الرئيسية / قضايا نظرية / الإمبريالية / جرائم الإمبريالية الفرنسية في الكاميرون

جرائم الإمبريالية الفرنسية في الكاميرون

إن النضال الذي خاضه شعب الكاميرون ضد القمع الإمبريالي يتضمن العديد من الدروس للثوريين في جميع أنحاء أفريقيا والعالم. واليوم، لا يزال من الممكن رؤية إرث الحرب القذرة التي شنتها الإمبريالية الفرنسية لسحق هذا النضال. في هذا المقال، الذي نشرناه في العدد 15 من مجلتنا “الحرية والشيوعية”، يشرح الرفيق جول ليجوندغ كيف حكمت فرنسا الكاميرون، والأساليب التي استخدمتها للحفاظ على هيمنتها، حتى بعد الاستقلال الرسمي للبلاد في عام 1960.


شنت الإمبريالية الفرنسية، بين عامي 1955 و1970، حربا شرسة على الشعب الكاميروني من أجل إبقاء البلد تحت سيطرتها. وفي حين أن الجرائم التي ارتكبتها الإمبريالية الفرنسية في الجزائر خلال نفس الفترة قد تم الاعتراف بها الآن (على مضض) من قبل معظم السياسيين البرجوازيين، فإن جرائم الطبقة السائدة الفرنسية في الكاميرون ما تزال موضع إنكار أو تقليل من شأنها.

لقد بدأت تصدر العديد من الدراسات التي تسلط الضوء على الأساليب التي حافظت بها الإمبريالية الفرنسية على قبضتها على الكاميرون، حتى بعد استقلالها الرسمي في عام 1960. وهو تطور ينبغي على الشيوعيين أن يرحبوا به، بغض النظر عن محدودية الاستنتاجات التي يتوصل إليها هؤلاء المؤلفون الأكاديميون. إن دراسة جرائم الإمبريالية الفرنسية في الكاميرون، والنضال الذي خاضه اتحاد شعوب الكاميرون (UPC)، وهزيمته في نهاية المطاف، تحمل جميعها دروسا مهمة للنضال ضد الإمبريالية اليوم.

لم تكن الكاميرون في الأصل مستعمرة من قبل فرنسا. ففي ستينيات القرن التاسع عشر، كانت الشركات الألمانية قد أنشأت مراكز تجارية على ساحل خليج غينيا، بهدف تصدير بضائعها إلى داخل القارة الأفريقية. وفي عام 1885، أكد مؤتمر برلين السيادة الألمانية على ما أصبح يعرف باسم “الكاميرون”.

لم يكن الدافع وراء تلك الموجة الاستعمارية الكبرى في القرن التاسع عشر، والتي قسمت آسيا وأفريقيا بين حفنة من القوى الإمبريالية، هو نزعة الغزو عند عدد قليل من الضباط العسكريين أو السياسيين المتعطشين للسلطة، ولا نية “إيصال الحضارة” إلى تلك القارات، بل كان الهدف الرئيسي وراء الاستعمار هو الرغبة في ضمان مجالات لتصدير رأس المال، والحصول على مصادر المواد الخام، والاستيلاء على الأسواق من طرف القوى الكبرى. وقد تم تحقيق أرباح هائلة من خلال الاستغلال الوحشي للسكان المحليين، في حين أن وضع تلك الأسواق الجديدة تحت السيطرة المباشرة للدول الاستعمارية مكنها من تحصينها ضد المنافسة من طرف القوى الأخرى عن طريق الاحتكار القانوني، أو عن طريق الرسوم الجمركية الباهظة.

لقد تطورت الرأسمالية الألمانية في وقت متأخر عن منافسيها، وبالتالي وصلت متأخرة إلى ذلك السباق من أجل الهيمنة الإمبريالية. وعندما شرعت في البحث عن المستعمرات في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال قد احتلوا بالفعل جزءا كبيرا من أفريقيا وآسيا.

كان ذلك الوضع غير مقبول من وجهة نظر الرأسمالية الألمانية. فمع نمو اقتصادها، تعرضت ألمانيا لضغوط متزايدة بسبب افتقارها إلى منافذ لمنتجاتها ورؤوس أموالها. ولذلك دخلت في مواجهة مع القوى الاستعمارية القائمة بالفعل وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا. كانت تلك المواجهة هي التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى.

بعد هزيمة ألمانيا عام 1918، تم تقسيم مستعمراتها القليلة بين المنتصرين. ولإضفاء طابع “إنساني” على ذلك التقسيم، منحت عصبة الأمم (سلف الأمم المتحدة) تلك المستعمرات وضعا خاصا: وضع أراضي “الانتداب”. من الناحية الرسمية كانت “السلطة المنتدبة” مسؤولة عن العمل على “تنمية” الشعوب الأصلية حتى تصبح مستقلة. أما من الناحية العملية، فقد تمت إدارة الأراضي الخاضعة للانتداب، من قبل المستعمرين الجدد، مثلها مثل جميع المستعمرات الأخرى. أما بالنسبة لعصبة الأمم “مغارة اللصوص”، على حد تعبير لينين، فلم يكن لديها ما تقوله في هذا الشأن.

وهكذا تم تقسيم الكاميرون الألمانية في عام 1919. تم ضم منطقتان صغيرتان في الشمال الغربي إلى ممتلكات الإمبراطورية البريطانية، في حين حصلت فرنسا على أغلبية الكاميرون. قامت فرنسا بحرمان السكان الأصليين من جميع الحقوق الديمقراطية، وفرضت عليهم العمل القسري. وسيطرت الشركات الفرنسية بالكامل على اقتصاد البلد. فعملت على استغلال زيت النخيل والموز والمطاط والكاكاو وغيرها من الموارد وهو ما حقق أرباحا هائلة للبرجوازية الفرنسية، التي وجدت في تلك المستعمرات أسواقا مهمة، فأصبحت من أهم الشركاء التجاريين لفرنسا في الثلاثينيات.

هزت الحرب العالمية الثانية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية. تعرضت هيبة فرنسا لضربة قوية بفعل هزيمة عام 1940 والاحتلال النازي لها. وعلاوة على ذلك، كان زعيم “فرنسا الحرة”، شارل ديغول، قد وعد بضمان حقوق جديدة للسكان الأصليين من أجل كسب دعمهم لفرنسا خلال الحرب.

لكن في نهاية الحرب، كانت نتائج تلك الإصلاحات الموعودة مثيرة للسخرية. تلك الحقوق القليلة الممنوحة مكنت حفنة من السكان الأصليين المتميزين من الجلوس في الجمعية الوطنية في باريس. لكن الأوضاع بقيت على حالها على العموم. أخضعت السلطات الاستعمارية السكان لسيطرة قاسية وقمع شرس. ففي شتنبر 1945، على سبيل المثال، اندلع إضراب عمال السكك الحديدية في دوالا وسرعان ما اتخذ طابع حركة جماهيرية واسعة. قتلت القوات الفرنسية ما يقرب من 100 شخص جراء حملة القمع. حتى أن المضربين تعرضوا للقصف بالطائرات.

كانت تلك هي الفترة التي شهدت تشكيل “حلقات الدراسة الماركسية” في المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا. اجتمع هؤلاء العمال الشباب من السكان الأصليين حول نقابيين فرنسيين، كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي الفرنسي، واكتشفوا أفكار الحركة العمالية الأوروبية وناقشوا المشاكل السياسية التي تواجه المستعمرات. وفي الكاميرون، نظم المعلم غاستون دونات حلقة صغيرة شارك فيها عدد من موظفي القطاع العام من السكان الأصليين. تعرض دونات للطرد في النهاية من قبل الشرطة، لكن تلك الحلقات هي التي أسفرت عن ظهور قادة الحركة السياسية الرئيسية في النضال من أجل الاستقلال: اتحاد شعوب الكاميرون.

تأسس اتحاد شعوب الكاميرون رسميا في عام 1948 ونما بسرعة، ويرجع الفضل في ذلك بشكل خاص إلى روابطه الوثيقة مع الحركة العمالية الكاميرونية والنقابات العمالية، التي جاء منها معظم كوادر الحزب، بدءا من زعيمه الرئيسي: روبن أم نيوبي. فمن 100 عضو فقط في عام 1948، أصبح لديه 7.000 عضو بحلول عام 1949 و14.000 بحلول عام 1950. وفي النصف الأول من الخمسينيات، كان لديه ما يقرب من 20.000 عضو غطت أنشطتهم البلاد بأكملها تقريبا.

كان “الأبيسيستيون”[i]، كما كانوا معروفين، مناضلين حازمين ولم يترددوا في مواجهة القمع الاستعماري، لكن برنامجهم كان إصلاحيا بشكل كامل. كان هدفهم الرسمي هو إجبار القوة الاستعمارية على احترام شروط الانتداب الذي منحته عصبة الأمم وأكدته الأمم المتحدة في عام 1946، أي: إعداد الكاميرون للاستقلال. ولتحقيق ذلك، كان اتحاد شعوب الكاميرون يعتزم الالتزام الصارم بالإطار القانوني الذي فرضه الاستعمار الفرنسي، كدليل على جديته وحسن نيته وإرسال الشكاوى إلى الأمم المتحدة، التي توقع منها رد فعل إيجابي.

ادعى اتحاد شعوب الكاميرون أنه يقف فوق كل “الانقسامات الأيديولوجية”، أي: الانقسامات الطبقية. وكانت الفكرة هي توحيد “جميع الكاميرونيين” في النضال ضد الاستعمار. وفي عام 1953، أكد نيوبي أن «الشعوب المستعمَرة لا يمكنها أن تتبع سياسة حزب واحد، ولا سياسة دولة واحدة، ناهيك عن اتباع سياسة رجل واحد. فالشعوب المستعمَرة تصنع سياساتها الخاصة، وهي سياسة التحرر من نير الاستعمار»[ii].

كان غياب المنظور الطبقي المحدد بوضوح أحد العيوب الرئيسية في سياسة اتحاد شعوب الكاميرون. لم يشمل برنامجه مطلب الإصلاح الزراعي، الذي كان من الممكن أن يساعد في تعبئة الفلاحين الفقراء، لكنه كان سيثير غضب الزعماء التقليديين، ولا مطلب سيطرة العمال على المصانع القليلة في الكاميرون.

كانت العقبة الأولى في طريق اتحاد شعوب الكاميرون هي اعتقاده، الذي لا أساس له على الإطلاق، بأن الأمم المتحدة يمكنها مساعدة الشعوب المستعمَرة. إن الأمم المتحدة، مثلها مثل عصبة الأمم في أيامها، ليست مستقلة عن الطبقات الاجتماعية أو القوى الإمبريالية الكبرى. وبناء على ذلك، فإن شكاوى اتحاد شعوب الكاميرون إلى تلك المؤسسة لم تثر سوى اللامبالاة، أو في أحسن الأحوال، بعض الاحتجاجات اللفظية البحتة.

كانت أوهام قادة اتحاد شعوب الكاميرون حول دور الأمم المتحدة بمثابة امتداد لرفضهم تبني وجهة نظر طبقية محددة بوضوح. لقد سعوا إلى الوقوف “فوق” الطبقات الاجتماعية. ويجب القول إن هذا الخطأ الجسيم، في ذلك الوقت، كان منسجما مع ما كان أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي الستالينيون يعلمونه في “الحلقات الماركسية” التي نظموها في المستعمرات. وقد تم تلخيص الفكرة وراء هذا الخطأ بشكل جيد للغاية من قبل أحد منظري الحزب الشيوعي الفرنسي في ذلك الوقت، إيف بينوت، في عام 1960:

«إن وجود الحقيقة الاستعمارية يجعل من الوحدة في النضال الوطني أولوية، فوق أي اختلافات قد تنشأ داخل الأمة المستعمَرة… وطالما أن الهيمنة الاستعمارية موجودة، فإن سيرورة التمايز الطبقي تكون بالضرورة مقنَّعة وبطيئة بسبب متطلبات النضال الوطني، ولا يمكن لهذه السيرورة أن تتسارع إلا بعد الاستقلال»[iii].

وبعبارة أخرى فإنه باسم “مطالب النضال الوطني”، لا ينبغي للطبقة العاملة الكاميرونية أن تسعى إلى قيادة ذلك النضال وإضفاء طابع اشتراكي عليه، بل يجب عليها بدلا من ذلك أن تحاول “توحيد جميع الكاميرونيين”.

كانت هذه السياسة تتناقض بشكل مباشر مع الواقع الموضوعي. فخلافا لاعتقاد إيف بينوت، كان السكان الأصليون منقسمين بالفعل على أسس طبقية. على سبيل المثال، اعتمدت القوة الاستعمارية لتأمين سيطرتها، على من يسمون بـ“الزعماء الأصليين”. والذي كان من المفترض أن يكونوا قادة “تقليديين”، لكن في الواقع كان يتم اختيارهم من طرف الإدارة الاستعمارية، التي اعترفت بسلطتهم وحولتهم إلى عملاء رسميين لها، مفضلة الموالين لها من بينهم في حين أزاحت الآخرين. وهكذا فقد أدت الهيمنة الفرنسية إلى تعزيز الانقسام الطبقي بين الزعماء وبين الفلاحين الفقراء.

كما تطورت أيضا طبقة عاملة صغيرة من بين السكان الأصليين، والتي كانت تضم عمالا في عدد قليل من الشركات الحديثة التي تم تأسيسها في المدن الكبرى مثل دوالا وياوندي، بالإضافة إلى العديد من صغار الموظفين في الإدارة الاستعمارية. وأخيرا، أدى تطور الرأسمالية في الكاميرون إلى ظهور برجوازية تجارية صغيرة، بل وحتى ظهور برجوازية محلية جنينية، عملت كوسيط لرأس المال الفرنسي، واحتلت المقاعد الممنوحة للكاميرون في الجمعية الوطنية الفرنسية.

لم تكن لهذه الطبقات الاجتماعية نفس المصالح. كانت البرجوازية المحلية الصغيرة تعتمد بشكل كامل على الإمبريالية الفرنسية، ولم تكن لديها أية رغبة في الانفصال عنها. في حين كان الزعماء التقليديون، من جانبهم، معادين بشكل جذري لأي إصلاح زراعي، والذي بدونه من المستحيل انتشال جماهير الفلاحين من الفقر. ولذلك كان على الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء أن يتواجهوا ليس فقط مع النظام الاستعماري، بل أيضا مع جزء من السكان الأصليين الذين استفادوا منه. وعليه فإن اتحاد شعوب الكاميرون من خلال محاولته توحيد كل تلك الطبقات في نضال مشترك واحد، كان يحكم على نفسه بالفشل.

لا يقتصر هذا الوضع على الكاميرون وحدها. بل يمكن العثور عليه في جميع البلدان التي تطورت فيها الرأسمالية في وقت متأخر، وجاءتها من الخارج من خلال تدفق رأس المال الأجنبي. ولإيجاد الحل لمشكلة مماثلة في روسيا القيصرية، طور الماركسي ليون تروتسكي نظريته حول “الثورة الدائمة” في عام 1905. وبما أن البرجوازية الروسية كانت في الوقت نفسه خاضعة لمصالح المستثمرين الإمبرياليين، ومرتبطة بكبار ملاك الأراضي وتابعة للدولة القيصرية، فإنها كانت عاجزة عن النضال ضد أي منهم بشكل جدي وإخراج البلاد من حالة التخلف الشديد التي تعيشها.

لذلك، كما أوضح تروتسكي، كان يجب أن تقع قيادة الثورة في أيدي الطبقة العاملة، التي كان عليها أن تفوز بدعم الفلاحين، وتعمل، على هذا الأساس، على الاستيلاء على السلطة. عندها تستطيع الطبقة العاملة إكمال مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية، أي: الإطاحة بالاستبداد القيصري وضمان الحقوق الديمقراطية؛ وتحقيق المساواة للقوميات المضطهَدة في الإمبراطورية؛ ومصادرة ملكية الأرستقراطية والكنيسة؛ وتوزيع الأراضي على الفلاحين. إضافة إلى أنها، من خلال استيلائها على السلطة، ستبدأ حتما في تنفيذ مهام الثورة الاشتراكية، والتي لا يمكن تعزيزها إلا إذا تطورت الثورة على نطاق أممي.

كان هذا المنظور الذي تبناه البلاشفة في عام 1917، بفضل أطروحات أبريل للينين، هو الذي أدى إلى انتصار الثورة الروسية. ومع ذلك، فقد تم التخلي عنه بشكل كامل من طرف الردة الستالينية الرجعية في الاتحاد السوفياتي، والتي فرضت على الأممية الشيوعية نهج سياسة انتهازية، “مرحلية”، تجاه الثورة في المستعمرات. ففي جميع أنحاء العالم، ربطت الأحزاب الشيوعية الستالينية العمال الطليعيين بقاطرة ما يسمى بالبرجوازية “التقدمية” أو “الوطنية” في المستعمرات، وهو ما أدى إلى نتائج كارثية.

ومع ذلك فقد بقيت نظرية الثورة الدائمة، منذ ذلك الحين، نظرية لا غنى عنها لجميع البلدان الخاضعة لنير الاستعمار أو الإمبريالية. إن النضال من أجل التحرر الوطني الحقيقي كان وما يزال جزءا لا يتجزأ من النضال الطبقي والنضال من أجل الاشتراكية. وتاريخ الكاميرون هو خير دليل على ذلك، لكنه دليل سلبي بشكل مأساوي.

ديغول في حفل استقبال في باريس للأفارقة الذين يعيشون في فرنسا

على الرغم من أن مطالب وأساليب اتحاد شعوب الكاميرون كانت معتدلة للغاية، فإنه حتى المطلب الديمقراطي البسيط بالحقوق المتساوية لكل من السكان الأصليين والمستعمِرين كان هجوما مباشرا على النظام الاستعماري. وعلاوة على ذلك، فقد كان اتحاد شعوب الكاميرون يدعو أيضا إلى إنهاء الهيمنة الفرنسية على أفريقيا ويعلن تضامنه مع “النضال البطولي” للشعب الفيتنامي ضد الاستعمار الفرنسي. أثار كل هذا عداء صريحا من جانب الإدارة الفرنسية والمستعمِرين، وكذلك عداء تلك الشريحة المميزة من السكان الأصليين الذين استفادوا من الاستعمار وتطلعوا إلى الحفاظ على الوضع الراهن.

تعرض اتحاد شعوب الكاميرون لمضايقات مستمرة. وتمت مداهمة مقرات الحزب بشكل ممنهج، وتم الاستيلاء على أرشيفه، واعتقال نشطاءه أو ضربهم في كل مرة حاولوا فيها تنظيم أي نشاط عام. كما نظمت السلطات الاستعمارية حملة دعائية منهجية ضد الحزب. وقدم الكهنة الكاثوليك دعمهم لتلك الحملة الصليبية ضد ما يسمى بالخطر “الشيوعي والوثني”.

ولإضعاف الحزب، لم تتردد الإدارة الفرنسية في إنشاء أحزاب محلية منافسة لاتحاد شعوب الكاميرون، والتي تبنت هي أيضا شعارات استقلالية لكنها أعطتها محتوى مختلفا: فعلى سبيل المثال، كانت تلك الأحزاب تدعو إلى “الاستقلال”، لكن داخل “الاتحاد الفرنسي”، الذي كان الاسم الرسمي الجديد للإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية. وبدعم من السلطات الاستعمارية، فازت تلك الأحزاب العميلة بجميع الانتخابات عن طريق حشو صناديق الاقتراع. ففي مذكراته، تفاخر الموظف الاستعماري، غي جورجي، بأنه هو من صنع الحياة السياسية للرئيس الكاميروني المستقبلي أحمدو أهيدجو، حيث قال: “لقد انتخبته مندوبا إلى الجمعية الإقليمية. لقد نجحنا عمليا في إقناع الناس بالتصويت له عن طريق حشو صندوق الاقتراع بأوراق التصويت”[iv]. كان هذا الاستهزاء بالديمقراطية مفيدا للغاية للقوى الاستعمارية لأنه مكنها من أن يكون تحت تصرفها “ممثلون منتخبون” للشعب الكاميروني، يمكنهم بعد ذلك التباهي بهم في جمعيات الأمم المتحدة.

في ظل هذه الظروف، أصبح اتحاد شعوب الكاميرون أكثر راديكالية، وفي عام 1955، طالب باستقلال الكاميرون الفوري، خارج الاتحاد الفرنسي. وفي نهاية ماي 1955، بعد أن حظرت السلطات الاستعمارية مرة أخرى مظاهرات اتحاد شعوب الكاميرون، اندلعت أعمال شغب في العديد من المدن وتم قمعها بشراسة. وانتهزت الإدارة الاستعمارية هذه الذريعة لشن حملة إرهابية شرسة ضد الحزب. تم نهب مقراته في جميع أنحاء البلاد، وإضرام النار فيها. كما عملت السلطات أيضا على حشد زعماء السكان الأصليين الموالين لفرنسا، الذين شكلوا ميليشيات لذبح أنصار الحزب. وفي يوليوز 1955، تم حظر الحزب رسميا. فاضطر نشطاؤه وقادته الذين نجوا من الاعتقال والاغتيال إلى العمل السري. لقد كانت تلك بداية الحرب التحررية التي كان من المقرر أن تجري في الظل.

في حين تمكنت حرب التحرير الجزائرية، التي اندلعت في نهاية عام 1954، من أن تحظى بالتغطية على صفحات الصحافة البرجوازية في فرنسا، فإن قمع الأبيسيستيين الثوريين تم تجاهله إلى حد كبير. ومع عدم وجود أي دعم مادي ولا أسلحة حديثة، لكن مع دعم شعبي قوي في العديد من المناطق، تعرضت المقاومة التي شنها الحزب لقمع شرس من قبل الجيش والشرطة الفرنسيين، وكذلك عملائهم الكاميرونيين.

وكما حدث في الهند الصينية (فيتنام) والجزائر، فقد استهدفت قوات القمع السكان المدنيين لحرمان الحزب من قاعدة دعمه. لقد “نزحت” قرى بأكملها، أي تم ترحيلها. وفي الوقت نفسه، لم يتم التغاضي عن المصالح الاقتصادية المباشرة للإمبرياليين: فقد أُجبر السكان النازحون في بعض الأحيان على العمل لدى الشركات الفرنسية.

أصبح التعذيب والإعدامات، والتي غالبا ما يتبعها تمثيل علني بالجثث، أمرا شائعا. فبعد مقتله على يد الجيش الفرنسي في عام 1958، مثلت القوات الفرنسية بجثة روبن أم نيوبي في قريته. وفي بعض المناطق، وخاصة في غرب البلاد، تم ذبح قرى بأكملها على يد الجيش الفرنسي والقوات المساعدة له. وامتد القمع إلى ما هو أبعد من حدود الكاميرون: فقد تم اغتيال أحد قادة الحزب، فيليكس مومييه، على يد المخابرات الفرنسية في جنيف. وفي المجمل، فقد أدى القمع إلى مقتل ما لا يقل عن عشرات الآلاف، وربما يصل الرقم إلى 200 ألف، وسقوط عدد لا يحصى من الجرحى.

لكن وعلى الرغم من ذلك القمع المتواصل، فقد أظهرت ثورة اتحاد شعوب الكاميرون صمودا بطوليا استمر حتى أوائل الستينيات. ولم تتم “تصفية” آخر مقاتلي الحزب إلا عام 1970، أي بعد عقد من حصول الكاميرون رسميا على “الاستقلال”.

منذ عام 1958 فصاعدا غيرت الإمبريالية الفرنسية موقفها فيما يتعلق بمسألة الاستقلال. فبعد مواجهتها بذلك العدد المتزايد من حركات التحرر الوطني، اختارت استبدال السيطرة الاستعمارية المباشرة بالهيمنة غير المباشرة. كانت الفكرة بسيطة: تحويل المستعمرات الأفريقية إلى دول صغيرة مستقلة رسميا، لكنها في الواقع تحت حكم طغاة موالين لفرنسا. وإخضاع اقتصادها ودفاعها وسياستها الخارجية للسيطرة الفرنسية المباشرة، تحت ستار “التعاون” و“المساعدة”.

اتخذت هذه السياسة، التي تم تبنيها منذ عام 1956 تحت اسم “الحكم الذاتي الإقليمي”، عدة أشكال متتالية قبل أن تبلغ ذروتها في عام 1960، عندما أصبحت 14 منطقة فرنسية في أفريقيا دولا مستقلة رسميا. لكن الغالبية العظمى منها بقيت معتمدة بشكل كامل على الإمبريالية الفرنسية.

كان “المستشارون” الفرنسيون هم من يضعون ميزانيات تلك الدول، ويديرون جيوشها، ويشرفون على إداراتها. وكانت عملتها تطبع في باريس من قبل بنك فرنسا. وسمحت اتفاقيات الدفاع السرية لفرنسا بالتدخل عسكريا متى رغبت في ذلك. فبين عامي 1960 و1990، تدخلت القوات الفرنسية حوالي 20 مرة في أفريقيا جنوب الصحراء. وبطبيعة الحال، قامت الأنظمة الجديدة بتدليل الشركات الفرنسية، وكانت تتلقى في المقابل الرشاوى، والتي انتهى قسم منها في جيوب الساسة الفرنسيين. كانت هذه بداية ما أصبح يعرف باسم “أفريقيا الفرنسية”.

وقد كانت الكاميرون واحدة من تلك البدان الـ 14 المستقلة رسميا. وفي عام 1960، أسس السياسي الموالي لفرنسا، أحمدو أهيدجو، دكتاتورية وحشية. وبتوجيه من المستشارين الفرنسيين، طاردت الشرطة والجيش المعارضين، بدءا ممن تبقى على قيد الحياة من الأبيسيستيين.

صارت أوضاع اتحاد شعوب الكاميرون أكثر صعوبة بسبب حقيقة أن هدفه الرئيسي، الذي هو الاستقلال، قد تم تحقيقه رسميا. ومع افتقاره إلى أي منظور يتجاوز ذلك الهدف، ودون برنامج اشتراكي يمكن أن يساعده في تعبئة العمال والفلاحين الفقراء ضد هيمنة الشركات الفرنسية وكبار ملاكي الأراضي، اختفى الحزب تدريجيا تحت ضربات الدولة.

وفي الوقت نفسه، في عام 1961، نجحت الإمبريالية الفرنسية في وضع يدها على أجزاء من المستعمرات البريطانية السابقة. وباسم “الوحدة الوطنية”، تم ضم نصف الكاميرون البريطانية تحت ستار “جمهورية الكاميرون الفيدرالية”. وبعد أقل من عقد من الزمان، ألغيت معظم الحقوق القومية للأقلية الناطقة باللغة الإنجليزية، وتم إلغاء الحكم الذاتي للكاميرون البريطانية السابقة.

موكب في دوالا في يوم الاستقلال، 1 يناير 1960

إن الدروس المستفادة من حرب الكاميرون “المنسية” هي الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى. فاليوم تواجه هيمنة الإمبريالية الفرنسية على مستعمراتها السابقة تحديا كبيرا في جميع أنحاء أفريقيا. لكن فرنسا ما تزال حاضرة في الكاميرون. وتواصل الشركات الفرنسية نهب ثروات البلد.

إن عواقب هذه الهيمنة الإمبريالية واضحة. فعلى الرغم من أن الكاميرون بلد غني بالأراضي الخصبة والموارد الطبيعية (النفط والكوبالت والحديد واليورانيوم، وما إلى ذلك)، فإن 40% من سكانه يعيشون تحت خط الفقر، و34% لا يستطيعون الوصول إلى مياه الشرب، ونحو 65% يعانون من البطالة الجزئية (إما عاطلون عن العمل أو يشتغلون في أعمال عرضية وهشة).

إن نظام الإرهاب الذي أسسه أهيدجو في عام 1960 لم يختف مع رحيله في عام 1982. فقد حافظ خلفه، بول بيا، على روح ذلك النظام، إن لم يكن على شكله أيضا. بول بيا الذي ظل في السلطة لأكثر من 40 عاما، تمت “إعادة انتخابه” في عام 2018 بعد فوزه بأكثر من 70% من الأصوات في انتخابات شهدت تزويرا واسع النطاق. لكن ذلك لم يمنع وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، جان إيف لودريان، من إرسال “أطيب تمنياته لبيا بمناسبة النجاح”. وقبل بضعة أشهر من تلك الرسالة اللطيفة، كان نظام بيا قد أطلق العنان لحرب أهلية -ما تزال مستعرة لحد الآن- ضد سكان المناطق الناطقة باللغة الإنجليزية في البلد.

لذا يظل السؤال قائما: كيف يمكن تحرير الكاميرون من الهيمنة الإمبريالية؟ إن البرجوازية الكاميرونية -الضعيفة والفاسدة حتى النخاع- غير قادرة على تحدي الامبريالية، ناهيك عن الإطاحة بها. فهي تعيش بشكل أساسي على الإعانات التي تتلقاها من الشركات الأجنبية ونهب الميزانيات العامة. إنها غير قادرة على أن تعارض بشكل جدي سواء نظام بيا أو حُماته الإمبرياليين. إنها جزء لا يتجزأ من النظام، وتتغذى على فتات النهب الإمبريالي لموارد الكاميرون.

ينعكس هذا في طبيعة أحزاب المعارضة البرجوازية أو الإصلاحية، غير القادرة على تصور مستقبل للكاميرون خارج السيطرة الإمبريالية. والمثقفون الكاميرونيون “التقدميون”، الذين أحبطت معنوياتهم ديكتاتورية بول بيا الطويلة والشرسة، يناقشون ما إذا كان من الأفضل للكاميرون، بعد تحرير نفسها من باريس، أن تخضع لهيمنة الإمبريالية الصينية أو الروسية.

إن الإمبرياليتين الروسية والصينية تحاولان بالفعل إزاحة الإمبريالية الفرنسية من مواقعها التاريخية في أفريقيا الوسطى، وتحققان نجاحا في ذلك. في يونيو 2021، اشتكى السفير الفرنسي لدى الكاميرون من أن «الحصة السوقية التي تسيطر عليها الشركات الفرنسية في الكاميرون انخفضت من 40% في التسعينيات إلى 10% في الوقت الحاضر». لأن الصين «تهيمن عمليا على كل عقود البنية التحتية في الكاميرون». لكن هذا لا علاقة له بالنضال ضد الإمبريالية.

إن الشركات الصينية تستغل العمال الأفارقة بقسوة مشابهة لقسوة نظيراتها الفرنسية، وعندما تقوم الصين بإقراض الأموال للحكومات الأفريقية، فذلك لكي تقوم ببناء بنى تحتية مخصصة لتسهيل استغلالها الإمبريالي للقارة. إن استبدال باريس بموسكو أو بكين لن يحسن وضع العمال والفلاحين الكاميرونيين قيد أنملة.

واليوم، كما كان الحال قبل الاستقلال، أصبح المخرج الوحيد للشعب الكاميروني هو الثورة الاشتراكية. تبقى الطبقة العاملة الكاميرونية هي القوة الاجتماعية الوحيدة القادرة على تنظيم نفسها بشكل مستقل، وتوحيد كل المستغَلين معا وقيادتهم إلى النصر. لكن ذلك ليس ممكنا إلا إذا تم تنظيمها في حزب شيوعي ثوري مستقل.

لا يمكن فصل هذا المنظور عن منظور تطور الثورة في خليج غينيا ككل، وخاصة في نيجيريا التي تمتلك أقوى طبقة عاملة في المنطقة. تعمل أزمة الرأسمالية على زعزعة استقرار الحكم الرأسمالي في جميع أنحاء العالم. إن النظام القديم في أفريقيا ينهار مع تصاعد المزاج الثوري في أنحاء القارة. ويتعين على جيل جديد من الشيوعيين، المسلحين بدروس الماضي، أن يواجهوا المهام التي يفرضها التاريخ: مهام التحرر من الاضطهاد الإمبريالي، والقضاء على العوز، وتحقيق التحرر الاشتراكي للجنس البشري بأكمله.


[i]  الأبيسيستيون (Upecists) اسم مستمد من الحروف الأولى لاسم الحزب باللغة الفرنسية (UPC) -المترجم-.

[ii] R Um Nyobé, “Déclaration à la presse française”, in A Sighoko Fossi, Discours politiques, L’Harmattan, 2007, pg 183, our translation

[iii] Y Benot, “L’Afrique en mouvement : La Guinée à l’heure du plan”, La pensée, no. 94, November-December 1960.

[iv] T Deltombe, M Domergue, J Tatsita, Kamerun !, La Découverte, 2011, pg 116.