ربما كان ملصق الحرب الأهلية الشهير، “اهزموا البيض بالإسفين الأحمر”، الذي صممه الفنان إيل ليسيتزكي، هو العمل الفني الأكثر شهرة الذي نشأ من الثورة الروسية بأكملها. إنه ملصق ما يزال تأثيره واسع النطاق حتى يومنا هذا. في هذه المقالة، التي نشرت في العدد العدد 47 من مجلة “الدفاع عن الماركسية”، يستكشف الرفيقان نيلسون وان وجيمس كيلبي، كيف ظهر الإسفين الأحمر، وكيف يجسد جوهر الثورة، وكيف يمكن اعتبار عمل دعائي مثل هذا عملا فنيا عظيما.

“في موسكو عام 1918، لمع أمام عينيَّ الانفجار الذي قسم العالم إلى نصفين. إن هذه الضربة الفريدة دقت اللحظة، التي نسميها الحاضر، مثل إسفين بين الأمس والغد. وجهودي الآن موجهة لدق الإسفين بشكل أعمق. يجب أن ينتمي المرء إلى هذا الجانب أو ذاك، لا يوجد طريق وسط“[1].
أدت الثورة الروسية، عام 1917، إلى انطلاق موجة من العبقرية الفنية والإبداعية التي حركت أعماق المجتمع. وانفتحت أبواب الفن والثقافة أمام جماهير المضطهَدين في روسيا، للمرة الأولى في حياتهم. كما انضم، في الوقت نفسه، أفضل وألمع الفنانين والمثقفين الروس إلى الثورة.
وقد كان من بين أعظم هؤلاء الفنانين: الفنان الموهوب إليزار ماركوفيتش ليسيتزكي، المعروف باسم “إل ليسيتزكي”. كان إل ليسيتزكي مصورا ومصمما وخطاطا ومهندسا معماريا، إضافة إلى أشياء أخرى عديدة. وقد أحدث ثورة في كل مجال فني عمل فيه تقريبا، وبعد ثورة أكتوبر، أصبح شيوعيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ورغم أن مساهماته في مختلف المجالات كانت محورية، فإن العمل الذي اشتهر به ربما يكون ملصق الحرب الأهلية “اهزموا البيض بالإسفين الأحمر”، والذي أنتجه من أجل مساعدة النضال البلشفي ضد جيوش الرجعية البيضاء.
نضال عسير
يعد ملصق “اهزموا البيض بالإسفين الأحمر” تصويرا رائعا للسيرورة الثورية في واحدة من أكثر مراحلها صعوبة: مرحلة الحرب الأهلية.
وفي سياق ذلك النضال كان المجتمع قد صار مستقطَبا إلى أقصى درجة. ولم يعد هناك مفر من السؤال: إلى أي جانب تنتمي أنت؟
كان هذا هو الوضع الذي وجدت فيه الثورة الروسية نفسها في أواخر عام 1919، عندما أنتج إل ليسيتزكي على الأرجح الإسفين الأحمر. ورغم أن ثورة أكتوبر عام 1917 كانت حدثا غير دموي إلى حد كبير، فإن تدخل الإمبرياليين العالميين، بحلول مارس 1918، لتمويل وتسليح وتدعيم القوات المعادية للثورة، فتح حمام الدم خلال الحرب الأهلية.
وفي سياق ذلك الصراع، انقسم المجتمع -بل والعالم أيضا- إلى معسكرين متعارضين: الحمر والبيض. وعلى الرغم من الإشارة إليها على أنها “حربا أهلية”، فإنها كانت في الواقع حربا دولية، امتدت على عدد كبير من الأراضي، وشاركت فيها أمم أخرى كثيرة.
وعند نقطة معينة، انقسمت جميع الأحزاب البرجوازية الصغيرة في الإمبراطورية الروسية السابقة، أو اصطفت خلف البيض. انقسم الفلاحون بين الفئات الفقيرة والمتوسطة من جهة، والتي استفادت من سياسة الأرض التي طبقها البلاشفة، وكانت مستعدة للدفاع عنها، وبين الفلاحين الأثرياء، أو “الكولاك”، الذين كان معظمهم معادين للثورة.
إن لوحة “اهزموا البيض بالإسفين الأحمر” تصور هذه السيرورة بشكل واضح للغاية، باعتبارها صراعا بين معسكرين عالميين: معسكر النور ومعسكر الظلام. لا يوجد معسكر وسط.
نرى هنا صراعا بين الثورة، الممثلة على اليسار بلون ساطع، وهي تتغلب على الثورة المضادة، المصورة على اليمين بألوان قاتمة. والإسفين الأحمر نفسه يمثل بوضوح رأس حربة الثورة -الجيش الأحمر، تحت قيادة البلاشفة- الذي سحق جيوش الرجعية البيضاء.
وكما هو الحال مع العديد من الفنانين الثوريين العظماء، فقد كانت هناك جهود من جانب البرجوازية لفصل فن إل ليسيتزكي عن قناعاته الثورية، لكن هذا مستحيل. الفنان، كما قال تروتسكي، ليس “آلة فارغة”[2]. إنه شخص حي له نفسية يشكلها المجتمع من حوله.
إن صورة الإسفين الأحمر تخبرنا أن إل ليسيتزكي لم يكن مجرد “رفيق سفر” ينظر إلى الثورة باعتبارها سيرورة عمياء من الخارج، بل كان في الواقع يقدر الديناميات الداخلية للسيرورة الثورية، وكل ما تمثله الثورة.
من الواضح تماما أن إل ليسيتزكي قد فهم الثورة الروسية من الداخل، باعتباره شيوعيا. تكون الثورات، بالنسبة للنظرة السطحية، مجرد أحداث فوضوية ولا شكل لها. وبالنسبة للبرجوازي الصغير، لا يوجد سبب أو مبرر علمي وراء الثورة. لكن إل ليسيتزكي لا يصور الفوضى. صورة الإسفين الأحمر تعبر عن الوضوح ووحدة الهدف والعمل والاتساق والصراع الطبقي نفسه؛ كل ذلك بدقة رياضية. وصف تروتسكي الماركسية بأنها “علم الثورة”[3]، وهو وصف مناسب لما تصوره لوحة الإسفين الأحمر.
دق الإسفين
باعتبارها عملا فنيا، تعتبر لوحة الإسفين الأحمر تجريدية للغاية، ومع ذلك توفر الأشكال التبسيطية وضوحا أعمق في المعنى. وباستثناء بعض المثلثات والمستطيلات الأصغر حجما، فإن التركيبة مكونة بالكامل من أشكال ثنائية الأبعاد، ومع ذلك هناك دينامية وحركة معبر عنهما.

إن شكل الإسفين الأحمر حاد وقوي. وهو بكل قوته المركزة في نقطة واحدة، يخترق الدائرة البيضاء الخاملة. بينما تعبر الإسفينات الحمراء الأصغر عن الحركة التي تندفع إلى الصورة وتحطم المستطيلات الرمادية الأصغر. ويتماشى النص مع هذه الحركة. وبينما يتم تصوير الوحدات الأصغر من الجيش الأحمر في الخلف على شكل سلسلة من المستطيلات المنظمة؛ يتم تصوير القوات الإضافية للجيوش البيضاء في حالة من الفوضى بينما هي تواجه الحمر.
وباستخدام الأشكال والألوان المجردة لتصوير قوى الثورة والثورة المضادة، لا يوجد أي تلميح إلى أي قومية في هذا الصراع. هناك ببساطة صراع بين الطبقتين الحاسمتين في المجتمع الحديث: الطبقة العاملة العالمية، من جهة، والرأسماليين في جميع البلدان، من جهة أخرى.
ومن المرجح أن تكون لوحة الإسفين الأحمر قد جاءت بتأثير من النصب التذكاري للجيش الأحمر، الذي بناه نيكولاي كولي، في موسكو عام 1918، للاحتفال بهزيمة محاولة الانقلاب العسكري التي قادها الجنرال كراسنوف، في نوفمبر 1917.
كان النصب التذكاري الذي بناه كولي، والذي أسماه “الإسفين الأحمر” يتألف من مثلث أحمر تم إدخاله عموديا على شكل إسفين في كتلة مستطيلة بيضاء. وهناك شق واضح للغاية يمتد إلى أسفل من طرف المثلث، مما يشير إلى أن قوة الإسفين الأحمر قد نجحت في كسر صلابة البنية البيضاء.
كان المقصود من الاستعارة التجريدية لهذا الإسفين الأحمر أن تدل على انتصار الجيش الأحمر على قوى الثورة المضادة البيضاء. وقد نجح النصب التذكاري في نقل قصة كانت لتكون مفهومة لجميع مستويات المجتمع الروسي، كما كان الحال بلا شك مع تحويل إيل ليسيتزكي لنصب كولي التذكاري إلى “الإسفين الأحمر”.
الإسفين الأحمر في حد ذاته هو في الواقع إشارة مناسبة لطليعة الثورة. فهو من جهة يمثل القوات العسكرية للحمر: والتي هي قوى حادة بما يكفي لاختراق دفاعات البيض وسحقهم. إلا أنه، من جهة أخرى، يمثل البرنامج الأحمر للثورة: مصادرة أملاك الرأسماليين والملاكين العقاريين، وسلطة العمال، والأراضي للفلاحين.
لقد استخدم البلاشفة برنامجهم بمهارة لدق إسفين في صفوف جيوش الثورة المضادة، وتقسيم قواتهم، بين القيادات العسكرية -والرأسماليين وملاك الأراضي الذين تخدمهم- وبين الجنود العاديين، الذين تم كسب العديد منهم سياسيا إلى معسكر الثورة.
والواقع أن الجيوش الغازية التي أرسلها الإمبرياليون للمساعدة في سحق الثورة، كان لابد من سحبها جميعها تقريبا في أعقاب التمردات، أو خطر التمردات، داخل صفوفها.
ومن ثم فإن الإسفين الأحمر فعال في هزيمة الجيوش البيضاء من الداخل، وهو الأمر الذي يعبر عنه ملصق إل ليسيتزكي ببراعة.
تأثير ثورة أكتوبر
إن لوحة “الإسفين الأحمر” جديرة بالملاحظة أيضا لأنها تكشف عن التأثير العميق الذي خلفته الثورة الروسية على شريحة من الفنانين وفنهم.
لقد أطلق دخول الجماهير إلى مسرح التاريخ العنان لرغبة هائلة كانت مكبوتة في غزو عالم الثقافة من جانبهم. وقد أنتج النضال من أجل تحويل المجتمع شعورا بالسمو الروحي، الذي وجد انعكاسه بالطبع في فن ذلك اليوم.
لقد اجتذبت الثورة شريحة واسعة من الفنانين، الذين ارتبطوا بالروح الجديدة للعصر. وتم التخلص من التقاليد والروتين القديمين لصالح أفكار وتقنيات جديدة.
إن لوحة “الإسفين الأحمر” هي بوضوح نتاج لمدرسة الفن “التفوقية” (Suprematist)، التي أسسها صديق ومعلم إل ليسيتزكي: كازيمير ماليفيتش، عام 1915. لقد أنتج ماليفيتش بعضا من أولى اللوحات التجريدية في العالم. لقد رفض تقليد الأشكال الطبيعية، وطالب بإنشاء تركيبات هندسية مجردة، بألوان محدودة، من أجل إظهار “سيادة الشعور الفني الخالص”[4].
أشار ماليفيتش بشكل صحيح إلى أن الفن الذي يكتفي بإعادة إنتاج تشابه دقيق للأشياء المادية لا يشكل في حد ذاته فنا عظيما. وأن المشاعر التي يولدها العمل الفني لدى الناس هي الأكثر أهمية.
ورغم أن هذه الفكرة تحتوي بالتأكيد على حقيقة عميقة، فإن ماليفيتش، باعتباره مثاليا فلسفيا، بالغ في تقدير عالم المشاعر والعواطف “غير الموضوعية” باعتباره سابقا على العالم المادي. وبالتالي فإن فلسفته “التفوقية” كانت محاطة بغطاء من التصوف.
كانت إحدى أشهر أعمال ماليفيتش، حيث أخذ التجريد إلى أقصى أشكاله، هي لوحته التي رسم فيها مربعا أسودا (لتصوير “الشعور الخالص”) على خلفية بيضاء، والتي أنجزها في عام 1915. ومن هذا انتقل إلى ترتيبات أكثر تعقيدا للأشكال الهندسية، مثل لوحة “التكوين الفائق (المستطيل الأزرق فوق الشعاع الأحمر)”، التي رسمها في عام 1916.
لقد فتحت لوحة المربع الأسود لماليفيتش -وغيرها من الأعمال الأخرى- الباب أمام ثورة حقيقية في الفن، والتي استندت إلى التجريد كوسيلة لاستحضار المشاعر. وقد نشأت من ذلك الاتجاه بعض أفضل فنون تلك الفترة.
بعد عام 1917، تبنى ماليفيتش الثورة بشكل كامل، وأصبح عضوا في كلية فنون ناركومبروس (مفوضية الشعب للتعليم). وعلى الرغم من عدائه الفلسفي للماركسية، فقد تم تشجيعه على تولي أدوار التدريس في عدد من مدارس الفنون المرموقة، وأتيحت له فرص واسعة لعرض أعماله. وهذا دليل على ثقافة حرية التعبير الفني التي ميزت السنوات الأولى من حكم البلاشفة، قبل أن يختنق ذلك بسبب صعود البيروقراطية الستالينية.

في أكتوبر 1919، تمكن إل ليسيتزكي من إقناع ماليفيتش بالانضمام إليه للتدريس في مدرسة الفنون الشعبية في فيتيبسك، ببيلاروسيا. وبالإضافة إلى تدريس التصميم الغرافيكي والطباعة والهندسة المعمارية، أمضى إل ليسيتزكي الصيف، في فيتيبسك، في تصميم وإصدار ملصقات دعائية.
كانت فيتيبسك، هي المكان الذي كسب فيه ماليفيتش إل ليسيتزكي إلى أسلوبه التفوقي. أنتج إل ليسيتزكي “اهزموا البيض بالإسفين الأحمر”، بعد فترة وجيزة على لقائهما هناك (إما أواخر عام 1919 أو أوائل عام 1920).
لكن وعلى الرغم من مساهماته الهائلة في فن تلك الفترة، فقد وصف إل ليسيتزكي ماليفيتش بأنه “محاصر في عالم خال من الأشياء الحقيقية”[5]. لذلك طرحت على كاهل إل ليسيتزكي مهمة القيام بتطبيق أكثر عملية لأفكار ماليفيتش التفوقية في الاسفين الأحمر وأعمال أخرى.
كان الاسفين الأحمر ملصقا تم إنتاجه بكميات كبيرة، على عكس اللوحات أو المنحوتات. انتقل إلى عالم الطباعة والتصميم الغرافيكي والملصقات. وعلى عكس محاولات ماليفيتش ليرسم “الشعور الخالص” (وهو شيء لا يمكن أن يوجد)، فقد سعى إل ليسيتزكي، بشكل واع، إلى الاستفادة من شعور محدد للغاية والمساعدة في تطويره: أي شعور التفاؤل الثوري والتصميم عند الطبقة العاملة والفقراء في نضالهم لتغيير العالم.
أجيت بروب (Agit-prop)
لم يكن من قبيل المصادفة أن قرر إل ليسيتزكي إنتاج الاسفين الأحمر كملصق، وليس رسمه على قماش أو منحوتة تقليدية. ووفقا لإل ليسيتزكي، فقد خضع التصميم الطباعي لتغيير جذري في أعقاب الثورة الروسية. كتب قائلا:
“لقد أصبحت الجماهير الغفيرة، والجماهير شبه الأمية، هي الجمهور… تم تمزيق الكتاب التقليدي إلى صفحات منفصلة، وتكبيره مائة ضعف، وتلوينه، وإحضاره إلى الشارع كملصق”[6].
كان هناك انتشار هائل لفن الشوارع خلال السنوات التي أعقبت ثورة أكتوبر، حيث لعبت الملصقات دورا كبيرا. ووفقا لميخائيل جيرمان فإن:
“الملصق حفز الفكر، وعبر عن السخط، وتفجر بالحماس، وأثار الضحك، واستجاب بشكل فوري للأحداث، ونقل الأخبار دون تأخير. كانت الملصقات تُرسم ليلا، لتُلصق في الشوارع في الصباح. وعلى الرغم من أن الأوراق كانت مصممة مع معرفة أن حياتها ليست سوى يوم واحد، فإنها استمرت في تاريخ الفن على مر السنين. لقد استمرت ليس فقط لكونها شاهدة على الأحداث العظيمة، بل وأيضا بسبب إتقانها الكبير والصارم”[7].
كانت هذه هي روح فن “agit-prop” الذي أنتجه إل ليسيتزكي وغيره من الفنانين الطليعيين في تلك الفترة.
خلال السنوات التي أعقبت إبداعه لعمله “الإسفين الأحمر”، قام إل ليسيتزكي وماليفيتش معا بتأسيس منظمة “يونوفيس” (UNOVIS) (ممثلو الفن الجديد)؛ وهي مجموعة من الفنانين التفوقيين. وبدلا من إنتاج أعمال فنية لعرضها في المعارض أو المنازل الخاصة، قاما بتزيين جدران وقاعات المباني العامة بتصاميم وملصقات ولافتات تفوقية. وكان هدفهما هو نشر التفوقية كلغة بصرية للثورة العالمية.
هل يمكن للدعاية أن تكون فنا عظيما؟
اللافت للنظر أيضا في ملصق “الإسفين الأحمر”، هو أنه تم إنتاجه كملصق دعائي، ومع ذلك فإن هذه الحقيقة لا تقلل من جودته الفنية.
إن أعظم الفنون هي تلك التي تتعامل مع الأسئلة الكبرى، أسئلة الحياة والموت، والتي تحرك حياة الملايين. إنه الفن الذي لديه ما يقوله عن العالم الذي نعيش فيه، والذي يحرك المشاعر، ويستنهض الناس إلى الفعل.
وبالتالي فإن الكثير من أعظم الفنون هي فنون سياسية، لأنها تتعامل مع ظروف الحياة، والنضالات، وتطلعات المضطهدين. ولكن السياسة وحدها لا تجعل الفن عظيما. فبينما من المؤكد أن الفنانين قادرون على نقل رسالة سياسية من خلال فنهم، فإن الرسالة لابد وأن تنبثق من الفن بشكل عضوي، وليس كشيء قسري متعسف.
وبشكل عام، فإنه نادرا ما ترقى أعمال الدعاية إلى مستوى الفن العظيم، هذا إذا ما اعتبرت “فنا” أصلا. وذلك لأن الدعاية تهتم في المقام الأول بنقل رسالة خارجية تماما عن الشكل الفني المستخدم. والعنصر الفني يأتي في المرتبة الثانية؛ فهو مجرد وسيلة لإيصال رسالة سياسية.

لكن وفي حين أن ملصق “الإسفين الأحمر” لإل ليسيتزكي هو بلا شك عمل دعائي، فإن نواياه الفنية والسياسية تتوافق بشكل متناغم. إن الدعاية الموجودة في العمل ليست ديماغوجية سطحية؛ بل هي جوهر الثورة الروسية وكل ما سعت إلى تحقيقه.
إن “الإسفين الأحمر” هو تعبير واضح عن النضال الثوري لتغيير المجتمع بفن مثله مثل أي عمل لأي فنان آخر. وهو يتمتع بطابع عالمي، حيث يمكن فهمه في أي مجتمع طبقي، حيث تناضل الطبقة الثورية من أجل مستقبلها، ومن أجل مستقبل البشرية ككل.
وعلى هذا النحو، فإن هذا العمل الفني يرتبط بشكل مباشر بتطلعات المستغَلين والمضطهَدين في كل مكان للإطاحة بمضطهِديهم، والبدء في تغيير المجتمع. إنه يستند إلى الشعور المتقد بالغضب الذي يشعر به الملايين إزاء ظروف حياتهم، والكراهية التي يشعرون بها تجاه حكامهم. ويُظهِر أنه إذا نظمنا أنفسنا واتحدنا معا، سيمكننا أن نقاوم وننتصر. إنه مصدر إلهام حقيقي.
وفي المقابل فإن الصورة تبث الخوف في قلوب الطبقة السائدة، التي تشعر بالرعب من حركة جماهيرية تكتسحهم وتسقطهم من السلطة.
وبالتالي فإنه لا يمكن لـ“الإسفين الأحمر” إلا أن يساعد في استنهاض مشاعر الناس، أينما كانوا. وهذا ما يجعله عملا فنيا عظيما حقا.
حافز للفعل
لم يعتبر إل ليسيتزكي العناصر الدعائية في “الإسفين الأحمر” على أنها تسوية مفروضة من الخارج. وإذا كان هناك أي شك آخر حول معتقدات إل ليسيتزكي الحقيقية، فما علينا إلا أن ننظر إلى ما صرح به هو نفسه في سيرته الذاتية، حيث يقول:
“كل عمل قمت به كان بمثابة دعوة ليس لإلقاء نظرة عليه، بل لاعتباره حافزا للفعل، ولحث مشاعرنا على اتباع الخط العام المتمثل في بناء مجتمع بلا طبقات”[8].
وبينما قد يتردد بعض البرجوازيين الصغار، الذين لا يرون إلا أنفسهم ومصالحهم الضيقة، في قبول فكرة الإبداع الفني لأغراض سياسية، فمن الواضح أنه لم يكن هناك تناقض عند إل ليسيتزكي، حيث كرس فنه بلا كلل للثورة ولبناء مجتمع جديد.
وحتى يومنا هذا، ما يزال ملايين الناس في جميع أنحاء العالم يستمدون الإلهام من لوحة “الإسفين الأحمر”. فهي تظل بمثابة تذكير مذهل بأنه من الممكن بالفعل أن يستولي المضطهَدون والمستغَلون على السلطة بأيديهم، وأن يهزموا قوى الرجعية. وهي تمثل، في عالم المعاناة التي لا تطاق والفوضى، رمزا لإمكانية بناء عالم جديد.
عنوان النص باللغة الإنجليزية:
‘Beat the Whites With the Red Wedge’: the essence of world revolution
[1] S Lissitzky-Kuppers (ed.), El Lissitzky: Life, Letters, Texts, Thames and Hudson, 1992, pg 329
[2] Trotsky, Literature and Revolution (1924) page 145
[3] IBID, page 96
[4] K Malevich, ‘Suprematism’, The Non-Objective World, Paul Theobald and co., 1959, pg 67
[5] El Lissitzky, Russia: An Architecture for World Revolution, (1930) M.I.T. Press, page 29
[6] Maria Elena Versari, Avant-garde Iconographies of Combat: From the “Futurist Synthesis of War” to “Beat the Whites with the Red Wedge” (2015)
[7] Mikhail Guerman, Art of the October Revolution (1979) page 76
[8] S Lissitzky-Kuppers (ed.), El Lissitzky: Life, Letters, Texts, Thames and Hudson, 1992, pg 326