الرئيسية / قضايا نظرية / ثقافة وفن / ما الذي يعنيه تجدد الاهتمام بالشعر؟

ما الذي يعنيه تجدد الاهتمام بالشعر؟

في سياق الأزمة الرأسمالية العالمية، يقود الشباب، على وجه الخصوص، حركة إحياء للاهتمام بالشعر من مختلف الأنواع. وفي هذه المقالة، التي نشرت في العدد العدد 46 من مجلة “الدفاع عن الماركسية، يشرح الرفيقان جيروم ميتيلوس وإيريني سيرا، من الفرع الفرنسي للأممية الشيوعية الثورية، ماهية الشعر في مستواه الأساسي، ويوضحان انطلاقا من هذا المنظور العوامل التي تدفع إلى زيادة شعبيته.


ملهمة بيغاسوس (Muse on Pegasus)، أوديلون ريدون، حوالي 1900

في الصيف الماضي، أشارت المجلة الثقافية الأسبوعية الفرنسية Télérama وصحيفة Le Monde، إلى أن عالم الشعر شهد خلال السنوات القليلة الماضية دفعة جديدًة من الحيوية.

شهدت المكتبات الفرنسية، بين عامي 2019 و2022، تزايد المبيعات (من “الكلاسيكيات” وغيرها)، بنسبة 42%. واستمر هذا الاتجاه في عام 2023: حيث ارتفعت بنسبة 22% بين يناير وماي.

بالطبع، ما يزال الشعر يمثل 1% فقط من المبيعات، لكن ومع ذلك فإن الزيادة واضحة.

توضح Télérama أن: «شركات النشر المستقلة يزداد عددها -سيغيرز، وبرونو دوسي، وكاستور أسترال…- وتزداد معها الرغبة في التأليف»[1].

ويظهر هذا بشكل أكثر وضوحا في وسائل التواصل الاجتماعي. فقد تمت مشاهدة الوسم “الشعر” 75 مليار مرة على تيك توك ويستضيف إنستغرام العديد من “شعراء إنستغرام”. الشباب على وجه الخصوص هم الذين يقفون وراء هذا الإحياء الشعري. ويتجلى هذا في الحماس المتزايد لـ“ليالي الميكروفون المفتوح” في الحانات، حيث يأتي الناس لسماع الكلمات بقدر ما يأتون للشرب.

من أجل تفسير هذه الظاهرة، يتعين علينا أولا أن نشير إلى أنه لا يمكن التعامل مع الشعر بتلك الطريقة التي يتم بها تدريس الكلاسيكيات العظيمة في المدارس.

من المؤكد أن العباقرة الأربعة للشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر: فيرلين وهوغو وبودلير ورامبو، على سبيل المثال لا الحصر، يحتلون مكانهم المشروع في تلك الدورات الأدبية. لكن النهج الأكاديمي المفرط هو في كثير من الأحيان أفضل طريقة لسوء فهم تراثهم، ونتيجة لذلك عدم فهم ما يشكل جوهر الشعر، الذي يمتد إلى ما هو أبعد من الرفوف المخصصة له في المكتبات.

لكي نفهم ماهية الشعر، في الأساس، يمكننا أن ننظر إلى ما قاله الفيلسوف الألماني هيغل عنه. ففي تصنيفه لأشكال الفن المختلفة، ضم إلى مفهوم “الشعر” كل ما نعتبره الآن أدبا، بما في ذلك الروايات والمسرحيات. وبطبيعة الحال فقد تطور الأدب والفن كثيرا منذ هيغل. وعلى مدى القرنين الماضيين، أدت التمايزات الداخلية التي حدثت في الأدب إلى تخصيص مصطلح “الشعر” لشكل معين من أشكال الكتابة. ولكنه يتعين علينا أن ندرك المعنى الأعمق للتصنيف الذي قدمه هيغل. فقد شرح أن ما يميز الشعر عن الهندسة والنحت والرسم والموسيقى هو أن “تماسكه المادي” هو الكلام البشري. وقد أكد على هذه النقطة حيث قال: «الشعر، مع ذلك، هو في الأساس ووفقا لمفهومه، تعبير رنان»[2].

إن هذا التوصيف للشعر ليس مجرد تعبير سطحي كما يبدو للوهلة الأولى. إن الشعر المنطوق ليس، في الواقع، مجرد كلام عادي. إن الشعر يحرر نفسه من الوظائف الآلية البحتة للغة، ومن الاهتمامات اليومية، ومن القلق بشأن التواصل الفعال والمنطق الشفاف، ليطلق العنان لكنوز الموسيقى والصور المخبأة في أعماق اللغة، وفي أعماق كل منا.

وفيما يتصل بالصور، يشرح هيغل أن الشعر «يجلب أمام أنظارنا الواقع الملموس وليس التعميم المجرد». ويتابع:

«إنني، من وجهة نظر الحس السليم العادي، أفهم من اللغة، سواء في انطباعها على سمعي أو بصري، المعنى الذي تقدمه بشكل مباشر، أو بعبارة أخرى، دون تلقي صورتها أمام العقل. فالعبارات مثل “الشمس” أو “في الصباح”، على سبيل المثال، تمتلك كل منها بلا شك معنى متميزا؛ ولكن لا الفجر ولا الشمس حاضران في رؤيتنا. لكن عندما يقول الشاعر: “عندما طار الفجر الآن نحو السماء بأصابع وردية”، فإن لدينا هنا، بلا شك، الحقيقة الملموسة التي وصلت إلينا. لكن التعبير الشعري يضيف المزيد، لأنه يربط بين الشيء المعترف به وبين رؤية الشيء نفسه، أو بالأحرى يمكننا القول إن العلاقة المجردة الصرفة للمعرفة تتلاشى، ويحل محلها التعريف الحقيقي»[3].

كما يظهر مثال هيغل الذي استعاره من هوميروس، فإن هذا “المزيد” ينتج عن الصورة الشعرية، لأنه في العالم الحقيقي لا يوجد فجر يمتلك أصابع وردية! وبالتالي، ومن عجيب المفارقات، فإن صورة أكثر واقعية للشيء الموصوف تنعكس في لغة زائفة أو حتى سخيفة، إذا ما تم أخذها حرفيا.

إن موارد الصور الشعرية تفتح العديد من الاحتمالات بحيث لا يمكن “تصوير” “الشيء في حد ذاته” بقدر ما يمكن تحويله. ويتسم تاريخ الشعر الحديث بتحرك عام في هذا الاتجاه، إلى الحد الذي تتوقف فيه الصورة، مع السرياليين، عن “تصوير” “الشيء نفسه” من أجل التقاط أصدائه الأكثر سرية ولا شعورية.

في الأبيات التالية لبول إيلوار، على سبيل المثال، يؤدي استخدام الاستعارة إلى تشبيه الطيور بالأسماك ثم باللؤلؤ، حيث يقول:

“Un bel arbre
Ses branches sont des ruisseaux
Sous les feuilles
Ils boivent aux sources du soleil
Leurs poissons chantent comme des perles…” [4]

ترجمة النص بالعربية:

«شجرة جميلة
أغصانها جداول
تحت الأوراق
تشرب من ينابيع الشمس
وتغني أسماكها كاللؤلؤ…».

لا توجد حدود لا يمكن عبورها بين الشعر وبين اللغة اليومية. وبمعنى ما فإن أحدهما يتدفق من الآخر. حتى محادثاتنا اليومية الأكثر تفاهة هي مليئة بالصور “الشعرية” التي غالبا ما لا ننتبه إليها. فعندما نقول في حديثنا اليومي أن فلانا “أحرق مراكبه”، فإننا نكون بصدد استخدام استعارة. وإذا اقترحنا على صديق أن يأتي “ليشرب كأسا أو كأسين”، فإننا نستخدم مجازا، استبدال كلمة بشيء وثيق الصلة بها، والذي هو في هذه الحالة، المشروب الموجود في الكأس. لكن الشاعر يستخدم هذه المجازات المختلفة للارتقاء بمشاعره وأفكاره ورؤيته للعالم إلى قمم العمل الفني.

ومن السمات المركزية الأخرى للشعر هناك الموسيقى في الكلام المنطوق. ومرة أخرى نلجأ إلى هيغل الذي يقول: «نحن نفهم ما تعنيه الحروف، التي هي نقاط إرشادية للنطق الواضح، بمجرد فعل البصر، ودون أن نكون ملزمين بالاستماع إلى صوتها. وحده القارئ الأمي هو الذي سيجد من الضروري عليه أن ينطق بالكلمات المنفصلة بصوت عال حتى يفهم معناها. لكن في حالة الشعر، يصير ذلك الذي يبدو هناك علامة على الغباء، مؤشرا على الجمال والتميز». حيث أن نطق النص يضيف بعدا موسيقيا فعليا.

ويشير بول فيرلين، الذي هو أحد أعظم الموسيقيين في الشعر الفرنسي، إلى هذا في البيت الأول من قصيدته “Ars Poetica“:

“De la musique avant toute chose,
Et pour cela préfère l’Impair
Plus vague et plus soluble dans l’air,
Sans rien en lui qui pèse ou qui pose.”[5]

النص بالعربية:

«في شعرك، اختر الموسيقى قبل كل شيء!
اختر تلك الأوزان الفريدة من المقاطع،
تلك الأكثر غموضا وأكثر قابلية للذوبان في الهواء،
والخالية من الإيقاعات القوية، والخفيفة والموجزة»[6].

يتميز أعظم الشعراء بقدرتهم على الجمع بين التصوير وبين الموسيقى، واللعب على الروابط بينهما. فهم يجمعون بين الشكل والمضمون في وحدة متناغمة وأصيلة، وهذا على وجه التحديد ما لا تفعله لغتنا اليومية “الوظيفية” أبدا، أو نادرا جدا ما تفعله.

إن الشعر، كما نرى، وكما قلنا أعلاه، لا يقتصر على “الكلاسيكيات”. فهو يخترق باستمرار الروايات والمسرحيات، بدرجات متفاوتة، بل وأيضا الأغاني. ويعبر الشعر عن نفسه في تنوع كبير من أشكال الفن، ومن الممكن بالطبع أن يصاحبه مرافق موسيقي دون أن يتوقف عن كونه شعرا.

شارل بودلير، يوجين ديسي، 1917

لكن ومع وضع هذا في الاعتبار، يتعين علينا تحليل أسباب الاهتمام المتجدد بالشعر “الخالص” خلال السنوات القليلة الماضية. ونعني بالشعر “الخالص”: الشعر الذي يعتمد فقط على الكلمة المنطوقة، دون الغناء أو الموسيقى. وبهذا المعنى، فإن المسابقات الشعرية (Slam poetry) هي شكل وسيط بين فن الراب وبين الشعر في جوهره. وهذه الحركة المتمثلة في تجريد التعبير الشعري من جوهره لها أهمية كبيرة. والواقع أنه ليس من الضروري أن تكون قادرا على الغناء أو العزف لكي تتمكن من كتابة أو تلاوة الشعر. فكما أشار هيغل: «إن ما يحتاجه [الشاعر]، هنا على الأقل، هو مجرد الموهبة للإبداع الخيالي»[7]. أو بعبارة أخرى، يحتاج الشاعر إلى شيء يحتاج إلى قوله، شيء يريد أن يُسمَع، شيء قادر على رفعه إلى مرتبة الكرامة، وإلى جمال الكلمات التي لها تأثير مذهل على جمهورها وقادرة على أن تصل إليه.

ومن المؤكد أن للشباب اليوم أشياء يريدون قولها ضد الاستغلال، والقمع، والفقر في شوارعنا، وتدمير البيئة، والحروب الإمبريالية، والكلبية والنفاق، أي الجرائم التي تقترفها الطبقة السائدة، وما يميز وسائل الإعلام السائدة وخطب جميع الساسة. إن الثورة، المستترة لكن القوية، هي في أساس هذا التعطش للشعر الذي يتجلى ليس فقط بين أولئك الذين يكتبونه ويرددونه، بل وأيضا بين أولئك، الأكثر عددا، الذين يقرؤونه أو يأتون للاستماع إليه.

لقد شرح أوليفييه بارباران، الذي يرأس لجنة الشعر في المركز الوطني الفرنسي للكتاب، هذا الارتباط بين مختلف مظاهر أزمة الرأسمالية وبين الحيوية المتزايدة للشعر، قائلا: «إن الأوقات الكارثية تخلق عطشا للمعنى والشعر. إن نجاحنا هو شهادة على قسوة عصرنا»[8]. ومن جانبها، كتبت جوليا فيرجيلي في مجلة Télérama قائلة: «إذا كان العالم يبدو وكأنه يتجه بشكل لا رجعة فيه نحو الكارثة، فإن الشعر مزدهر».

كل ذلك صحيح تماما، باستثناء شيء واحد وهو أن العالم لا يتجه نحو كارثة بشكل لا رجعة فيه: بل إنه يتجه نحو سلسلة من الأزمات الثورية، التي يتوقف عليها مستقبل البشرية. والحماس الحالي تجاه الشعر هو، من بين أمور أخرى، مقدمة لذلك الوضع. أما عن “التعطش إلى المعنى” الذي ذكره أوليفييه بارباران، فيتعين علينا أن نشير إلى أنه يتخذ بالضرورة طابعا سياسيا واضحا، ومناهضا للرأسمالية في كثير من الأحيان.

صحيح أنه لا يمكن اختزال الشعر إلى مجرد خطاب سياسي. فالقصيدة الجيدة والشعار الجيد -أو البرنامج السياسي الجيد- لابد وأن يلبيا متطلبات مختلفة تمام الاختلاف. ومع ذلك، فإن أغلب الشباب الذين يهتمون بالشعر في أيامنا هذه، هم يبحثون فيه عن شيء أكثر من مجرد البراعة الشكلية البحتة. إنهم يبحثون عن شعر يتحدث، بطريقة أو بأخرى، حتى من خلال الفكاهة والتهكم، عن كارثة هذا العالم، وعنفه، وعبثيته، ولكن أيضا عن الأمل في عالم أفضل وأكثر عدالة وإنسانية.

هذا لا يعني أن الشعر لابد وأن يتصف بطابع سياسي لكي يكون جميلا أو محط تقدير. إن الشعر الجيد -والأدب الجيد عموما- لابد وأن ينبثق من أعماق الشاعر، من تجربته، ومن شغفه. وكثيرا ما نجد الأفراح والأحزان الأكثر حميمية وفرادة في صميم الأعمال الشعرية العظيمة. وقد كان هذا صحيحا بشكل خاص منذ ظهور الرومانسية في بداية القرن التاسع عشر. فجمال قصائد فيرلين أو بودلير، على سبيل المثال، لا ينفصل عن عذاباتها الداخلية.

ومع ذلك، فإنه حتى في حالة فيرلين وبودلير، نتعامل مع أعمال تعكس، إلى حد ما، المجتمع الذي عاش فيه المؤلفان. يحمل هذان الشاعران نفس خيبة الأمل العميقة في وعود العقلانية البرجوازية، وفي الرومانسية أيضا. فالتفاؤل الفخم الذي تحلى به زعيم الرومانسية الفرنسية، فيكتور هوغو، داس عليه النظام الفاسد الدكتاتوري الذي فرضه نابليون الثالث. وبمعنى ما فقد وجد انحطاط الإمبراطورية الثانية تعبيرا مشوها عنه في روائع فيرلين وبودلير: “أزهار الشر” (1857) و“قصائد تحت زحل” (1866).

قد يبحث الشاعر في مصادره الذاتية، لكن حتى هذه المصادر يشكلها العالَم الحقيقي، الخارجي عن الفنان. وكما كتب تروتسكي: «إن الإبداع الفني هو (…) انحراف وتغيير وتحويل للواقع، وفقا لقوانين الفن الخاصة. ومهما كان الفن خياليا، فإنه لا يستطيع أن يمتلك تحت تصرفه أي مادة أخرى غير تلك التي يمنحها له عالم الأبعاد الثلاثة وعالم المجتمع الطبقي الضيق. وحتى عندما يخلق الفنان الجنة والجحيم، فإنه يحول تجربة حياته إلى خيالاته، بما في ذلك تقريبا فاتورة صاحبة المنزل غير المدفوعة»[9].

اليوم، وبينما تهدد الرأسمالية البشرية بالهمجية الشاملة، لا يستطيع أفضل الشعراء -وجمهورهم على حد سواء- أن يكتفوا بأعمال متقنة ومعقدة منفصلة عن النبض الاجتماعي للعالم الحقيقي، ومعاناته وصراعاته. لقد حان الوقت للشعر الذي يرفع صرخاته وألسنة لهيبه، في احتجاج قوي، ضد الويلات التي يخلفها عالم في أزمة، عالم ظالم ووحشي.

إن تجدد الاهتمام بالشعر ليس مجرد أحد أعراض العصر الثوري؛ بل يمكننا أن نتنبأ أيضا بأن هذا العصر سوف ينتج، لنفس الأسباب، شعراء ثوريين عظماء.

A renewed interest in poetry: what does it signify?


[1] J Vergely, “La poésie est bien vivante, vive la poésie !”, Télérama, 16 June 2023

[2] G W F Hegel, The Philosophy of Fine Art, G. Bell and Sons, 1920, pg 101

[3] ibid. pg 59

[4] P Eluard, “La Lumière éteinte”, La Rose Publique, Gallimard, 1934, pg 37, our translation

[5] P Verlaine, “Art poétique”, Jadis et naguère, L. Vanier, 1891, pg 19

[6]  ترجمنا الأبيات اعتمادا على الترجمة الانجليزية، التي تجعلها أكثر وضوحا بالإضافات التي زادتها. المعرب.

[7] G W F Hegel, The Philosophy of Fine Art, G. Bell and Sons, 1920, pg 52

[8] D Cosnard, “La poésie, enquête sur un art en pleine mue”, Le Monde, 7 June 2023, our translation

[9] L Trotsky, Literature and Revolution, University of Michigan Press, 1960, pg 176