الرئيسية / قضايا نظرية / المادية الجدلية / دفاعا عن النظرية: لم يسبق للجهل أن ساعد أحدا

دفاعا عن النظرية: لم يسبق للجهل أن ساعد أحدا

نحن فخورون اليوم بإعادة نشر مقال مهم جدا لآلان وودز، والذي نطلب من قرائنا أن يدرسوه بعناية. لقد خضنا نحن التيار الماركسي الأممي، من خلال موقع marxist.com، ومجلة الدفاع عن الماركسية، ودار النشر الخاصة بنا Wellred Books، نضالا شاملا من أجل النظرية الماركسية، إلا أننا في خضم نضالنا ذاك لم نتناول فقط المسائل المرتبطة بشكل مباشر بنضال العمال، بل تناولنا أيضا مسائل أخرى تبدو (ظاهريا) بعيدة كل البعد عن ذلك عن النضال اليومي، من الكوسمولوجيا، إلى الثقافة، إلى الصراع الطبقي في روما خلال العصور القديمة… وقد سخر بعض ممن يسمون أنفسهم “ماركسيين” من هذا النهج، لكن وكما يوضح آلان وودز، فإن سخريتهم في غير محلها على الإطلاق.

نُشر هذا المقال لأول مرة عام 2009، وهو رد على مجموعة تخلت عن الماركسية في اتجاه العصبوية. وفي خضم المناقشة التي جرت في ذلك الوقت، أدلى أعضاء بارزون في تلك المجموعة بتعليقات أوضحت بشكل صارخ التناقض الموجود بين نهجنا وبين نهجهم. لقد تساءلوا كيف يعقل أن يعتبر محررو موقع الدفاع عن الماركسية (marxist.com) نشر سلسلة مقالات لآلان وودز حول “الصراع الطبقي في الجمهورية الرومانية” أولوية في خضم أعمق أزمة تعرفها الرأسمالية منذ الثلاثينيات؟!

ومنذ ذلك الحين، واصل موقع الدفاع عن الماركسية ترسيخ سمعته باعتباره المصدر الأول في العالم للنظرية الماركسية الجادة. وكما تظهر قائمتنا للمقالات الأكثر قراءة، فإن آلاف العمال والشباب الثوريين يزورون موقعنا كل عام، وذلك على وجه التحديد لأن هذا النوع من الدراسات غير متوفر في أي مكان آخر. وفي الوقت نفسه فقد قمنا خلال العام الماضي بنشر نفس تلك المقالات حول الصراع الطبقي في الجمهورية الرومانية على شكل كتاب منقح وموسع، وقد بيعت منه حتى الآن أكثر من 1000 نسخة.

يوضح آلان وودز في هذا المقال أن نهجنا هو استمرارية لنهج ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي. وبفضل هذا الموقف الحازم والجاد تجاه النظرية الماركسية، قطع التيار الماركسي الأممي خطوات كبيرة إلى الأمام في الفترة الماضية، في حين ذبلت كل تلك المجموعات “الماركسية” المزعومة التي أظهرت ازدراءها للنظرية.

ولتعميق التسليح الأيديولوجي للكوادر الشيوعية، سننظم هذا الصيف الجامعة العالمية للشيوعية، والتي أنت أيضا مدعو/ة إليها، ويمكنك حضورها عبر الإنترنت. ومن خلال تلك الجامعة سنخطو، نحن الشيوعيون، خطوة تاريخية إلى الأمام في مسار بناء قوانا، المؤسسة بثبات على قاعدة النظرية الماركسية، بإنشائنا لأممية شيوعية ثورية جديدة. ونحن نتطلع إلى رؤيتكم هناك!


دفاعا عن النظرية: لم يسبق للجهل أن ساعد أحدا

في عام 1846، اشتكى ويتلينغ من أن “المثقفين” ماركس وإنجلز يكتبان فقط عن مسائل غامضة لا تهم العمال. فرد ماركس بغضب قائلا: “لم يسبق للجهل أن ساعد أحدا”. وما يزال رد ماركس هذا صالحا اليوم كما كان في ذلك الوقت.

أثار نشر سلسلة المقالات عن “الصراع الطبقي في الجمهورية الرومانية” اهتماما كبيرا بين قراء موقع marxist.com فوفقا للمعلومات التي وصلتني للتو من عند هيئة التحرير، فقد سجلت تلك المقالات عددا قياسيا من الزيارات الفردية، حوالي 2200 زيارة، وهو أعلى بكثير من متوسط عدد الزيارات لكل مقالة على حدة.

تؤكد هذه الحقيقة صحة سياسة موقع marxist.com الذي اكتسب سمعة قوية بفضل جودة مقالاته النظرية. وفي الوقت الذي تتعرض فيه الأفكار الماركسية للهجوم من جميع الجهات، يتميز موقعنا الإلكتروني بدفاعه الحازم والمستمر عن النظرية الماركسية بكل ثرائها المتنوع. إنه يظهر أن الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم مهتمون بالنظرية ومتحمسون لتعميق معرفتهم بالماركسية.

ومع ذلك، فإن موقع marxist.com له منتقدوه. فبعض منتقدينا يشتكون من أننا نكتب مقالات عن روما القديمة في خضم أكبر أزمة تعرفها الرأسمالية منذ الثلاثينيات. ومن باب الإنصاف لأنفسنا نقول إن موقع marxist.com قد نشر بالفعل قدرا كبيرا جدا من الدراسات حول الأزمة، وسيواصل القيام بذلك. لكن من واجبنا أيضا أن نكتب عن أمور أخرى، وأن نرفع مستوى الفهم النظري لقرائنا، وأن نقدم تحليلا ماركسيا، ليس فقط للاقتصاد، بل وكذلك للتاريخ والعلوم والفنون والموسيقى وكل المجالات الأخرى من مجالات النشاط البشري.

 
 
 
 
 
عرض هذا المنشور على Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎Wellred Books‎‏ (@‏‎wellred_books‎‏)‎‏

كيف نرد على من يطلبون منا تضييق نطاق الماركسية لكي تتناسب مع مخططهم العقلي المحدود؟ ليس علينا أن نرد عليهم على الإطلاق، لأن لينين قد رد عليهم منذ زمن بعيد عندما كتب: لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. هذه هي الحقيقة الأساسية التي أكد عليها جميع المعلمين الماركسيين الكبار. دعونا نذكر أنفسنا بهذه الحقيقة الأولية من خلال بعض الأمثلة المهمة:

كان ويتلينغ يعارض النظرية والعمل الدعائي الصبور/ الصورة: المجال العام

حتى قبل أن يكتبا البيان الشيوعي، خاض ماركس وإنجلز (الذين بدآ حياتهما الثورية باعتبارهما طالبين يدرسان الفلسفة الهيغلية) النضال ضد هؤلاء القادة “البروليتاريين” الذين كانوا يقدسون التخلف الفكري وأساليب النضال البدائية ويقاومون بعناد تبني النظرية العلمية.

وقد ترك لنا الناقد الروسي أنينكوف، الذي تصادف وجوده في بروكسل في ربيع عام 1846، تقريرا عجيبا للغاية عن اجتماع وقع فيه شجار حاد بين ماركس وبين الشيوعي الطوباوي الألماني، ويتلينغ. اشتكى ويتلينغ، الذي كان عاملا، من أن “المثقفين” ماركس وإنجلز يكتبان عن مسائل غامضة لا تهم العمال. واتهم ماركس بكتابة “تحليل من البرج العاجي لعقائد بعيدة عن عالم المنكوبين والبؤساء”. عند هذه النقطة، أصبح ماركس، الذي كان عادة صبورا جدا، ساخطا. كتب أنينكوف قائلا:

«عندما نطق ويتلينغ هذه الكلمات الأخيرة، فقد ماركس السيطرة على نفسه، وضرب بقبضته على الطاولة بقوة، حتى أن المصباح الذي كان عليها اهتز. وقفز من مكانه قائلا: “لم يسبق للجهل أن ساعد أحدا“»[1].

كان ويتلينغ يعارض النظرية والعمل الدعائي الصبور. وأكد، مثله مثل باكونين، أن الفقراء هم على استعداد دائما للثورة. كان ذلك المدافع عن “العمل الثوري”، عوض النظرية، يعتقد أنه طالما كان هناك قادة حازمون، فمن الممكن صنع الثورة في أية لحظة. وما زلنا حتى اليوم نجد أصداء لهذه الأفكار البدائية ما قبل الماركسية بين صفوف من يسمون أنفسهم ماركسيين.

لقد فهم ماركس أن الحركة الشيوعية لا يمكن أن تتقدم إلا من خلال القطيعة الجذرية مع تلك المفاهيم البدائية والتطهير الشامل لصفوفها. كان الانفصال عن ويتلينغ أمرا حتميا، وهو ما حدث في ماي 1846. بعد ذلك، غادر ويتلينغ إلى أمريكا وتوقف عن لعب أي دور يذكر. لم يكن من الممكن تأسيس الرابطة الشيوعية على أساس سليم إلا من خلال القطيعة مع “العامل الناشط” ويتلينغ. ومع ذلك، فإن الاتجاه البدائي الذي يمثله ويتلينغ استمر يعيد إنتاج نفسه داخل الحركة، أولا من خلال أفكار باكونين، وبعد ذلك في تلك الأشكال المتنوعة من النزعة اليسراوية المتطرفة التي ما تزال الحركة الماركسية تعاني منها حتى يومنا هذا.

نجد في الأعمال الكاملة لماركس وإنجلز منجم ذهب حقيقي للأفكار. نجد هناك كتابات إنجلز عن حرب الفلاحين في ألمانيا، وعن التاريخ المبكر للألمان والسلاف والأيرلنديين، وتاريخه عن المسيحية المبكرة. وقد كتب لينين في مقالته عن وفاة إنجلز:

«لقد عمل ماركس على تحليل الظواهر المعقدة للاقتصاد الرأسمالي. بينما قام إنجلز، في أعمال مكتوبة ببساطة، غالبا ما تكون ذات طابع جدالي، بتناول مسائل علمية أكثر عمومية وظواهر متنوعة من الماضي والحاضر بروح المفهوم المادي للتاريخ ونظرية ماركس الاقتصادية».

وتكشف لنا قائمة مختصرة لأعمال إنجلز على الفور عن اتساع منظوره. لدينا مؤلفه الجدالي الرائع ضد دوهرينغ، والذي يتناول بعمق كبير الفلسفة والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. في حين يتناول كتابه أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة الأصول الأولى للمجتمع البشري. سوف يتساءل نقادنا “العمليون” ما علاقة كل هذا بالطبقة العاملة والنضال الطبقي. نجيبهم: العلاقة هي أن هذا هو العمل الذي أرسى الأساس للنظرية الماركسية عن الدولة، والتي طورها لينين فيما بعد في كتابه الدولة والثورة، وهو الكتاب الذي وضع الأسس النظرية للثورة البلشفية.

وماذا نقول عن لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية؟ لا يتعامل إنجلز في هذا الكتاب مع أفكار هيغل “المجردة والمبهمة” فحسب، بل يتعامل أيضا مع أفكار فلاسفة ألمان صغار غامضين من حركة اليسار الهيغيلي. ونجد خاصة في مراسلات ماركس وإنجلز، كنزا دفينا من الأفكار التي تتطرق لقضايا ذات نطاق مذهل. تبادل الصديقان وجهات النظر حول جميع أنواع المواضيع، ليس فقط الاقتصاد والسياسة، بل أيضا الفلسفة والتاريخ والعلوم والفن والأدب والثقافة.

هذا رد ساحق على كل منتقدي ماركس البرجوازيين الذين يقدمون صورة كاريكاتورية عن الماركسية باعتبارها عقيدة جافة وضيقة تختزل كل الفكر الإنساني في الاقتصاد وتطور القوى المنتجة. ومع ذلك فإنه ما يزال هناك، حتى اليوم، أشخاص يحبون أن يطلقوا على أنفسهم اسم ماركسيين بينما هم يدافعون، ليس عن أفكار ماركس وإنجلز الحقيقية، بكل ثرائها واتساعها وعمقها، بل عن نفس الصورة الكاريكاتورية “الاقتصادية” التي يقدمها نقاد الماركسية البرجوازيين عنها. هذه ليست ماركسية على الإطلاق، بل إنها، على حد تعبير هيغل: “Die leblosen Knochen eines Skeletts” (عظام هيكل عظمي نخرة)، وهي العبارة التي علق لينين عليها قائلا: «ما نحتاجه ليس العظام النخرة، بل الحياة المزدهرة»[2].

لقد أكد لينين دائما على أهمية النظرية. وقد خاض، حتى خلال المرحلة الجنينية الأولية للحزب، صراعا لا هوادة فيه ضد الاقتصادويين، الذين كانت لديهم عقلية “الممارسة البروليتارية” الضيقة وكانوا يحتقرون النظرية باعتبارها مجالا للمثقفين، وليس للعمال. وفي سياق رده على هذا الهراء، كتب لينين:

«مقولة ماركس: “[…] كل خطوة تخطوها الحركة العملية، هي أهم من دسة برامج”. تكرار هذه الكلمات في مرحلة الاضطراب النظري، يشبه تهنئة مشيعي جنازة بدوام الأفراح والمسرات. وعلاوة على ذلك، فإن كلمات ماركس هذه مأخوذة من رسالته حول برنامج غوتا، والتي يدين فيها بشدة الانتقائية في صياغة المبادئ. كتب ماركس إلى قادة الحزب قائلا: إذا كان عليكم أن تتحدوا، فعليكم أن تدخلوا في اتفاقات لتحقيق الأهداف العملية للحركة، لكن لا تسمحوا بأي مساومة على المبادئ، ولا تقدموا أي “تنازلات” نظرية. كانت هذه فكرة ماركس، ومع ذلك فإن بيننا من يسعى باسمه إلى التقليل من أهمية النظرية!

لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا بقوة على هذه الفكرة في وقت يسير فيه التبشير الشائع بالانتهازية، جنبا إلى جنب مع الافتتان بأضيق أشكال النشاط العملي. ومع ذلك، فإن أهمية النظرية بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين الروس تتعزز بسبب ثلاثة ظروف أخرى غالبا ما يتم نسيانها: أولا، لأن حزبنا ما يزال في طور التشكل، وقد بدأ للتو في تحديد سماته، وما يزال أبعد ما يكون عن تصفية الحسابات مع اتجاهات الفكر الثوري الأخرى التي تهدد بتحويل الحركة عن الطريق الصحيح». (ما العمل؟).

لقد ادعى التيار الاقتصادوي، مثله مثل ويتلينغ وباكونين، بأنه تيار “بروليتاري حقيقي” يناضل ضد التأثير الخبيث لـ”المنظرين المثقفين”. وكانت القطيعة الحادة مع هذا التيار، الذي كان يجمع بين الديماغوجية “البروليتارية” وبين النقابية الإصلاحية في الممارسة العملية، هي الشرط المسبق لتشكل البلشفية. إلا أن النضال من أجل الدفاع عن النظرية ضد هؤلاء “العمليين”، هو سمة ثابتة استمرت بعد فترة طويلة من ذلك.

كتب لينين عام 1908:

«إن النضال الأيديولوجي الذي خاضته الماركسية الثورية ضد التحريفية في نهاية القرن التاسع عشر ليس سوى مقدمة للمعارك الثورية الكبرى للبروليتاريا، التي تتقدم نحو النصر الكامل لقضيتها على الرغم من كل ترددات وضعف الطبقة البرجوازية الصغيرة» (الماركسية والنزعة التحريفية)

وفي كتابه عن ستالين، يصف تروتسكي بتفصيل كبير نفسية “أعضاء اللجان” البلاشفة، الذين كانت لديهم أيضا عقلية “العمليين”. لقد ارتكبوا سلسلة كاملة من الأخطاء الفادحة بسبب عدم قدرتهم على فهم الحركة الحقيقية للعمال في 1905-1906. وكان سبب أخطائهم (التي عادة ما تكون ذات طابع يسراوي متطرف) هو عدم فهمهم للديالكتيك. لقد كانت لديهم فكرة مجردة وشكلية تماما عن كيفية بناء الحزب، والتي لم تكن مرتبطة بالحركة الحقيقية للعمال. ولهذا السبب قام البلاشفة، في عام 1905، في بيترسبورغ، بالانسحاب، على نحو أرعب لينين، من الاجتماع الأول للسوفييتات، لأنها رفضت قبول برنامج الحزب.

وفي عام 1908، عندما وجد نفسه أقلية، مشكلة منه لوحده، داخل قيادة الفصيل البلشفي، الذي كان يقوده اليساريان المتطرفان، بوغدانوف ولوناشارسكي، كان مستعدا للانشقاق بسبب الاختلاف حول الموقف من الفلسفة الماركسية. ليس من قبيل المصادفة أنه في ذلك الوقت العصيب، عندما كان وجود التيار الثوري نفسه في خطر، أمضى الكثير من الوقت في تأليف كتاب عن الفلسفة: المادية والمذهب النقدي التجريبي.

قد يتساءل المرء عما كان يفعله فلاديمير إيليتش بتأليفه للكتب حول مثل تلك الأمور. ما هي الأهمية المحتملة التي قد تكون لدراسة كتابات الأسقف بيركلي بالنسبة للعمال الروس؟ كما يمكن للمرء أن يتساءل أيضا لماذا اعتقد لينين أنه من الضروري إحداث القطيعة مع أغلبية القادة البلاشفة بشأن مسألة الفلسفة. لكن لينين كان يفهم جيدا العلاقة السببية بين رفض بوغدانوف للمادية الديالكتيكية وبين السياسات اليسراوية المتطرفة التي تبنتها تلك الأغلبية.

وخلال الحرب العالمية الأولى، عاد لينين إلى الفلسفة، وقام بدراسة عميقة لهيغل نُشرت بعد سنوات عديدة تحت اسم “الدفاتر الفلسفية“. وكان أحد أعماله الأخيرة حول أهمية المادية المكافحة، حيث أكد مرة أخرى على الحاجة إلى دراسة هيغل، وقال:

«بالطبع، هذه الدراسة، وهذا التفسير، وهذه الدعاية للديالكتيك الهيغلي صعبة للغاية، ولا شك أن التجارب الأولى في هذا الاتجاه ستصاحبها أخطاء. ولكن وحده من لا يفعل شيئا هو الذي لا يخطئ أبدا. إذا أخذنا منهج ماركس في تطبيق الديالكتيك الهيغلي المتصور ماديا، أساسا لنا، فيمكننا، بل وينبغي لنا، أن نوسع هذا الديالكتيك من جميع جوانبه، وأن ننشر في الجريدة مقتطفات من أعمال هيغل الرئيسية، ونفسرها ماديا، ونعلق عليها بمساعدة أمثلة على الطريقة التي طبق بها ماركس الديالكتيك، وكذلك أمثلة على الديالكتيك في مجال العلاقات الاقتصادية والسياسية، والتي يوفرها لنا التاريخ المعاصر، وخاصة الحرب الإمبريالية الحديثة والثورة، بوفرة غير عادية».

لقد كرس تروتسكي، مثله مثل لينين، حياته كلها للدفاع العنيد عن النظرية الماركسية. وفي مقالته الممتازة عن إنجلز، يؤكد على الموقف الحازم الذي تبناه هذا الأخير تجاه النظرية، حيث يقول:

«في الوقت نفسه، كانت الشهامة الفكرية للمعلم تجاه تلميذه لا تنضب حقا. كان يقرأ أهم مقالات كاوتسكي الغزير الإنتاج وهي ما تزال على شكل مخطوطة، وكانت كل رسالة من رسائله النقدية تحتوي على اقتراحات ثمينة، هي ثمرة تفكير جدي، وأحيانا ثمرة بحث عميق. ويبدو أن كتاب كاوتسكي الشهير: “التناقضات الطبقية في الثورة الفرنسية”، والذي تُرجم إلى جميع لغات العالم المتقدم تقريبا، قد مر بدوره عبر مختبر إنجلز الفكري. وتعد رسالته الطويلة حول التكتلات الاجتماعية في عصر الثورة الكبرى خلال القرن الثامن عشر -وكذلك حول تطبيق الأساليب المادية لدراسة الأحداث التاريخية- من أروع منتجات العقل البشري. إنها مقتضبة للغاية، وكل صيغة من صيغها تفترض مسبقا رصيدا كبيرا من المعرفة بحيث لا يمكن إدخالها في تداول القراءة العامة؛ لكن هذه الوثيقة، التي ظلت مخفية لفترة طويلة، ستبقى إلى الأبد ليس فقط مصدرا للتعليم النظري، بل أيضا مصدرا للبهجة الجمالية لأي شخص يفكر جديا في ديناميات العلاقات الطبقية في العصر الثوري، فضلا عن المشكلات العامة التي ينطوي عليها التفسير المادي للأحداث التاريخية»[3].

ونجد في جميع أعمال تروتسكي اتساع الرؤية والاهتمام الواسع، ليس فقط بالتاريخ، بل بالفن والأدب والثقافة بشكل عام. قبل الحرب العالمية الأولى كتب مقالات عن الفن وعن كتاب مثل تولستوي وغوغول. وبعد ثورة أكتوبر، كتب على نطاق واسع عن الفن والأدب. وكتابه الأدب والثورة هو نتاج لتلك الفترة.

في عام 1923 كتب: «إن الأدب، الذي ترجع منهجياته وسيروراته بجذورها إلى الماضي البعيد، ويمثل الخبرة المتراكمة لفن التعبير اللفظي، يعبر عن أفكار ومشاعر وأمزجة ووجهات نظر وآمال العصر الجديد والطبقة الجديدة»[4]. وفي خضم الفترة العاصفة للثورة والثورة المضادة خلال الثلاثينيات وجد الوقت للكتابة عن الأدب والفن. في عام 1934، بعد وقت قصير من الكارثة الألمانية، كتب مراجعة لرواية “فونتامارا” للكاتب إغنازيو سيلوني. وفي عام 1938، كتب بيان الفن الثوري المستقل مع الكاتب السريالي أندريه بريتون.

يمكننا أن نتخيل سخط التافه الماركسي الزائف والذي سيقول: “ما هذا؟ هل يضيع الرفيق تروتسكي وقته في هذه اللحظة الثورية من التاريخ في الكتابة عن الفن؟ ما علاقة الفن بالبروليتاريا والصراع الطبقي؟”، ويهز التافه رأسه بحزن، ويخلص إلى أن الرفيق تروتسكي لم يعد الرجل الذي كان عليه من قبل. “هذا ليس تروتسكي البرنامج الانتقالي! لا بد أن العجوز فقد قدراته العقلية!”. أجل يمكننا أن نتخيل ذلك!

في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تهتز بالثورة والثورة المضادة، وعندما كان أنصاره يُقتلون وكانت الأممية الرابعة تصارع من أجل بقائها، لماذا وجد تروتسكي الوقت لتكريسه لمسائل مثل الفن والأدب؟ عندما سنجيب عن هذا السؤال، سنتمكن من رؤية الفرق بين الماركسية الحقيقية، الثورية البروليتارية الحقيقية، وبين الصورة الكاريكاتورية السطحية التي تقدم على أنها ماركسية في بعض الدوائر.

خلال فترة الصراع الفصائلي الذي أدى إلى الانقسام في منظمة الملتانت، قال فصيل الأغلبية إن تيد غرانت وآلان وودز كانا “مجرد منظرين”. وهذه العبارة المجنحة كافية لكي نعرف كل ما يجب أن نعرفه عن ذلك التيار. لقد كرسنا حياتنا طيلة عقود من الزمن لبناء التيار الذي صار الحركة التروتسكية الأكثر نجاحا منذ المعارضة اليسارية الروسية. فبعد أن انطلقنا من مجموعة صغيرة جدا في أوائل الستينيات، نجحنا في بناء منظمة كبيرة ذات جذور راسخة داخل الحركة العمالية.

كان تيد المفكر الماركسي الأبرز بين جميع معاصريه./ صورة خاصة

كل هذه النجاحات كانت نتيجة سنوات من العمل الصبور. وقد كانت، في آخر المطاف، نتيجة الأفكار والمناهج والمنظورات الصحيحة التي وضعها تيد غرانت، ذلك المفكر الماركسي العظيم. لقد كان تيد المفكر الماركسي الأبرز بين جميع معاصريه. لقد كان متعمقا جدا في النظرية الماركسية وكان يعرف أعمال ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي مثلما يعرف ظهر يده.

عندما طُردنا، تيد غرانت وأنا، من منظمة الملتانت، وجدنا أنفسنا في موقف صعب. كان لدى الأغلبية جهاز ضخم، وأموال كثيرة، وفريق مكون من حوالي 200 متفرغ. لم يكن لدينا حتى آلة كاتبة. ومع ذلك، لم نشعر، تيد وأنا، بالقلق على الإطلاق. كانت لدينا الأفكار الماركسية، وكان هذا هو كل ما يهم. لقد أقنعتني تجربتي كلها أنه إذا كانت لديك الأفكار الصحيحة، فيمكنك دائما بناء الجهاز. لكن العكس ليس صحيحا. من الممكن أن يكون لديك أكبر جهاز في العالم، ولكن إذا كنت تعمل على أساس نظريات ومنهجيات غير صحيحة، فسوف تفشل.

لقد درسنا الموقف وتوصلنا إلى استنتاج مفاده أنه في ذلك الوضع، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت مهمتنا الأكثر إلحاحا هي الدفاع عن الأفكار والنظريات الأساسية للماركسية. وكانت النتيجة الأولى هي كتاب العقل في ثورة: الفلسفة الماركسية والعلم الحديث. آنذاك ضحك رفاقنا السابقون كثيرا من ذلك الكتاب. وكان تعليقهم الساخر هو: “كما ترون! لقد تخلى تيد وآلان عن السياسة ليؤلفا كتبا عن الفلسفة!”. كان هذا هو موقفهم من النظرية الماركسية، وهو موقف يندرج في التقليد الحقيقي لويتلينغ وموظفي الحزب البلاشفة، لكن ليس موقف ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي على الإطلاق.

لا بد أن تترجم الأخطاء النظرية، عاجلا أم آجلا، إلى كارثة في الممارسة. لقد دفعت الأغلبية السابقة ثمن أخطائها. والتيار الذي كان في السابق تيارا قويا له جذور قوية بين صفوف الحركة العمالية، تحول إلى نسخة هزيلة لما كان عليه في السابق. في حين لعب كتاب العقل في ثورة دورا رئيسيا في تأسيس التيار الماركسي الأممي. وقد تُرجم إلى العديد من اللغات، وأشاد به العديد من العمال والاشتراكيين والشيوعيين والنقابيين والبوليفاريين (بمن في ذلك هوغو تشافيز).

كيف يمكننا أن نفسر هذا؟ إن العمال والشباب المتقدمين متعطشون للأفكار والنظريات. إنهم يريدون أن يفهموا ما يحدث في المجتمع. وهم لا ينجذبون إلى التيارات التي تخبرهم فقط بما يعرفونه بالفعل، أي: أن الرأسمالية في أزمة، وأن هناك بطالة، وأنهم يعيشون في منازل سيئة، ويحصلون على أجور منخفضة، وما إلى ذلك. يريد الجادون أن يعرفوا لماذا وصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن، وماذا حدث في روسيا، وما هي الماركسية، وغيرها من الأسئلة ذات الطابع النظري. ولهذا السبب فإن النظرية ليست ترفا فكريا، كما يتصور “العمليون”، بل هي أداة أساسية للنضال الثوري.

إنه افتراء على البروليتاريا القول إن العمال غير مهتمين بالمسائل العامة للثقافة والتاريخ والفلسفة، وما إلى ذلك. فمن خلال تجربتي على مدى سنوات عديدة، وجدت أنه يوجد بين العمال اهتمام حقيقي بالأفكار أكثر بكثير من الاهتمام بالأفكار الموجود بين العديد مما يسمى بالطبقات الوسطى المثقفة. أتذكر أنني منذ زمن بعيد، عندما كنت ألقي محاضرات للعمال في موطني جنوب ويلز، صادفت ذات مرة عاملا في قطاع التعدين كان قد علم نفسه اللغة البرتغالية لكي يقرأ أعمال شاعر برازيلي لم أسمع عنه من قبل.

إن الفكرة القائلة بأن العمال غير مهتمين بالثقافة تأتي دائما تقريبا من عند المثقفين البرجوازيين الصغار الذين ليست لديهم أية معرفة بالطبقة العاملة، والذين يخلطون بين العمال وبين البروليتاريا الرثة. ولذلك فإنهم يظهرون الازدراء تجاه الطبقة العاملة وغطرسة الطبقة الوسطى الخاصة بهم تجاه العمال. يحاول هذا النوع من الأشخاص التشبه بالعمال من خلال ارتداء السترات التي يرتديها العمال، واستعمال لهجة “الطبقة العاملة”. إنهم يستخدمون لغة بذيئة، والتي يعتقدون أنها تحسن مؤهلاتهم البروليتارية.

لقد رأيت حالات كثيرة جدا لماركسيين من المفترض أنهم متعلمون يعتقدون أنه من الذكاء تقليد لغة وعادات البروليتاريا الرثة، متخيلين أن هذا سيمنحهم مصداقية أكبر باعتبارهم “عمالا حقيقيين”. في واقع الأمر، لا يستخدم العمال عادة مثل هذه اللغة في منازلهم أو في التجمعات المهذبة. إن تقليد سلوك الشرائح الدنيا والأكثر انحطاطا من بين العمال والشباب موقف لا يليق بالماركسي، ناهيك عن الماركسي الذي يطمح إلى أن يكون قائدا. في مقالته الرائعة “النضال من أجل الخطاب المثقف“، وصف تروتسكي مثل هذه اللغة بأنها علامة على عقلية العبيد، التي لا ينبغي للثوريين أن يقلدوها بل يجب أن يسعوا إلى القضاء عليها.

في هذا المقال، الذي كتب عام 1923، يشيد تروتسكي بالعمال في مصنع كومونة باريس للأحذية لإصدارهم قرارا بالامتناع عن الشتائم وفرض غرامات على اللغة البذيئة. لم يعتبر قائد ثورة أكتوبر ذلك تفصيلا تافها، بل اعتبره مظهرا هاما للغاية لنضال الطبقة العاملة من أجل التحرر من عقلية العبودية والتطلع إلى مستوى أعلى من الثقافة. «إن اللغة المسيئة والشتائم هي إرث من العبودية والإذلال وعدم احترام كرامة الإنسان، كرامة الفرد وكرامة الآخرين». هذا ما كتبه قائد ثورة أكتوبر.

هناك العديد من المستويات المختلفة في الطبقة العاملة، مما يعكس اختلاف الظروف والتجارب. وتنشط الفئات الأكثر تقدما من البروليتاريا في النقابات والأحزاب العمالية. إنهم يطمحون إلى حياة أفضل. إنهم يهتمون بشدة بالأفكار والنظريات، ويسعون جاهدين لتثقيف أنفسهم. هذا الكفاح هو ضمانة المستقبل الاشتراكي، حيث سيكسر الرجال والنساء، ليس فقط القيود المادية التي تقيدهم، بل أيضا القيود النفسية التي تبقيهم مستعبدين للماضي الهمجي.

شدد تروتسكي على أهمية النضال من أجل الخطاب المثقف: «إن النضال من أجل التعليم والثقافة سيزود العناصر المتقدمة من الطبقة العاملة بجميع موارد اللغة الروسية في ثرائها الشديد ودقتها ورقيها».

ووضح أن الثورة هي «في المقام الأول إيقاظ الشخصية الإنسانية لدى الجماهير، التي كان من المفترض أنها لا تمتلك شخصية». إنها «قبل كل شيء، يقظة الإنسانية، ومسيرتها إلى الأمام، وتتميز باحترام متزايد للكرامة الشخصية لكل الأفراد مع اهتمام متزايد بالضعفاء»[5].

إن التحويل الاشتراكي للمجتمع لا يعني الاستيلاء على السلطة فحسب: فهذه ليست سوى الخطوة الأولى. إن الثورة الحقيقية -قفزة البشرية من عالم الضرورة إلى عالم الحرية- لا تتحقق بمجرد الاستيلاء على السلطة. وقد أشار إنجلز إلى أنه في أي مجتمع حيث الفن والعلم والحكومة حكر على أقلية، فإن تلك الأقلية سوف تستخدم وتشتط في استخدام موقعها لإبقاء المجتمع في حالة العبودية.

من خلال تقديمنا للتنازل للمستوى المتدني لوعي الفئات الأكثر تخلفا وأمية من الطبقة العاملة، لا نكون بصدد مساعدتها على رفع وعيها إلى مستوى المهام التي يفرضها التاريخ. بل على العكس من ذلك، نحن نساعد على خفضه، وستكون لهذا دائما عواقب رجعية. ويمكننا تلخيص المناقشة بالطريقة التالية: كل ما يؤدي إلى رفع مستوى وعي البروليتاريا هو تقدمي وثوري، وكل ما يؤدي إلى خفضه هو رجعي.

يجب أن يكون الماركسيون في الصف الأول للطبقة العاملة التي تناضل من أجل تغيير المجتمع. واجبنا هو تكوين وتدريب كوادر الثورة الاشتراكية المستقبلية. ومن أجل القيام بهذه المهمة، علينا أن نقف على ما هو إيجابي وتقدمي وثوري، وأن نرفض بشكل حاسم كل ما هو متخلف وجاهل وبدائي. لقد حددنا هدفنا في أفق سامي للغاية. يجب علينا أن نرفع أنظار الطبقة العاملة، بدءا بالعناصر الأكثر تقدما، إلى الأفق الذي تحدث عنه تروتسكي في الأدب والثورة حيث قال:

«من الصعب التنبؤ بمدى التحكم الذاتي الذي قد يصل إليه أناس المستقبل أو المرتفعات التي قد تصل إليها تقنياتهم. سيصبح البناء الاجتماعي والتعليم الذاتي النفسي الجسدي وجهين لسيرورة واحدة. جميع الفنون والآداب والدراما والرسم والموسيقى والهندسة المعمارية، ستضفي على هذه السيرورة شكلا جميلا. وبتعبير أصح، فإن الإطار الذي سيتطور فيه البناء الثقافي والتعليم الذاتي للإنسان الشيوعي، سوف يطور جميع العناصر الحيوية للفن المعاصر إلى أعلى نقطة. سيصبح الإنسان أقوى وأكثر حكمة وإتقانا؛ سيصبح جسده أكثر انسجاما، وحركاته أكثر تناغما، وصوته أكثر موسيقية. سوف تصبح أشكال الحياة أكثر دينامية. سوف يرتقي البشر العاديون إلى مستوى أرسطو، أو غوته، أو ماركس. وفوق تلك التلال سترتفع قمم جديدة».

آلان وودز


[1] Reminiscences of Marx and Engels, p.272, (خط التشديد من عندي، أ.و)

[2] Lenin, “Philosophical Notebooks”, Collected Works, Vol. 38

[3] Trotsky, Engels’ Letters to Kautsky, 1935

[4] Trotsky, The social roots and the social function of literature

[5] ibid.

عنوان ومصدر النص الأصلي:

In defence of theory — or ignorance never yet helped anybody