أجل، لقد قرأت العنوان بشكل صحيح. عجوز غاضب في واشنطن ورئيس مختل نفسيا في كييف منشغلان بالتآمر لوضع خطة قد تدفع العالم نحو الهاوية.
إذا بدا لك هذا وكأنه سيناريو سيء لفيلم من الدرجة الثانية، فأنت محق مرة أخرى. لكن هذا يثبت القول القديم بأن الواقع يمكن أن يقلد الخيال، حتى أكثر أنواع الخيال غرابة. وما يحدث الآن على المسرح الدبلوماسي العالمي بالتأكيد غريب للغاية.
صحيح أن الشخصيات الرئيسية في هذه القصة المرعبة لا تُدعى “مينغ عديم الرحمة” أو “دراكولا أمير الظلام”، ولكن فقط جوزيف روبينيت بايدن (رغم أن اسم روبينيت يبدو غريبا كاسم لبشر)، وفولوديمير أولكساندروفيتش زيلينسكي، الذي يبدو أكثر كأنه اسم لكونت مريع يخطط للسيطرة على العالم من قلعة مخيفة في جبال ترانسيلفانيا.
ومع ذلك، في هذه المرحلة، تبدأ أوجه التشابه الواعدة بين الواقع الممل وعالم أفلام الرعب القديمة المحبوبة من إنتاج “هامر” في التلاشي. فبدلا من شخصيتين مرعبتين خارقتين للعادة، نجد أنفسنا أمام رجلين عاديين، صغيري الحجم، غير مثيرين للاهتمام على الإطلاق (وأقل ذكاء إلى حد بعيد).
فيما يتعلق بالحجم الجسدي، فإن الممثل الكوميدي السابق، الذي يشغل منصب رئيس أوكرانيا منذ عام 2019، لا يتجاوز طوله 5 أقدام و5 و3/4 بوصة (167 سم). ومع ذلك، فإن الطريقة اللافتة التي يتجول بها في أروقة السلطة في واشنطن وبرلين ولندن، مطالبا بلهجة تهديدية بمبالغ ضخمة من المال، تجعله يبدو أطول مما هو عليه في الواقع.
لإجراء مقارنة قد يعتبرها البعض ذات صلة، يُقال غالبا إن زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون يبلغ طوله 5 أقدام و7 بوصات، على الرغم من أن مصدر هذه المعلومات غير واضح. وعلى أي حال، فإن ما يفتقر إليه من حيث الطول، يعوضه بامتلاكه أسلحة نووية، والتي تميل في مجال العلاقات الدولية إلى تحويل الأقزام إلى عمالقة، والعكس صحيح.
لكنني ابتعدت كثيرا عن قصتي المركزية، وسأعود إليها فورا. عندما أقول عنهما إنهما ضئيلان، فإني لا أقصد فقط من حيث القامة، بل أيضا من حيث الصفات الفكرية والأخلاقية.
كلا الرجلين يفتقران إلى أي ذرة للنظرة البعيدة المدى، أو أي شيء يشبه ولو من بعيد نظرة فلسفية متماسكة عن العالم، وهو ما يميز الزعماء السياسيين في العصر الحديث (أو بالأحرى عصر ما بعد الحداثة). وبدلا من ذلك، فإن أفعالهما تمليها بالكامل اعتبارات عملية فورية، كما تمليها، في نهاية المطاف، المصلحة الذاتية الفجة والبقاء السياسي (وفي حالة زيلينسكي، البقاء الجسدي أيضا)، والذي يجب التضحية بكل الأشياء الأخرى من أجله.
أضيف سريعا أننا لا نلمح بالضرورة إلى التهديد الذي يشكله عدوه الشخصي، فلاديمير بوتين. فرغم أنه لا يوجد حب سابق بين الرجلين، فإنه لا يوجد أيضا أي دليل على أن الروس قد حاولوا اغتيال الرجل في كييف، بالرغم من أنه قد سنحت لهم العديد من الفرص للقيام بذلك.
عموما، لقد أصبح التخلص من الأعداء عن طريق التصفية والاغتيال -والذي كان يُعتبر سابقا ممارسة شنيعة لا تستخدمها سوى الدول الأكثر همجية- أمرا شائعا إلى حد ما الآن، إذ تمارس بشكل منتظم من قبل بنيامين نتنياهو، إلى جانب جرائم حرب أخرى لا تعد ولا تحصى. ومع ذلك، ويا للغرابة، لم يتعرض الزعيم الإسرائيلي لأي عواقب غير سارة جراء أفعاله. بل على العكس تماما، في الواقع.
إذا لم يقم الروس بتصفية زيلينسكي من الساحة باستخدام مثل تلك الأساليب (حتى الآن على الأقل)، فليس ذلك لأسباب أخلاقية، بل ببساطة لأنهم لا يرون أي فائدة من ذلك. إذا قمت بتصفية زعيم بلد عدو، فذلك سيؤدي فقط إلى استبداله بشخص آخر قد لا يكون أفضل بالنسبة لك من السابق.
يحب الإسرائيليون التفاخر بعدد الأعداء الذين أرسلوهم إلى العالم الآخر. لكنهم ينسون أن هذه الأفعال لم تساهم في تدمير -أو حتى في إضعاف- حماس أو حزب الله بشكل جدي. لذلك فإن تبجحهم هذا يبقى ذا طابع فارغ تماما.
التهديد الذي يواجه زيلينسكي حقيقي جدا. لكنه يأتي من مكان أقرب بكثير من الكرملين. فعلى الرغم من أنه نظريا رئيس أوكرانيا، فإنه محاط بأعداء أخطر بكثير. فالعناصر النازية والفاشية (التي يشار إليها بلطف في الإعلام الغربي بعبارة “القوميين المتطرفين”) تراقب كل تحركاته كالصقور الجائعة.
هذه العناصر رسخت مواقعها في الدولة، وخصوصًا في القوات المسلحة. إنها تمثل قوات الصدمة الأكثر تطرفا وفعالية في الخطوط الأمامية، لكن هذه الخطوط الأمامية تنهار بسرعة. التقدم الروسي، الذي كان بطيئا وتدريجيا في السابق، أصبح الآن سريعا للغاية، و”المتطرفون” غير سعداء بذلك.
إن القصة الكاملة للحرب الأوكرانية على مدى العام الماضي كانت سلسلة من الكوارث بالنسبة لنظام كييف. فالتقدم الروسي الآن أصبح لا مناص منه، وانهيار الدفاعات الأوكرانية ليست سوى مسألة وقت فقط.
هزيمة مذلة للولايات المتحدة وحلف الناتو يجري التحضير لها. وفي ظل هذه الظروف، تتزايد وتيرة الحديث عن مفاوضات مع روسيا وتصبح أكثر إلحاحا. وهذا أمر طبيعي تماما؛ فعندما تتعرض جيوشك للهزيمة على جميع الجبهات، ويبدأ تناقص الجنود ونفاذ الأسلحة والذخيرة، يصبح الخيار المنطقي هو فتح باب المفاوضات مع الطرف الآخر.
لكن ما هو طبيعي ومنطقي ليس دائما المسار الذي يتم اتباعه للأسف. بحلول نهاية عام 1944، كان من الواضح تماما أن ألمانيا قد خسرت الحرب. فقد تحطمت جيوش هتلر على يد الروس، أولا في ستالينغراد، ثم في معركة كورسك. وكان الجيش الأحمر يتجه مباشرة نحو برلين في واحدة من أسرع الهجمات في تاريخ الحروب.
العديد من جنرالات هتلر كانوا يفضلون الدخول في مفاوضات مع البريطانيين والأمريكيين لمنع تحقيق نصر سوفياتي كامل. لكن هتلر، المعزول عن العالم في مخبئه الخرساني تحت الأرض، كان أصما تجاه كل الاقتراحات الداعية للسلام.
حينها كان هتلر معزولا عن الواقع تماما، يرفض الاستماع إلى أي تقارير عن الهزائم. وبدلا من ذلك، كان يعظ جنرالاته عن حتمية انتصار ألمانيا، حتى عندما كان دوي المدفعية السوفياتية يُسمع في وسط برلين.
كان هتلر ينقل باستمرار فرقا غير موجودة إلى خطوط مواجهة كانت قد انهارت بالفعل. ولم يستنتج النتيجة الحتمية إلا عندما أصبح الروس على بعد أمتار قليلة من مخبئه، وحينها أقدم على الانتحار. وكانت النتيجة الحتمية أن سقط الجزء الشرقي بالكامل من ألمانيا، بما في ذلك برلين، في أيدي الجيش الأحمر المنتصر.
على الرغم من وجود اختلافات واضحة بين تلك الحالة والوضع الحالي في أوكرانيا، إلا أن هناك أيضا أوجه تشابه قوية. على وجه الخصوص، يُظهر زيلينسكي الآن نفس الأعراض النفسية التي أظهرها هتلر في الأيام الأخيرة من الرايخ الألماني.
تقلبات مزاجه أصبحت أكثر اضطرابا بشكل متزايد. والأوامر التي يصدرها غريبة للغاية لدرجة أنها لا تمت بصلة إلى الواقع بأي شكل. وهذا ليس مفاجئا، لأنه أغلق عينيه وأذنيه منذ وقت طويل عن أي حديث يتعلق بالواقع.
قبل بضعة أشهر، أفادت وسائل الإعلام الغربية أن الزعيم الأوكراني أصيب بحالة من الهستيريا وكان يصرخ فعليا في وجه جنرالاته، متهما إياهم بالكذب عليه. في الواقع، من المرجح أنهم كانوا يحاولون، بطريقة ما، قول الحقيقة بشأن الوضع الكارثي على الجبهة. لكن زيلينسكي يرفض الاستماع إلى الأخبار السيئة؛ فهو لا يريد سماع سوى الأخبار الجيدة. وإذا لم تكن هناك أخبار جيدة، فيجب اختراعها.
في النهاية، وبعد أن أدرك الجنرالات عبثية محاولاتهم في إخباره الحقيقة، أصبحوا يخبرونه بما يريد سماعه: أن الأوكرانيين ينتصرون وأن الروس يخسرون. وتمتلئ وسائل الإعلام الأوكرانية بقصص سخيفة عن هجمات خيالية تنفذها قواتهم المسلحة البطولية، في الوقت الذي يتراجعون فيه بشكل فوضوي على جميع الجبهات.
تتسارع وتيرة انهيار الروح المعنوية في صفوف الجنود بشكل كبير. حتى الصحافة الأوكرانية الموالية نقلت تقارير عن جنود يرفضون القتال، وارتفاع متزايد في حالات الهروب من الخدمة، إضافة إلى تزايد الحالات التي يلقي فيها الجنود أسلحتهم ويستسلمون للروس.
قبل بضعة أسابيع، تم نشر تقرير في الصحافة عن ضابط أوكراني رفض إصدار أمر لجنوده بشن هجوم مجنون، واصفا إياه بأنه مهمة انتحارية. تم فصل الضابط على الفور، وهو ما قابله الجنود باحتجاجات مطالبين بإعادته إلى الخدمة.
كانت قضية كورسك مغامرة غبية وعديمة الجدوى، محاولة يائسة من جانب زيلينسكي لكي يظهر للعالم أن أوكرانيا ما زالت قادرة على شن هجوم ناجح ضد روسيا داخل أراضيها. وقد انتهت، كما كان متوقعا، بهزيمة مهينة بعد خسارة عدد هائل من الأرواح والمعدات العسكرية الثمينة.
في الوقت نفسه، يتم اجتياح الجبهة المركزية في الحرب -التي تبقى هي دونباس- بسرعة على يد القوات الروسية المتفوقة. ومع ذلك، يواصل زيلينسكي سياسة مجنونة تتمثل في إرسال المزيد والمزيد من الرجال إلى حتفهم في كورسك -بدافع من هدفه الشخصي في تعزيز مكانته- بينما يقوم بشكل منهجي بتقليص جبهة دونباس من القوات والأسلحة والذخائر الضرورية.
تم إخفاء الحجم المروع لخسائر أوكرانيا عمدا. لكن هذه الخسائر وصلت إلى مستوى لا يمكن تحمله، في حين أن روسيا تتمتع بتفوق ساحق في كل من الأعداد والمعدات العسكرية، وتعمل باستمرار على تجديد قواتها عبر تجنيد عناصر جديدة.
وفي المقابل، فشلت خطة تعبئة زيلينسكي في تحقيق الأرقام التي كان من المتوقع الوصول إليها، مما اضطر السلطات إلى استخدام أساليب قاسية لجمع المجندين غير الراغبين من أمام الحانات والنوادي الليلية، ليتم إرسالهم فورا إلى الجبهة ليتم ذبحهم.
يأس زيلينسكي
قد تتساءل لماذا يرفض زيلينسكي حتى الآن التفاوض مع الروس. في الواقع، لقد مرر، منذ فترة، قانونا يعد بلا شك سابقة في تاريخ القوانين، حيث يحظر على أوكرانيا التفاوض مع موسكو طالما أن بوتين في السلطة.
الحقيقة هي أنه أصبح الآن رجلا يائسا. هو يعرف جيدا أنه إذا اتخذ أي خطوة قد تُفسر على أنها محاولة للحصول على سلام على حساب التضحية ولو بجزء صغير من الأراضي الأوكرانية، فإن ذلك سيثير رد فعل عنيف من جانب العناصر النازية في الجيش وأجهزة الدولة.
من المؤكد تقريبا أن حكومته ستسقط، وحتى حياته ستكون في خطر. إنها بلا شك وضعية غير مريحة. ولزيادة الأمور سوءا، لدينا انتخاب دونالد ترامب.
يدرك زيلينسكي أن انتخاب ترامب يمثل تغييرا جذريا في الوضع.
والرجال اليائسون يفعلون أشياء يائسة.
لقد بدأ، أخيرا، وعلى مضض، في التكيف مع حقيقة أن الحرب قد ضاعت، وأن ذلك لا رجعة فيه. ولا يوجد أي شيء يمكن للغرب أن يفعله لمنع النصر الروسي. لا شيء، باستثناء ربما مواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا.
أي، إذا أردنا أن نسمي الأشياء بمسمياتها: حربا عالمية ثالثة.
لهذا السبب يطالب زيلينسكي بأن يُمنح حرية تامة في إطلاق صواريخ بعيدة المدى ضد أهداف عميقة داخل أراضي الاتحاد الروسي. رد بوتين على الفور وبكل وضوح أن هذا سيعتبر عملا حربيا من جانب الولايات المتحدة، حيث إن الصواريخ الأمريكية اللازمة لمثل هذه العملية لا يمكن تشغيلها إلا بمشاركة مباشرة من القوات العسكرية الأمريكية.
وهذا يعني أن روسيا وأمريكا ستجدان نفسيهما في حالة حرب. وذلك لا يعني بالضرورة اندلاع حرب مباشرة بالأسلحة النارية والطائرات الحربية والصواريخ التي تحلق في جميع الاتجاهات. هناك العديد من الطرق الأخرى التي يمكن أن تظهر بها الأعمال العدائية.
يجب الإشارة إلى أن روسيا ليست مجرد بلد يمتلك جيشا كبيرا مدربا ومجهزا جيدا أثبت كفاءته في ساحة المعركة الأوكرانية. في الواقع، الجيش الروسي يتفوق على جميع جيوش حلف الناتو في أوروبا مجتمعة.
وعلاوة على ذلك، تُعتبر روسيا الدولة النووية الأقوى في العالم، حيث تمتلك ترسانة هائلة من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، قادرة على ضرب أي هدف في أي مكان على وجه الأرض.
قد يظن المرء أن هذه الحقيقة كانت كافية لفتح نقاش جاد في الأوساط العامة حول حكمة إطالة أمد معركة واضحة الخسارة في أوكرانيا، والمخاطرة بإمكانية اندلاع مواجهة بين القوتين النوويتين الرئيسيتين في العالم.
ومع ذلك، وبشكل مثير للدهشة، لم يحدث أي نقاش من هذا القبيل على الإطلاق. وبدلا من ذلك، تتم تغذية الرأي العام على جانبي المحيط الأطلسي بسيل من الأكاذيب والمعلومات المضللة، مما يجعلهم غير قادرين على فهم حقيقة ما يجري فعلاً
أزمة مشروع أوكرانيا
في كل حرب، دائما ما يكون هناك توازن من الدعاية مصمم لخداع الجمهور وصرف الانتباه عن حقائق الوضع الخطير والمهدد. وهذا ينطبق على الحرب في أوكرانيا أكثر من أي حرب أخرى أتذكرها.
حتى وقت قريب، كان يتم تقديم سيل مستمر من الدعاية المطمئنة للجمهور، مما خلق انطباعا بأن انتصار أوكرانيا على روسيا كان شبه مضمون.
لكن الآن تغيرت النغمة تماما. الجميع -أو تقريبًا الجميع- باتوا يدركون أن أوكرانيا خسرت الحرب، وأن ما أصبح مضمونا الآن هو انتصار روسيا.
هناك إدراك متزايد، حتى بين الدوائر الحاكمة في أمريكا -وبشكل متزايد أيضا في بعض الحكومات الأوروبية- بأن الحرب في أوكرانيا قد خسرت بشكل لا رجعة فيه.
انتصار ترامب وضع البرجوازية الأوروبية في مأزق. إذ لم يُخفِ ترامب رغبته في إنهاء الحرب في أوكرانيا، أو على الأقل إنهاء تورط أمريكا فيها. ومن غير المرجح أن تؤدي توسلات زيلينسكي إلى تغيير رأيه.
بمجرد أن تنسحب أمريكا -أو تقلل بشكل كبير من مساعداتها المالية والعسكرية- ستجد حكومة كييف نفسها في موقف مستحيل. وينطبق الأمر نفسه على كل الحكومات الأوروبية التي تدعم ما يسمى “مشروع أوكرانيا”.
مؤخرا، اجتمع القادة الأوروبيون في العاصمة الهنغارية بودابست لمناقشة القضية الأوكرانية في ضوء الانتصار الانتخابي لدونالد ترامب. كانوا يتحركون مثل قطيع من الديوك الرومية أمام محل جزار عشية عيد الميلاد، ويشتكون بصوت عالٍ من مصيرهم.
على الرغم من كل وعودهم، لا توجد أي وسيلة تمكن الأوروبيين من سد الفجوة الكبيرة التي سيتركها الانسحاب الأمريكي. الرأي العام على جانبي الأطلسي بات يزداد نفاذ صبره تجاه هذه القضية برمتها.
وقد ظهر هذا بوضوح شديد في نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في السادس من نوفمبر. ومع ذلك، استمرت المعارضة لسياسة ترامب واتخذت منحى ينذر بالخطر في الأيام القليلة الماضية.
انعطافة بايدن المفاجئة
فجأة، أعلن الرجل الذي ما يزال متمسكا بعناد بمقعده في البيت الأبيض عن قراره بتغيير موقف أمريكا المعلن، والذي كان يعارض منح الأوكرانيين إذنا باستخدام صواريخ أمريكية بعيدة المدى لتنفيذ ضربات عميقة داخل الأراضي الروسية.
هذا الإعلان كان بمثابة صدمة كبيرة. فقبل أيام فقط، أمضى الرئيس المنتخب دونالد ترامب ساعة ونصف في ما وصف بأنه محادثة “ودية” مع جو بايدن في البيت الأبيض. تناولت المحادثة موضوعات عديدة، لكن يبدو أن قضية أوكرانيا لم تحظ منهما سوى بخمس دقائق من هذا النقاش.
خلال هذا الوقت، لم يشر بايدن إلى خططه لتغيير موقف أمريكا والسماح لزيلينسكي باستخدام الصواريخ الأمريكية بعيدة المدى لضرب أهداف عميقة داخل الأراضي الروسية.
هذا التصرف كان غير مسبوق تماما.الفترة الانتقالية بين الانتخابات الرئاسية وتولي الرئيس الجديد للمنصب عادة ما تكون فترة هادئة يُسهم خلالها الرئيس المنتهية ولايته في تيسير الأمور لخلفه.
لكن وبدلا من ذلك، ألقى بايدن فعليا “قنبلة يدوية” في طريق دونالد ترامب، الذي يبدو أنه قد تم استبعاده عن عمد من هذه القضية، في انتهاك صارخ لجميع البروتوكولات المعمول بها.
التفسير الرسمي للتغيير المفاجئ في السياسة كان أن هذه الصواريخ الأطول مدى ضرورية للرد على القرار المزعوم لكوريا الشمالية بإرسال قوات لدعم القوات الروسية في كورسك. ولكن حتى الآن، لم يتم تقديم أي دليل حقيقي يثبت هذه الادعاءات.
من الواضح أن قصة القوات الكورية الشمالية جاءت من مصادر أوكرانية، وهي جزء من حملة ممنهجة من التضليل الإعلامي، تم تصميمها خصيصا للضغط على الولايات المتحدة لتلبية مطالب زيلينسكي.
بعبارة أخرى، هذا الخبر المزيف ليس سوى واحد من العديد من الأكاذيب التي تم بثها باستمرار منذ بداية الحرب وترديدها دون نقد في وسائل الإعلام الغربية.
الحقيقة أن التحول الدراماتيكي في موقف بايدن لم يكن موجها ضد جيش كوري شمالي وهمي في كورسك، ولم يكن هدفه الأساسي حتى روسيا. بل كان موجها ضد عدوه الرئيسي والأكثر كرها: دونالد ج. ترامب.
جو بايدن رجل عجوز غاضب ومليء بالمرارة، يشعر بالحنق الشديد لأنه تم استبعاده كمرشح من قبل حزبه، الذي تعرض بعد ذلك لهزيمة ساحقة على يد دونالد ترامب. إنه غارق في غضب داخلي، ويتعطش للانتقام من الإذلال الذي تعرض له.
قد تعتقد أن عوامل مثل الغضب الجامح والرغبة العارمة في الانتقام -رغم كونها سمات معروفة في السلوك البشري- لا ينبغي أن يكون لها مكان عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرارات سياسية مهمة على أعلى مستوى في حكومة أقوى أمة على وجه الأرض.
هذا الافتراض يستند إلى أننا نتعامل مع رجال ونساء يتمتعون بمكانة سياسية معينة، ومعايير أخلاقية رفيعة، وفطنة في اتخاذ القرار. وبالتأكيد، يُفترض أن يكون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من هذا النوع، أليس كذلك؟ إلا أن مثل هذا الافتراض لا يكون دائما صحيحا.
لقد ذكرنا سابقا أن جو بايدن رجل محدود الامكانيات، وهو ما يتضح تماما من تصرفاته في هذه القضية المخزية. هذا السلوك لا يليق بمن يشغل أرفع منصب في الولايات المتحدة الأمريكية، بل إنه بالكاد يليق بسياسي من الدرجة العاشرة في مدينة صغيرة بوسط الغرب الأمريكي.
مقارنة أكثر دقة يمكن أن تكون مع نوبات الغضب التي تصيب طفلا مدللا حُرم من لعبته المفضلة، فيبدأ في تخريب غرفته بشكل مقصود انتقاما. لكن هنا، ما فعله بايدن لا يقتصر على تخريب غرفة، بل وضع كامل سكان الولايات المتحدة -وربما العالم بأسره- في خطر مميت.
هو يدرك تماما -كما يدرك ذلك جميع أعضاء إدارته المؤيدين للحرب من عصر الحرب الباردة- أن هذا التصرف يتجاوز خطا أحمر رسمه فلاديمير بوتين بوضوح منذ عدة أشهر.
أما التهديد بإطلاق صواريخ كروز على موسكو ومدن روسية أخرى، فإنه يأخذ طابعا أكثر خطورة في ضوء التهديدات الأخيرة التي أطلقها زيلينسكي. فقد أشار إلى أنه إذا قامت الولايات المتحدة بقطع المساعدات عن أوكرانيا، فإن نظام كييف سيتجه فورا إلى تطوير أسلحته النووية الخاصة.
لم يتم الكشف عن هذا التطور المقلق من قبل البيت الأبيض. بل تم ذكره لأول مرة في مقال بصحيفة نيويورك تايمز. وحتى أثناء كتابة هذه السطور، لم يصدر بايدن نفسه أي بيان بشأنه، على الرغم من أن هناك تقارير تفيد بأن مسؤولين رفيعي المستوى في إدارته قد أكدوا بالفعل هذه المعلومات.
لا حاجة للقول بأن هذا الأمر قوبل بوابل من الانتقادات داخل الولايات المتحدة. لم يعلق ترامب شخصيا على ذلك حتى الآن، وربما لن يفعل. لكن ابنه الأكبر، دونالد ترامب جونيور، أدان هذه الخطوة، وكذلك إيلون ماسك وغيرهما من أنصار ترامب البارزين الذين يبدو أنهم على دراية جيدة بتوجهاته وآرائه.
ليس من الصعب تخيل أن ترامب استقبل هذا الإعلان بغضب مفهوم. حقيقة أن بايدن تحدث معه لمدة ساعة ونصف دون أن يذكر شيئا عن قرار يبدو أنه اتخذه مسبقا بفترة طويلة، لا يمكن تفسيرها إلا على أنها إهانة مدروسة واستفزاز صارخ.
دعونا لا ننسى أن ترامب حقق فوزا انتخابيا ساحقا بعد حملة تعهد فيها بإنهاء تورط الولايات المتحدة في الحروب واستخدام أموال دافعي الضرائب لتحسين حياة الأمريكيين. وقد صرح بأنه سيضع حدا للحرب بين روسيا وأوكرانيا في غضون 24 ساعة.
حتى الآن، كما أشرنا، لم يدل ترامب بأي تعليقات حول التطورات الأخيرة. ربما يكون هذا هو التصرف الصحيح، نظرا لأن أعداءه السياسيين في وسائل الإعلام يتحينون الفرصة، كالصقور، للانقضاض على أي خطأ قد يرتكبه.
إذا خرج علنا ضد قرار بايدن، فسيتم اتهامه فورا بعدم الولاء للولايات المتحدة، ودعم بوتين، وخيانة أوكرانيا، وما إلى ذلك. من الأفضل إذن أن يترك الآخرين يتحدثون نيابةً عنه، وينتظر لبضع الأسابيع. ثم، بمجرد أن يستلم منصبه في البيت الأبيض بأمان، يمكنه بسهولة إصدار أوامر لمسؤوليه بتجاهل القرارات غير المسؤولة التي اتخذها سلفه.
من خلال تصرفه كما فعل، أظهر بايدن ازدراء كاملا، ليس فقط تجاه الرئيس المنتخب، بل تجاه الشعب الأمريكي بأسره، الذي كان حكمه على الديمقراطيين -بمن فيهم “جو الإبادة”- واضحا إلى أقصى حد. ومع ذلك، لهذا الرجل الجرأة الفاضحة ليتهم ترامب بتقويض الديمقراطية الأمريكية!
ماذا الآن؟
لم يضيع زيلينسكي وقتا في الاستفادة الكاملة من الضوء الأخضر الذي منحه له الرجل العجوز الغاضب في البيت الأبيض. ففي غضون ساعات، تم تنفيذ هجوم على أهداف داخل روسيا باستخدام ستة صواريخ من طراز ATACMS.
وتدعي روسيا أنها أسقطت خمسة من الصواريخ الستة وألحقت الضرر بالآخر. ولم يتم الإبلاغ عن أي خسائر في الأرواح.
في الواقع، كانت تلك الصواريخ في حيازة الأوكرانيين لأكثر من اثني عشر شهرا. وكان الهدف منها استخدامها ضد القرم، وتحديدا لتدمير الجسر الذي يربط القرم بالبر الروسي.
وقد بنيت آمال كبيرة على تلك الأسلحة الجديدة -تماما كما بنيت آمال كبيرة عن جميع الأسلحة الأخرى التي تمت تسميتها بـ “أسلحة المعجزات” والتي كانت ستغير مجريات اللعبة. ولكنها جميعا ثبت أنها مخيبة للآمال.
حتى يومنا هذا، ما يزال جسر القرم قائما. فقد طور الروس التقنيات اللازمة لمكافحة صواريخ ATACMS، وتمكنوا من إسقاط العديد منها وتدمير القواعد التي أُطلقت منها.
ويبدو أن الأوكرانيين قد تخلوا الآن عن القرم. بدلا من ذلك، يركزون على منطقة كورسك، حيث، بالمناسبة، تكبدوا خسائر فادحة وتم دفعهم إلى الدفاع.
الآن، يُأمل أن يكون استخدام صواريخ ATACMS هو “مغير قواعد اللعبة” في كورسك. ليس من قبيل الصدفة أن الهجوم الأخير كان موجها ضد مستودع كبير في مدينة كاراتشيف، بمنطقة بريانسك، التي تبعد فقط 210 كيلومترات عن كورسك.
الحجة القائلة بأن النجاحات الروسية ترجع إلى تدخل القوات الكورية الشمالية هي سخيفة إلى درجة أنه لا يمكن فحصها أو مناقشتها. من المحتمل أن يمتلك الجيش الروسي الآن أكثر من مليون جندي، يمكن نشرهم في كورسك أو في أي جزء من أوكرانيا، متى شاء.
من الصعب فهم لماذا يحتاجون إلى مساعدة على شكل جنود كوريين شماليين، الذين يحتاجون إلى تدريب وفقا للمواصفات الروسية وتعليمهم أيضا اللغة الروسية بما يكفي لاتباع الأوامر.
لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد جنود كوريون شماليون في روسيا، حيث أن كوريا الشمالية وروسيا يربطهما الآن تحالف عسكري وثيق. ومع ذلك، لم يتم تقديم أي دليل حتى الآن لإثبات أن الجنود الكوريين الشماليين شاركوا في أي دور فعلي في ساحة المعركة في كورسك أو في أي مكان آخر.
أكرر، إن “الدليل” الوحيد على هذه الادعاءات المتكررة يأتي من الجانب الأوكراني، الادعاءات التي ثبت في الماضي أنها مجرد دعاية، تهدف إلى تشويش وتضليل الرأي العام العالمي.
سبب خسارة أوكرانيا في الحرب ليس له أي علاقة بوجود أو عدم وجود بضعة آلاف من الجنود الكوريين الشماليين. بل يفسر ببساطة بحقيقة أن روسيا تتمتع بتفوق ساحق في الأعداد، والأسلحة، والذخيرة، والصواريخ، والطائرات المسيرة، وكذلك في المعنويات والتكتيك المتفوق.
كان البنتاغون -وما يزال- معارضا بشكل جوهري للإجراء الذي اتخذته بايدن، ليس من منطلق اعتبارات إنسانية، بل لأسباب عملية بحتة.
أولا، هم يعلمون أن الحرب في أوكرانيا قد فُقدت، ويشعرون أن إرسال المزيد من الأسلحة والمعدات إلى هناك هو إهدار بلا جدوى للموارد القيمة. إن مخزون الأسلحة الذي تمتلكه الولايات المتحدة ليس غير محدود وقد تم استنزافه بشكل كبير بسبب قضية أوكرانيا.
أما بالنسبة للمغامرة الأخيرة التي لا معنى لها، يشير البنتاغون -مرة أخرى، بشكل صحيح تماما- إلى أن إرسال صواريخ طويلة المدى إلى أوكرانيا بهدف مهاجمة أهداف داخل عمق روسيا لن يكون له أي تأثير على نتيجة الحرب.
المدى الأقصى لإطلاق صواريخ ATACMS هو 190 ميلا أو 300 كيلومتر. وبالتالي، فهي غير قادرة على ضرب أهداف “في عمق أراضي الاتحاد الروسي”. في الواقع، يمكن استخدامها بفعالية فقط في المناطق الحدودية، مثل كورسك وبريانسك.
هذا لن يستطيع أن يغير مجرى الحرب، ولن يغير مجرى الحرب. ما سيفعله فقط هو إثارة غضب الروس الذين سيتخذون إجراءات مضادة، وهي إجراءات لن تعجب الولايات المتحدة. وليس لدى الروس نقص في الخيارات التي تمكنهم من إلحاق أضرار جسيمة بالمصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم.
نترك جانبا حقيقة أن فلاديمير بوتين قد أعلن للتو عن قرار بتقليص السقف لاستخدام الأسلحة النووية ليشمل الهجمات على الأراضي الروسية بواسطة الأسلحة التقليدية.
لدى موسكو العديد من الخيارات الأخرى التي يمكنهم استخدامها قبل اللجوء إلى السلاح النهائي. من المؤكد أن الروس سيعززون مساعداتهم لإيران وحزب الله، وللحوثيين، ولعديد من الجماعات والأفراد الذين سيكونون مستعدين للغاية للمشاركة في أعمال ضد الولايات المتحدة.
تخيل فقط إذا قام الروس بتزويد الحوثيين بصواريخ متطورة يمكنها إغراق السفن الحربية الأمريكية. ستكون حاملة الطائرات الضخمة التي تطفو في منطقة الشرق الأوسط أهدافا ثابتة للهجوم الذي سيكون كارثيا.
لكن هذا بالضبط ما يقترح الأمريكيون فعله فيما يتعلق بالوكلاء الأوكرانيين. ومن المنطقي أن ما هو مفيد لأحد الجانبين يجب أن يكون مفيدا للجانب الآخر أيضا.
جميع هذه الحقائق واضحة تماما للاستراتيجيين العسكريين في واشنطن، أي أولئك المحاربين القدامى ذوي الخبرة العسكرية الذين -على عكس الجنرالات الهواة في البيت الأبيض الذين يخوضون معاركهم على لوحات مفاتيح الكمبيوتر فقط- لديهم خبرة حقيقية في الحروب الفعلية.
يطرح البنتاغون السؤال الواضح: لماذا يجب علينا إهدار الأموال في حرب لا يمكن الفوز بها؟ لقد أنفقنا بالفعل مبلغا هائلا، فلماذا ننفق المزيد من دون سبب وجيه؟
من وجهة نظر المصالح الحقيقية للإمبريالية الأمريكية، هذه الأسئلة تستند إلى منطق لا تشوبه شائبة. لكن بايدن لا يهتم بالمنطق، بل يهتم فقط بهوسه في إلحاق أقصى الضرر بدونالد ترامب وروسيا خلال الأسابيع القليلة المتبقية له.
إنه يرغب في إبقاء الحرب في أوكرانيا مستمرة على الأقل حتى يتقاعد بأمان إلى عزلته. لا يهتم بعدد الأوكرانيين الذين سيموتون لإرضاء غروره الشخصي وحماية ما يراه صيته التاريخي.
في الواقع، إن الصورة التي ستتركها إدارة بايدن ستكون صورة من الإخفاقات المستمرة، والهزائم، والحروب، والموت، والعجز المالي. إنها إدارة فاشلة تديرها عصابة من الأشخاص الثانويين عديمي العقل.
وحتى النهاية، تصر نفس تلك الشرذمة من السياسيين الفاشلين والمغامرين المجرمين، الذين يرفضون الاعتراف بأخطائهم، على إطالة المعاناة لأطول فترة ممكنة. وبالطبع، ضحايا هذه المعاناة ليسوا هم، بل الشعب الأوكراني المكلوم.
آلان وودز
19 نوفمبر/تشرين الثاني 2024
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية: