يرتبط اسم فرانز فانون ارتباطًا وثيقًا بالنضال ضد الاستعمار في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودائما ما يُستشهد بانتظام بكتابه الرئيسي: “معذبو الأرض”، باعتباره دليلًا للنضال ضد الإمبريالية في جميع أنحاء العالم. في هذا المقال، المنشور في العدد الخامس عشر من مجلتنا “الحرية والشيوعية”، يَفْصل الرفيق خورخي مارتن بين فانون الحقيقي ومفسريه من أنصار “ما بعد الاستعمار” ، ويشرح نقاط القوة والضعف في أفكاره.
.
كتاب فرانز فانون “معذبو الأرض” كتاب مشهور ومؤثر للغاية، خاصة في الجامعات. ومن الشائع رؤية أفكاره تُطرح على أنها “تصحيح” للماركسية فيما يتعلق بمسألة النضال ضد الاستعمار، وذلك غالبا من قبل أشخاص لم يسبق لهم أن قرأوا لا ماركس ولا فانون.
لكن إذا أردنا أن نفهم حقا أفكار فانون وعلاقتها بالماركسية، فمن الضروري دراسة السياق الذي كتب فيه “معذبو الأرض”، ومقارنة المنظور الوارد في الكتاب مع الأحداث اللاحقة. هذه الدراسة لا يمكن إلا أن تؤدي إلى استنتاج مفاده أنه على الرغم من أن الكتاب يحتوي على عدد لا بأس به من الأفكار والتحذيرات المثيرة للاهتمام، فإنه يحتوي أيضا على عدة نقاط خاطئة حول الاستراتيجية الثورية، والتي لا يمكنها أن تقدم الطريق للمضي قدما للثوريين اليوم.
التأثيرات المبكرة
ولد فرانز فانون عام 1925 في المارتينيك، التي ما تزال مستعمرة فرنسية حتى يومنا هذا. وقد ولد لعائلة من الطبقة المتوسطة، مما سمح له بالحصول على تعليم مناسب. التحق بمدرسة ثانوية خاصة حيث تلقى تعليمه حول قيم الجمهورية الفرنسية -الحرية والمساواة والأخوة- ودرس الكلاسيكيات الفرنسية في الأدب، وتأثر بمفكري عصر الأنوار الفرنسيين، والثورة الفرنسية. هذه المصادر شكلت أفكاره المبكرة. كما تأثر فانون أيضا بأحد المعلمين في مدرسته الثانوية: إيمي سيزار، الذي كان عضوا في الحزب الشيوعي، مثله مثل العديد من المثقفين السود الآخرين من جيله.
استسلمت فرنسا لألمانيا النازية في عام 1940، وانقسمت مستعمراتها بين تلك التي دعمت نظام “فيشي” المتعاون مع النازيين، برئاسة المارشال بيتان، وبين التي دعمت “فرنسا الحرة”، برئاسة ديغول. وفي عام 1943، قام فانون، عندما كان عمره 17 عاما، بمحاولة فاشلة للانضمام إلى قوات “فرنسا الحرة”، من خلال الفرار إلى دومينيكا، وفي عام 1944 عبر المحيط الأطلسي، وهبط في المغرب ثم سافر لاحقا إلى الجزائر لينضم إلى جيش ديغول.
لكنه ومن خلال تجربته في الجيش، سرعان ما أدرك أن نظرته المثالية للجمهورية الفرنسية، كبلد للتنوير والديمقراطية والمساواة، هي نظرة لا تتوافق مع الواقع. تمكن من أن يرى كيف أنه حتى داخل صفوف الجيش الفرنسي كانت هناك العنصرية والتمييز والتحامل. وأنه يتم تقسيم الجنود على أسس إثنية إلى فئات ووحدات مختلفة.
بعد الحرب، عاد إلى المارتينيك. وفي عام 1945 شارك في حملة إيمي سيزار لانتخابه نائبا شيوعيا.
دراسته للطب النفسي
في عام 1946، ذهب فانون إلى فرنسا لإكمال دراسته في الطب النفسي. وقد كان كتابه “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء”، في الأصل أطروحة للحصول على درجته العلمية. لكن تم رفضه فقام بنشره كعمل منفصل. يحاول الكثيرون استخراج الكثير من ذلك الكتاب، كما لو أنه كان مؤلفا للنظرية السياسية. بينما هو في الواقع محاولة لتحليل التأثير النفسي للعنصرية، سواء على عقول الشعوب المستعمَرة المضطهَدة، أو على عقول المستعمِرين. ولهذا السبب فهو كتاب محبوب جدا في الأوساط الأكاديمية لما بعد الحداثة، والتي تحب أي شيء غامض ويتعامل بشكل أساسي مع العقل.
إن الادعاء، الذي يردده كثيرون اليوم، بأن وجهة نظر فانون كانت تدافع عن الحاجة إلى “إنهاء استعمار العقل” هو قول خاطئ تماما. في الواقع، إذا قرأتم ما كتبه فانون بالفعل، ستجدونه يجادل بأن الناس يتغيرون من خلال العمل الثوري المباشر، وأن الانتفاضة العنيفة ضد الاستعمار هي وحدها القادرة على تغيير الناس الذين هم رعايا مستعمرين. وهو بالضبط عكس ما يقوله أكاديميو ما بعد الحداثة أو “ما بعد الاستعمار” اليوم.
وبعد انتهاء دراسته عمل في مستشفى للأمراض النفسية في سان أوبان بفرنسا. هناك، أصبح صديقا مقربا ومتعاونا مع فرانسيسك توسكيليس، الذي كان عضوا في حزب العمال للوحدة الماركسية (POUM) أثناء الثورة الإسبانية، وتم نفيه إلى فرنسا.
يرى توسكيليس أنه لا ينبغي للمرء أن ينظر إلى المريض النفسي بمعزل عن الآخرين، أو يحاول علاجه فقط على أساس السيرورات الكيميائية والنفسية في دماغه، بل يجب التعامل مع المريض بكونه شخصا اجتماعيا أيضا؛ وأنه لا بد من أخذ بيئة المريض وخلفيته في الاعتبار، ليس فقط لتشخيص حالته بل أيضا لعلاجه. كان لهذا التوجه تأثير كبير على فانون الذي تحدى النهج العنصري السائد في الطب النفسي فيما يتعلق بوجود ما يسمى بـ“متلازمة شمال أفريقيا”.
في عام 1953، تولى فانون منصب مدير مستشفى للأمراض النفسية في البليدة-جوانفيل، الجزائر. لم يكن لذلك القرار دوافع سياسية، بل كان مدفوعا بحقيقة أنه كان من الأسهل الحصول على مثل هذا المنصب في الجزائر (التي لم تكن تعتبر من الناحية القانونية مستعمرة، بل جزءا من فرنسا نفسها) مقارنة بفرنسا المتروبولية.
حرب الجزائر
في عام 1945، بعد استسلام النازية، اندلعت في جميع أنحاء الجزائر المظاهرات المطالبة بالحقوق الوطنية والديمقراطية. وقد تعرضت تلك المظاهرات لقمع وحشي، لا سيما في سطيف وقالمة وخراطة، حيث تم ذبح الآلاف، أو ربما عشرات الآلاف، من الجزائريين على يد الجيش الفرنسي والمستوطنين المسلحين.
كانت الفضيحة هي موقف الحزبين الشيوعيين الفرنسي والجزائري الذين وقفا إلى جانب الدولة الفرنسية، واصفين المتظاهرين الجزائريين بـ“الرعاع” و“الفاشيين”. كان أحد أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي وزيرا للقوات الجوية، وكان مسؤولا عن القصف الجوي للمتظاهرين الوطنيين، كما قام الحزب الشيوعي الفرنسي بدعم قرار إعطاء “سلطات خاصة” للحكومة الفرنسية في الجزائر في عام 1956. وقد تسببت تلك السياسات في إحداث قطيعة دائمة بين الأحزاب “الشيوعية” الستالينية وبين حركة التحرير الجزائرية.
وتحت ضربات النظام الاستعماري، انقسمت حركة التحرير نفسها حول الموقف من مسألة العنف، لتتبلور في نهاية المطاف شريحة أكثر كفاحية في جبهة التحرير الوطني (FLN). في فاتح نوفمبر 1954، نفذت جبهة التحرير الوطني سلسلة من الهجمات على البنية التحتية الاستعمارية الفرنسية، والتي كانت بمثابة بداية للحرب الجزائرية.
انضم فانون إلى جبهة التحرير الوطني عام 1955، وأجرى اتصالات معها من خلال أصدقاء ومعارف في المستشفى. في البداية، كان دوره الرئيسي هو توفير العلاج الطبي والمأوى في المستشفى لمقاتلي جبهة التحرير الوطني، لكن سرعان ما أصبح الوضع غير محتمل بالنسبة له. وفي يناير 1956، كتب خطاب استقالته من عمله طبيبا ومديرا للمستشفى وعاد إلى فرنسا، ومنها إلى تونس، التي كانت إحدى قواعد جبهة التحرير الوطني في الخارج.
أصبح في تونس، باعتباره شخصية فكرية بارزة آنذاك، أحد محرري صحيفة جبهة التحرير الوطني، المجاهد، حيث كتب أو شارك في كتابة العديد من المقالات الرئيسية، التي كانت تنشر بدون توقيع. كما تم تعيينه سفيرا للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في غانا. وبهذه الصفة، سافر إلى عدة مؤتمرات في البلدان الأفريقية حيث حصل على انطباع مباشر عن الوضع في تلك البلدان المستقلة حديثا.
في نهاية عام 1960، تم تشخيص إصابته بسرطان الدم وقيل له إنه لن يعيش سوى أشهر قليلة. وبعد محاولات فاشلة لعلاجه، توفي في دجنبر 1961 في الولايات المتحدة عن عمر يناهز 36 عاما.
هذا ما يحدد السياق الذي كتب فيه “معذبو الأرض”، في ربيع وصيف عام 1961. عرف فانون أنه سيموت وأراد أن يخلد بشكل مكتوب بعض أفكاره الأخيرة، حول ما رآه في جميع أنحاء أفريقيا، وتجربته في الثورة الجزائرية وأي دروس يمكن استخلاصها منها لحركات أخرى مماثلة.
في الواقع، الكتاب لم يُكتب، بل أملاه فانون، وهو ما ينعكس في أسلوب النص. إذ لا يحتوي على مراجع كثيرة، ولا توجد فيه اقتباسات كثيرة. إنه مجرد خطاب خام لرجل يحتضر، رجل يائس وغاضب، ويريد أن يترك شيئا مكتوبا عن القضايا التي تقلقه حقا. كان لتلك الطبيعة الخام للكتاب ولغته القوية تأثير كبير على الثوريين الآخرين في ذلك الوقت، وما زال يؤثر على الحركات المناضلة في جميع أنحاء العالم. لكن من الضروري لأي ثوري أن يفصل بين ما هو صحيح في كتاب فانون وبين ما هو خاطئ.
الأممية
عنوان الكتاب مأخوذ من بيت في نشيد الأممية باللغة الفرنسية: “Debout les Damnés de la terre” [هبوا يا معذبي الأرض]. إلا أن فانون لم يأخذه مباشرة من نشيد الأممية، بل عبر قصيدة بعنوان “Sales nègres” [الزنوج القذرون] للشاعر الهايتي جاك رومان، الذي كان أيضا من مؤسسي الحزب الشيوعي الهايتي. قصيدة “Sales nègres”، التي كتبت عام 1945، هي قصيدة عن تمرد الشعوب المستعمرة ونضال عمال البلدان المتقدمة، وتستخدم كلمات الأممية كصرخة حاشدة للثورة من أجل القضاء على عالم أصحاب الأبناك والرأسماليين: (انظر الصورة)
إن العلاقة بين نضال الجماهير المضطهَدة المستعمَرة وبين نضال البروليتاريا في البلدان الإمبريالية، كانت أيضا شيئا قد تطرق له فانون. وعلى عكس ما يدعيه معظم منظري ما بعد الاستعمار، فإن فانون لم يقل بأن الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة لا يمكنها أن تلعب أي دور ثوري. بل إنه اشتكى بمرارة من أن اليسار الفرنسي والديمقراطيون الفرنسيون، وخاصة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية، لم يقوموا بواجبهم في دعم حركة التحرير الجزائرية، وهو ما يظهر، على سبيل المثال، في رسالته الشهيرة “المثقفون والديمقراطيون الفرنسيون والثورة الجزائرية” (نُشرت في سلسلة من ثلاث مقالات في جريدة المجاهد: في أعداد 1 و15 و30 دجنبر، 1957) حيث يقول:
«إن إحدى أولى واجبات المثقفين والعناصر الديمقراطية في البلدان المستعمِرة هي دعم التطلعات القومية للشعوب المستعمَرة دون تحفظ. ويرتكز هذا الموقف على اعتبارات نظرية مهمة للغاية: … اتفاق المصالح بين الطبقات العاملة في البلد المستعمِر ومصالح مجموع سكان البلد المحتل والمهيمن عليه…».
وتنتهي هذه الرسالة المفتوحة بمناشدة واضحة لليسار الفرنسي، للربط بين نضال الشعب الفرنسي من أجل تحسين الظروف المعيشية والحقوق الديمقراطية وبين نضال الشعب الجزائري من أجل التحرر الوطني:
«إن جبهة التحرير الوطني تخاطب اليسار الفرنسي، والديمقراطيين الفرنسيين، وتطلب منهم تشجيع كل إضراب يقوم به الشعب الفرنسي ضد ارتفاع تكاليف المعيشة، والضرائب الجديدة، وتقييد الحريات الديمقراطية في فرنسا، والتي هي كلها نتيجة مباشرة لحرب الجزائر. وتطالب جبهة التحرير الوطني اليسار الفرنسي بتعزيز عمله في نشر المعلومات ومواصلة العمل بين الجماهير الفرنسية لتوضيح خصائص نضال الشعب الجزائري والمبادئ التي تحركه وأهداف الثورة الجزائرية. إن جبهة التحرير الوطني تحيي الفرنسيين الذين تحلوا بالشجاعة لرفض حمل السلاح ضد الشعب الجزائري، والذين هم الآن في السجن. هذه الأمثلة يجب أن تتضاعف…»[1].
ويضيف في كتابه “معذبو الأرض” إن مهمة تحرير البشرية، “البشرية جمعاء، سيتم تنفيذها بمساعدة لا غنى عنها من جانب الشعوب الأوروبية”، ولكن لكي يكون ذلك ممكنا، يجب عليهم أولا أن يقرروا “الاستيقاظ. وينتفضوا”[2].
دور البرجوازية
تعكس كل صفحات الكتاب انشغال فانون الشديد بدور البرجوازية الوطنية في البلدان المستعمَرة. وهذه إحدى نقاط القوة في الكتاب. إنه يصف البرجوازية الوطنية بالخيانة. ويقول إنه لا ينبغي السماح لها أبدا بالاستيلاء على السلطة، لأنها إذا تمكنت من ذلك فإنها ستصبح عميلة للإمبريالية. فهدفها الوحيد هو استبدال الحكم الإمبريالي بحكمها هي. ويقول إنها لا تتمتع بأي من الخصائص الثورية التي كانت تمتلكها البرجوازية الغربية تاريخيا (وفقدتها اليوم)، وما إلى ذلك. وهو على حق تماما في كل هذا.
كان فانون يتحدث من خلال التجربة. فباعتباره ممثلا للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، تمكن من أن يرى بالضبط هذه السيرورة تحدث في العديد من البلدان الأفريقية المستقلة حديثا التي زارها، وخلص إلى ما يلي: «من الشائع أن نلاحظ… أنه في غالبية الحالات، بالنسبة لخمسة وتسعين في المائة من سكان البلدان المتخلفة، لا يجلب الاستقلال أي تغيير فوري»[3].
يوضح فانون أن:
«البرجوازية الوطنية ستكون راضية تماما بلعب دور وكيل الأعمال لصالح البرجوازية الغربية، وسوف تلعب دورها دون أي عقدة بطريقة متقنة. لكن هذا الدور المربح نفسه، ووظيفة الخادم الرخيصة هذه، وقصر النظر، وغياب كل طموح، يرمز إلى عجز الطبقة الوسطى الوطنية عن الوفاء بدورها التاريخي كبرجوازية… منذ البداية تتماهى البرجوازية الوطنية في البلدان المستعمَرة مع انحطاط برجوازية الغرب. ولا ينبغي لنا أن نعتقد أنها تقفز إلى الأمام؛ إنها في الواقع تبدأ من النهاية. لقد شاخت بالفعل قبل حتى أن تتعرف على نزق الشباب أو شجاعتهم أو رغبتهم في النجاح»[4].
ومن هذا المنطلق، استخلص فانون استنتاجات حادة للغاية: «في البلدان المتخلفة، لا ينبغي السماح للبرجوازية بإيجاد الظروف اللازمة لوجودها ونموها». ويضيف: «إن السؤال النظري الذي ظل يُطرح طوال الخمسين سنة الماضية، كلما طرح تاريخ البلدان المتخلفة على طاولة النقاش -حول ما إذا كان يمكن تخطي المرحلة البرجوازية أم لا- ينبغي الإجابة عليه في مجال العمل الثوري وليس بالمنطق».
ورغم أن فانون يبدو هنا وكأنه يرفض دور النظرية، فإن استنتاجه واضح: «إن المرحلة البرجوازية في تاريخ البلدان المتخلفة هي مرحلة عديمة الفائدة تماما»[5]. ويصر على أنه: «يجب أن نكرر، أنه من الضروري أن نعارض بقوة وبكل تأكيد ميلاد البرجوازية الوطنية»[6].
وهو محق بشكل كامل في هذا الصدد. إنه لم يتوصل إلى هذه الاستنتاجات من خلال البحث النظري، بل من خلال تجربته العملية الخاصة. وقد تمت كتابة لائحة الاتهام هذه ضد البرجوازية الوطنية والطبقة الوسطى وقيادة حركات التحرر الوطني في عام 1961، أي قبل وقت قصير من استقلال الجزائر. ومن المرجح أنه لم يكن يشير فقط إلى ما رآه في بلدان أفريقية أخرى، بل أيضا إلى ما يمكن أن يكون قد رآه في جبهة التحرير الوطني نفسها: عناصر برجوازية صغيرة تصل إلى قيادة الحركة، وتقتسم الغنائم فيما بينها ولا تهتم بمعذبي الأرض الذين يخوضون النضال.
إن موقف فانون بشأن هذه المسألة (دور البرجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة) يقترب، في واقع الأمر، من ذلك الذي أوضحه تروتسكي في كتابه “الثورة الدائمة” والذي يظهر كذلك في أطروحات الأممية الشيوعية حول المسائل الاستعمارية، والتي تم تبنيها في عام 1920 و1922.
لقد أصر كل من لينين وتروتسكي على أن البرجوازية في البلدان المتخلفة والمضطهَدة لن تلعب، ولن تستطيع أن تلعب، أي دور تقدمي في النضال ضد الإمبريالية. وأوضحا أنه يجب على الجماهير المضطهَدة، بقيادة الطبقة العاملة، أن تستولي على السلطة وتطيح بالرأسمالية.
وكما قال لينين فإنه:
«ينبغي على الأممية الشيوعية أن تطرح، مع تقديم الأساس النظري المناسب، الاقتراح القائل بأنه بمساعدة بروليتاريا البلدان المتقدمة، يمكن للبلدان المتخلفة أن تنتقل إلى النظام السوفياتي، وأن تتمكن، من خلال مراحل معينة من التطور، من الانتقال إلى الشيوعية، دون الحاجة إلى المرور بالمرحلة الرأسمالية»[7].
لكن هناك اختلافات مهمة بين مفهوم فانون للثورة في المستعمرات، وبين المفهوم الذي طرحه لينين وتروتسكي. وهنا تتضح عيوب كتاب “معذبو الأرض”.
الطبقة العاملة
ومن أبرز نقاط ضعف الكتاب هي أن فانون لا ينطلق من تحليل علمي مفصل للمجتمع الجزائري وتاريخه. صحيح أنه يشير في بعض الأحيان إلى ماركس وإنجلز في أعماله، لكن من الواضح أنه لم يكن ماركسيا على الإطلاق. ويقول في كتابه “معذبو الأرض” إن “التحليل الماركسي يجب دائما أن يتم تعديله قليلا في كل مرة نتعامل فيها مع المشكلة الاستعمارية”.
لكن ذلك “التعديل الطفيف” يصبح، في الواقع، وكما سنرى، قطيعة كاملة مع التحليل الماركسي. كان منطقه في ذلك هو أنه: «عندما تدرس عن كثب السياق الاستعماري، فمن الواضح أن ما يقسم العالم هو البدء بحقيقة الانتماء أو عدم الانتماء إلى عرق معين، إلى صنف معين. ففي المستعمرات، البنية التحتية الاقتصادية هي أيضا بنية فوقية. السبب هو النتيجة؛ أنت غني لأنك أبيض، وأنت أبيض لأنك غني»[8].
هذا التحليل القائم على وضع العرق محل الطبقة في المجتمعات المستعمَرة قاده إلى استنتاج أنه «من الواضح أنه في البلدان المستعمَرة الفلاحون وحدهم هم الثوريون، لأنه ليس لديهم ما يخسرونه وسيكسبون كل شيء»[9]. ويضيف أن البروليتاريا الرثة هي أيضا ثورية: «وهكذا فإن القوادين، والبلطجية، والعاطلون عن العمل، وصغار المجرمين، الذين يتم حثهم من الخلف، يندفعون بأنفسهم إلى النضال من أجل التحرر مثل عمال شجعان»[10]، على الرغم من أنه هو نفسه يعترف لاحقا بأن البروليتاريا الرثة يمكن أن تستخدم من قبل القوى الاستعمارية الرجعية:
«سيجد الاستعمار أيضا في البروليتاريا الرثة مساحة كبيرة للمناورة. ولهذا السبب فإن أي حركة تناضل من أجل الحرية ينبغي لها أن تولي أقصى اهتمامها لهذه البروليتاريا الرثة. سوف تستجيب جماهير الفلاحين دائما للدعوة إلى التمرد، ولكن إذا اعتقد قادة التمرد أنهم سيكونون قادرين على التطور دون أخذ الجماهير في الاعتبار، فإن البروليتاريا الرثة سوف ترمي بنفسها في المعركة وسوف تشارك في الصراع، لكن إلى جانب المضطهِد هذه المرة. والمضطهِد، الذي لا يضيع أبدا أية فرصة لدفع الزنوج ضد بعضهم البعض، سيكون ماهرا للغاية في استخدام ذلك الجهل وانعدام الوعي اللذان يمثلا نقطة ضعف البروليتاريا الرثة. إذا لم تعمل قوى التمرد فورا على تنظيم هذا الاحتياطي المتاح من الجهد البشري، فسوف يجد نفسه يقاتل كجنود مأجورين إلى جانب القوات الاستعمارية»[11].
لقد أصر لينين وتروتسكي والأممية الشيوعية تحت قيادتهما، على الدور القيادي للبروليتاريا، بما في ذلك في البلدان المستعمَرة المتخلفة، والتي عليها، أثناء مشاركتها في الحركة العامة للتحرر الوطني، أن تنظم نفسها بشكل مستقل منذ البداية.
يرى فانون أن الطبقة العاملة في بلد مثل الجزائر هي، في الواقع، طبقة “برجوازية”، طبقة محظوظة لا يمكن للمجتمع الاستعماري أن يوجد بدونها. ومن هنا يستنتج أن العمال لديهم مصلحة في الإبقاء على الاستعمار، وبالتالي لا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم في النضال من أجل التحرر الوطني:
«إن البروليتاريا في البلدان المستعمَرة هي نواة السكان المستعمَرين الذين تعرضوا أكثر من غيرهم للتدليل من قبل النظام الاستعماري. إن البروليتاريا الجنينية في المدن تتمتع بوضع متميز نسبيا. في البلدان الرأسمالية، ليس لدى الطبقة العاملة ما تخسره؛ إنهم هم الذين سيكسبون كل شيء على المدى الطويل. أما الطبقة العاملة في البلدان المستعمَرة، فإن لديها كل شيء لتخسره؛ إنها تمثل، في الواقع، ذلك الجزء من الأمة المستعمَرة الضروري والذي لا يمكن تعويضه إذا أرادت الآلة الاستعمارية أن تعمل بسلاسة: ويشمل ذلك سائقي الترام، وسائقي سيارات الأجرة، وعمال المناجم، وعمال الموانئ، والمترجمين الفوريين، والممرضين، وما إلى ذلك. إن هذه العناصر هي التي تشكل أكثر أتباع الأحزاب الوطنية إخلاصا، والتي تشكل أيضا، بسبب المكانة المتميزة التي تحتلها في النظام الاستعماري، الجزء “البرجوازي” من الشعب المستعمَر»[12].
إن أفكار فانون حول الدور الذي تلعبه مختلف الطبقات في الحركة الثورية في البلدان الرأسمالية المتخلفة قد تم دحضها مرات عديدة في العديد من البلدان، بما في ذلك الجزائر نفسها. صحيح أن الطبقة العاملة الجزائرية كانت صغيرة جدا في ذلك الوقت. لكن الطبقة العاملة الروسية كانت هي أيضا صغيرة بالنسبة إلى إجمالي عدد السكان في وقت الثورة الروسية، ومع ذلك فقد اعتمد البلاشفة على العمال لقيادة ثورة ناجحة.
كانت للطبقة العاملة الجزائرية تقاليد ثورية متجذرة: تقاليد شيوعية كفاحية. ولإعطاء مثال واحد على ذلك نشير إلى أنه في عام 1950، أي قبل عشر سنوات فقط من كتابة فانون لتلك السطور، كان هناك إضراب لعمال الموانئ الفرنسيين ضد شحنة للأسلحة مخصصة للحرب الاستعمارية الفرنسية في الهند الصينية. تلك الحركة، التي دعت إليها نقابة CGT، كانت، في الواقع، قد بدأت في ميناء وهران بالجزائر، قبل موانئ فرنسا نفسها. حيث قام 2500 من عمال الميناء بشل الميناء بالكامل، ومنعوا أي شحنة من الأسلحة للحرب. وردا على القمع البوليسي الوحشي، اتسع نطاق الحركة لتتحول إلى إضراب عام شامل في كل أنحاء المدينة، وصراع استمر لأسابيع عجزت السلطات الاستعمارية عن إخماده[13].
لدينا هنا مثال رائع عن الدور الذي تلعبه الطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي، حتى في مجتمع متخلف ومستعمَر. مجموعة صغيرة من العمال يستخدمون قوتهم لشل قطاع رئيسي من الاقتصاد، ثم يحشدون خلفهم جماهير السكان، في حركة سياسية مناهضة للإمبريالية في هذه الحالة. هذه هي الفئات التي وصفها فانون بـ“القسم البرجوازي من الشعب المستعمَر”!
وحتى خلال حرب التحرير الوطني الجزائرية، كانت هناك العديد من الإضرابات العامة المهمة. في يوليوز 1956، دعت جبهة التحرير الوطني إلى إضراب وطني عام، ليس فقط في الجزائر، بل أيضا بين العمال الجزائريين في فرنسا. انخرط في ذلك الإضراب عدد كبير من المشاركين، ليس فقط من العمال بل أيضا من شرائح أوسع من السكان، بما في ذلك إغلاق المتاجر والمقاولات الصغيرة، كما عرف مشاركة المثقفين والطلاب من الطبقة الوسطى، وما إلى ذلك.
وفي عام 1957، بعد هزيمة معركة الجزائر (التي صورها ببراعة جيلو بونتيكورفو في فيلم يحمل نفس الاسم)، دعت جبهة التحرير الوطني إلى إضراب وطني لمدة ثمانية أيام، مما أدى إلى شل البلاد بأكملها. كان الإضراب في المقام الأول بقيادة عناصر من الطبقة العاملة، إلا أنه عرف مشاركة الشعب الجزائري ككل، مما كشف عن القوة الهائلة للعمال وكذلك الدعم الهائل الذي كانت حركة التحرير تحظى به.
كانت المشكلة في تلك التحركات هي أن قيادة جبهة التحرير الوطني، البرجوازية الصغيرة، كانت تعتبر نضالات العمال مجرد وسيلة لكسب النفوذ في المفاوضات داخل الأمم المتحدة، وتقديم نفسها على أنها الممثل “الشرعي” الوحيد للشعب الجزائري أمام ما يسمى بـ“المجتمع الدولي”. لم تنظر قيادة جبهة التحرير الوطني في أي وقت من الأوقات إلى حركة الإضرابات باعتبارها وسيلة لإعداد وتنظيم قوى الطبقة العاملة نحو القيام بانتفاضة ثورية جماهيرية.
لقد لعبت الطبقة العاملة دورا هاما جدا في حرب التحرير الوطني الجزائرية. لكن هناك عنصر آخر. كان هناك حوالي 300 ألف عامل جزائري في فرنسا، وكانوا يعملون في مصانع كبرى. ففي مصنع رينو بيلانكور، كان هناك 2000 عامل جزائري، يقبعون في الدرجات الأدنى لسلم الأجور، في قطاع صهر المعدن على سبيل المثال، حيث كانوا يمثلون حوالي 60% من القوى العاملة. لقد لعبوا دورا كبيرا في النضال من أجل التحرر الوطني، من خلال خوضهم للإضرابات، وتمويل الحركة، وكان لهم دور حاسم في مظاهرة 17 أكتوبر 1960 في باريس، التي قُتل فيها المئات على يد الشرطة الفرنسية.
وبالتالي فإنه حتى في بلد مثل الجزائر في خمسينيات القرن العشرين، حيث كانت الطبقة العاملة تمثل نسبة صغيرة من السكان، فإنها تستطيع، بل وينبغي لها، أن تلعب الدور القيادي في أي نضال ثوري، وذلك لسببين رئيسيين: أولا، بسبب الطريقة التي تتمكن بها الطبقة العاملة من تطوير وعي جماعي نتيجة لاستغلالها من قبل نفس رب العمل وفي ظل نفس الظروف. وثانيا، لأن الطبقة العاملة، في أي مجتمع رأسمالي، لديها القدرة على إيقاف الإنتاج وشل المجتمع، وهي قوة لا يملكها الفلاحون والبروليتاريا الرثة. كما أن التناقض الرئيسي في قلب أي مجتمع رأسمالي هو التناقض الموجود بين العمال وبين الرأسماليين، حيث أن استخراج فائض القيمة من الطبقة العاملة هو الآلية التي يتم من خلالها تراكم رأس المال.
يمكن لفئات أخرى أن تلعب دورا هاما في الحركة الثورية، خاصة في بلد مثل الجزائر، حيث يشكل الفلاحون أغلبية السكان، لكن الطبقة العاملة وحدها هي القادرة على توفير قيادة مستقلة يمكنها الإطاحة بكل من الإمبريالية وبرجوازيتها العميلة في المستعمرات.
لقد أثبتت كل التجارب التاريخية أن الفلاحين غير قادرين على لعب دور مستقل في النضال الثوري. وذلك لثلاثة أسباب رئيسية: أولا، طبقة الفلاحين هي طبقة غير متجانسة على الاطلاق، وتتكون من شرائح مختلفة، بدءا من الفلاحين الذين لا يملكون أرضا، إلى صغار الفلاحين، وصولا إلى الفلاحين المتوسطين والأغنياء الذين يستغلون العمل المأجور. وهذا يعني أن بعض الفلاحين يستغلون في الواقع فلاحين آخرين. ثانيا، السمة الأساسية المسيطرة على نظرة الفلاح هي رغبته في امتلاك الأرض، والتي تتلخص في شعار “الأرض لمن يزرعها”. وهذا يعني، مع استثناءات قليلة جدا، أن الفلاح يطور نظرة فردانية، وهي نظرة ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألة ملكيته الفردية. ثالثا هو أنه حتى لو استولت حركة ثورية على السلطة في المدن بمساعدة جيش الفلاحين، فإنه سيتوجب على هؤلاء الفلاحين العودة إلى قطعة أرضهم. وبالتالي، لا يمكنهم، كطبقة، أن يحتفظوا بالسلطة.
العنف
في بداية الكتاب يتحدث فانون عن العنف، وهو محق تماما في أمر واحد: لا يمكن مقارنة عنف المضطهَدين أو مساواته بعنف المضطهِدين. يجب على المرء أن يفهم أن عنف المضطهَدين هو نتيجة عقود من القمع الوحشي، والاعتداءات، وقمع الشعور القومي. وفي هذا هو على حق.
لكنه مخطئ فيما يتعلق بالعنف من ناحيتين: الأولى هي عندما يصف العنف باعتباره تجربة تطهيرية ضرورية، من وجهة نظر فردية وجماعية: “بالنسبة للشعب المستعمَر، إن هذا العنف، لأنه يشكل عملهم الوحيد، يكسب شخصياتهم صفات إيجابية وخلاقة. إن ممارسة العنف ترصهم كبنيان واحد… وعلى مستوى الأفراد، يعتبر العنف قوة تطهير. إنه يحرر المواطن الأصلي من عقدة النقص ومن اليأس والتقاعس. إنه يجعله شجاعا ويعيد له احترامه لذاته”[14].
إن هذه المبالغة في دور العنف، والتي تنبع ربما من تكوين فانون في الطب النفسي، كشفت عن ضعف خطير في تحليله. من المؤكد أن عقلية المضطهَدين تتغير خلال الثورة والعمل الجماعي، مما يساعد على اكتشاف قوة الحركة الجماهيرية ويخلق عند الجماهير الثقة في قواها الخاصة. لكن هذا لا يتطلب أن يقوم كل فرد بقتل عميل للقوة الاستعمارية أو بتفجير قنبلة.
كما أن عجز فانون عن تطبيق تحليل طبقي منسجم قاده أيضا إلى الوصول إلى استنتاجات خاطئة تماما. فبعد أن وجه انتقادا صحيحا لدور البرجوازية الوطنية في البلدان المستعمَرة، انتقل إلى القول بأن المشكلة تكمن في الأساليب التي استخدمت لتحقيق الاستقلال في بلدان مثل السنغال، والتي تم تحقيق الاستقلال فيها، كما يوضح فانون، عبر الوسائل السلمية والمفاوضات والتسويات. فجاء الاستقلال هبة من قبل القوة الاستعمارية السابقة، ولهذا السبب سارت الأمور بشكل خاطئ.
ويرى أنه إذا تم استخدام العنف الثوري للإطاحة بالمستعمِرين وطردهم، فإن “الشعب”، بعد أن يكون قد قام بالكفاح المسلح، سيبقى مسيطرا على الحركة بعد الاستيلاء على السلطة، ولن يسمح للبرجوازية بالوصول إلى السلطة. يقول: «حتى لو كان الكفاح المسلح رمزيا وتمت تعبئة الأمة من خلال حركة سريعة لإنهاء الاستعمار، فإنه يكون لدى الشعب الوقت الكافي ليرى أن التحرير كان عمل الجميع وأن القائد ليست لديه أية ميزة خاصة… وعندما يشارك الشعب بالعنف في معركة التحرر الوطني، فلن يسمح لأحد بأن ينصب نفسه على أنه “محرر”». ويضيف: «إن وعي الشعب، الذي ينيره العنف، يتمرد ضد أي تهدئة»[15].
لقد أثبتت التجربة الجزائرية خطأ فانون. مرت الثورة الجزائرية، بعد نيل الاستقلال عام 1962، بمرحلة أولية جذرية للغاية تمثلت في الاستيلاء على الأراضي، واحتلال المصانع، والإدارة الذاتية للعمال، وتأميم الصناعات. لكن سرعان ما تم عكس ذلك تماما من خلال انقلاب بومدين عام 1965 وتأسيس نظام بيروقراطي رأسمالي دكتاتوري. وهذا بالضبط ما كان فانون يحذر منه، ويريد منع حدوثه.
حقيقة أن الثورة الجزائرية قامت من خلال الكفاح المسلح، باستعمال العنف، لم تمنع حدوث نفس الانحطاط. المسألة الحاسمة ليست متعلقة بدرجة العنف المستخدم في النضال من أجل الاستقلال، بل بالطبيعة الطبقية للقيادة وبرنامجها. وتقع المسؤولية عن ذلك بشكل رئيسي على عاتق الحزبين الشيوعيين الفرنسي والجزائري، اللذين تخليا عن الموقف اللينيني الصحيح.
إن النظرية الخاطئة من شأنها أن تؤدي إلى أخطاء في الممارسة العملية، وقد ارتكب فانون أحد هذه الأخطاء عندما كان سفيرا للحكومة الجزائرية المؤقتة. ففي ذلك الوقت، كان فانون يتعامل مع مجموعات مختلفة في جميع أنحاء القارة كانت تطلب المساعدة من الجزائريين في نضالها. وفي أنغولا، اتصلت مجموعتان من تلك المجموعات بجبهة التحرير الوطني الجزائرية. إحداهما كانت UPA (اتحاد شعوب أنغولا) بقيادة هولدن روبرتو والأخرى كانت MPLA (الحركة الشعبية لتحرير أنغولا).
وبدلا من أن ينظر إلى سياسات تلك المجموعات، أو محتواها الطبقي، أو أي عوامل أخرى من هذا القبيل، ركز فانون على شيء واحد فقط وهو: أي من المجموعتين هي التي تريد بدء الكفاح المسلح في أقرب وقت ممكن. أرادت الحركة الشعبية لتحرير أنغولا القيام ببعض الأعمال التحضيرية وبناء القواعد في المدن قبل شن الكفاح المسلح. وقد دفعه ذلك إلى اختيار الأسوأ بين المجموعتين، أي: مجموعة هولدن روبرتو، اتحاد شعوب أنغولا[16].
هذه المنظمة التي كانت قائمة على أساس قبلي، والتي كانت تتلقى بالفعل المال من الولايات المتحدة، صارت فيما بعد جبهة التحرير الوطني لأنغولا، إحدى القوى الرجعية الرئيسية خلال الحرب الأهلية الأنغولية بعد الاستقلال. كانت مدعومة من الولايات المتحدة والصين والدكتاتور الزائيري الرجعي، موبوتو سيسي سيكو، وقاتلت في نفس الجانب مع حزب الاتحاد الوطني للاستقلال الكلي الأنغولي (UNITA) الرجعي ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ضد الحركة الشعبية لتحرير أنغولا والكوبيين في معركة كويتو كوانافالي الشهيرة. وبموافقة فانون ودعم من جبهة التحرير الوطني الجزائرية، شن اتحاد شعوب أنغولا عملية توغل مسلح فاشلة وسيئة الإعداد إلى أنغولا، انطلاقا من الكونغو في عام 1961، مما أدى إلى كارثة.
إذا أخذت العنف باعتباره معيارك الوحيد، فمن المحتم أن ترتكب كل أنواع الأخطاء. ستكون هناك منظمات تؤيد العنف لجميع الأسباب الخاطئة، والتي لديها منظور خاطئ، وسياسات خاطئة. وهكذا انتهى الأمر بفانون إلى دعم مجموعة كانت مدعومة أيضا من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وبعد سنوات قليلة كان يقف في نفس الجانب الذي كان يقف فيه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
الرأسمالية أم الاشتراكية؟
كان فانون كذلك في حيرة شديدة بشأن نوع المجتمع الذي على الثورة الجزائرية أن تبنيه. هل هو مجتمع اشتراكي، أم مجتمع رأسمالي؟ يتضمن كتابه إجابات مختلفة عن هذا السؤال، حيث أنه يناقض نفسه. فتارة يقول: «إن اختيار النظام الاشتراكي، النظام الموجه بالكامل نحو الشعب ككل والقائم على مبدأ اعتبار الإنسان أثمن الثروات، سيسمح لنا بالمضي قدما بسرعة أكبر وبشكل أكثر انسجاما»[17]. لكنه في فقرة أخرى يقول: «إن المواجهة الأساسية التي كانت تبدو وكأنها بين الاستعمار ومناهضة الاستعمار، وفي الواقع بين الرأسمالية والاشتراكية، قد بدأت تفقد بعض أهميتها بالفعل. إن ما يهم اليوم، والسؤال الذي يلوح في الأفق، هو الحاجة إلى إعادة توزيع الثروة»[18]. كيف يمكنك إعادة توزيع الثروة إذا تجنبت الاجابة عن سؤال هل الرأسمالية أو الاشتراكية؟
ثم يضيف:
«يجب على البلدان المتخلفة أن تبذل قصارى جهدها لإيجاد قيمها وأساليبها الخاصة والأسلوب الذي يجب أن يكون خاصا بها. إن المشكلة الملموسة التي نجد أنفسنا أمامها ليست مشكلة الاختيار، مهما كلف الأمر، بين الاشتراكية والرأسمالية كما حددها أناس من قارات أخرى ومن عصور أخرى»[19].
ما يقوله، إذن، هو أن الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية لم يكن ذا أهمية بالنسبة للجزائر في منتصف القرن العشرين، كما لو كان الأمر يتعلق بأوروبا في القرن التاسع عشر. ما هو البديل الذي قدمه لهذا “الاختيار الخاطئ”؟ كان بديله هو “حركة عدم الانحياز”، التي تأسست في مؤتمر باندونغ عام 1955. والتي تأسست في سياق الصراع بين الكتلة الدبلوماسية المتحلقة حول الاتحاد السوفياتي الستاليني، وبين الكتلة الإمبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حاولت عدد من بلدان العالم الثالث أن تتوازن بين المعسكرين والحصول على مزيد من الاستقلالية.
يشبه ذلك بعض الأفكار المتداولة اليوم حول الطابع التقدمي لـ“عالم متعدد الأقطاب”. لكن علينا أن نؤكد أن حركة عدم الانحياز ومؤتمر باندونغ لم يناضلا أبدا من أجل التحرر الوطني ولم يكن لهما أي محتوى تقدمي على الإطلاق. لقد ضما جميع أنواع البلدان. بعضها كان قد ألغى الرأسمالية، مثل يوغوسلافيا، لكن البعض الآخر كان ممالك شبه إقطاعية رجعية، مثل المملكة العربية السعودية والكويت والمغرب، بل وكان بعضها متحالفا بشكل وثيق مع الإمبريالية الأمريكية. وكان من المفترض أن يكون هذا هو البديل عن “الاختيار الزائف بين الاشتراكية والرأسمالية”!
صحيح أن بعض نقاط ضعف الفكر السياسي لفانون نبعت، بطبيعة الحال، من خيانة الستالينية. فالحزب الشيوعي الستاليني في فرنسا خان الثورة الجزائرية، ولم يكن الاتحاد السوفياتي ينشر الثورة العالمية، بل كان يتبنى “التعايش السلمي”. وهو ما لم يكن بديلا جذابا للغاية، فذهب فانون يبحث عن طريق ثالث.
لكن ولسوء الحظ، دفع ذلك بفانون إلى استخلاص بعض الاستنتاجات الساذجة للغاية. حيث يقول في كتابه إن البلدان المستعمَرة يجب أن تناضل من أجل التحرر الوطني من خلال النضال العنيف، ثم تعمل على إقناع البلدان الإمبريالية أنه من مصلحتها السماح بالتنمية الوطنية لتلك البلدان المستقلة حديثا ومساعدتها على ذلك:
«وبقدر ما تم التخلي عن العالم الثالث وحكم عليه بالتراجع، أو على الأقل بالركود، بسبب أنانية وشر الأمم الغربية، فإن الشعوب المتخلفة ستقرر مواصلة تطورها داخل إطار الاكتفاء الذاتي الجماعي. وهكذا سيتم حرمان الصناعات الغربية بسرعة من أسواقها الخارجية. ستعمل الآلات على تكديس منتجاتها في المستودعات وسينشأ صراع لا يرحم في السوق الأوروبية بين الصناديق الائتمانية والمجموعات المالية. إغلاق المصانع وتأخر دفع رواتب العمال والبطالة كل ذلك سيجبر الطبقة العاملة الأوروبية على الانخراط في نضال مفتوح ضد النظام الرأسمالي. عندها ستدرك الاحتكارات أن مصالحها الحقيقية تكمن في تقديم المساعدات للبلدان المتخلفة، مساعدات غير محدودة ودون الكثير من الشروط (…).
علينا، على العكس من ذلك، أن نؤكد للبلدان الرأسمالية ونشرح لها أن المشكلة الأساسية في عصرنا ليست الصراع بينها وبين النظام الاشتراكي. لا بد من إنهاء الحرب الباردة، لأنها لن تؤدي إلى أية نتيجة. ويجب أن تتوقف خطط نشر الأسلحة النووية في العالم، ويجب تقديم استثمارات ومساعدات تقنية واسعة النطاق للمناطق المتخلفة»[20].
التشوهات
وباختصار، يمكننا القول إن هناك على الأقل نقطتين قويتين وهامتين للغاية في “معذبو الأرض”. النقطة الأولى هي ذلك الانتقاد الشديد للغاية من البرجوازية الوطنية في البلدان المستعمَرة والتحذير منها. والنقطة الثانية هي أنه لا يمكن تحقيق التحرر من الاستعمار إلا من طرف الجماهير نفسها من خلال الثورة. وينعكس هذا في حقيقة أن فانون، الذي كان شخصا متعلما من الطبقة المتوسطة من جزر المارتينيك في منطقة البحر الكاريبي، قرر أن يشارك في النضال في البلد الذي يقيم فيه، ودافع عن حق الشعب الجزائري في الثورة ضد عنف المضطهِدين.
لكن إذا كنا سنبحث في الكتاب عن مساهمة مفيدة أو عن مخطط للاستراتيجية الثورية في البلدان التي تهيمن عليها الإمبريالية، فإنه يحتوي على العديد من الأفكار المشوشة والأفكار الخاطئة بشكل واضح والتي تؤدي إلى نتائج عكسية.
وعلاوة على ذلك، فقد تم تشويه أفكار فانون بشكل مريع من قبل الأكاديميين في الجامعات. يتمتع فانون بشعبية كبيرة في تلك الأوساط، حيث يلتقطون الجوانب الأكثر غموضا من بين ما قاله، ويحرفون أفكاره، ويقلبونها ويجعلونها شيئا غير مفهوم تماما، ولا علاقة له بما قاله أو فعله فانون بالفعل.
ولإعطاء مثال واحد فقط نشير إلى تنظيم مجموعة من الأكاديميين في إحدى الجامعات الكندية لندوة عن فانون عام 2022، حيث كتبوا عن “جغرافيات فانون”، ومن بين ما جاء فيها:
«إن فانون، عبر نصوصه، هو الحكم على المعرفة الجغرافية، وهذه الموضعية تزوده بنوع من الدقة الخرائطية التي تتمسك بالاستعمار وتحطمه في الوقت نفسه… لا يمكن التنظير لجغرافيات فانون على أنها مغلقة أو محتواة. كتاباته يمكن مشاركتها ومناقشتها وممارستها بشكل تعاوني، وهذا النوع من السعة يضفي إحساسا متعدد التخصصات ومنفتحا بالمكان»[21].
يكاد يكون من المستحيل فهم ولو كلمة واحدة مما قيل هنا، وهذا أمر مقصود.
ليس من قبيل الصدفة أن يعتمد أكاديميو ما بعد الحداثة المناهضون للاستعمار بشكل كبير على فانون، فيلتقطون العناصر الأكثر غموضا وارتباكا في كتاباته، ويركزون بشكل خاص على كتاباته حول الطب النفسي. إن كل ما يهمهم هو “إنهاء استعمار العقل”. إنهم مجرد ثرثارين يقتصرون على التأمل في سيرورات التفكير الداخلية الخاصة بهم.
أما فانون فإنه، على النقيض منهم، كان ثوريا. لقد أصر على أن يكون له دور قتالي داخل الحركة، وهو ما رفضه قادة جبهة التحرير الوطني الذين قرروا أنه يمكن أن يلعب دورا أكثر فائدة في مناصب أخرى. إنه يستحق التعامل معه باعتباره ثوريا، ومن واجبنا أن نشير إلى عيوب منهجه في الاستراتيجية الثورية بالإضافة إلى نقاط قوته.
أي طريق إلى الأمام؟
الغالبية العظمى من البلدان المستعمَرة سابقا حققت اليوم استقلالها الرسمي، لكن وكما حذر فانون، فإنها بقيت تابعة للإمبريالية، تحت حكم برجوازياتها “الوطنية”، وما تزال جماهير العمال والفلاحين مضطهَدة.
لقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة انتفاضات جماهيرية شجاعة في مختلف البلدان، الواحد منها تلو الآخر، في مصر وتونس والسودان ولبنان والعراق وتشيلي والإكوادور، وغيرها الكثير. لا يوجد نقص في البطولة والشجاعة والاستعداد للنضال من أجل التحرر الحقيقي.
إن المطلوب هو تسليح الطليعة الثورية في تلك البلدان بفهم نظري واضح للطريق إلى الأمام، من حيث القوى الطبقية المشاركة في الثورة والسياسة التي يجب عليها أن تتبناها. ولتحقيق ذلك نحتاج إلى العودة إلى لينين والأيام الأولى للأممية الشيوعية.
لا يمكن للبلدان الخاضعة للسيطرة أن تحصل على تحرر حقيقي إلا من خلال الإطاحة بالإمبريالية. وهذه المهمة لا يمكن للبرجوازية الوطنية أن تقوم بها، لأنها غير قادرة وغير راغبة في لعب أي دور تقدمي (مثلما أشار فانون بشكل صحيح) وهي مرتبطة بآلاف الروابط بالإمبريالية الأجنبية.
لا يمكن كسر قيود الهيمنة الإمبريالية إلا من خلال نهوض الطبقة العاملة، التي تضع نفسها على رأس الأمة. سيتم دمج المهام الديمقراطية الوطنية مع المهام الاشتراكية من خلال مصادرة الشركات، ليس فقط الشركات المتعددة الجنسيات، بل أيضا شركات الرأسماليين المحليين. وأخيرا لا يمكن للثورة أن تكتمل داخل الحدود الوطنية، بل يجب أن تصبح أممية في نطاقها. لا يمكن للبلدان المتخلفة أن تحقق مستقبلا من التنمية الاقتصادية والحرية الحقيقية إلا من خلال الثورة الاشتراكية العالمية.
خورخي مارتن
هوامش
[1] In Toward the African Revolution, Grove Press, NY, 1988, pp 76, 90
[2] F Fanon, The Wretched of the Earth, Penguin, 2001, pg. 84
[3] ibid, pg. 59
[4] ibid, pgs. 122-123
[5] ibid pgs, 142.143
[6] ibid, pg. 161
[7] V I Lenin, ‘Report Of The Commission On The National and The Colonial Questions’, Lenin Collected Works, Vol. 31, Progress Publishers, 1965, pg 139
[8] F Fanon, The Wretched of the Earth, Penguin, 2001, pg 31
[9] ibid, pg 41
[10] ibid, pg 103
[11] ibid, pg. 109
[12] ibid, pg. 86. Emphasis added.
[13] See: A Aabid, ‘La grève historique des dockers d’Oran’, El Watan, 13 February 2010
[14] F Fanon, The Wretched of the Earth, Penguin, 2001, pg. 73-74
[15] ibid, pg 74
[16] See: ibid., pg 107
[17] ibid, pg. 78
[18] ibid, pgs. 77-78
[19] ibid, pg. 78
[20] ibid, pg. 83 (خط التشديد من عندي)
[21] J Aguiar et al., “Impermanence : On Frantz Fanon’s Geographies”, Antipode Online, 18 August 2021