عليها.
من الناحية الذاتية من أهم هذه العوامل ضعف القوى الماركسية واليسارية عموما وعدم قدرتها على توجيه الحركة على قاعدة برنامج ثوري واضح. وكذلك عدم قدرتها على توحيد مطالب كل فئات الكادحين والطبقة العاملة في حركة ثورية موحدة تتجه رأسا نحو أصل الداء: النظام الرأسمالي القائم.
وهذا الضعف هو ما استغله بعض أبناء الطبقة الوسطى المدللين الذين استولوا على قيادة الحركة وفرضوا أنفسهم قادة عليها دون أن ينتخبهم أحد. إن هؤلاء “الزعماء” الذين هم في أغلبهم وصوليون رأوا في الحركة مطية ممكنة لصنع رصيد سياسي لأنفسهم يصل بهم إلى امتيازات شخصية، قد يكون بعضهم في الواقع ديمقراطيين حقيقيين، لكنهم ليسوا ثوريين أبدا. وهذا ما جعلهم ينقلبون على الحركة كلما رأوا خطر تطورها في مسار ثوري، يحررها من القوالب الحديدية التي وضعوها لها مسبقا. لم يكونوا أبدا يثقون في الطبقة العاملة ولا في قدرتها على تغيير المجتمع نحو الأفضل، ولا يرون فيها سوى كتلة من الحشود الجاهلة والأمية التي يجب عليها أن تنتظر الأوامر منهم، خاصة وأنهم خريجو معاهد تسيير المقاولات وغيرها من الجامعات والمدارس الأنيقة في الداخل والخارج.
إن هؤلاء “الزعماء” المزيفين مجرد حثالة بشرية لا أهمية لهم في المسار العام للصراع الطبقي، وسرعان ما تكنسهم الحركة جانبا عندما تقوى، لكن دورهم يكون خطيرا ومشؤوما، بل وحاسما، عندما تكون الحركة في بداياتها الأولى وتغلب عليها العفوية وتكون القوى الماركسية ضعيفة. خلال هذه المرحلة يمكن لأي وجه عرضي أو مغامر أن يصير قائدا وزعيما، إذ يكفيه أن يكون وقحا ويصعد على أكتاف صديقه ليقول للجماهير: “هيا في هذا الاتجاه”، ويحتكر الكلام في الاجتماعات ويفرض رأيه باستعمال الأساليب الخسيسة، الخ.
لقد لعب هؤلاء الأصدقاء المزيفون دورا مشؤوما في إضعاف الحركة، فتلقى بعضهم مقابلا مجزيا من الدولة عبر الجمعيات التنموية والأحزاب اللبرالية. بينما عاد بعضهم الآخر إلى الاهتمام بمشاريعهم الخاصة ومستقبلهم وهم يسبون الجماهير “الجاهلة” التي لم تكن في حجم تضحياتهم ولا في مستوى فهم مشاريعهم.
أما أهم العوامل الموضوعية فهو استفادة النظام القائم، وأسياده الامبرياليون، مما حدث في تونس ومصر. لقد أخذتهم الثورة التونسية على حين غرة، كما أن ثقتهم الزائدة في قوة نظام مبارك واحتقارهم لقوة الجماهير جعلتهم يتعرضون لهزيمة أكبر في مصر. وهذا ما جعلهم يستفيدون من الدروس. لقد فهموا أن أنظمتهم ضعيفة وأن قوة الجماهير لا تقهر. كما استوعبوا أنه لا يوجد قمع على وجه الأرض قادر عل إخضاع شعب قرر أن ينتصر. وهذا ما طبقوه في المغرب، حيث لم يقتصروا على القمع وحده، بل سارعوا إلى تقديم العديد من التنازلات، والاستعانة مجددا بخدمات الإسلاميين سواء منهم الذين عارضوا الحركة منذ بدايتها (العدالة والتنمية، غالبية السلفيين)، أو هؤلاء الذين اخترقوا الحركة وساوموا بها ثم غادروها لاحقا (العدل والاحسان).
كما عمل بتعاون مع البيروقراطية النقابية والإصلاحيين على تحييد الطبقة العاملة المنظمة من الصراع عبر رشوة القادة النقابيين، وتقديم إصلاحات سياسية واقتصادية شكلية ومؤقتة مما مكنه من امتصاص غضب الجماهير مؤقتا. وكانت النتيجة أن تمكن النظام من إخماد جذوة الحركة والانتصار في الجولة الأولى.
إن من يعرف شيئا عن كيفية سير الحركات الثورية الجماهيرية يعرف بالتأكيد أن الثورة ليست مسيرة ظافرة من الانتصارات في خط تصاعدي مستمر. إنها سيرورة معقدة من المد والجزر، من الصعود والهبوط. من فترات الانتصارات الباهرة وأشد لحظات الهزيمة قتامة. بل وحتى التراجعات.
كما أن من يعرف شيئا عن الحركة الجماهيرية يعرف أن الجماهير لا يمكنها أن تبقى في الشوارع إلى الأبد في حالة غليان دائم عندما لا يكون الأفق واضحا بالنسبة لها. إن الجماهير قادرة على تقديم أعظم التضحيات، وقد قدمت بالفعل تضحيات جسيمة، لكنها لا تقوم بذلك إلا في حدود معينة ومن أجل أهداف معينة. إنها تعامل الاحتجاج بجدية كبرى، على عكس شباب الطبقة الوسطى المدللين الذين يعتبرون الاحتجاجات فرصة لأخذ الصور والتعبير عن تمردهم، ولذلك فإنها تنتظر منه أن يوصل إلى نتائج ملموسة. وهذا بالضبط ما افتقدته في الحركة عندما سيطر عليها “قادة” كل همهم المناورات والصراعات الهامشية أو التطرف اللفظي، الخ.
إننا نعتبر أن حركة عشرين فبراير ستبقى نقطة مضيئة في تاريخ شعبنا، لكننا نعتبر أنها قد استنزفت. إننا سنستمر في النضال من أجل المطالب العادلة التي رفعتها، ومن أجل إطلاق سراح معتقليها ومعاقبة المسؤولين عن قتل مناضليها، كما سنستمر في التواجد في كل الأشكال النضالية الجماهيرية التي ستخرج باسمها. إلا أننا في نفس الآن نعتبر إنه من الخطأ إضاعة الجهد والوقت الثمين، الذي لا نمتلك منه الكثير، في الصراعات الهامشية والمناورات داخل اجتماعات فارغة، مع العصب أو مع “الزعماء” الذين لا ينام بعضهم قبل أن يضع تقريرا على مكتب أجهزة الاستعلامات. إننا وإن كنا نتفهم رغبة رفاقنا في التيارات اليسارية الأخرى (النهج الديمقراطي، الحزب الاشتراكي الموحد) ودوافعهم والمجهودات التي يبذلونها من أجل إنعاش الحركة وإعادة الحياة إليها، فإننا لا نتفق مع محاولات إبقائها بشكل مصطنع وتحويلها إلى صنم. لقد شهد تاريخ المغرب تحركات ثورية عديدة بعضها وصل درجة حمل السلاح (جيش التحرير، الخ)، لكنها عندما استنفذت شروط بقاءها تم تجاوزها جدليا من طرف حركات أخرى. هذا هو قانون الصراع الطبقي، نفي النفي. إننا نعتبر موقفنا هذا دعوة منا للتيارات اليسارية الأخرى إلى الاستعداد للتحركات الثورية التي سيأتي بها المستقبل، بدل الانشغال بالصراعات الهامشية داخل اجتماعات العصب واستنزاف الطاقات.
النقابات
ليس واقع البؤس والاستغلال الذي تعيشه الجماهير مسألة حتمية، أو قدرا مقدرا. وليس انتصار البرجوازية ودولتها في مواجهتهما مع العمال واقعا لا مفر منه. إن الطبقة العاملة تمتلك قوة جبارة، لكن مشكلتها هي أنها لا تعي تلك القوة. هي المنتج الحقيقي للثروات وبفضلها يتحرك كل شيء في المجتمع بدءا من أصغر برغي في آلة إلى أضخم سفينة في أعالي البحار، أو طائرة في السماء. وعندما ستعي هذه القوة الجبارة، وتقرر أن تتوقف عن تسخيرها لخدمة حفنة الطفيليات وخدمهم في الدولة، سيتقرر مصير المعركة الفاصلة وسينهار النظام الرأسمالي بأكمله كبناء من ورق.
لكن لكي تتمكن الطبقة العاملة من حسم تلك المعركة لا بد لها أن تتنظم وتتحد. هذا ما توصلت إليه الطبقة العاملة عالميا وفي كل قطر على حدة، وهذا ما جسدته من خلال سعيها الفطري إلى بناء أدواة وحدتها وكفاحها الطبقي وخاصة النقابات.
نفس الشيء يقال عن المغرب حيث بنت الطبقة العاملة النقابات من أجل توحيد صفوفها في مواجهة الطبقة الرأسمالية وتنظيم نضالها ضد الاستغلال. وقدمت من أجل ذلك تضحيات جسيمة. فالحق في النقابة لم يكن، لا في المغرب ولا أي مكان آخر، منحة من طرف الرأسماليين ودولتهم، بل جاء ثمرة لنضالات شرسة.
لكن هذه الأداة الحاسمة في النضال الطبقي تصاب في ظل ظروف ذاتية وموضوعية معينة [سبق لنا أن شرحناها في أماكن أخرى] بسرطان البيروقراطية مما يجعلها تتحول من وسيلة لممارسة الكفاح الطبقي إلى وسيلة للجم نضالات الطبقة العاملة ولخدمة الرأسماليين وتسهيل عملية استغلالهم للعمال.
ففي الوقت الذي يشهد فيه هجوم البرجوازية ودولتها على مكتسبات وحقوق الطبقة العاملة الاقتصادية والسياسية اتساعا وشراسة كبيرتين (الزيادة في أسعار المحروقات وبالتالي كل المواد الاستهلاكية، تجميد الأجور، تخفيض قيمة العملة، خصخصة الخدمات العمومية، قمع الحريات، الخ) وبينما تعبر الطبقة العاملة بكل فئاتها عن رغبة في المواجهة والنضال (وهو ما يتضح من خلال المعارك البطولية التي تخوضها كل فئات المضطهدين من شغيلة ومطرودين ومعطلين وسكان الأحياء والفقيرة والبوادي المهمشة وشباب، الخ) نجد أن كل هم البيروقراطية النقابية هو تجريد الطبقة العاملة من كل سلاح وتكبيلها لتسهيل مهمة البرجوازية. حيث تقاوم كل محاولة للتحرك المنظم عبر النقابات (المشاركة في المظاهرات أو الدعوة إلى الإضراب العام، الخ).
وفي المقابل نجدهم قد اختاروا بوعي وبشكل نهائي موقعهم إلى جانب الطبقة السائدة ودولتها من أجل حماية “السلم الاجتماعي” (من طرف واحد) وخدمة المقاولة الخ.
ولعل أبرز مثال عما نقوله هو عقد البيروقراطية النقابية للكنفدرالية الديمقراطية لشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل للقائين مع نقابات الباطرونا في عز هجمتها على الطبقة العاملة.
فبعد اللقاء الأول الذي عقد يوم 5 نونبر 2012، عقدت بيروقراطية النقابتين المذكورتين لقاء ثانيا بالمقر المركزي للكنفدرالية الديمقراطية للشغل بتاريخ 28 ماي 2013 مع الاتحاد العام لمقاولات المغرب، حيث أكدوا “على ضرورة أن يكون هناك خطاب موحد بينهم، مع الاستشارة في كل القرارات”. وفي الوقت الذي تشن فيه الطبقة السائدة ودولتها هجوما شرسا على العمال، مما يتطلب تعبئة وبرنامجا نضاليا في مستوى التحديات، نجد “قادتنا” يدعون في ذلك اللقاء «إلى تطوير الحوار الاجتماعي ودعم الحريات النقابية، والعمل على زرع عنصر الثقة بين الأطراف، وصولا إلى نمو اقتصادي يضمن تقدم البلد وتطويره اجتماعياً واقتصاديا، والتحديات التي تواجه عمل النقابات والباطرونا». ليخلص الاجتماع إلى الاتفاق على خلق لجن مشتركة ما بين المركزيتين النقابيتين الفيدرالية الديمقراطية للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام لمقاولات المغرب، تتوزع أجندتها مابين الاشتغال في إطار أوراش، ستعمل على التحاور والعمل حول العديد من القضايا منها: الحريات النقابية، وفض النزاعات النقابية، والتكوين والتكوين المستمر، والعمل على إعادة المقاولات الموجودة في وضعية صعبة، الحماية الاجتماعية، التنافسية، وذلك في أفق التوقيع على اتفاق اجتماعي مابين النقابتين والاتحاد العام.
وقد علق عضو المكتب المركزي للفيدرالية الديمقراطية للشغل العربي حبشي على هذا اللقاء قائلا: «ننظم هذه اللقاءات مع الاتحاد العام لمقاولات المغرب، ونحن أمام تحد خارجي، يتعلق بالتزام المغرب في إطار المنظمة العالمية للتجارة بالتحرير الكلي للتبادل، مما يطرح مجموعة من الإشكالات على كل مكونات المقاولة الوطنية. وهذا يقتضي العمل والتعاون من أجل تنافسية المقاولة الوطنية وتطويرها. وكذلك تنمية المسؤولية الاجتماعية لهاته المقاولة في بعدها الشمولي».
وأضاف: «في هذا السياق، لقد أكدنا كمركزيتين على ضرورة فتح ورش لإعادة هيكلة المقاولات في وضعية صعبة، سواء لأسباب اقتصادية أو مهنية، أو تكنولوجية أو تنظيمية، وبالتالي فالمركزيتان منفتحتان من أجل إيجاد كل الحلول التي تخدم مستقبل المقاولة الوطنية بكل فئاتها، من أجل الحفاظ على إنتاجياتها ومساهمتها في النمو الاقتصاد الوطني».
أما علال بلعربي عضو المكتب التنفيذي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل فقد قال: «هذه اللقاءات تأتي أولا في ظرفية صعبة ومعقدة يعرفها المغرب. ثم إن هذه الظرفية المركبة إلى حد ما في إكراهاتها، هي في حاجة إلى حوار مسؤول جدي، مثمر، ومنتج بما يطور العلاقات مع كافة الفاعلين في المجتمع. وهذا الحوار هو مطلب تفرضه طبيعة اللحظة الوطنية، وهي دقيقة، في سياقها الوطني والإقليمي والعالمي، وذلك إذا ما ربطناها بالأزمة الاقتصادية التي تعرفها العديد من الدول الأوربي وغيرها…، والمغرب غير مستثنى منها. وهذا ما يفرض علينا جميعا، أن ننهج الحوار، باعتباره المنهج الأسلم والطريق الأنجع للتداول بالعقل في القضايا التي تهم عالم الشغل وغيره من القضايا.
الحوار اليوم، يتطلب أن يظل مستمرا وطويلا لأنه من أسس الثقافة الديمقراطية..، وأن هذا المطلب تفرضه الظرفية الراهنة التي يعيشها المغرب، وبالتالي يجب على الحكومة أن تدرك أن الحوار أساسي ومنهجي وخيار أوحد للتداول والحوار والمناقشة وطرح كل الإشكالات في بعدها الاقتصادي.. ».
ولم ينس أن يتغزل في “التزام” رئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب، مريم بنصالح، بـ “ضرورة احترام الحريات النقابية” والذي اعتبره تصريحا “مسؤولا” و«بمثابة خطوة متقدمة جدا وجريئة ومشجعة على الحوار. حيث يمكن اعتبار هذه الخطوة، أنها تشجع على بناء وتكريس الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين. وهذا يعني أنها [مريم بنصالح] أدركت أن النقابة شريك اجتماعي، وأن الحوار معها هو من بين عناصر تطور المقاولات واستقرارها، وفاعل في تطوير إنتاجها وجودتها حتى تتمكن من المنافسة الشرسة».
إن البيروقراطية النقابية تخلت نهائيا عن النضال، واستبدلته بلغة الحوارات، وتخلت نهائيا عن الدفاع عن الطبقة العاملة ومصالحها لصالح الدفاع عن “تنافسية المقاولة وتطورها واستقرارها”، و”تطوير إنتاجها وجودتها” وهو ما يتم دائم على حساب الطبقة العاملة وتكثيف استغلالها.
إن البيروقراطية النقابية فقدت نهائيا مشروعية الانتماء إلى الطبقة العاملة أو تمثيلها لمصالح العمال، فبالأحرى أن تكون قيادة عمالية. لقد صارت عاملا موضوعيا، مثلها مثل البوليس وغيرها من وسائل البرجوازية لقمع الطبقة العاملة ونضالاتها.
وبالفعل فإنها تقوم بدورها القمعي على أكمل وجه. فقد مكنت الطبقة السائدة ودولتها لحد الآن من تمرير كل مخططاتها وشن كل هجوماتها دون أية مقاومة جدية. لقد نجحت في فرض الشلل على الطبقة العاملة أمام القمع والتراجع عن المكتسبات بل وحتى قمع المناضلين النقابيين القاعديين وطردهم ومتابعتهم واعتقالهم.
لكن هذا الوضع مؤقت، فالطبقة العاملة القادرة على تغيير المجتمع بأسره وإسقاط أعتى الأنظمة بكل أجهزتها القمعية، لن تعجز عن إسقاط البيروقراطيات النقابية وتطهير النقابات منها. هذه هي قناعتنا نحن الماركسيين، وهذا ما يوجه نضالنا داخل النقابات.
وقد بدأت الأزمة والمواجهات تندلع بالفعل داخل النقابة بين الفئات الأكثر كفاحية من العمال والنقابيين وبين البيروقراطية. مثلما نرى بوضوح في الصراع الذي اندلع داخل الاتحاد المغربي للشغل وأدى إلى حالة استقطاب حادة على الصعيد الوطني. إن ما شهدته نقابة الاتحاد المغربي للشغل ليس سوى استباق لما سوف تشهده كل المنظمات النقابية العمالية مستقبلا. ستظهر قيادات جديدة جريئة وكفاحية، كما سيدفع الضغط من تحت إلى حدوث انشقاقات حتى بين صفوف البيروقراطيات النقابية بين من سيتبنى خطابا جذريا للحفاظ على موقعه بينما سينفضح الآخرون كمجرد عملاء للبرجوازية داخل صفوف المنظمات العمالية.
إن مهمتنا نحن الماركسيين داخل النقابات هي مساعدة الطبقة العاملة، بدءا من أكثر فئاتها طليعية ووعيا، على فهم دور البيروقراطية النقابية وضرورة استعادة زمام القيادة من بين أيدي هؤلاء الخونة، وتحويل النقابات مجددا إلى أدوات للنضال الطبقي المستقل لصالح الطبقة العاملة ومشروعها. لكن القوى الماركسية ما تزال ضعيفة، وما زلنا غير قادرين على التدخل بشكل فعال وعلى الصعيد الوطني في توجيه الأحداث داخل النقابات وطرح بديل للعمال والمناضلين النقابيين. لذا فإن سيرورة الأزمة ستطول داخل النقابات بين فترات صعود وهبوط، وفرز متواصل، بينما ستبحث أقسام من الطبقة العاملة والشباب عن خوض معاركها بعيدا عن اليد الميتة للبيروقراطيات، وستندلع مسيرات وإضرابات ونضالات خارج النقابات. إن موقفنا من تلك الحركات التي ستندلع من خارج النقابات هو طبعا التأييد والتفهم، سننخرط فيها وسندعمها. إننا على عكس الإصلاحيين والبيروقراطيين لن ندينها، لكننا في نفس الوقت نعلم طبيعتها المؤقتة، وبالتالي فإننا على عكس العصبويين والفوضويين لا نعتبرها بديلا عن النقابات. ستبقى النقابات المنظمات القاعدية التقليدية للطبقة العاملة وواحدة من أمضى أسلحتها في النضال ضد الرأسماليين ودولتهم.
اليسار
لقد لعبت القوى اليسارية الجذرية دورا هاما في الحياة السياسية والاجتماعية للبلد خلال السنتين الأخيرتين. فقد شاركت في أغلب الاحتجاجات، وقدم مناضلوها تضحيات هائلة إلى جانب أبناء الشعب. اللبراليون بالرغم من قوتهم الإعلامية والإسلاميون بالرغم من قوتهم العددية اختفوا نهائيا من الساحة، بينما بقيت قوى اليسار حاملة لراية الكفاح في كل مناطق البلد.
لكن وبالرغم من ذلك ما يزال اليسار في حالة مزرية سياسيا وتنظيميا، وهذا ما جعله لا يتمكن من الاستفادة من الظرفية التاريخية ليبني قواه. ضعف انغراسه في صفوف الجماهير والأوهام عند قياداته حول إمكانية إصلاح الرأسمالية والنظام القائم بالمغرب، عبر الرهان على ملكية برلمانية، أو دستور ديمقراطي، بالنسبة للتيارين الرئيسيين، مقابل مراهقة وتطرف العصب الأخرى وافتقادها لأي شعار واضح، كل هذا جعله مجرد منفعل بالأحداث وليس فاعلا فيها ولا موجها لها نحو تحقيق أهداف الحراك الجماهيري الثوري.
إن الأخطاء النظرية تجعل الكثير من التيارات ترتكب أخطاء فادحة. ليست إصلاحية تلك القوى نابعة من سوء نية عند مناضليها، أو من الطموح الشخصي أو الخوف الخ (العوامل النفسية والشخصية تلعب بطبيعة الحال دورا لكنه ليس العامل المحدد). إنها نتيجة لإيمانهم بنظرية الثورة عبر مراحل الستالينية الرجعية. إن الإيمان بأن هناك إمكانية لتحقيق الديمقراطية والعيش الكريم والاستقلال القومي الخ داخل إطار الرأسمالية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، هو الأساس الحقيقي للنزعة الإصلاحية. وهذا بالضبط ما يؤمن به كل المدافعين عن نظرية المراحل الستالينية. سواء منهم المدافعين عن إمكانية تحقيق الشعب المغربي للديمقراطية والكرامة والحرية في ظل ملكية برلمانية، أو هؤلاء الذين يؤمنون بأنه يمكن تحقيق تلك الأهداف من خلال دستور ديمقراطي وجمهوري ديمقراطية (برجوازية) دون إبلاء الأهمية الكافية للأسئلة المركزية التالية: ديمقراطية أي طبقة؟ وكيف نحققها؟ وبأية وسائل؟
نحن في رابطة العمل الشيوعي وإن كنا نمتلك برنامجا وتصورا سياسيا ومنظورات غالبا ما تؤكد الأحداث صحتها، فإننا بدورنا ما زلنا نعاني من ضعف الإنغراس في صفوف الطبقة العاملة. كما أن الحركية المفرطة تستنزف قوانا الضعيفة.
يمتلك اليسار بين صفوفه مناضلين من أفضل ما أنتجه الشعب المغربي. مناضلون مستعدون لتقديم كل التضحيات من أجل التغيير الجذري للمجتمع. إننا نعتبر أن المرحلة التي انفتحت أمامنا تحمل لنا آفاقا رحبة للنمو كيسار. فالجماهير ستتجه بأنظارها مجددا نحو اليسار، وستصير شعاراتنا مسموعة أكثر فأكثر. لكن علينا أن نتبنى التكتيكات الصحيحة التي تمكننا من الاستفادة من الأوضاع. على قوى اليسار أن تركز على تكوين المناضلين على قاعدة الماركسية، ليس لأنها أفكار جميلة ومتناسقة، بل لأنها الأفكار الوحيدة التي يمكنها أن تفسر لنا الواقع الذي نعيش فيه وتقدم لنا تصورا للحل. كما يجب على قوى اليسار أيضا الدفاع عن استقلاليتها التامة عن الدولة البرجوازية والتيارات اللبرالية، وأن تتخلص من العصبوية وتعمل فورا على تشكيل جبهة موحدة بين مكوناتها إلى جانب النقابات والجمعيات التقدمية على قاعدة مطالب محددة وشعارات واضحة نتدخل بها في الحركة الجماهيرية.
خلاصة
إننا دخلنا مرحلة غير مسبوقة من الأعاصير والزوابع، غير مسبوقة في التاريخ لا سواء عالميا أو إقليميا أو وطنيا. ستنهض الجماهير مرارا وتكرارا للنضال، وستواجه القمع، يواصل الطلاب نضالاتهم وسكان الأحياء الفقيرة والمناطق المهمشة سيتحركون لمواجهة التهميش والمطالبة بتحسين شروط العيش. وسيشعل ضحايا التفقير والبطالة والغلاء الانتفاضات تلو الانتفاضات…
لكن في ظل غياب القيادة الثورية واستمرار تحكم البيروقراطية في النقابات ستبقى تلك الانتفاضات والتحركات الثورية بدون قيادة، لذلك ستمر من كل أنواع المنعرجات وحالات الصعود والهبوط. ستكون السيرورة طويلة ومؤلمة. وستعرف احتدادا يتلوه فترة هدوء أو حتى تراجع. ولن تتمكن أي من الحكومات المتتالية سواء حكومة الإسلاميين أو اللبراليين أو التكنوقراطيين أو حتى اليسار الإصلاحي من تقديم أي حل جدي ودائم، وسيقتصر دورها على إدارة الأزمة وإنقاذ النظام الملكي الدكتاتوري من الانهيار.
وفي المقابل ستفتح هذه المرحلة لنا، نحن الماركسيين، إمكانات كبرى للنمو والتطور. ستنفتح فئات جديدة وأجيال شابة على أفكارنا، ولن نبقى معزولين. لذلك علينا أن نكون في حجم المسؤوليات التي ستطرحها علينا المرحلة.
علينا أن ننفتح أكثر فأكثر على الطلائع الشابة ونستمع لتساؤلاتها ونجيب عنها، ونقدم لها بديلا واضحا تناضل من أجله.
علينا أن نبني المنظمة ونسهر على تكوين كوادرها تكوينا نظريا صلبا على قاعدة الماركسية والتجربة العملية والمنظور الأممي. والانغراس في صفوف الجماهير وأماكن العمل والنقابات والأحياء العمالية لتوفير القيادة الثورية التي يمكنها أن تقود الجماهير لحسم السلطة السياسية واختصار التضحيات والأزمات.
لقد انفتحت أمامنا مرحلة ثورية على الصعيد العالمي، مرحلة الثورات والثورات المضادة، مرحلة أهم سماتها من جهة احتضار الرأسمالية على الصعيد العالمي وتهديدها للجنس البشري بالانحطاط نحو الهمجية (الحروب، المجاعات، التلوث، الأمراض، الخ) وفي المقابل إمكانية إسقاط هذا النظام وبناء المجتمع الاشتراكي، مجتمع العدالة والحرية.
ومرة أخرى يطرح التاريخ أمام الماركسيين سؤال: ما العمل وبما نبدأ؟ والجواب هو بناء القيادة الثورية، بناء الحزب الماركسي القادر على قيادة نضالات الطبقة العاملة على رأس كل المضطهدين والكادحين نحو حسم السلطة السياسية وبناء المجتمع الاشتراكي.
إذا كنت تتفق معنا وكنت تتفقين معنا، في أفكارنا وتحليلنا ومنظوراتنا التحق والتحقي بنا في نضالنا في رابطة العمل الشيوعي، الفرع المغربي للتيار الماركسي الأممي، من أجل بناء تلك القيادة.
هوامش:
[1] لسنا في حاجة إلى أن نؤكد مرة أخرى على أن دراستنا للوضع الاقتصادي لا تعني أننا نعتبر أن الاقتصاد هو كل شيء، أو أنه العامل الوحيد، كما يتهمنا بذلك أعدائنا. إننا نعتبر أن الاقتصاد هو العامل المحدد في آخر المطاف وليس العامل الحاسم الوحيد. إذ أن عناصر البنية الفوقية تؤثر بدورها في السيرورة التاريخية. ل إن ما يهمنا نحن الماركسيين أكثر هو مدى انعكاس كل تلك العوامل على وعي الطبقة العاملة ونضاليتها، إذ أن هذه الأخيرة هي التي تصنع التاريخ.
[2] إذ لا بد من دراسة دقيقة لكل جوانب المسألة من الناحية الاقتصادية والسياسية وكذلك من حيث انعكاسات تلك الأوضاع على وعي الجماهير وكفاحيتها.