لقد هزت الثورة الروسية، عام 1917، العالم وأشعلت سلسلة من الأحداث الثورية على المستوى الأممي. في هذه المقالة، التي نشرت في العدد 47 من مجلة “الدفاع عن الماركسية”، يسلط كونستانتين كورن وإيمانويل توماسيلي الضوء على الطريقة التي تطورت بها السيرورة الثورية في النمسا في نهاية الحرب العالمية الأولى، بما في ذلك نظرة عامة على الإضراب العام في يناير 1918، وكيف خان قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحركة.

بدأت مذبحة الحرب العالمية الأولى في صيف عام 1914. فإذا بحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي النمساوي (“SDAP”)، الذي كان يُعتبر سابقا أحد “الأحزاب النموذجية” للأممية الثانية، وقد استسلم تماما لمزاج النزعة الوطنية وحمى الحرب التي اجتاحت إمبراطورية هابسبورغ.
كان دعم قادة حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي النمساوي لآلة الحرب الهابسبورغية بمثابة صدمة لمعظم قواعد الحزب. عملت القيادة، في الواقع، على شل الحزب، ومنعت أي نشاط يمكنه أن يزعج المجهود الحربي. لكن وبحلول أوائل عام 1915، بدأ عدد قليل من الاشتراكيين والنقابيين الشباب العمل السري، وتنظيم المقاومة ضد الحرب.
تعرفت مجموعة من الاشتراكيين الديمقراطيين اليساريين –Linksradikalen (“الراديكاليون اليساريون”)- التي كانت قد تشكلت حديثا، بزعامة الاشتراكي الثوري الشاب فرانز كوريتشونر، على الجهود المبذولة في مؤتمر زيمروالد لتنظيم الأمميين المشتتين. وهكذا اتصلوا بالبلاشفة المتحلقين حول لينين في زيوريخ. وبدأوا في بناء معارضة منظمة داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية النمساوية، بعد المؤتمر الأممي الثاني المناهض للحرب في كينثال عام 1916.
أصبح الراديكاليون اليساريون النواة الأولى للحركة الشيوعية المستقبلية في النمسا. ومن خلال كارل راديك، تمكنوا من إقامة الاتصال مع الراديكاليين اليساريين في ألمانيا، الذين كانوا يصدرون جريدة أممية وزعوها بعد ذلك في النمسا. تبنى الراديكاليون اليساريون الدعاية المنهجية بين صفوف الطبقة العاملة، واتخاذ موقف طبقي أممي بشأن الحرب. لكن مبادرتهم تعرضت للاضطهاد من قبل قيادة الحزب ورفضها الإصلاحيون اليساريون.
التجذر
لكن الحمى الوطنية الأولية لم تدم طويلا. فبحلول عام 1916 أصبح من الواضح أنه لا توجد نهاية في الأفق للحرب، التي كانت قد حصدت بالفعل أعدادا هائلة من القتلى. واجهت القوات في الخنادق رعبا لا يمكن تصوره، في حين كان العمال على “الجبهة الداخلية” يعانون من الجوع.
كان هذا هو السياق الذي قام فيه فريدريك أدلر -نجل فيكتور أدلر، الأب المؤسس لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي- بإطلاق النار على رئيس الوزراء النمساوي، في فعل احتجاجي يائس ضد الحرب. دافع أدلر عن نفسه في المحكمة بخطاب مؤثر، أدان فيه دعاة الحرب الإمبرياليين والدور السلبي الذي كان حزبه يلعبه تجاههم. ونتيجة لذلك أصبح بطلا في نظر الجماهير المنهكة من الحرب.
وقد دافع لينين، في رسالة بعثها إلى فرانز كوريتشونر، عن عمل أدلر الإرهابي ضد الإدانات الأخلاقية في صحافة حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي. لكنه أوضح أيضا أن «الهجمات الفردية، باعتبارها تكتيكات ثورية، غير مجدية وضارة».
كتب قائلا:
«كان أدلر ليقدم مساعدة أعظم بكثير للحركة الثورية لو أنه، دون خوف من الانشقاق، انتقل بشكل منهجي إلى الدعاية والتحريض غير القانونيين. […] ليس الإرهاب، بل النشاط المنهجي المطول والتضحية بالنفس في الدعاية والتحريض الثوريين، والمظاهرات، وما إلى ذلك، ضد الحزب الانتهازي التابع، وضد الإمبرياليين، وضد الحكومات، وضد الحرب، هذا هو المطلوب»[1].
لا شك أن مثل تلك الدعاية والتحريض الثوريين كانا ليجدا أرضا خصبة. فالظروف القاسية التي لا تطاق في المصانع، حيث يضطر العمال إلى العمل لمدة 12 إلى 14 ساعة في اليوم، والنظام العسكري في أماكن العمل، والجوع واسع النطاق، كل ذلك أدى إلى تجذر الطبقة العاملة. ونتيجة لذلك، زاد بشكل كبير عدد الإضرابات، وأعمال الشغب من أجل الخبز، في شتاء 1916-1917.
“ثورة من أجل السلام”
كان لخبر الإطاحة بالقيصر نيكولاس الثاني، في فبراير 1917، تأثير ملهم في مختلف أنحاء أوروبا. فقد أظهر للمناضلين الأمميين أن الحرب يمكن أن تنتهي حقا من خلال الثورة.

كان هذا هو المزاج السائد في أحد أيام ماي 1917، فعندما انهار عامل من الجوع في مصنع ‘Arsenal’ ـالذي كان أكبر مصنع للأسلحة في فيينا والذي كان يعمل فيه عشرون ألف عامل- توقف العمال على الفور عن العمل. وفي غضون ساعات، انضمت إليهم أغلب المصانع في فيينا تضامنا معهم. وكان من الواضح أن الوضع الثوري بدأ يتطور.
خشيت الحكومة من أن تتكرر في النمسا الأحداث الثورية التي شهدتها روسيا. ولذلك قررت منح القادة الإصلاحيين في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي المزيد من حرية العمل، من أجل توفير صمام أمان لتنفيس بعض الضغوط المتراكمة في الأسفل. لقد استنتجوا أن الترويج للإصلاحيين على رأس الحركة المتنامية من شأنه أن يوجه طاقة الجماهير إلى قنوات “آمنة”، من وجهة نظر النظام. ولذلك سُمح لصحافة حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي بالدعوة إلى السلام، وتم دمج الحزب في برنامج الرعاية الاجتماعية للدولة.
نظم الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي، اجتماعا عاما “من أجل السلام”، في الحادي عشر من نوفمبر 1917. وكانت خطتهم تتلخص في دعوة 2000 مسؤول مختار من قادة الحركة العمالية إلى اجتماع في قاعة Konzerthaus للاستماع إلى زعماء الحزب.
لكن مع تطور الأحداث، نجح البلاشفة في الاستيلاء على السلطة في السابع من نوفمبر، الأمر الذي أحدث موجة من الصدمة في مختلف أنحاء العالم. وهو ما وصفته صحيفة Arbeiter Zeitung بأنه “ثورة من أجل السلام”.
وبدلا من الاجتماع الذي كان سينظم في القاعة من طرف الحزب في الحادي عشر من نوفمبر، حضر 15.000 عامل في مسيرة صاخبة، اجتمعت في حلبة تزلج قريبة. ثم سار آلاف العمال في اتجاه مقر وزارة الحرب في فيينا -بعيدا عن سيطرة زعماء الحزب- للاحتفال بانتصار إخوانهم وأخواتهم الروس. وكان ذلك مظهرا آخر من مظاهر الثورة المتنامية في المجتمع.
بريست ليتوفسك
لقد أعطى مرسوم البلاشفة بشأن السلام، الذي أصدروه فور توليهم السلطة، الأمل للجماهير في جميع أنحاء أوروبا. وبدأت مفاوضات السلام اللاحقة في بريست ليتوفسك (بريست الحالية، بيلاروسيا) بين روسيا السوفياتية وبين “قوى المركز” (ألمانيا، والنمسا والمجر، والإمبراطورية العثمانية، وبلغاريا) في 22 دجنبر. وكانت تلك المفاوضات موضوعا ساخنا طيلة أسابيع تالية.
لقد استخدم تروتسكي، الذي مثل روسيا السوفياتية في بريست ليتوفسك، الحدث بمهارة كمنصة لفضح المصالح الافتراسية للإمبرياليين من جميع الأطراف.
وفي حين دعا البلاشفة إلى “سلام ديمقراطي”، دون ضم أو تعويضات، فقد سعى إمبرياليو قوى المركز، وخاصة الجنرالات الألمان الأكثر ثقة، إلى الاستيلاء على كل ما يمكنهم من دولة العمال الجديدة. وعلى هذا النحو، انكشفت أمام أعين الملايين كل أحاديث الإمبرياليين عن “الدفاع عن الوطن” و“حماية حق الأمم الصغيرة في تقرير مصيرها” على أنها مجرد خدعة.
كان لهذه الاستراتيجية بالتأكيد تأثير هائل على عقول جماهير العمال في النمسا وألمانيا، الذين تابعوا التقارير الواردة من بريست ليتوفسك باهتمام كبير.
كان لينين وتروتسكي يعتقدان اعتقادا راسخا أن الثورة الروسية لم تكن سوى نقطة البداية للثورة العالمية. فقد انقطعت السلسلة عند أضعف حلقاتها، لكن وبسبب تأثير الحرب الإمبريالية والثورة الروسية نفسها، فإنها ستستمر في الانقطاع في بلدان أخرى.
من الواضح أن إمبراطورية هابسبورغ كانت هي المرشحة التالية للثورة. ففي شتاء 1917-1918، بلغ النظام حدوده المادية. فقد استهلكت ثلاث سنوات ونصف من الحرب معظم الموارد الاقتصادية للإمبراطورية النمساوية المجرية، وأضافت المسألة القومية غير المحلولة -وخاصة اضطهاد الشعوب السلافية- عوامل أخرى لسقوطها الحتمي. كانت النمسا في حاجة ماسة إلى الخروج من الحرب من أجل حماية النظام. لكن لا حلفائها الإمبرياليين (ألمانيا)، ولا أعداؤها (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة) كانوا ليقبلوا بخروج النمسا-المجر من الحرب بمفردها.
ونظرا لذلك الانسداد في القمة، والضغوط لتحقيق السلام من الأسفل، فقد كانت المفاوضات في بريست ليتوفسك بمثابة محفز للسيرورات الثورية في النمسا.
التوترات تصل إلى نقطة الغليان
في شتاء 1917-1918، لعب اليساريون الراديكاليون دورا مهما في تنظيم الاحتجاجات المناهضة للحرب في فيينا. صارت مجموعتهم، التي كانت تضم حوالي 100 رفيق، نقطة محورية لحركة الشباب الثورية، وتمكنوا من بناء روابط قوية مع شبكة من المناضلين العماليين في صناعة الأسلحة.
بدأوا معا في التخطيط لإضراب عام في 24 يناير بهدف إنهاء الحرب. وارتباطا بذلك شرعوا في نشر فكرة تشكيل مجالس العمال لتكون أجهزة للسلطة العمالية، على غرار السوفييتات الروسية. ولهذا السبب أسسوا، في دجنبر 1917، منظمة تسمى “مجلس العمال والجنود”. لكن الأحداث تطورت بشكل أسرع مما تصورته المجموعة.
أثارت محاولة الحكومتين الألمانية والنمساوية إفساد محادثات السلام مع روسيا استياء هائلا. واستجابة للضغوط المتزايدة من الأسفل ومن أجل السيطرة على المزاج الغاضب في المصانع، نظم حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي النمساوي، مسيرات حاشدة من أجل السلام في 13 يناير 1918. وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلتها القيادة للسيطرة على الموقف، فقد اندلع انفجار اجتماعي في المصانع في اليوم التالي.
علق تروتسكي لاحقا بشكل إيجابي على تلك الأحداث، حيث قال:
«خلال فترة توقف المفاوضات، التي استمرت حوالي عشرة أيام، تطورت في النمسا حالة من الغليان الهائل واندلعت إضرابات عمالية. كانت تلك الإضرابات بمثابة أول اعتراف بطريقتنا في إجراء مفاوضات السلام، وأول اعتراف تلقيناه من بروليتاريا قوى المركز بشأن مطالب الضم العسكرية الألمانية»[2].
كان من الواضح أن السيرورة الثورية قد بدأت تتطور.
إضراب يناير
في 14 يناير 1918، تم تخفيض حصص الدقيق، التي كانت منخفضة أصلا، مرة أخرى إلى النصف. فكانت هذه الخطوة، بالنسبة للجماهير، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
عندما انتشرت أخبار ذلك في الساعات الأولى من الصباح في بلدة فينر نويشتات -وهي بلدة صناعية تقع جنوب فيينا والتي كانت أحد معاقل الراديكاليين اليساريين- رفض العمال في مصنع دايملر للسيارات تشغيل الآلات، واجتمعوا في ساحة المصنع. كان ردهم بالإجماع هو: “إلى الإضراب! ”. ثم اتجهوا إلى وسط المدينة، حاملين لافتات تدعو إلى السلام الفوري و“إسقاط الحكومة”، وبدأوا في التجمع في مجالس العمال، “Arbeiterräte”، التي كانت في الجوهر النسخة النمساوية للسوفييتات.
تم انتخاب لجنة إضراب واتخذ قرار بالتوجه إلى المصانع الأخرى في المدينة والمناطق المجاورة. وفي غضون ساعات، انخرط 10 آلاف عامل من المنطقة الصناعية لجنوب النمسا السفلى في الإضراب. وأصبحت تلك المنطقة تُعرف فيما بعد باسم “بيت لحم الشيوعية النمساوية”.
ظهرت مجالس العمال في كل مكان. والنضال الذي انطلق كنضال اقتصادي تطور خلال يوم واحد إلى حركة جماهيرية سياسية تدعو إلى إنهاء الحرب بأية وسيلة. نشر الشباب الراديكاليون اليساريون خبر الإضراب في المصانع في فيينا، وحتى في برلين. وفي منشورهم “الشعب ينتفض! ”، الذي نُشر في 16 يناير، كتبوا:
«إن الجماهير لا تريد النصر ولا مجد الأسلحة، بل تريد السلام الفوري، السلام بأية وسيلة ضرورية. إن مصالح الجماهير لا تمثلها الحكومة، بل يمثلها لينين وتروتسكي بمبادئهما الأممية المؤكدة على حق الشعوب في تقرير مصيرها»[3].
وقد تضمن منشور الراديكاليين اليساريين برنامجا يتألف من أربعة مطالب:
- الوقف الفوري لإطلاق النار على جميع الجبهات!
- يجب أن يكون مندوبو السلام في أي مفاوضات منتخبين من قبل الشعب!
- يجب إلغاء عسكرة جميع أماكن العمل على الفور! يجب إزالة جميع القيود المفروضة على حق تكوين الجمعيات وكل الحريات السياسية الأخرى!
- يجب إطلاق سراح فريدريك أدلر وجميع السجناء السياسيين الآخرين على الفور!
كما دعا المنشور بجرأة «عمال جميع البلدان الأخرى […] إلى الاتحاد حول العلم الأحمر للثورة الروسية! […] لا تثقوا في “القادة” العماليين الوطنيين. انتخبوا مجالس العمال كما في روسيا وسيكون النصر من نصيب القوة الجماهيرية للبروليتاريا!»[4].
كانت أفكار تروتسكي في بريست ليتوفسك تجد بوضوح صدى لها.
كان هذا هو المزاج السائد إلى درجة أن إمبراطور النمسا، كارل الأول، أرسل، في 17 يناير، البرقية التالية إلى وزير الخارجية، جراف تشيرنين، في بريست ليتوفسك:
«يجب أن أؤكد لك مرة أخرى بكل قوة أن مصير الملكية والسلالة بأكملها يعتمد على إبرام السلام في أقرب وقت ممكن، في بريست ليتوفسك. أما بالنسبة لأحلام كورلاند وليفونيا وبولونيا، فإنه لا يمكننا قلب الوضع هنا. إذا لم يتحقق السلام، فستكون هناك ثورة، بغض النظر عن مقدار ما يمكن أكله. إن هذا تحذير خطير في وقت خطير»[5].
الإصلاحيون يستولون على الحركة
كانت قيادة الحركة العمالية النمساوية، خلال الفترة التي سبقت الحرب، قد نجحت في بناء نفوذ سياسي هائل. لكن ذلك النفوذ اهتز في ظل الظروف الجديدة للحرب والتجذر المتزايد، الذي لم يجد تعبيرا كافيا عنه في المنظمات الجماهيرية التقليدية.
وضع ذلك القيادة الاشتراكية الديمقراطية في موقف صعب. فكيف لها أن تستعيد السيطرة على تلك الحركة غير المتوقعة وانتزاعها من العناصر الثورية التي كانت تصعد إلى المقدمة؟ في السادس عشر من يناير، وبعد يومين من التردد، قررت القيادة ركوب ظهر النمر ونادت بتوسيع حركة الإضراب إلى جميع أنحاء النمسا، والدعوة إلى انتخاب مجالس العمال في جميع المناطق الصناعية. كان شعارها الرئيسي هو: “إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن”[6]. ولم يكن ذلك الشعار في حد ذاته يتعارض مع احتياجات النظام نفسه.
بحلول 18 يناير، ارتفع عدد العمال المضربين إلى 100.700 في فيينا، و122.622 في النمسا السفلى، وانتشرت الإضرابات إلى النمسا العليا، وستيريا، وبودابست، وكراكوفيا، وبرنو، وترييست، وغيرها. وبحلول التاسع عشر من يناير، شارك في الإضراب 750 ألف عامل. لكن اليساريين الراديكاليين لم تكن لديهم القوة اللازمة لقيادة حركة بذلك الحجم.
كانت الظروف الموضوعية متوفرة في كل مكان، ليس فقط لنجاح الإضراب العام، بل وأيضا لثورة ناجحة. وكان من بين المقولات الشعبية في تلك الأيام: “دعونا نتحدث باللغة الروسية مع حكامنا!”.
لكن مجالس العمال التي كانت قد تشكلت حديثا صارت تحت سيطرة الإصلاحيين. كان أغلب الممثلين يُنتخَبون في أماكن العمل، وبالتالي كانوا يعكسون المزاج السائد على الأرض. لكن بيروقراطيات حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي والنقابات العمالية أرسلت أيضا مسؤوليها وقادتها مباشرة إلى تلك المجالس، الأمر الذي أعطى الإصلاحيين ميزة واضحة.

خيانة الثورة
في وقت لاحق، كتب أوتو باور، الزعيم النظري للإصلاحيين اليساريين (الماركسيين النمساويين)، في تقييمه للثورة النمساوية، قائلا:
«لقد أردنا الإضراب كمظاهرة ثورية كبيرة. لكننا لم نكن نريد تصعيد الإضراب إلى ثورة فعلية»[7].
قيادة مجموعة الماركسيين النمساويين، وباعتبارها تيارا برجوازيا صغيرا، رفضت القطيعة الثورية مع الرأسمالية، وفعلت كل ما في وسعها لإبقاء البرجوازية في السلطة. لقد كان ذلك توجها سياسيا واعيا، كما أشار لينين منذ بداية الحرب. ورغم أنهم لعبوا لفترة وجيزة بالثورة الروسية كوسيلة للحفاظ على استقرار نظام هابسبورغ، فإنهم رأوا في البلشفية، في نهاية المطاف، تهديدا لموقعهم القيادي داخل الحركة العمالية، لابد من محاربته بكل الوسائل.
حاول باور تبرير موقفه المعادي للثورة بحجة أنه لو أن الثورة نجحت في النمسا، لكانت ستقابل على الفور بغزو من القوات الألمانية. لكن في الواقع، كان وصول الطبقة العاملة النمساوية إلى السلطة سيخلف تأثيرا عظيما بين الطبقة العاملة في ألمانيا، حيث كانت الثورة تتطور أيضا. وكان النداء الطبقي للقوات الألمانية والعمال لكي يتبعوا خطاهم سيخلف تأثيرا مزلزلا. وكان إرسال القوات الألمانية في مثل تلك الظروف سيعجل بتسريع السيرورة الثورية.
وفي مواجهة انتفاضة العمال، أدرك القادة الإصلاحيون أنه لابد لهم أن يقدموا بعض النتائج لأجل تهدئة العمال. فقاموا، في السابع عشر من يناير، بنشر إعلان موجه إلى الحكومة، على غرار برنامج اليساريين الراديكاليين، يتضمن أربعة مطالب:
- ينبغي للمفاوضات السلمية ألا تفشل بسبب المطالب الترابية، ولابد أن تجري بشفافية وتحت “تأثير” ممثلي الطبقة العاملة.
- إعادة تنظيم إمدادات الغذاء للسكان.
- إضفاء الطابع الديمقراطي على انتخاب البلديات.
- وضع حد لعسكرة أماكن العمل[8].
بدا هذا البرنامج مشابها لبرنامج اليساريين الراديكاليين، لكنه لم يطرح المسألة الرئيسية المتعلقة بالسلطة. في الواقع، كانوا قد اتفقوا بشكل مسبق على تلك المطالب مع الحكومة، التي كانت مستعدة لقبولها -ووعدت “بمزيد من المفاوضات” حول تلك القضايا- في مقابل إيقاف الاشتراكيين الديمقراطيين للإضراب.
في 21 يناير -اليوم الثامن للحركة- صوت مجلس العمال في فيينا، الذي كان الإصلاحيون يسيطرون عليه، بأغلبية كبيرة لصالح إنهاء الإضراب. ومع ذلك، فقد كانت هناك مناقشات حادة في العديد من الاجتماعات، حيث كان العديد من العمال غاضبين من اقتراح إلغاء الإضراب في تلك المرحلة الحرجة، بينما هم يريدون إنهاء الحرب على الفور. استمر عدد من المصانع في الإضراب لعدة أيام، ودخلت مدن جديدة إلى الحركة، لكنها تركت معزولة بسبب تلك الخيانة.
تم كسر الإضراب وتعرض زعماء اليسار الراديكالي للسجن أو أُرسلوا إلى الجبهة. واتهموا بـ “الخيانة العظمى” لدعوتهم إلى “الإطاحة بالنظام القائم والدولة النمساوية”.
ومع تفكك اليسار الراديكالي، لم تعد هناك قوة سياسية قادرة على مساعدة العمال في استخلاص الاستنتاجات الضرورية من تلك الهزيمة. وقد خرجت الحركة الثورية النامية عن مسارها بسبب موجة القمع التي مارستها الدولة، والتي كانت لها عواقب وخيمة على سيرورة تشكيل الحزب الشيوعي خلال الأشهر اللاحقة. واستعادت القيادات الاشتراكية الديمقراطية سيطرتها على الطبقة العاملة في ذلك الوقت.
كانت نهاية إضراب يناير بمثابة انتكاسة للحركة الثورية، لكنها لم تكن نهاية القصة. فقد ظهر عمق السيرورة الثورية خلال الأيام الأولى من فبراير 1918، مع تمرد البحارة في ميناء كاتارو على البحر الأدرياتيكي (المعروف الآن باسم “كوتور”، في الجبل الأسود). كان ذلك التمرد -تحت الراية الحمراء- متأثرا بشكل واضح بإضراب يناير، لكنه جاء عندما كانت حركة الإضراب قد انتهت بالفعل. وفي يونيو اندلعت موجة جديدة من الإضرابات والتمردات في عدة مناطق من النمسا.
العامل الذاتي المفقود
كان إضراب يناير بمثابة تغيير كبير في الطريقة التي تنظر بها الاشتراكية الديمقراطية النمساوية إلى الثورة الروسية. ومنذ ذلك الحين، قدموا أنفسهم باعتبارهم أعداء صريحين للبلشفية.
كارل كاوتسكي، الزعيم النظري للجناح “الوسطي” للاشتراكية الديمقراطية والناقد لثورة أكتوبر، أصبح لسان حال الماركسيين النمساويين. وفي عام 1918، شن هجوما قويا على البلاشفة بحجة أن:
«الثورة البلشفية كانت مبنية على افتراض أنها ستكون نقطة البداية لثورة أوروبية عامة، وأن المبادرة الجريئة لروسيا ستستدعي البروليتاريا في كل أوروبا للنهوض […].
ووفقا لهذه النظرية، فقد شكلت الثورة الأوروبية أفضل دفاع عن الثورة الروسية… والثورة التي ستجلب الاشتراكية في أوروبا سوف تكون أيضا الوسيلة لإزالة العقبات التي تحول دون تحقيق الاشتراكية في روسيا، والتي خلقها التخلف الاقتصادي في ذلك البلد.
لقد كان كل هذا مدروسا بشكل منطقي للغاية، ومبنيا على أسس سليمة، شريطة أن نفترض أن الثورة الروسية لابد وأن تفك قيود الثورة الأوروبية. لكن ماذا لو لم يحدث ذلك؟ إن ذلك الافتراض لم يتحقق بعد»[9].
لقد أخفى كاوتسكي بشكل مخز حقيقة أن الثورة كانت قد انتشرت بالفعل إلى البلدان الأوروبية المجاورة لروسيا، كما تنبأ البلاشفة. وأن الزعماء الإصلاحيين للحزب الاشتراكي الديمقراطي هم الذين خانوا الثورة بشكل متعمد عندما اندلعت لأول مرة في النمسا في يناير 1918. وهو ما فعلوه مرة أخرى في الأشهر الموالية، كلما تطورت الثورة في النمسا وألمانيا.
أدى تدخل الجماهير في النهاية إلى إنهاء الحرب. ففي خريف عام 1918، كانت جماهير الجنود والعمال والفلاحين من مختلف أركان الإمبراطورية قد سئمت بشكل كامل، ولم يعد لديها الاستعداد للموت من أجل الإمبراطور. بدأ الجنود يفرون بأعداد كبيرة. وانهارت سلسلة قيادة الجيش وانفصلت مختلف القوميات التي كانت مضطهَدة في ظل الإمبراطورية وشكلت دولها الخاصة، مثل تشيكوسلوفاكيا والمجر ومملكة الصرب والكروات والسلوفينيين (التي أعيد تسميتها فيما بعد بيوغوسلافيا).
في فيينا، سيطر عشرات الآلاف من الجنود على حياة المدينة في الأيام الأخيرة من الحرب. وطالبوا بظروف أفضل ورفضوا الانصياع لسلطة الضباط. وتم تشكيل جيش جديد، Volkswehr (“ميليشيا الشعب”)، الذي كان تحت رقابة مجالس الجنود. في ذلك الوضع أيضا، أخذ العمال زمام المبادرة، وأضربوا ونظموا مظاهرة حاشدة في وسط المدينة للمطالبة بإنهاء النظام الملكي.
وبسبب الخوف من الجماهير، انتخب نواب النمسا الناطقة بالألمانية الاشتراكي الديمقراطي، كارل رينر، ليكون مستشارا للدولة الألمانية النمساوية التي كانت قد تشكلت حديثا، وفي 12 نوفمبر، تم إعلان قيام جمهورية ألمانيا النمساوية الجديدة من مبنى البرلمان في فيينا، وذلك بعد ثلاثة أيام من إعلان الجمهورية الألمانية في برلين.

في الواقع كانت السلطة في أيدي الطبقة العاملة، التي كانت مسلحة. لكن ومع وصول الاشتراكيين الديمقراطيين في النمسا وألمانيا إلى الحكم، بذل قادتهم الإصلاحيون كل ما في وسعهم لإعادة السلطة إلى الرأسماليين، وحصر الثورة في تأسيس جمهورية ديمقراطية والوعد بتحقيق الوحدة في نهاية المطاف في جمهورية ألمانية واحدة.
ولذلك فإن المشكلة لم تكن في افتقار عمال أوروبا إلى الفرص الثورية للاستيلاء على السلطة، بل كانت في الافتقار إلى العامل الذاتي، أي غياب أحزاب ثورية مدربة وقادة قادرين على توجيه تلك الثورات إلى ما هو أبعد من خيانات الإصلاحيين الحتمية.
ولذلك فقد كان العمل على بناء تلك القيادة هي المهمة العاجلة التي حددها لينين وتروتسكي لنفسيهما عند تأسيس الأممية الثالثة.
مصادر ومراجع:
[1] V I Lenin, ‘To Franz Koritschoner’, Lenin Collected Works, Vol. 35, Progress Publishers, 1973, pg 238-239
[2] L Trotsky, ‘At Brest-Litovsk’, The Proletarian Revolution In Russia, The Communist Press, 1918, pg 350
[3] H Hautmann, Die verlorene Räterepublik, Europa Verlag, 1971, pg 51,
[4] ibid.
[5] H Hautmann, Geschichte der Rätebewegung in Österreich 1918-1924, Europaverlag, Wien 1987, p. 157,
[6] Arbeiter-Zeitung, Vol. 30, No. 16, 16 January 1918, pg 1
[7] O Bauer, Die österreichische Revolution, Wiener Volksbuchhandlung, 1923, pg 65
[8] Arbeiter-Zeitung, Vol. 30, No. 17, 17 January 1918, pg 1
[9] K Kautsky, The Dictatorship of the Proletariat, National Labour Press, 1919, pg 62-63