اعتاد الأمريكيون أن يسمعوا خلال كل انتخابات أن هذه الانتخابات هي “الأهم في حياتنا”. لكن هذا العام، ذهب كلا المرشحين إلى أبعد من ذلك، حيث قالا إنها الانتخابات الأكثر أهمية في تاريخ الولايات المتحدة. “مع أو ضد ترامب؟!” هذا هو السؤال الوجودي المزعوم الذي طرحه كلا الحزبين الرئيسيين. لكن ما هي الترامبية بالضبط في المقام الأول؟ يكثر الارتباك حول هذا السؤال، ومع ذلك، من المستحيل أن نفهم إلى أين يتجه المجتمع الأمريكي دون تشخيص صحيح لهذا المرض.
عصر الاضطرابات
لقد تمتعت الطبقة السائدة الأمريكية لأكثر من قرن من الزمان، باستقرار سياسي استثنائي. لكن ذلك بدأ في الانهيار في عام 2016، عندما جلبت الانتخابات العامة عقودا من التدهور الاقتصادي والغضب الطبقي إلى السطح. وقد تعهد ترامب باستعادة الرخاء الاقتصادي ووضع “أميركا أولا”، بالاعتماد على القومية الاقتصادية والشوفينية الديماغوجية ضد المهاجرين والنساء وغيرهم من المجموعات المضطهَدة. وصور نفسه على أنه رجل “دخيل” جريء يتحدى المؤسسة في واشنطن لصالح الشعب الأمريكي، واستولى على الحزب الجمهوري وحوله.
يرى الليبراليون أن صعود ترامب كان حادثة عشوائية مؤسفة، و”انزلاقا مقلقا نحو الاستبداد”. وبينما يعترف البعض بأنه استغل احتياطيات السخط المشروع، فإنهم يقدمونه في الأساس كفرد شرير قادر بمفرده على تدمير النسيج الديمقراطي للبلد. لكن الاتجاهات السياسية لا تظهر من العدم. فلكي تتطور فكرة وتترسخ في المجتمع، لابد أن تطرح حلا ملموسا لمشكلة معينة.
لفهم صعود ترامب، يتعين علينا أن نبدأ بفهم أساسي لكيفية نشوء الأفكار ووظيفتها داخل المجتمع. لقد شرح كارل ماركس هذا الأمر بالتفصيل في مقدمته لكتاب “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” عام 1859، حين كتب:
“أثناء الإنتاج الاجتماعي لوجودهم، يدخل الناس حتما في علاقات محددة، مستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج مناسبة لمرحلة معينة في تطور قوى الإنتاج المادية الخاصة بهم. إن مجموع علاقات الإنتاج هذه يشكل البنية الاقتصادية للمجتمع، والأساس الحقيقي الذي ينشأ عليه البناء الفوقي القانوني والسياسي والذي تتوافق معه أشكال محددة من الوعي الاجتماعي. إن أسلوب إنتاج الحياة المادية يحدد السيرورة العامة للحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. وفي مرحلة معينة من التطور، تدخل قوى الإنتاج المادية للمجتمع في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة أو -وهذا يعبر عن نفس الشيء من الناحية القانونية- مع علاقات الملكية التي عملت في إطارها حتى ذلك الحين. هذه العلاقات تتحول من أشكال لتطور قوى الإنتاج، إلى قيود لها. عندها تبدأ حقبة من الثورة الاجتماعية. وتؤدي التغييرات في الأساس الاقتصادي عاجلا أم آجلا إلى تحويل البنية الفوقية الهائلة بأكملها”.
وبعبارة أخرى فإن الأفكار لا تسقط من السماء. إنها تظهر في سياق الوجود الاجتماعي، الذي له أساس مادي واقتصادي. ولكي تجد رسالته صدى، لا بد أن يكون ترامب قد تحدث عن شيء متجذر في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الأمريكية. وباعتبارنا ماركسيين، يتعين علينا أن نحدد تلك “التغيرات في الأساس الاقتصادي” التي أدت إلى مثل هذا التحول الصارخ في البنية الفوقية السياسية الأمريكية.
الترامبية: نصف قرن من التشكل
خرجت الرأسمالية الأمريكية من الحرب العالمية الثانية باعتبارها القوة الإمبريالية المهيمنة في العالم. كانت أوروبا واليابان مدمرتان تماما. ولقي 36.5 مليون أوروبي حتفهم بسبب الحرب، مقارنة بـ 405 ألف أمريكي. وعادت ألمانيا، التي كانت القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، إلى مستويات عام 1890 من الناتج الصناعي. في حين كانت الصناعة الأمريكية قد دخلت في حالة من النشاط المفرط.
خلال السنوات التي أعقبت الحرب، كانت الولايات المتحدة تنتج 43% من السلع المصنعة في العالم، و57% من الصلب في العالم، و80% من سيارات العالم. وقد مهد هذا، إلى جانب التقنيات الجديدة ومكاسب الإنتاجية بفضل حاجات الإنتاج في زمن الحرب، الطريق لأهم انتعاش في تاريخ الرأسمالية، والذي كان مصحوبا بتحسينات كبيرة في مستويات المعيشة. كانت الصناعة مزدهرة، وكانت سبل الاستثمار المربح واسعة، وكانت الرأسمالية في فترة من التوسع العام. ساعدت موجة الإضرابات الضخمة في عامي 1945 و1946 على تحقيق أجور أعلى وظروف عيش أفضل، وكذلك مزايا مثل المعاشات التقاعدية والتأمين الصحي، لجيل من العمال الأمريكيين.
خلال تلك الفترة، زادت حصة الولايات المتحدة في التجارة العالمية من السلع المصنعة من 10٪ في عام 1933، إلى 29٪ في عام 1953. كانت البطالة منخفضة، وكانت الأجور في ارتفاع، وكان بإمكان العمال ذوي الياقات الزرقاء الحصول بسهولة على وظائف في القطاع الصناعي سمحت لهم بشراء المنازل وإعالة أسرهم. في الفترة ما بين عامي 1946 و1973، ارتفع الدخل الحقيقي للأسر بنسبة 74%، وشهد الأمريكيون تحسينات كبيرة في جودة وتكاليف السكن والتعليم والرعاية الصحية ووقت الفراغ وغير ذلك.
تركت تلك السنوات انطباعا عميقا على وعي الطبقة العاملة الأمريكية. فقد أصبحت عدة أجيال تعتقد أن تلك الظروف كانت هي “الوضع الطبيعي” للرأسمالية الأمريكية. وما يزال من الشائع أن نسمع الأجيال الأكبر سنا تتذكر “الأيام الخوالي الجميلة”، “عندما كنا نصنع الأشياء في أمريكا”، وتستحضر صورا ذهنية لمطاعم الوجبات السريعة، ومباريات كرة القدم في المدارس الثانوية، وإعلانات كوكا كولا، والضواحي التي تم بناؤها حديثا. ومن خلال وعوده المستمرة بـ “جعل أمريكا عظيمة مجددا”، يستغل ترامب بشكل مقصود الحنين إلى تلك الفترة.
لكن ذلك، في الواقع، لم يكن هو القاعدة بل كان الاستثناء، كان نتاجا لتداخل غريب بين مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية بعد الحرب [العالمية الثانية]. لكن في مواجهة الركود العالمي وظهور منافسين إمبرياليين أكثر قوة، ابتداء من منتصف السبعينيات فصاعدا، بدأت الطبقة السائدة في الولايات المتحدة في شن الهجوم ضد الحركة العمالية، وعادت الرأسمالية إلى قاعدتها التاريخية.
لقد أدت الأتمتة وترحيل الصناعات إلى الخارج، وهما من السمات الحتمية لاقتصاد السوق المدفوع بالربح، إلى ضرب الاستقرار السابق لملايين العمال. انخفضت وظائف التصنيع، التي كانت تشكل 39% من الوظائف الأمريكية في عام 1943، إلى حوالي 8% بحلول عام 2010. وأشار تقرير صدر عام 2020 عن مكتب إحصاءات العمل إلى أنه منذ 1979 “انخفضت العمالة في التصنيع خلال كل من فترات الركود الخمسة، وفي كل حالة، لم تتعاف العمالة تماما إلى مستويات ما قبل الركود”.
يفسر الإصلاحيون والليبراليون اليساريون هذا الأمر كما لو كان مجرد مسألة سياسة سيئة. لكن هذا الواقع كان مجرد جزء من المنطق الاقتصادي للرأسمالية.
في سياق شرح ماركس للتأثير المتناقض للأتمتة في ظل الرأسمالية، وصف في كتابه “العمل المأجور ورأس المال” كيف أن الآلات التي يتم إدخالها:
“ترمي العمال إلى الشوارع بأعداد كبيرة؛ ومع تطورها وارتفاع إنتاجيتها، تتخلص منهم بأعداد إضافية، وإن كانت أصغر… وحتى لو افترضنا أن كل من أجبروا مباشرة على ترك وظائفهم بسبب الآلات، وكذلك كل الجيل الصاعد الذي كان ينتظر فرصة العمل في نفس فرع الصناعة، يجدون بالفعل بعض الوظائف الجديدة، فهل نصدق أن تلك الوظائف الجديدة ستدفع أجورا في نفس مستوى أجور تلك المناصب التي فقدوها؟ إذا كان الأمر كذلك، فسيكون ذلك متناقضا مع قوانين الاقتصاد السياسي”.
هذا هو بالضبط ما حدث لشرائح واسعة من السكان خلال هذه الفترة، حيث حلت بشكل متزايد وظائف قطاع الخدمات ذات الأجور المنخفضة، والتي لا توفر سوى ساعات عمل بدوام جزئي، محل وظائف التصنيع ذات الأجور الأفضل. وشهد أولئك الذين احتفظوا بوظائفهم في التصنيع انخفاض أجورهم الحقيقية. وقد ساعدت الطبقة السائدة في هذا سياسة التعاون الطبقي التي تبناها قادة الحركة العمالية. خلال هذه الفترة، انخفضت عضوية النقابات من ذروة بلغت ثلث القوة العاملة في الخمسينيات إلى 11% فقط بحلول عام 2016.
في كتابهما “الرأسمالية في أمريكا: تاريخ اقتصادي للولايات المتحدة”، يشرح آلان غرينسبان وأدريان وولدريج:
“من عام 1900 إلى عام 1973، نمت الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة بمعدل سنوي بلغ حوالي 02٪. وهذا يعني أن متوسط الأجر (وبالتالي متوسط مستوى المعيشة) تضاعف كل 35 عاما. في عام 1973، انتهى هذا الاتجاه وبدأ متوسط الأجور الحقيقية لمن يسميهم مكتب إحصاءات العمل الأمريكي “عمال الإنتاج وغير المشرفين” في الانخفاض. وبحلول منتصف التسعينيات، صار متوسط الأجر الحقيقي بالساعة لعامل الإنتاج أقل من 85% مما كان عليه في عام 1973″.
ويؤكد تقرير مركز بيو للأبحاث لعام 2018 هذا قائلا: “بالنسبة لمعظم العمال في الولايات المتحدة، بالكاد تحركت الأجور الحقيقية على مدى عقود من الزمن”.
لقد تزايدت التفاوتات بشكل هائل خلال هذه الفترة، وكما يوضح تقرير صادر عن وزارة الخزانة الأمريكية في عام 2023، فقد أصبح الدخل أكثر تقلبا، وانخفض مقدار الوقت الذي يقضيه الناس في الإجازة، وأصبح الأمريكيون أقل استعدادا للتقاعد. “كما انخفضت أيضا القدرة على التنقل الاقتصادي بين الأجيال، حيث حصل 90% من مواليد أربعينيات القرن العشرين على دخل أعلى مما حصل عليه آباؤهم في سن الثلاثين، في حين أن نصف مواليد منتصف الثمانينيات فقط هم من حصلوا على نفس الدخل”.
حتى قبل الأزمة الرأسمالية العالمية في عام 2008 كان لكل هذا تأثير هائل على الوعي الجماهيري، وإن كان مخفيا في البداية. ثم أعقب الركود العظيم في عام 2008 أضعف انتعاش اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة.
الضرورة تعبر عن نفسها من خلال الصدفة
كان من المحتم أن يكون هناك رد فعل سياسي على كل ذلك. بدأت دورة الانتخابات لعام 2016 بتوقعات حول خوض سباق “طبيعي” بين ج بوش وهيلاري كلينتون. إلا أن الوضع كان قد وصل إلى نقطة تحول. سرعان ما أصبح من الواضح أن ملايين العمال الأمريكيين قد فقدوا صبرهم مع السياسيين المنتمين إلى المؤسسة الرسمية.
احتشدت القوى التقدمية من الشباب والطبقة العاملة حول بيرني ساندرز، الذي عرض برنامجا “اشتراكيا” خفيفا يتضمن التعليم الجامعي المجاني، والرعاية الصحية، ووظائف الأشغال العامة. في حين استغل ترامب الغضب الطبقي الكامن لدى أولئك الذين يميلون إلى اليمين. تعاطف العديد من أنصار ترامب مع حملة ساندرز وكان من الممكن كسبهم. لكن ترامب، وعلى عكس ساندرز، الذي استسلم لقيادة الحزب الديمقراطي، كان على استعداد لخوض الصراع حتى النهاية. وفي حين تعهد ساندرز بالولاء لمرشحة حزبه فقد تغلب ترامب على كل مقاومة وفاز بترشيح حزبه له.
ومع اقتراب يوم الانتخابات، أعلنت كلينتون عن ترشيحها باعتباره استمرارا للوضع الراهن، قائلة: “عندما سأصير رئيسة، سأواصل سجل إنجازات الحزب الديمقراطي. وسأدافع عن إنجازات الرئيس أوباما وأبني عليها”. لكنها عجزت عن أن تفهم أن إرث أوباما بالنسبة لملايين الناس، بمن في ذلك ديمقراطيين، يعني استمرار وجود بائس على نحو متزايد. كان ذلك يعني إغلاق المصانع، وتدهور مدن حزام الصدأ، والإدمان على المواد الأفيونية، والتحولات في وظائف قطاع الخدمات ذات الأجور المنخفضة.
أما ترامب من جهته فقد قدم نفسه على أنه شخص من خارج المؤسسة عازم على تجفيف مستنقع واشنطن. لقد وجه رسالة مختلفة تماما، حيث قال: “تهدف حركتنا إلى استبدال المؤسسة السياسية الفاشلة والفاسدة بحكومة جديدة تسيطرون عليها أنتم، الشعب الأمريكي… لقد تسببت المؤسسة السياسية في تدمير مصانعنا ووظائفنا عندما فرت الشركات إلى المكسيك والصين وبلدان أخرى في جميع أنحاء العالم. إنها قوة عالمية مسؤولة عن القرارات الاقتصادية التي سرقت طبقتنا العاملة، وجردت بلدنا من ثرواتها، ووضعت تلك الأموال في جيوب حفنة من الشركات الكبرى والكيانات السياسية”.
عندما يقارن المرء بين هذه الرسائل وسياقها، لا يكون من الصعب عليه فهم سبب فوز ترامب في انتخابات عام 2016.
من المؤكد أن ذلك الخطاب لم يكن أكثر من مجرد نفاق وتلاعب. ففي عام 2015، أخبر ترامب أستاذ كلية إدارة الأعمال بجامعة ييل، جيفري سونينفيلد، أنه نسخ الرسائل المناهضة للشركات التي أظهرت حملة بيرني ساندرز أنها فعالة. لكن وفي غياب أي قوة أخرى مناهضة للمؤسسة، تمكن ترامب من الركوب على موجة السخط للوصول إلى البيت الأبيض، بمساعدة النظام الانتخابي المناهض للديمقراطية الذي وضعه الآباء المؤسسون على وجه التحديد للحماية من مثل هذه “العواطف الشعبية”.
شكل ترامب، من وجهة نظر الطبقة السائدة، “عنصرا مارقا” تمكن من الاستيلاء على الحزب الجمهوري والرئاسة. وقد ارتجفت غالبية الطبقة السائدة عند رؤية شخص ضيق الأفق، وأناني، ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته، على رأس نظامهم. كان ماركس قد أوضح أن “السلطة التنفيذية للدولة الحديثة ليست سوى لجنة لإدارة الشؤون المشتركة للبرجوازية بأكملها”، لكن ترامب لم يحظ بثقة معظم الرأسماليين الجادين ليقوم بهذا الدور.
وبغض النظر عن التهويل والفضيحة، فقد اتسمت فترة ولايته الرئاسية من حيث الجوهر بتطبيق سياسات الحزب الجمهوري التقليدية، مثل سياسة خفض الضرائب على الشركات التي تحمل توقيعه. وتماشيا مع الاتجاه العالمي نحو الحمائية الجمركية، فقد فرض سلسلة من التعريفات الجمركية، التي حافظت إدارة بايدن على معظمها كما هي. لقد ركب موجة حظ من الاستقرار الاقتصادي النسبي خلال تلك السنوات واستمر في الإنفاق الضخم بالعجز، مثل أوباما وبوش من قبله. في عام 2019، كانت هناك بالفعل علامات على الركود في الأفق، لكنه نجح في جعل جائحة كوفيد-19 كبش فداء عندما انهار الاقتصاد. ومع ذلك فقد أدت الفوضى المستمرة إلى تصاعد المزاج القائل “أي شخص باستثناء ترامب”، مما أدى إلى وصول بايدن إلى البيت الأبيض. لكن ادعائه أن الانتخابات تعرضت للتزوير، والتضخم الجامح في عهد بايدن، قد زادا في إحكام قبضة ترامب على الحزب الجمهوري.
تحالف انتخابي عابر للطبقات
من الشائع أن تقدم وسائل الإعلام البرجوازية السياسة الأمريكية على أنها تتشكل من كتلتين، حيث تصور وسائل الإعلام الليبرالية جميع “أنصار ترامب” على أنهم نوع من الغوغاء الرجعيين. من المؤكد أن ترامب يمتلك نواة صلبة من المؤيدين الرجعيين المتشددين، بما في ذلك بعض المجموعات الفاشية الصغيرة. كما أنه يحظى بدعم فئة من أصحاب المشاريع الصغيرة الرجعيين. إلا أن شريحة كبيرة من قاعدة ترامب تتألف في الواقع من أفراد من الطبقة العاملة الذين تدهورت أوضاعهم المعيشية بسبب الرأسمالية المحتضرة.
إنه يشكل، بالنسبة للكثيرين، مجرد “أهون الشرين” مقارنة بالديمقراطيين. وهم يدعمونه على الرغم من شوفينيته الصريحة، وليس بسببها. في الواقع، وجد استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث في عام 2024 أنه في حين أن 91% من الناخبين الجمهوريين “واثقون جدا أو إلى حد ما” من قدرة ترامب على اتخاذ قرارات جيدة بشأن السياسة الاقتصادية، فإن 26% فقط “يحبون الطريقة التي يتصرف بها شخصيا”.
أجرت صحيفة وول ستريت جورنال مقابلة مع عامل في شركة فورد، وهو عضو في نقابة عمال السيارات المتحدة، والذي كان غير مهتم بالسياسة حتى انطلاق حملة ترامب في عام 2016. عندما سئل عن سبب دعمه لترامب، قال: “كنت أعرف أن الديمقراطيين قد تخلوا عن الطبقة العاملة في التسعينيات. ترامب ليس عبقريا. لقد أدرك للتو ما كان يحدث في البلد وكانت لديه الشجاعة للوقوف في وجه هؤلاء الناس. الهجرة الجماعية، والصفقة الخضراء الجديدة، كل هذا هراء ولا يساعد أي شخص من الطبقة العاملة”.
هذا هو الارتباك الذي تؤدي إليه سياسة التعاون الطبقي التي يتبناها قادة العمال واليسار الإصلاحي. تمكن ترامب، من خلال مخاطبته للعمال الأمريكيين من ذويي الياقات الزرقاء، من أن يحصل على دعم العديد ممن يعتبرون أنفسهم من الطبقة العاملة. وهذا هو السبب في أن برنامج الحزب الجمهوري لعام 2024 يعد بـ”حماية العمال والمزارعين الأمريكيين من التجارة غير العادلة”، و”إعادة الحلم الأمريكي وجعله في المتناول مرة أخرى”، و”بناء أعظم اقتصاد في التاريخ”. ولا داعي إلى أن نقول هنا إن هذا مستحيل في ظل الرأسمالية الغارقة في الأزمة.
لو توفر حزب شيوعي جماهيري لكان في مقدوره أن يكسب العديد من أنصار ترامب من الطبقة العاملة من خلال التأكيد على برنامج طبقي من شأنه أن يرفع مستويات معيشة الجميع. الحل ليس في التضحية بالمهاجرين أو مهاجمة التدابير الرامية إلى معالجة تغير المناخ، بل تأميم الشركات الكبرى ووضعها تحت سيطرة العمال كجزء من اقتصاد مخطط ديمقراطيا. لكن وبسبب أزمة القيادة البروليتارية، تصير تلك الفئات حاليا ضحية لليمين.
هل سيفرض ترامب الدكتاتورية؟
أثناء صعود ترامب، وخاصة بعد انتخابه لأول مرة وبعد أعمال الشغب التي شهدها مبنى الكابيتول الأمريكي في السادس من يناير 2021، أثار الليبراليون ضجة حول خطر الفاشية والدكتاتورية في الولايات المتحدة. هذا تشبيه سطحي وتكتيك تخويف يهدف إلى حشد الدعم للديمقراطيين.
يمكن للمرء أن يخمن في ما “يود” ترامب أن يفعله، لكن هذا ليس هو السؤال الحاسم. المسألة الحاسمة هي أن ترامب، في ظل موازين القوى الطبقية الحالية، ليس في وضع يسمح له بفرض الدكتاتورية، سواء على شكل دولة فاشية أو دكتاتورية عسكرية. ليست المسألة متعلقة برغبات ترامب الشخصية، بل هي مسألة علاقات بين الطبقات. يجب على أي دولة برجوازية في أمريكا اليوم أن تأخذ في الاعتبار القوة المحتملة الهائلة لأكثر من 120 مليون عامل الذين يسيرون المجتمع الأمريكي والذين بدأوا في الاستيقاظ بعد عقود من النوم.
وكما أوضح إنجلز في كتابه “لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية”، فإنه عندما نحلل التاريخ، “لا يتعلق الأمر كثيرا بدوافع الأفراد المنعزلين، مهما كانوا مرموقين، بل يتعلق بالدوافع التي تحرك الجماهير الغفيرة، والشعب بأكمله، ومرة أخرى طبقات كاملة في كل شعب”.
الفاشية هي شكل فريد من أشكال الدكتاتورية العسكرية التي تعتمد على قاعدة جماهيرية من العناصر البرجوازية الصغيرة الغاضبة لسحق العمال المنظمين. لقد وصلت إلى السلطة في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا بسبب الإرهاق الكامل الذي تعرضت له الطبقة العاملة والإحباط الذي أصابها بعد سنوات من النضال الثوري، الذي انتهى بالهزيمة.
من الواضح أن هذا ليس هو الوضع في الولايات المتحدة، حيث لم تتعرض الطبقة العاملة القوية للغاية لأي هزيمة من أي نوع. كما أن الدكتاتورية العسكرية البونابرتية ليست في الحسبان بالنسبة لترامب في الأمد القريب أو المتوسط. فلكي يحدث ذلك، لابد أن يصل الصراع الطبقي إلى طريق مسدود، ولابد أن يحظى ترامب بدعم جناح كبير من القوات المسلحة، وهو ما لا يتمتع به.
بعد خسارته أمام بايدن في عام 2020، أراد ترامب البقاء في السلطة وجرب مختلف الخيارات لتحقيق ذلك. لكن الطبقة السائدة في الولايات المتحدة، التي كانت تصارع لإعادة تأكيد قبضتها، لم تدعم ذلك المسعى. ومباشرة قبل اندلاع أعمال الشغب ، نشرت صحيفة واشنطن بوست مقال رأي وقعه عشرة وزراء دفاع سابقين، تحدثوا فيه ضد إنكار ترامب لنتائج الانتخابات. كانت أعمال الشغب المؤيدة لترامب في الكابيتول عبارة عن شرذمة منقسمة، صغيرة للغاية، بلا خطة حقيقية، ولا دعم من جانب الطبقة السائدة، ولا إمكانية للاستيلاء على السلطة بالفعل.
من المؤكد أن ترامب ليس سياسيا “عاديا”، ويميل إلى الاستبداد. لكن قاعدة دعمه ليست بالتأكيد حركة فاشية، وصعوده لا يشير إلى تحول جوهري نحو اليمين بين الشعب الأمريكي. إنه في الواقع أحد أعراض عدم الاستقرار والافتقار إلى خيار متماسك للطبقة العاملة. لابد أن تكون الطبقة العاملة منهكة بعد عدة محاولات فاشلة للتغيير الثوري حتى يصير في إمكان ترامب أن يفرض دكتاتورية عسكرية. لكن الوضع هو العكس تماما: فنحن على وشك تصاعد تاريخي للصراع الطبقي في السنوات المقبلة.
لا يمكن “جعل الرأسمالية الأمريكية عظيمة مرة أخرى”
في عام 2016، سُئل باراك أوباما عن المستقبل الذي يمكن للعمال ذوي الياقات الزرقاء أن يتوقعوه مع استمرار اختفاء وظائفهم. وبما أنه لم تكن لديه آفاق انتخابية ليقلق بشأنها، فقد تحدث بشكل أكثر صراحة من المعتاد بشأن الأتمتة ونقل الصناعات إلى الخارج، موضحا أن بعض الوظائف “ببساطة لن تعود”. وفي إشارة منه إلى وعود ترامب “بإعادة كل تلك الوظائف”، سأله: “كيف بالضبط ستفعل ذلك؟ ماذا ستفعل؟ … ما العصا السحرية التي لديك؟”.
هذه هي الحقيقة غير السارة بالنسبة للرأسماليين وساستهم. إنهم لا يملكون عصا سحرية لاستعادة النمو الاقتصادي والاستقرار. ولا يستطيع أي سياسي رأسمالي أن يتحكم في اتجاه الاقتصاد الرأسمالي. إن الرأسمالية بطبيعتها هي فوضى في الإنتاج، ولا تعمل الانتخابات البرجوازية سوى على تحديد من سيقود سفينة الرأسمالية الأمريكية الغارقة.
إن صعود ترامب هو نتاج لمسار طويل دام عقودا من الزمان من الانحدار العضوي للرأسمالية الأمريكية، والانحطاط السياسي غير المسبوق لليسار وقيادة العمال. وأي منظور لهزيمته لابد أن يأخذ في الاعتبار التاريخ على المدى البعيد. قد يتمكن الديمقراطيون من إيقاف ترامب مؤقتا عبر صناديق الاقتراع، لكنهم غير قادرين على إصلاح التناقضات المتأصلة في النظام الرأسمالي. وطالما أن هناك مرشحين يوجهون نداءات ديماغوجية لقلب الوضع الراهن ومحاربة الفساد السياسي، فسوف يكافح الساسة الرسميون من أجل وقف هيمنتهم المستمرة على المشهد السياسي. ومع ذلك، فإن “الشعبوية” من أي نوع ليست كافية؛ فالثورة الاشتراكية هي وحدها القادرة على توفير وظائف مستقرة ومستويات معيشية مرتفعة للجميع، وضرب الأساس الاقتصادي لجميع أشكال الديماغوجية الرجعية.
وللنضال بنجاح من أجل هذا البرنامج، يتعين على الشيوعيين أن يقفوا بحزم ضد جميع الأحزاب الرأسمالية. إن الديمقراطيين والجمهوريين كلاهما، وبنفس القدر، أعداء للطبقة العاملة، ولا يمكنهما فعل أي شيء لكبح جماح الانحدار العضوي للرأسمالية الأمريكية. وقد أثبتت التجربة أن التصويت لصالح “أهون الشرين” لا يجدي نفعا، بل إنه في الواقع يمهد الطريق لعودة “الشر الأكبر” بقوة.
يجب علينا أن نحافظ على نظافة رايتنا السياسية وأن نستعد للمستقبل، مع فهم أن نفس العوامل التي أدت إلى صعود ترامب، تعمل أيضا على إعداد موجة من الصراع الطبقي المفتوح. وبما أن ترامب نفسه لا يستطيع الوفاء بوعوده، فسوف ينكشف هو أيضا في نهاية المطاف أمام أعين أنصاره.
وتتمثل مهمتنا في أن نبني على وجه السرعة حزبا شيوعيا مستقلا طبقيا، والذي يمكنه في نهاية المطاف أن يفصل أغلبية الطبقة العاملة عن الحزبين الرئيسيين. والطريقة الوحيدة للمضي قدما هي إعادة صياغة الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة على أسس طبقية، وبالتالي توجيه الغضب المشروع للطبقة العاملة ضد عدونا الحقيقي الجماعي: النظام الرأسمالي نفسه.
برايس جوردون
1 نوفمبر/تشرين الثاني 2024
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية: