في الأسبوع الماضي من سلسلتنا لينين خلال عام، بحثنا في نص مهم كتبه لينين في خضم ثورة 1905: خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية. لكن الثورة هُزمت. في أعقاب الثورة المضادة، اجتاحت روسيا جميع أنواع التشاؤم والتصوف. حتى إن هذه الحالة المزاجية أصابت فئات من البلاشفة، وهو ما انعكس في محاولات مراجعة الفلسفة الماركسية. نعيد هذا الأسبوع نشر مقدمة آلان وودز الممتازة لكتاب لينين الصادر عام 1908 بعنوان “المادية والمذهب النقدي التجريبي”، الذي أطلق فيه لينين دفاعًا حادًا عن المادية الجدلية.
قال جوزيف ديتزغين[1] ذات مرة إن الفلسفة الرسمية ليست علما، بل هي مجرد أداة للتصدي للاشتراكية، وقد كان محقا تماما. إن الفلاسفة المحترفين، وبالرغم من استنكارهم لهذه الحقيقة، قد تم تجنيدهم من قبل المدافعين عن الوضع الراهن كحلفاء في النضال ضد الماركسية. لقد كان هذا واضحا بشكل خاص خلال مرحلة الحرب الباردة، عندما استخدمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الفلسفة والفن أسلحة ضد الشيوعية، لكنه ما يزال صحيحا اليوم كذلك.
منذ أن ظهرت الماركسية كقوة مؤثرة، تشكل خطرا على النظام القائم، دخلت الأنظمة الرأسمالية في حالة حرب دائمة ضد كل جوانب الإيديولوجية الماركسية، بدءا من المادية الديالكتيكية. صار مجرد ذكر اسم الماركسية سببا في إثارة ردة فعل سريعة داخل تلك الدوائر. تجدهم يصرخون: “عفا عليها الزمن”، “غير علمية”، “تم دحضها منذ فترة طويلة”، “ميتافيزيقيا”، وما إلى ذلك من العبارات المبتذلة الأخرى.
ليس ماركس وإنجلز وحدهما من يعتبران شخصان غير مرغوب فيهما (personae non grata ) في القاعات المقدسة لأقسام الفلسفة، بل حتى العجوز هيجل المسكين، الذي كان مرحبا به في السابق بكونه فيلسوف الفلاسفة بامتياز، صار بدوره يتعرض لمؤامرة صمت مخزية تماما، أو ما هو أسوأ من ذلك.
صدر هذا النص أيضا مقدمة لإصدارنا الجديد بالإنجليزية لكتاب لينين عن الفلسفة الماركسية “االمادية والمذهب النقدي التجريبي”. الكتاب متاح للشراء الآن هنا! ومتوفر أيضا على شكل كتاب إلكتروني.
ليس هذا الموقف انعكاسا للجهل والتحيز فقط (على الرغم من وجود الكثير من الاثنين)، بل هناك مصالح مادية هائلة على المحك، سرعان ما تقنع الجميع، باستثناء النفوس العظيمة، بأنه ليس من الحكمة الإساءة لمن يقدمون العطايا ويتحكمون في الوظائف الأكاديمية.
كما أنه من الواضح كذلك أن عصابة أكاديميي ما بعد الحداثة لا يحبون أن يتم تذكيرهم بحقيقة أنه في الماضي كان لدى الفلاسفة في الواقع أشياء عميقة ومهمة ليقولوها عن العالم الحقيقي.
أهمية النظرية
قال لينين في كتابه “ما العمل؟”:
«لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالانتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الأكثر ضيقا»[2].
وأضاف: «لا يمكن أن يقوم بدور مناضل الطليعة إلا حزب يسترشد بالنظرية الأكثر تقدما»[3].
وفي هذا السياق يعتبر كتاب “المادية والمذهب النقدي التجريبي”، بلا شك، من أهم المساهمات في النظرية الماركسية.
بدأ لينين كتابة هذا المؤلف الماركسي الكلاسيكي في فبراير 1908. كان ذلك في ذروة فترة الردة الرجعية التي أعقبت هزيمة انتفاضة موسكو، في دجنبر 1905. كانت الطبقة العاملة مستنزفة، بينما جاءت انتفاضات الفلاحين، التي علق عليها لينين آماله في إحياء المد الثوري، متأخرة جدا. صارت المبادرة في يد النظام القيصري، الذي شرع في الهجوم.
تلت ذلك موجة من الردة الرجعية القاتمة التي استمرت عدة سنوات. تسببت الاعتقالات الجماعية والإعدامات والسحق الوحشي لأي معارضة في تدمير الحركة. تعرض الماركسيون (المعروفون آنذاك باسم الاشتراكيين الديمقراطيين) لأقسى أنواع الاضطهاد. تعرض قادتهم للمتابعات والسجن والنفي إلى سيبيريا أو الإعدامات. كما تعرض آلاف الآخرين إلى القتل دون محاكمة.
كان لهذه الهزيمة تأثير محبط للغاية على الحركة، وخاصة على المثقفين الذين كانوا قد تعاطفوا مع الثورة عندما كانت في أوجها، لكنهم بدأوا في التخلي عنها بمجرد بداية الجزر. اجتاح مزاج التشاؤم صفوف البرجوازية الصغرى.
وجد ذلك المزاج تعبيره في الشعور العام باليأس، والميل إلى التخلي عن الصراع الطبقي والانكفاء على الذات، والبحث عن أفكار جديدة وحلول سحرية، بما في ذلك الأفكار الصوفية وشبه الدينية (“بناء الله”). هذا هو السياق الذي يجب على المرء أن يرى فيه الأهمية الحقيقية لنضال لينين ضد التحريفية الفلسفية.
كان ذلك تقريبا هو الوقت الذي أصبحت خلاله المثالية الذاتية لريتشارد أفيناريوس وإرنست ماخ فلسفة على الموضة بين فئة من المثقفين في روسيا. كان ذلك يتوافق بشكل وثيق مع مزاج الاكتئاب والتشاؤم والتصوف السائد.
لم تكن الحركة الاشتراكية محصنة ضد هذا الانحطاط، وبدأت فئة منها في تقديم تنازلات للماخية. وقد كان هذا جزءا من سيرورة الثورة المضادة في مجال الأفكار.
البرجوازية الصغيرة والثورة
يمكن ملاحظة نفس النمط مرارا وتكرارا في أعقاب الثورات المهزومة. فبمجرد ما تواجه الحركة الثورية الانتكاسات، نبدأ في رؤية طابور طويل من المثقفين المكتئبين يتساقطون الواحد تلو الآخر، في عجلة مخزية للتخلي عن الحركة والتقاعد في أمان دراساتهم.
يوفر المثقفون مقياسا دقيقا إلى حد ما للأمزجة المتغيرة للبرجوازية الصغيرة. وباعتبارهم شريحة وسيطة بين البروليتاريا والبرجوازية، فإنهم فئة اجتماعية غير مستقرة عضويا، وتتأرجح باستمرار بين القطبين الكبيرين في المجتمع.
رغم أن المثقفين قادرون على الانجذاب نحو الطبقة العاملة والحركة الاشتراكية الثورية، فإنهم يظهرون دائما باعتبارهم حليفا غير مستقر ومتذبذب للغاية وغير موثوق به. وعندما تتحرك الطبقة العاملة في اتجاه ثوري، يمكن لقسم من المثقفين البرجوازيين الصغار أن يصاب بشيء من الحماس، لكن تلك التقلبات المزاجية قد تتحول بسرعة إلى نقيضها.
وبعد أن يفقد المثقفون ثقتهم في قوة الطبقة العاملة، يستسلمون لضغط الردة الرجعية وينعطفون نحو اليمين. مُثل النضال الجماعي تفسح الطريق للبحث عن حلول فردية، وتبدأ النزعة الذاتية والنسبية واللاأدرية، أو بعبارة أخرى المثالية الفلسفية، في اكتساح الساحة.
يبدؤون في اختراع كل أنواع الأفكار الخيالية لشرح أسباب الهزائم. ويعملون دائما على توجيه اللوم إلى الطبقة العاملة على إخفاقاتهم هم. ويبدؤون دائما في الثرثرة حول الحاجة إلى “أفكار جديدة” و”حرية الانتقاد” من أجل وضع حد “للنزعة الأُرثوذوكسية الخانقة” (أي الماركسية) التي، في نظرهم، قد خذلتهم.
“حرية الانتقاد”
ظهرت في روسيا، بين عامي 1906 و1908، سلسلة من الكتب والمقالات من تأليف مؤلفين مثل ألكسندر بوغدانوف وأناتولي لوناتشارسكي وف. أ. بازاروف، بالإضافة إلى مثقفين يساريين آخرين مثل المنشفي بافيل يوشكيفيتش والمنظر الرئيسي للحزب الاشتراكي-الثوري فيكتور تشيرنوف. كان المحرك الرئيسي لتلك الكتابات هو القول بأن الماركسية صارت “قديمة”، وأنها تحتاج إلى التحديث من خلال إغناءها بالاكتشافات “الجديدة” التي قام بها ماخ وأفيناريوس.
لكن الماركسية نظرة موحدة ومتناغمة إلى العالم. إنها ليست مجموعة من الأفكار الجيدة، التي يمكن تغيير هذا المكون منها أو ذاك حسب الرغبة. إن هذه “التعديلات الطفيفة” المزعومة تصل في الممارسة العملية إلى النفي الكامل للماركسية وفلسفتها المادية.
لم تكن المشكلة مقتصرة على أن تلك الأفكار خاطئة فحسب، بل في أنها كانت قد بدأت تجد صدى لها بين صفوف البلاشفة، بما في ذلك بين صفوف القيادة. كان بوغدانوف في تلك المرحلة أحد أبرز الأعضاء داخل اللجنة المركزية البلشفية وعضوا في هيئة تحرير الجريدة البلشفية فبريود. وقد لعب خلال الفترة التي سبقت ثورة 1905، هو وآخرون ممن اتبعوا خطه الفلسفي، دورا بارزا في الحركة، كما أنه كان يبني لنفسه مكانة بارزة كخبير في المسائل الفلسفية.
لكن أن يكون المرء واسع الاطلاع في مجال الفلسفة لا يعني بالضرورة أنه يفهم الفلسفة. كشف بوغدانوف وأتباعه مرارا وتكرارا أن فهمهم للنظرية الماركسية كان ضيقا وسطحيا تماما، وأنهم يميلون إلى المخططات والصيغ الجامدة. لقد أظهروا نقصا تاما في فهم الفلسفة الماركسية، إذ كان المنهج الديالكتيكي غريبا عنهم بشكل كامل، وهي الحقيقة التي قادتهم لاحقا إلى سلسلة من الأخطاء اليسارية المتطرفة في مجال التكتيكات.
رفع الماخيون البلاشفة، مثلهم مثل غيرهم من التحريفيين من قبلهم (وبعدهم)، صرخة “حرية الانتقاد”. لقد أكدوا أنهم ليسوا ضد الماركسية، لكنهم يرغبون فقط في “تحديثها”، بما يتماشى مع “أحدث اكتشافات” العلم والفلسفة.
لكن ذلك كان مجرد خدعة وإلهاء عن حقيقة أنهم كانوا في الواقع يبتعدون عن الماركسية وأنهم يريدون جر الحزب معهم. وقد كان لينين واضحا جدا بشأن ذلك:
«يطالب الرفيق سازين … بضرورة أن “تضمن” لـ”أعضاء الحزب” “الحرية الكاملة للتعبير عن فكرهم الثوري والفلسفي“.
هذا شعار انتهازي تماما. ففي جميع البلدان كان الانتهازيون هم وحدهم من طرحوا هذا النوع من الشعارات داخل الأحزاب الاشتراكية، ولم يكن يعني عمليا سوى “حرية” إفساد الطبقة العاملة بالإيديولوجية البرجوازية. “حرية الفكر” (اقرأ: حرية الصحافة والتعبير والضمير) إلى جانب حرية التنظيم نطالب بها الدولة (وليس الحزب). أما حزب البروليتاريا فهو اتحاد حر، تأسس لمحاربة “الأفكار” (اقرأ: الإيديولوجيا) البرجوازية، والدفاع عن وجهة نظر محددة للعالم، وهي الماركسية، ووضعها موضع التنفيذ… يسعى بعض الفبريوديين بكل أفئدتهم وأرواحهم لجر البروليتاريا إلى الوراء، إلى أفكار الفلسفة البرجوازية (الماخية)، بينما الآخرون لا يبالون بالفلسفة ويطالبون فقط بـ”الحرية الكاملة”… للماخية»[4].
يخبرنا الكتاب المقدس أنه لا يوجد شيء جديد تحت الشمس. وبالفعل فإنه في الواقع لم يكن هناك شيء جديد، لا في أفكار ماخ وأفيناريوس، ولا في ادعاءات الماخيين الروس بامتلاكهم تحديثا للماركسية. لقد خاض ماركس وإنجلز العديد من النضالات ضد التحريفية المثالية، وكان أشهرها جدال إنجلز ضد يوجين دوهرينغ.
يعرف تاريخ الحركة العمالية الثورية، بين الحين والآخر، بروز بعض الأشخاص الأذكياء الذين يقدمون أنفسهم مدعين الرغبة في تحديث الماركسية. وقد كان بوغدانوف ورفاقه في التفكير من قبيل هؤلاء الأشخاص، الذين يعكسون، في الممارسة العملية، ضغوط الطبقات الأخرى.
لا توجد الطبقة العاملة في الفراغ، إنها محاطة بطبقات وفئات اجتماعية أخرى يمكن لنظرتها الطبقية أن تجد انعكاسا لها داخل الحركة العمالية. وبالتالي فإن الصراع الطبقي ليس صراعا اقتصاديا وسياسيا فحسب، بل هو كذلك، كما أكد لينين مرارا وتكرارا، صراع فلسفي على نفس القدر من الأهمية.
نضال لينين ضد التحريفية
لم يخف لينين قط خلافاته مع بوغدانوف بشأن مسألة الفلسفة، إلا أنه كان لعدة سنوات على استعداد للتعاون معه وتوظيف مهاراته الأخرى في خدمة الحزب. ومع ذلك فإن لينين بمجرد أن أدرك المحاولات المنهجية لتقويض الأساس الفلسفي للماركسية، أعلن الحرب على الماخيين. شرع في نضال حازم للدفاع عن الأفكار الأساسية للماركسية ضد التحريفية. وقد كان أعلى تعبير عن هذا النضال هو نشر كتاب المادية والمذهب النقدي التجريبي عام 1909. في ذلك الوقت كتب لينين إلى مكسيم غوركي، الذي كان صديقا مقربا لبوغدانوف ولوناتشارسكي ومتعاطفا مع بعض وجهات نظرهما:
«ظهرت الآن دراسات في الفلسفة الماركسية [سلسلة مقالات نتجت عن ندوة نظمها بوغدانوف وحلفاؤه – أ. و]. وقد قرأت جميع تلك المقالات باستثناء مقالات سوفوروف (أنا الآن بصدد قراءتها)، وكل مقال منها يزيدني غضبا. كلا، كلا هذه ليست ماركسية! إن نقادنا التجريبيون، والأحاديون التجريبيون، والرمزيون التجريبيون، يتخبطون في مستنقع. محاولة إقناع القارئ بأن “الإيمان” بواقعية العالم الخارجي هو مجرد “تصوف” (بازاروف)؛ والخلط بين المادية والكانطية بأبشع الطرق (بازاروف وبوغدانوف)؛ والتبشير بتنويعة من اللاأدرية (النقد التجريبي) والمثالية (الأحادية التجريبية)؛ وتعليم العمال “الإلحاد الديني” و”عبادة” الطاقات البشرية العليا (لوناتشارسكي)؛ وإعلان أن تعاليم إنجلز عن الديالكتيك هي تصوف (بيرمان)؛ والسقي من البئر النتن لبعض “الوضعيين” الفرنسيين أو غيرهم، ومن اللاأدريين أو الميتافيزيقيين، فليأخذهم الشيطان، و”نظريتهم الرمزية في الإدراك” (يوشكيفيتش)! كلا، هذا حقا كثير جدا. من المؤكد أننا نحن الماركسيين العاديين لسنا جيدين في الفلسفة، لكن لماذا يهينوننا بتقديم هذه الأشياء إلينا باعتبارها فلسفة ماركسية! أفضل أن أسحل وأمزق على أن أوافق على التعاون في هيئة أو جهاز يبشران بمثل هذه الأشياء»[5].
لم يكن ذلك على الإطلاق مجرد نقاش حول عقائد فلسفية غامضة، بل كان صراعا من أجل الدفاع عن روح الحركة الثورية. لقد كان لينين واضحا جدا فيما يتعلق بما يعنيه فعليا الهجوم الماخي: «… يوجد بيننا أناس يريدوننا أن نعتبرهم ماركسيين، لكنهم يقدمون للجماهير فلسفة قريبة جدا من الإيمان [6](Fideism)»[7].
المادية والمثالية
سبق لإنجلز أن شرح الخطوط العريضة للفلسفة الماركسية (المادية الديالكتيكية) في “أنتي دوهرينغ” و”لودفينغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية”. يشرح إنجلز هناك أن الاتجاهين الأساسيين في الفلسفة هما المادية والمثالية. ويشرح لينين في كتابه الفرق بين هذين الاتجاهين الفلسفيين قائلا:
«تعتبر المادية أن الطبيعة أولية والروح ثانوية؛ وتضع الوجود في المرتبة الأولى وفي المرتبة الثانية الفكر. أما المثالية فتقوم بالعكس. هذا الفرق الجذري بين “المعسكرين الكبيرين” اللذين ينقسم إليهما فلاسفة “مختلف المدارس” المثالية والمادية، يضعه إنجلز حجر الزاوية، ويتهم صراحة بـ”الارتباك” أولئك الذين يستخدمون مصطلحي المثالية والمادية بأي معنى آخر»[8].
كان نضال لينين مكرسا قبل كل شيء لتسليط الضوء على الاختلاف الجوهري بين المثالية والمادية وتوضيح حقيقة الماخية، التي ليست في الواقع إلا شكلا من أشكال المثالية. لقد هاجم بلا رحمة الماخيين الروس بسبب “مراوغاتهم” وطالبهم بالتقدم «”لتسوية الحسابات” بصورة سافرة ومباشرة وقاطعة وواضحة مع الآراء التي تخلوا عنها»[9].
وكما هو الحال عادة مع التحريفيين، فقد حاول بوغدانوف ولوناتشارسكي إخفاء قطيعتهما مع الماركسية بسلسلة من الحيل والخدع غير النزيهة. لكن لينين مزق بلا رحمة ذلك القناع ليكشف عن المحتوى المثالي الرجعي الكامن تحته.
يكشف هذا الكتاب خطوة بخطوة، وطبقة تلو الأخرى، المثالية في جميع مظاهرها. وبنفس الطريقة التي أجاب بها إنجلز على أفكار دوهرينغ، فقد عمل لينين على الاقتباس بإسهاب من الكتابات الفلسفية للماخيين الروس وكتابات علماء وفلاسفة آخرين.
قد يشتكي البعض من أن كتاب لينين يجعل القراءة صعبة. ربما ذلك صحيح. لكن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للمرء أن يجيب على الأفكار الخاطئة، دون اتهامه بالتشويه أو سوء الفهم، هي على وجه التحديد الاقتباس مما هو مكتوب، كلمة بكلمة. وهذا ما فعله لينين، ولا يمكن لأحد أن يشتكي من أنه لم يعامل خصومه بإنصاف.
لكن ولهذا السبب بالذات، فإنه يحق له أن يصدر أقسى الأحكام عليهم، وهو ما لا يتردد في فعله. يسميهم الأغبياء وأشياء أخرى لم يعتد المرء على سماعها في قاعات الندوات الجامعية. لكن وكما نعلم جيدا، لا يوجد نقص في الأغبياء هناك أيضا، حتى ولو لم يجرؤ أحد على تسميتهم باسمهم الصحيح.
كان هدف لينين بسيطا للغاية وهو: الكشف بوضوح عن الاختلاف الحقيقي بين المادية الديالكتيكية الماركسية وبين المثالية الذاتية للماخيين. وقد نجح في ذلك ببراعة.
وفي سياق تحليله لمختلف صور وتعبيرات الماخية على الصعيد العالمي، أكد لينين على أنه «في كل سؤال فلسفي تطرحه الفيزياء الجديدة، [نجد] الصراع بين المادية والمثالية»[10]. أوضح أن:
«وراء ركام المصطلحات الجديدة، وراء فضلات المذهب السكولاستيكي، ميزنا تيارين رئيسيين، اتجاهين أساسيين في حل المشكلات الفلسفية. هل يجب اعتبار الطبيعة، المادة، العالم المادي، الخارجي، هو الأولي، واعتبار الوعي، العقل، الإحساس (التجربة حسب المصطلحات الشائعة في عصرنا)، والنفسي، وما إلى ذلك، على أنها ثانوية – هذا هو السؤال الجوهري الذي يستمر في الواقع في تقسيم الفلاسفة إلى معسكرين كبيرين»[11].
لقد تعامل لينين بجدية بالغة مع هذا الصراع الأيديولوجي لدرجة أنه كان مستعدا للانفصال عن كل قيادة الفصيل البلشفي بشأن هذه القضايا. حدث الانقسام عام 1909، عندما اختار لينين الانفصال عن بوغدانوف ولوناتشارسكي عوض تقديم أدنى تنازل لتحريفيتهم في مجال الفلسفة وصوريتهم العصبوية وسياساتهم اليسارية المتطرفة. كان هذا بعد قرابة عامين من الصراع الداخلي. ومع ذلك فبحلول الوقت الذي حدث فيه الانقسام، كان لينين قد نجح في كسب غالبية الحزب إلى موقف المادية الديالكتيكية، وكان بوغدانوف والماخيون هم الذين غادروا.
المثالية والدين
ترفض المادية الفكرة القائلة بأن العقل والوعي شيئان منفصلان عن المادة. إن الفكر هو مجرد نمط لوجود الدماغ، والذي هو، مثله مثل الحياة نفسها، مجرد مادة منظمة بطريقة معينة. العقل هو ما نسميه المجموع الكلي لنشاط الدماغ والجهاز العصبي. لكن، وبط
ريقة ديالكتيكية، يصير الكل أعظم من مجموع الأجزاء المكونة له. إن هذا الرأي يتوافق بشكل وثيق مع اكتشافات العلم، التي تعمل تدريجياً على كشف طريقة عمل الدماغ وأسراره.
أما المثالية فعلى النقيض من ذلك تستمر في تقديم الوعي على أنه “لغز”، على أنه شيء لا يمكننا فهمه. إنها تشوش العلاقة المادية والسببية بين العقل المفكر وبين جسم الإنسان. وتنشأ هذه المشكلة المزعومة بين العقل والجسد بسبب أن الظواهر العقلية تبدو مختلفة نوعياً عن الأجسام المادية التي يبدو أنها تعتمد عليها. لكن المادية المتسقة تؤكد أن العقل والجسد مترابطان.
إن الاتجاه المثالي في الفلسفة قديم قدم أفلاطون وفيثاغورس، على الأقل، واللذان رأيا أن العالم المادي نسخة مشوهة عن الفكرة المثالية، التي كانت موجودة قبل ظهور العالم. وهذه فكرة تتناسب بشكل جيد مع مصالح المؤسسة الدينية، التي تصرخ بصوت عال دفاعا عن كل ما يمكن الدفاع عنه من الأفكار البدائية حول الروح والحياة بعد الموت، وجميع القمامة الدينية الأخرى التي تراكمت في دماغ الإنسان منذ أقدم الأزمان وأكثرها بدائية. يختبئ الدين والخرافات وراء الواجهة المحترمة للمثالية الفلسفية. حيث من المفترض أن الروح الخالدة والنقية محبوسة داخل الجسم المادي الدنس الناقص والفاني، متلهفة للتحرر منه في لحظة الموت، عندما “نسلم الروح” ونصعد إلى الجنة (إذا كنا محظوظين).
لقد شكل الدين على مر التاريخ عائقا أمام تقدم العلم. الكنيسة[12] مؤسسة معادية لتقدم المعرفة لأن كل خطوة يخطوها العلم إلى الأمام تزيل أساسا آخر من أسس الخرافات الدينية. يقوم الدين على الإيمان الأعمى وليس على المعرفة. إنه يعتمد على الخوف من المجهول، وبالتالي فإن المجهول هو أكبر حليف له. هذا هو السبب في أن جميع الأديان تقوم على التصوف والظلامية والمعجزات، إلخ.
لقد حاولت الكنيسة عرقلة طريق التقدم والعلم بنيران محاكم التفتيش[13]، لكن دون جدوى. كان القرنان السادس عشر والسابع عشر فترة نشاط الفلسفة وتألقها. كانت أفكارها ذات صلة بالواقع، على عكس ما هو الحال اليوم. لقد كانت الفلسفة علما وكان العلم فلسفة. بدا وكأن الله لا مكان له في ذلك العالم الجديد الشجاع.
إسحاق نيوتن، الذي كان إنسانا مؤمنا، قدم لله دورا واحدا في عالمه الشبيه بالساعة: وهو تزويد العالم بالدفعة الأولى. لكن بعد قيامه بهذه المهمة الأولية، لم يعد له شيء آخر ليفعله على الإطلاق. لقد قدمت الفلسفة الجديدة أساسا للإلحاد، وكان المدافعون عن الإيمان يدركون ذلك جيدًا.
كان أكثر المعارضين للمادية في ذلك الوقت هو جورج بيركلي (1685-1753). كان بيركلي رجلا إنجليزيا أصبح أسقفا في كنيسة كلوين في أيرلندا. وفي سياق صراعه ضد المادية، جادل بأن المادة نفسها غير موجودة، وأن العالم لا يظهر إلا عندما تتم ملاحظته. لقد هاجم مفهوم المادة على أساس أنها مليئة بالتناقضات بحيث تصبح عديمة الفائدة في البحث عن المعرفة.
يعمل لينين على توضيح العلاقة بين الفلسفة المثالية وبين الإكليروسية، مقتبسا بإسهاب من أعمال الأسقف بيركلي وأبطال الكنيسة الآخرين:
«لأنه كما أظهرنا كانت عقيدة المادة أو الجوهر الجسدي الدعامة الأساسية لمذهب الشك، وعلى نفس الأساس كذلك أقيمت جميع ادعاءات الإلحاد وإنكار الدين الكافرة… ولا داعي للقول إلى أي حد كان الجوهر المادي في جميع الأزمنة صديقا كبيرا للملحدين. فجميع أنظمتهم الفظيعة تتوقف عليه بقدر من الجلاء، وبقدر من الضرورة بحيث أنه بمجرد أن يقصى حجر الزاوية هذا سرعان ما ينهار الصرح كله حتما. ولهذا لا داعي يدعونا إلى إيلاء المذاهب السخيفة لمختلف شيع الملحدين الحقيرة انتباها خاصا»[14].
وكما نرى مما سبق فقد طور الأسقف بيركلي مثاليته الذاتية كإجابة على ما اعتبره الإلحاد المادي لنيوتن والعلماء الآخرين في عصره. لقد رفض حساب التفاضل والتكامل لنيوتن ولايبنتز لأن الاعتراف بالقسمة اللانهائية لـ”الفضاء الحقيقي” يتناقض مع الفرضيات الأساسية لفلسفته.
لقد استخدم بذكاء حجج الفلسفة التجريبية لدحض المادية والدفاع عن الدين. لقد فعل ذلك بشكل مقصود من أجل محاربة الإلحاد الذي شعر -بشكل صحيح تمامًا- أنه كان يتقدم نتيجة لتقدم العلم.
لقد أظهر الأسقف بيركلي ببراعة شديدة أن المنطق التجريبي، عندما يؤخذ إلى أقصى الحدود، يقودنا إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكننا إثبات وجود العالم المادي بشكل مستقل عن حواسنا. وانطلاقا من المقولة البديهية “أنا أفسر العالم من خلال حواسي”، توصل إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكنني معرفة أي شيء سوى أحاسيسي.
وبدلا من تصريح لوك: “Nihil est in intellectu quod non sit prius in sensu” (“لا يوجد شيء في العقل لم يكن أولا في الحواس”)، أكد بيركلي: “esse est percipi”، أي “ليكون الشيء لا بد من أن يلاحظ”. لا يمكن للأشياء أن توجد إلا بقدر ما يتم إدراكها. لذلك فإنه من المستحيل أن أكون متيقنا من أن العالم موجود خارج إدراكي الحسي. وتسمى هذه العقيدة الفلسفية، حيث الذات هي من يحدد الوجود، المثالية الذاتية.
لكن هناك خلل فادح في صرح بيركلي. النتيجة المنطقية الحتمية لحجته هي السوليبسيسزم[15] [الفكرة القائلة بأنه لا يوجد إلا أناي]- فأنا وحدي موجود. بما أن إدراكي الحسي يحدد الوجود، فإنه لا يمكنني إثبات وجود أي شيء سوى نفسي. لكن إذا كان الأمر كذلك، فمن أين يأتي الله؟ لا بد أنه هو أيضا مجرد نسج من مخيلتي، مجرد “محتوى حسي” آخر!
لم يكن بيركلي مجرد أحمق، فقد كان، كما سنرى، يدرك جيدًا هذه الحقيقة المزعجة، التي حاول الالتفاف عليها بافتراض وجود العديد من الجواهر الروحية وأيضا وجود “عقل كوني” (الله).
كانت هذه المعضلة موضوع قصة مسلية، على الشكل التالي:
كان هناك شاب قال: «يا إلهي
من الغريب جدا
أن يعتقد المرء أن الشجرة
تستمر في الوجود
حتى عندما لا يكون هناك أحد في الفناء»
فجاء الرد:
سيدي العزيز: دهشتك غير مبررة،
فأنا دائما متواجد في الفناء
لذلك ستبقى الشجرة موجودة
بما أن ربك يراقبها[16].
القصيدة مسلية ومبتكرة، لكنها ذات أهمية جدية فقط لأولئك الذين يشعرون بالحاجة إلى اختلاق روح غير مرئية لإثبات أن الشجرة التي ننظر إليها موجودة بالفعل. في حين أن الشيء الذي يجب إثباته ليس حقيقة وجود الشجرة، التي يمكننا جميعا رؤيتها، بل حقيقة الروح غير المرئية، والتي لا يمكننا رؤيتها.
نظرية المعرفة
تحتل نظرية المعرفة -المعروفة أيضًا باسم الابستمولوجيا- مكانا مركزيا في تاريخ الفلسفة، وتقع في قلب الاختلاف بين الفلسفة المادية والفلسفة المثالية.
لقد شغلت مشكلة الذات-الموضوع اهتمام الفلاسفة لعدة قرون. إنها تهتم بتحليل التجربة الإنسانية، وما هو “ذاتي” داخل التجربة وما هو “موضوعي”.
كيف نعرف العالم “خارجنا”؟ تطرح المسألة من حيث الانقسام بين:
أ) “الذات” المفكرة (“أنا”)، و
ب) موضوع الفكر (العالم “الخارجي”)
لقد أثير هذا السؤال بالفعل في كتابات أرسطو، لكنه يعود، بالمعنى الابستمولوجي الحديث، إلى القرن السابع عشر، مع فلاسفة برجوازيين مثل رينيه ديكارت وجون لوك. قام ديكارت، الذي كان مثاليا، بتقديم مفهوم الثنائية. تصور ثنائية ديكارت العقل والجسد على أنهما عنصرين منفصلين تماما. ومن هنا جاء العنصر “الثنائي”.
يكمن الخطأ في التعامل مع الوعي على أنه “شيء”، على أنه كيان مستقل، منفصل ومنعزل عن النشاط الحسي البشري. والمشكلة العويصة التي تواجهها الثنائية هي أنه: إذا كان العقل مختلفا تماما عن الجسد المادي، فكيف يمكنهما التفاعل؟
نحن نعرف الآن ما لم يكن ديكارت يعرفه عن طريقة اشتغال الطبيعة وعالم الجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية، والنبضات الكهربائية التي تتحكم في عمل الدماغ. وبدلا من الروح الغامضة، بدأنا في اكتساب فهم علمي لكيفية عمل الجسم البشري والدماغ.
اكتشافات العلم الحديث ألغت إلى الأبد الفكرة القائلة بأن الوعي “شيء” مستقل. ومع ذلك، ورغم أن الأمر قد يبدو غريبا، فإن هذا الهراء الغامض ما زال يجد من يدافعون عنه حتى في القرن الحادي والعشرين.
الذات والموضوع والديالكتيك
السؤال الأول هو “ماذا” نعرف. المشكلة الثانية هي “كيف” نعرف ما نعرفه. هذه بالضبط هي الأسئلة التي تحاول الابستمولوجيا الإجابة عنها.
إنه افتراض أساسي أني أفسر العالم من خلال حواسي. وهذا التأكيد، في الواقع، هو مجرد حشو، حيث أنني لا أستطيع امتلاك أي معرفة بالعالم بدون عيون وآذان وأيد وعقل. تفسر المثالية الذاتية هذا على أنه يعني أنه لا يمكنني الحصول على معرفة حقيقية بالعالم خارج أحاسيسي الخاصة.
وباستخدام تعبير الفيلسوف الوضعي المنطقي، أ. ج. آير، فإن كل ما يمكنني معرفته هو “محتويات إحساسي”.
تنشأ مشكلة المعرفة المزعومة فقط عندما ينظر إلى الوعي على أنه:
أ) شيء منفصل عن الجسد المادي، و
ب) شيء منفصل عن العالم المادي.
ليست المثالية الذاتية والثنائية الفلسفية، في الواقع، سوى نتاج لمثلنة (Idealisation) الفصل الصارم بين العمل الذهني والعمل اليدوي. يصل تغليط الفكر البشري في واقع الأمر إلى حد الزعم أن أفكاري وحدها هي الحقيقية. يتم وضع “هذا الجانب” في تناقض مع “ذلك الجانب” كما لو أن الاثنين مفصولين بحاجز لا يمكن اختراقه.
تنطلق المادية الديالكتيكية من الافتراض القائل بأن العالم الموضوعي موجود بشكل مستقل عن الذات، لكن الاثنين يشكلان جزءا من وحدة ديالكتيكية. ليس الوعي “جدارا” يفصل بين الذات والموضوع، بل هو جسر يربط بين الاثنين. الذات هي في حد ذاتها موضوع، حيث أن البشر يخضعون لقوانين الطبيعة والمجتمع الموضوعية.
لكن من خلال نشاطهم الذاتي يمكن للبشر أن يتفاعلوا بالفعل مع العالم الموضوعي المحيط بهم، مما يؤدي إلى تعديل عميق ليس فقط في الطبيعة بل وفي المجتمع أيضا.
وهكذا فإن الذات والموضوع ليسا نقيضين ثابتين وغير قابلين للتغيير إلى الأبد، بل إنهما يستطيعان تغيير الأماكن ويقومان بذلك، حيث يتحول أحدهما إلى الآخر. إنهما يتفاعلان باستمرار مع بعضهما البعض، نتيجة للممارسات الاجتماعية والاقتصادية للبشر. يغير الرجال والنساء بيئتهم باستمرار، من خلال الممارسة، وليس من خلال التأمل السلبي، وبالتالي يغيرون أنفسهم.
لا يرتبط هذا بالضرورة بالفكر، لأن معظم التعديلات قد حدثت دون أي تخطيط أو تفكير واع على الإطلاق. إن هذه التحولات نتيجة للنشاط الحسي البشري، أي العمل البشري، بدءا من عمل الأدوات الحجرية البدائية إلى نشاط المفاعلات النووية.
قوة التجريد
يمكّننا النشاط البشري من فهم العالم الذي نعيش فيه وفهم قوانينه، وبالتالي يمكننا في النهاية من التحكم في هذه القوانين والارتقاء فوقها وتحقيق الحرية الحقيقية، التي هي معرفة (فهم) الضرورة.
نحن لا نفكر بالدماغ فقط، بل بجسمنا كله. لذلك فإن الطفل يبدأ في فهم العالم المادي من خلال الإجراء البسيط المتمثل في وضعه في فمه ومحاولة أكله. وعلى حد تعبير غوته فإنه “في البدء كان الفعل“.
لكن يجب أن يُنظر إلى التفكير، ليس على أنه نشاط منعزل (“شبح في آلة”)، بل كجزء من التجربة الإنسانية بأكملها، والنشاط الحسي البشري والتفاعل مع العالم ومع الآخرين. يجب أن يُنظر إليه على أنه جزء من هذه السيرورة المعقدة للتفاعل الدائم، وليس كنشاط منعزل مقابل له بشكل ميكانيكي.
عندما نقول إن كل المعرفة مبنية على التجربة، فإن هذا لا يعني على الإطلاق تجربتي الشخصية، بل يشمل كل التجارب الجماعية للبشر على مر مرحلة من مئات آلاف السنين.
لقد كان العالم موجودا قبل وقت طويل من وجود البشر أو أي شكل آخر من أشكال الحياة لرصده. نشأت المادة الحية (الحياة) بشكل طبيعي من مادة غير حية. وعند مرحلة معينة، تطورت الكائنات البسيطة وحيدة الخلية إلى أشكال حياة أكثر تعقيدا، وتحولت اللافقاريات إلى فقاريات، وما إلى ذلك. وتطور الجهاز العصبي المركزي إلى دماغ، وفي النهاية إلى الدماغ البشري والوعي البشري. نحن المادة التي أصبحت واعية بنفسها.
كل اكتشافات العلم تدعم هذا التفسير. لكن كل هذا يبقى بالنسبة للمثالية كتابا مغلقا. جميع أشكال المثالية مرتبطة بشكل وثيق بالدين وتؤدي دائما إلى العودة إلى الدين.
بهذا الخصوص كتب تروتسكي قبل وقت قصير من اغتياله:
«”نحن لا نعرف أي شيء عن العالم إلا ما نحصل عليه من خلال التجربة”. وهذا صحيح إذا لم يفهم المرء التجربة بأنها الشهادة المباشرة لحواسنا الخمسة الفردية. فإذا ما اختزلنا الأمر إلى التجربة بالمعنى التجريبي الضيق، سيكون من المستحيل أن نتوصل إلى أي حكم يتعلق سواء بأصل الأنواع، أو بالأحرى تكوين قشرة الأرض. أن نقول إن التجربة هي أساس كل شيء، يعني أن نقول الكثير أو لا نقول شيئا على الإطلاق. إن التجربة هي العلاقة المتبادلة النشطة بين الذات والموضوع. وتحليل التجربة خارج هذه التصنيف، أي خارج البيئة المادية الموضوعية للدارس الذي يقابلها والذي يمثل، من جهة أخرى، جزءا من هذه البيئة، إن القيام بذلك يعني تفكيك التجربة إلى وحدة لا شكل لها حيث لا يوجد موضوع ولا ذات بل فقط الصيغة الصوفية للتجربة. تعتبر “التجربة” من هذا النوع خاصة فقط بالجنين في رحم أمه، لكن الجنين محروم للأسف من فرصة مشاركة النتائج العلمية لتجربته»[17].
هذه التجربة الجماعية على وجه التحديد هي ما يمكننا من فهم ما نعرفه عن العالم، وإصدار أحكام دقيقة وعلمية عن المعلومات التي نتلقاها من خلال حواسنا واستخلاص الاستنتاجات التي تسمح لنا بعمل توقعات صحيحة حول العالم المادي والمجتمع.
ومن تم فإن المعرفة لا تقتصر على النطاق الضيق للإدراك الحسي للفرد المنعزل، لأنه لكي افهم المعلومات المحدودة المستمدة من تجربتي الفردية، يجب علي أن أعتمد على كمية هائلة من المعلومات التي تنتقل من جيل إلى جيل في شكل تجريدات نظرية.
مصطلح Abstraction )التجريد( ذاته يأتي من العبارة اللاتينية التي تعني “مشتق من”، وهو ما يظهر بوضوح شديد كيف أن جميع التعميمات النظرية (بما في ذلك الصيغ الرياضية الأكثر تجريدا) مشتقة في النهاية من ملاحظة العالم المادي. نحن نعد حتى عشرة، ليس لأن النظام العشري يتفوق على أي نظام آخر (على العكس)، بل فقط لأن لدينا عشرة أصابع، والتي ما زلنا نميل إلى استعمالها للقيام بالحسابات بسيطة.
وبمجرد التوصل إلى تلك الأفكار المجردة، تبدأ في الظهور وكأنها تأخذ حياة خاصة بها وتوفر أداة قوية لفهم العالم وأداة لا غنى عنها لتقدم العلم، والتي تمثل الوحدة الديالكتيكية للاستنتاج والاستقراء، للنظرية والممارسة، والفرضيات العلمية مع الملاحظة والتجربة. حتى أنه لا يمكن تصور هذا دون ذاك.
الأصل المادي للوعي
لقد وفر تقدم العلم الإجابات التي تشرح الأصل المادي للوعي. صرنا نعلم كيف تنشأ المادة العضوية (الحياة) بشكل طبيعي من المادة غير العضوية. حتى أقدم أشكال الحياة تظهر عليها علامات الحساسية. التهيُّجيَّة[18]، التي هي بالضبط الطريقة التي تتفاعل بها الكائنات الحية مع المنبهات الفيزيائية التي تأتي من العالم الخارجي، خاصية موجودة في جميع أشكال الحياة.
نجد ظاهرة مشابهة حتى في النباتات، عندما تتحول الأزهار لمواجهة الشمس. ما الذي تتفاعل معه عندما تقوم بذلك؟ إنها لا تكون بصدد التفاعل مع “محتويات الإحساس”، لأن النباتات ليس لها حواس على هذا النحو. إنها تتفاعل مع المحفزات الخارجية من العالم المادي. نفس الشيء بالنسبة لجميع الكائنات الحية، ففي كل حالة تتفاعل مع المحفزات الخارجية.
نحن نعلم الآن أن عمل الخلايا العصبية كهربائي وكيميائي معا. توجد في نهايات كل خلية عصبية مناطق متخصصة، النهايات المشبكية، تحتوي على أعداد كبيرة من الأكياس الغشائية الدقيقة التي تحتوي على مواد كيميائية ناقلة عصبية. تنقل هذه المواد الكيميائية النبضات العصبية من خلية عصبية إلى أخرى. وبعد أن تنتقل نبضة عصبية كهربائية على طول خلية عصبية، تصل إلى الطرف الآخر من الخلية وتحفز إطلاق النواقل العصبية من أكياسها.
تنتقل الناقلات العصبية عبر المشبك (أي الوصلة junction بين الخلايا العصبية المتجاورة) وتحفز إنتاج شحنة كهربائية، والتي تنقل النبضات العصبية إلى الأمام. تتكرر هذه العملية مرارا وتكرارا حتى تتحرك العضلات أو تسترخي أو يلاحظ المخ انطباعا حسيا. يمكن اعتبار هذه الأحداث الكهروكيميائية “اللغة” التي يستعملها الجهاز العصبي، والتي يتم من خلالها نقل المعلومة من أحد أجزاء الجسم إلى آخر.
هذا التفسير العلمي يلغي على الفور وجهة النظر الصوفية المثالية عن الفكر والوعي بكونهما شيئا غامضا لا يمكن تفسيره، أو شيئا منفصلا عن الأشكال العادية لاشتغال الطبيعة والوظائف الجسدية الأخرى. وهذه، بدورها، تتشكل وتتطور من خلال التفاعل المستمر مع البيئة المادية من خلال العمل الاجتماعي الجماعي.
أنتج التطور طرقا مختلفة للتفاعل مع البيئة المادية من أجل ضمان بقاء الفرد (الغذاء) والنوع (التكاثر). ومثلما نتشارك في بعض الجينات حتى مع البكتيريا الأكثر بدائية، فإننا نتشارك في هذه السمة المشتركة. لكن هذه الإمكانية المجردة تطورت عند البشر إلى شيء على مستوى مختلف نوعيا عن الحيوانات الأخرى.
قد يقال إن هناك شيئا يشبه الوعي عند القطط والكلاب والخيول والثدييات العليا الأخرى. ومن المؤكد أن التجارب التي أُجريت على الشمبانزي قد أشارت إلى أنها قد تمتلك شيئا مشابها للوعي الذاتي. بل قد يكون من الممكن في الواقع أن نجد عناصر تشبه الوعي حتى في أشكال الحياة الدنيا، مثل الطيور أو حتى النمل.
لكن كلما ابتعدنا عن البشر، كلما قل ارتباط هذه الأشياء بالوعي الذاتي. ما نتعامل معه هناك هو الغريزة، وليس الوعي. لذلك فإنه من المستحيل مساواة الوعي البشري بما نجده عند الحيوانات الأخرى.
هذه الحقائق معروفة جيدا لأي شخص لديه أقل اهتمام بالعلوم الحديثة ولا يمكن إنكارها إلا من طرف شخص جاهل أو شخص يرغب في أن يتجاهل الحقائق بأي ثم ويدافع عن التحيزات الدينية والخرافات.
لا يبقى أي شيء صوفي بخصوص العقل البشري إذا نظرنا إليه في السياق الصحيح. ومع ذلك فقد تم إدخال الارتباك إلى المسألة من قبل الفلاسفة الذين يشوهون، عن عمد في بعض الحالات، الحقائق ويسيئون تفسيرها ويتجاهلونها في سياق رغبتهم في الترويج للأفكار الدينية والصوفية.
النزعة التجريبية
يعود أصل هذا الالتباس في نظرية المعرفة إلى القرن السابع عشر، عندما كانت البشرية تكافح لتحرير نفسها من الظلامية الدينية الموروثة عن العصور الوسطى. وقد كان تطوير التجريبية في إنجلترا خطوة مهمة إلى الأمام في هذا النضال.
لعبت التجريبية في أيامها الأولى دورا تقدميا وثوريا عندما كانت موجهة ضد الكنيسة وأعلنت حرية العلم وتفوق الملاحظة والتجربة على الدوغمائية. كان التجريبيون الأوائل (بيكون ولوك وهوبز) ماديين. وكما أشرنا فقد كانت صرختهم في المعركة هي: “Nihil est in intellectu quod non sit prius in sensu”. (“لا يوجد شيء في العقل لم يكن أولا في الحواس”).
إن إصرارهم على أن الإدراك الحسي هو أساس كل معرفة كان يمثل آنذاك قفزة هائلة إلى الأمام في مقابل التخمينات الفارغة لسكولاستيكيي العصور الوسطى. لقد مهدوا بذلك الطريق لانتصار العلم، على أساس التحقيق التجريبي والملاحظة والتجربة.
لكن ذلك الشكل المبكر للمادية، وعلى الرغم من طابعه الثوري الهائل، كان أحادي الجانب ومحدودا وبالتالي غير مكتمل.
إن التأكيد على أنه لا يوجد شيء في العقل إلا وهو مستمد من الحواس يحتوي على بذرة فكرة صحيحة في العمق. وهذه هي المادية. لكن النظرة الأحادية الجانب في التجريبية تترك الباب مفتوحا للمثالية الذاتية، التي تنكر وجود واقع مادي مستقل عن الذات التي ترصد.
تقديم هذه الفكرة بتلك الطريقة المشوشة كانت له عواقب وخيمة على التطور المستقبلي للفلسفة. إن التقدم الكبير الذي أحرزه الفيلسوفان الماديان الإنجليزيان هوبز ولوك تلاه التابع السطحي ديفيد هيوم، الذي مارس لاحقا تأثيرا سلبيا على فلسفة كانط. وقد وجد ذلك الشكل من المثالية الذاتية في رجل الدين جورج بيركلي أشرس مدافع عنه.
لقد مارست هذه التجريبية أحادية الجانب، أي المثالية الذاتية، تأثيرا محسوسا على كل من الفلسفة البرجوازية الحديثة والعلم بأشكال مختلفة. ومن بين أكثر تلك الأشكال ضررا نجد ما يسمى بالوضعية المنطقية. فبتأثير من تلك الأفكار وصل العالم النمساوي إرنست ماخ، الذي يناقشه لينين بدقة في هذا الكتاب، إلى إنكار وجود الذرات، على اعتبار أنه لا يمكن رؤيتها أو الشعور بها أو سماعها.
المثالية الذاتية: خداع فلسفي
قد يبدو للوهلة الأولى أن حجج المثالية الذاتية تمتلك منطقا لا يمكن تفنيده. وبالفعل فإذا قبل المرء بالفرضية الأولية، يصير من المستحيل فعليا تفنيده. لكنه لا يمكن للمرء قبول مثل هذه الفرضية دون الوقوع في أكثر التناقضات سخافة، كما سبق للأسقف بيركلي نفسه أن اكتشف.
إنها تستند، في الواقع، إلى خداع فكري هو المقابل الفلسفي لخفة يد الساحر. تنطلق الحجة من الفرضية التالية: “أنا أعرف العالم من خلال حواسي”. هذا القول صحيح ولا يمكن إنكاره. ثم يواصل: أنا لا أستطيع معرفة العالم إلا من خلال حواسي. لكن، وكما سبق لنا أن أشرنا، يجب أن نضيف لهذا شيئا آخر وهو أن: العالم موجود بشكل مستقل عن حواسي، وإلا فإننا سنقع في أبشع التناقضات والسخافات.
يقوم صرح العلم كله بالتحديد على حقيقة أن:
أ) العالم موجود خارج ذواتنا، وأنه
ب) يمكننا، من حيث المبدأ، فهمه.
والدليل على هذه التأكيدات، إذا كان الدليل مطلوبا، هو أكثر من 2000 عام من تقدم العلم، أي الانتصار المطرد للمعرفة على الجهل.
كلمة “science” (علم) نفسها مستمدة من الكلمة اللاتينية التي تعني “المعرفة”، في حين أن كلمة ” ignorance” (جهل) في اللاتينية تعني “عدم المعرفة”. هناك بالطبع أشياء كثيرة لا نعرفها عن الكون، لكن تاريخ العلم كله يثبت أن ما لا نعرفه اليوم سنعرفه غدا. وهذا البحث المستمر عن الحقيقة هو القوة المحركة لكل تقدم في مجال الفكر والنظريات.
يقول لينين:
«… في نظرية المعرفة، كما هو الحال في أي فرع آخر من فروع العلم، يجب أن نفكر بطريقة ديالكتيكية، أي يجب ألا نعتبر معرفتنا جاهزة وغير قابلة للتغيير، بل يجب أن نحدد كيف تنبثق المعرفة من الجهل، وكيف أن المعرفة غير الكاملة وغير الدقيقة تصبح أكثر اكتمالا وأكثر دقة»[19].
الوضعية المنطقية
إن عودة الأفكار الميتة منذ زمن طويل إلى الظهور بأقنعة مختلفة تعكس، من ناحية، أزمة الإيديولوجية الرأسمالية. لكنها من ناحية أخرى تعكس أيضا الفراغ الفلسفي الناجم عن حقيقة أن الماركسية قد تراجعت طيلة فترة تاريخية كاملة بعد الحرب العالمية الثانية.
في عام 1909 قضى كتاب لينين بشكل كامل على المثالية الذاتية لماخ وأفيناريوس. لكن المثالية الذاتية نفسها ما زالت حية وبصحة جيدة حتى يومنا هذا. فرغم طردها من الباب بركلة قوية، عادت لتتسلل من الخلف وتدخل، دون أن يلاحظها أحد، من خلال النافذة.
لقد تم نقل هذه المثالية الذاتية إلى فلسفة القرن العشرين على يد المدرسة التي مثلها إرنست ماخ ولاحقا حلقة فيينا (نيوراث وكارناب وشليك وفرانك وآخرون) والوضعية المنطقية. أما في بريطانيا فقد دعا إليها البروفيسور أ. ج. آير، الذي كان لكتابه “اللغة والحقيقة والمنطق” تأثيرا كبيرا في الجامعات في الستينيات.
إن الفرضية الأساسية لكتاب آير هي أن المعرفة المؤكدة الوحيدة التي يمكننا الحصول عليها هي ما يسميه “محتويات الحس”. وقد عمل منذ الفصول الأولى لكتابه على تطوير هذه الأطروحة وتكرارها بطرق مختلفة، مما يعطي الانطباع بوجود سلسلة منطقية متينة جدا. لكن البناء بأكمله ينهار في اللحظة التي يحاول فيها شرح ما الذي يعنيه في الواقع بمحتويات الحس هذه.
يمكننا أن نطرح السؤال بكل بساطة، بحيث يمكن حتى لأستاذ جامعي أن يفهمه: هل يمكن أن تكون هناك محتويات حس بدون عيون وآذان ودماغ مادي؟ هل يمكن أن يكون هناك دماغ مادي بدون جهاز عصبي مركزي وجسم مادي؟ وهل يمكن أن يكون هناك جسم مادي دون وجود بيئة مادية تزوده بالغذاء اللازم لوجوده؟
غني عن القول إنه لم يتم الرد على أي من هذه الأسئلة، بل ولم يتم حتى طرحها. إذ أن المؤلف، كالعادة، يفترض الأشياء التي يجب إثباتها، ثم يستنتج أنه قد أثبتها! إن أسلوب التفكير هذا، وعلى الرغم من مظهره “الذكي” والمتطور، أسلوب صبياني بالمعنى الحرفي للكلمة، كما هو حال الطفل الذي يبكي عندما تغادر أمه الغرفة لأنها، بسبب ذلك، لم تعد موجودة.
تمثل هذه الأفكار الخاطئة والخبيثة وجهة نظر المثقفين البرجوازيين الصغار، الذين يبدأ كل شيء بالنسبة لهم وينتهي بـ”أنا”، “عملي، مهنتي، فرديتي، مشاعري، اضطهادي، تجربتي، كفاحي ضد العالم الظالم، الذي لا يفهمني”، وهكذا دواليك. و”إذا كان العالم لا يتوافق معي، فإن هناك خطأ ما في العالم”.
هذا يلخص نظرة المثقفين البرجوازيين الصغار للعالم، ويحدد سيكولوجيتهم بأكملها. ولذلك فإنه ليس من المستغرب كون المثالية الذاتية موطنهم الفلسفي الطبيعي. إنها تبهر “المفكر” البرجوازي الصغير مثلما يبهر الذبابة وعاء من العسل.
والآن، حتى إذا نظرنا إلى هذه النظرية من وجهة نظر المنفعة فإننا سنجد أنها غير مجدية على الإطلاق. لا يمكنها أن تقدم معرفتنا ولو قيد أنملة إلى الأمام. ما الفرق الذي يحدثه الكيميائي في مختبره عندما ينكر الوجود الموضوعي للمواد الكيميائية الموجودة في أنبوب الاختبار، أو يصفها على أنها مجرد مجموعة من محتويات الحس؟ ففي النهاية سيتعين عليه الاستمرار في إجراء تجاربه لمحاولة تحديد ماهية تلك الأشياء “غير الواقعية”. وبعد أن قضى البروفيسور آير اليوم كله في إنكار موضوعية المادة، لا بد أنه لم يرفض تناول عشاءه على أساس أنه غير موجود بالفعل.
لا شك أن أصدقائنا الوضعيين المنطقيين سيرفضون هذه الحجج باعتبارها “واقعية ساذجة”، والتي يقصدون بها المادية. هذه كلمة يستخدمونها كمصطلح قدحي، والتي تهدف إلى منع أي انتقاد ممكن. ونحن من جانبنا، نفضل استخدام نفس اللغة غير المعقدة التي استخدمها لينين عندما أشار إلى المثاليين الذاتيين على أنهم مجرد جهلة. إن هذا وصف مناسب للأشخاص الذين يحاولون تقديم أفكار سخيفة على أنها حجج جادة.
شرح لينين في كتابه المادية والمذهب النقدي التجريبي أن المثالية الذاتية تؤدي حتما إلى السوليبسيزم. يحاول معظم الوضعيين المنطقيين تجاهل ادعاء الانتماء إلى السوليبسيزم، وينكرون ذلك بسخط، ويشوشون المسألة باستعمال كل أنواع المصطلحات المعقدة والغامضة، أو أنهم ببساطة يعتبرونها مجرد مزحة.
لكن وبالرغم من ذلك يبقى عليهم أن يجيبوا على السؤال.
يحكي الفيلسوف البريطاني برتراند راسل أنه التقى ذات مرة في حفلة بسيدة أخبرته أنها سوليبسية، وتساءلت عن سبب عدم وجود المزيد من أمثالها. تكشف هذه الحكاية المسلية التناقضات الداخلية للمثالية الذاتية. لكن نكتة راسل لا يمكنها التخلص من المشكلة الفلسفية للمعرفة. يتعين الإجابة على هذا السؤال بطريقة فلسفية، أي بطريقة نظرية. وقد قام ماركس بذلك في أطروحاته حول فيورباخ، وكذلك لينين بشكل أكثر شمولية في كتابه المادية والمذهب النقدي التجريبي.
لقد استمر دعاة الوضعية المنطقية لعقود من الزمان في تقديم أفكارهم بغطرسة على أنها “فلسفة العلم”. وهناك مفارقة عميقة هنا، لأنهم طالما اتهموا المادية الديالكتيكية (بدون أدنى أساس) بالتطلع إلى لعب دور “سيدة العلوم”.
مع التقدم الطبيعي للعلم يصبح الدفاع الواضح عن المثالية الذاتية، تماما مثل الدين قبلها، مسألة صعبة بشكل متزايد. لكن المفارقة هي أنه وبالرغم من ذلك ما تزال أفكار (أو بالأحرى ادعاءات) المثالية الذاتية تمارس تأثيرا قويا على عقول بعض العلماء الذين تعرضوا لهراء الوضعية المنطقية في أيام دراستهم ولم يتعافوا أبدا من تلك التجربة.
كيف طرح ماركس وإنجلز المسألة
يقول إنجلز في كتاب “لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية” إن السؤال الأساسي الكبير لكل فلسفة، وخاصة الفلسفة الحديثة، هو ذلك المتعلق بالعلاقة بين “الفكر والوجود”، بين “الذات والطبيعة”. ثم ينتقل بعد ذلك إلى التعامل مع أحد أهم الأسئلة في الفلسفة: نظرية المعرفة.
يسأل:
«… ما هي العلاقة بين أفكارنا حول العالم من حولنا وبين هذا العالم نفسه؟ هل تفكيرنا قادر على إدراك العالم الحقيقي؟ هل نحن قادرون عن طريق أفكارنا ومفاهيمنا عن العالم الحقيقي على إنتاج انعكاس صحيح للواقع؟»[20].
ويضيف: «الغالبية العظمى من الفلاسفة يجيبون على هذا السؤال بالإيجاب»، ولا يتعلق الأمر هنا فقط بجميع الفلاسفة الماديين، بل أيضا المثاليين الأكثر ثباتاً واتساقاً مثل هيجل، الذي اعتبر العالم الحقيقي تحقيقاً لفكرة صوفية مطلقة. لكنه يضيف:
«بالإضافة إلى ذلك، هناك مجموعة أخرى من الفلاسفة – أولئك الذين ينكرون إمكانية وجود أي إدراك للعالم، أو على الأقل إدراك شامل للعالم. من بينهم، من أحدثهم، نجد هيوم وكانط، وقد لعبوا دوراً مهما للغاية في التطور الفلسفي»[21].
وهكذا، نرى أن هناك بالفعل ثلاثة اتجاهات في الفلسفة: اتجاهان متسقان أو أحاديان -المادية والمثالية- وميل واحد غير متسق يتأرجح بين المادية التجريبية وبين المثالية الذاتية. تم التعبير عن المدرسة الفكرية الأخيرة على أكمل وجه في فلسفة إيمانويل كانط. كان كل من هيوم وكانط، الأسلاف الحقيقيون للوضعية المنطقية، يميلون إلى عزل “المظهر” عن ما يظهر، والإدراك مما يُدرك، و”الشيء بالنسبة لنا” من “الشيء في ذاته”.
أيد كانط وجود العالم المادي، لكنه حاول إنشاء حدود تتجاوز عالم المظهر، “الشيء في ذاته”، الذي أعلن أنه “غير معروف”، وهو شيء يختلف اختلافاً جوهرياً عن المظهر، وينتمي إلى شيء أشبه بـ”ما وراء الطبيعة الظاهرة”، لا يمكن الوصول إليه من خلال المعرفة، ولكن يتم الكشف عنه بالإيمان.
هنا يظهر الإدراك الحسي كمصطلح ثالث يفصل العالم المادي الخارجي عن الذات المدركة (الأنا). تظهر الحواس كحاجز أمام المعرفة الحقيقية، وليس جسراً للفهم وبالتالي الهيمنة على العالم المادي الحقيقي.
كانت الحيلة الكانطية هي الخلط بين ما لا يمكن فهمه وبين المجهول. في الواقع، يصبح “الشيء في ذاته” تدريجياً “شيئاً لنا” من خلال التقدم المستمر للوعي البشري، والعلوم، والصناعة، والتكنولوجيا. من خلال هذا التقدم، ما كان غير معروف بالأمس أصبح معروفا لنا اليوم أو سيعرف غداً.
بالنسبة للماركسيين ليست الأفكار والمفاهيم البشرية في التحليل النهائي سوى انعكاسات للعالم المادي. ويتم اختبار حقيقة هذه الأفكار والانعكاسات، وإذا لزم الأمر يتم تعديلها، على أساس النشاط البشري.
وجهة النظر المادية:
في وقت مبكر، لم تكن المادية الميكانيكية قادرة على حل هذه المشكلة والتوصل إلى فهم علمي للعلاقة الحقيقية بين الذات والموضوع. هذا ما يتعامل معه ماركس في “أطروحات حول فيورباخ”. كانت المادية المبكرة محدودة بالمستوى الذي حققه العلم حينها، والذي كان ميكانيكيا بطبيعته (أشار إنجلز إليها باسم “النظرة الميتافيزيقية”، على الرغم من أننا نستخدم كلمة ميتافيزيقيا بشكل مختلف اليوم).
ترى النظرة الميكانيكية العلاقة بين الذات والموضوع بطريقة تبسيطية وجامدة وأحادية الجانب: الدفع، والسحب، والرافعات، والبكرات، إلخ. كل حركة مجلوبة من الخارج. تطلب الكون الميكانيكي لنيوتن من القدير أن يمنحه دفعة لتحريكه، ولكن بعد ذلك عمل هذا الكون بشكل مثالي، مثل الساعة. كانت العلاقة سلبية ومن جانب واحد.
في عالم الساعة هذا، هناك هامش صغير، أحياناً يختفي، للنشاط الذاتي والمبادرة الإبداعية. يتم تحديد كل فعل مسبقاً بواسطة قوانين الطبيعة الخالدة.
على النقيض من ذلك، بالغ المثاليون في تقدير دور الذات، معتبرين أنها مهمة للغاية. حتى أنهم استمدوا وجود الموضوع من الذات. تم احتواء مفهوم نشاط الذات وتطويره من قبل المثالي الذاتي، هيجل. هذا ما قصده ماركس عندما قال إن العنصر الذاتي قد طوره المثاليون وليس الماديون. كان الجمع بين العنصرين، مفهوم نشاط الذات عند المثاليين ومفهوم موضوعية العالم المادي، هو المفتاح لحل المشكلة.
يتم التعامل بسهولة مع حجج المثالية الذاتية ومشكلة الذات والموضوع بمجرد أن نتبنى وجهة نظر الممارسة ونقترب من نظرية المعرفة من وجهة نظر تاريخية ملموسة، وليس من وجهة نظر التجريد الفارغ والثابت. تناول ماركس هذا الأمر في الجزء الثاني من “أطروحات حول فيورباخ”:
«إن مسألة ما إذا كانت الحقيقة الموضوعية يمكن أن تُطابق التفكير البشري ليست مسألة نظرية بل هي سؤال عملي. يجب على الإنسان أن يثبت الحقيقة، مثل، الواقع والقوة، ودنيوية تفكيره في الممارسة. إن الخلاف على واقع أو لا واقع التفكير المنعزل عن الممارسة هو مسألة مدرسية بحتة»[22].
في النهاية، يتم تقديم الحقيقة المادية من خلال تاريخ العلم نفسه. إن الجنس البشري لا يتأمل الطبيعة فحسب، بل يتفاعل معها ويحولها بشكل فعال، وهذا النشاط الإنتاجي المستمر هو ما يبرهن على صحة الأفكار أو عدم صحتها، كما يوضح إنجلز:
«إن الدحض الأكثر دلالة لهذا الأمر من بين جميع المراوغات الفلسفية الأخرى هو الممارسة، أي التجريب والصناعة. إذا كنا قادرين على إثبات صحة مفهومنا لظاهرة طبيعية ما من خلال جلبها بأنفسنا، وإخراجها من حالتها وجعلها تخدم أغراضنا الخاصة، فإن “الشيء في ذاته” الكانطي غير القابل للفهم قد تم القضاء عليه. ظلت المواد الكيميائية المنتجة في أجسام النباتات والحيوانات مجرد “أشياء في ذاتها” حتى بدأت الكيمياء العضوية في إنتاجها الواحدة تلو الأخرى، وعندها “الشيء في ذاته” أصبح “شيئاً بالنسبة لنا”…»[23].
فترة انحدار:
البرجوازية، في فترة صعودها التاريخي، لعبت دوراً تقدمياً للغاية، ليس فقط في تطوير قوى الإنتاج، وبالتالي تقوية هيمنة الإنسانية بشكل كبير على الطبيعة، ولكن أيضاً في دحر حدود العلم والمعرفة والثقافة.
لوثر كينج، ومايكل أنجلو، وليوناردو، ودورر، وبيكون، وكبلر، وجاليليو، ومجموعة أخرى من رواد الحضارة يتألقون مثل النجوم المضيئة، يضيئون الطريق السريع الواسع للتقدم الثقافي والعلمي البشري الذي فتحه عصر النهضة والإصلاح.
البرجوازية في شبابها كانت قادرة على إنتاج مفكرين عظماء: لوك، وهوبز، وكانط، وهيجل، وآدم سميث، وريكاردو. في فترة تراجعها، هي فقط قادرة على إنتاج مجموعة من الطفيليات الحقيرة.
جاءت أحدث موجة كبيرة من هذه الأفكار في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات كرد فعل على هزائم سلسلة من الثورات في جميع أنحاء العالم، الهزائم التي تفاقمت مع انهيار الاتحاد السوفيتي. أدى ذلك إلى نمو مدرسة ما بعد الحداثة التي غطت طيف واسع من الأفكار، فلسفة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وما بعد الاستعمار ونظرية الكوير ومجموعة كاملة مما يسمى بالنظريات القائمة على سياسات الهوية.
ولكن في حين أن ماخ وأفيناريوس، كما أظهر لينين ببراعة، كانا نسخاً رديئة من بيركلي وكانط وهيوم، فإن عباقرة ما بعد الحداثة اليوم هم نسخ سيئة من النسخ الرديئة. يائسين للظهور بمظهر المخترعين والمكتشفين ويحاولون جاهدين لإخفاء عدم كفاءتهم، يحشون أعمالهم بلغة غير مفهومة ومعقدة وغامضة عن قصد.
يقال انه لا يوجد شيء جديد تحت الشمس. ثبت أن هذا الكلام صحيح من خلال كامل تاريخ الفلسفة البرجوازية في عصرنا. كل مدرسة فلسفية على مدى الـ 150 عاماً الماضية على الأقل هي مجرد ارتجاع، بطريقة أو بأخرى، للأفكار غير العقلانية للمثالية الذاتية، أصناف المثالية الأكثر فظاظة وعبثية وعديمة الجدوى.
إن جنون ما بعد الحداثة الأخير هو مجرد موجة أخرى من هذه التشكيلة. لقد أدى ذلك إلى إرباك جيل كامل من طلبة الفلسفة في الجامعات، الذين تخيلوا أنهم اكتشفوا شيئاً جديداً وغير مألوف تماماً، في حين أنهم في الواقع يكررون فقط سخافات الفلسفات السابقة، التي هدمها لينين بشكل شامل في وقت مبكر، في 1908. هنا لدينا الدليل الأكثر وضوحاً على صحة قول ماركس المشهور: “الوجود الاجتماعي يحدد الوعي”.
إن انحطاط الفلسفة البرجوازية هو انعكاس لانحطاط النظام الرأسمالي نفسه. النظام الذي أصبح غير عقلاني مجبر على الاعتماد على أفكار غير عقلانية. في محاولتها الحفاظ على نفسها، انقلبت البرجوازية على ماضيها الثوري. انقلبت الرأسمالية علي أفضل تقاليد عصر التنوير، وهي تتشبث بقوة ببقايا التصوف الإقطاعي والدوغمائية في العصر الحديث.
إن الرجل الذي يقف على حافة الهاوية غير قادر على التفكير العقلاني. منظرو البرجوازية، بطريقة غامضة، يشعرون أن النظام الذي يدافعون عنه يقترب من نهايته. إن انتشار النزعات اللاعقلانية والتصوف والتعصب الديني يعكس نفس الحقيقة.
في الوقت الحاضر، ينحصر تفكير المثاليون الذاتيون في محاولة يائسة لحراسة الماضي، والذي يرقى إلى الانحلال التام للفلسفة، واختزالها بالكامل إلى دلالات (دراسة معنى الكلمات).
الحجج التي لا نهاية لها حول المعنى والدلالات وتفاصيل المعاني لا تشبه شيئا بقدر ما تشبه النقاشات اللامتناهية لطلاب القرون الوسطى حول مواضيع رائعة مثل ما إذا كانت الملائكة يمارسون الجنس، وكم منهم يمكن أن يرقصوا على رأس دبوس. المشكلة هي أنهم في هوسهم بشكل الكلمات نسوا المحتوى تماماً. بقدر ما يتم الالتزام بالقواعد الرسمية، سيكون المحتوى سخيفاً كما يحب المرء.
لاحظ ماركس ذات مرة: «الفلسفة ودراسة العالم الواقعي لهما نفس العلاقة مع بعضهما البعض مثل الوحدة والحب الجنسي»[24]. تفضل الفلسفة البرجوازية الحديثة الأولى على الثانية. في هوسها بمكافحة الماركسية (والمادية بشكل عام)، أعادت البرجوازية الفلسفة إلى أسوأ فترات ماضيها القديم البالي والعقيم.
إن حقيقة أن كل هذا الاضطراب والتلاعب بالكلمات يمكن أن يطلق عليه اسم فلسفة من الأساس هو دليل على مدى تدهور الفكر البرجوازي الحديث. كتب هيجل في “فينومينولوجيا العقل”: «بالقليل الذي تشبع به الروح البشرية، يمكننا أن نحكم على مدى خسارتها». هذا تأبين مناسب لكل الفلسفة البرجوازية بعد هيجل وماركس.
في الوقت الحاضر، يقع شرف النضال ضد التيار، ومحاربة الفكر الصوفي وغير العقلاني، على عاتق الطليعة الثورية للطبقة العاملة، علي عاتق الماركسيين. لنستشهد مرة أخرى بكلمات جوزيف ديتزغين: «الفلسفة الرسمية ليست علما، بل هي مجرد أداة للتصدي للاشتراكية الديمقراطية». (كان الماركسيون يطلقون على أنفسهم اسم الاشتراكيين الديمقراطيين في تلك الأيام).
وأضاف: «إذن فلا عجب أن يكون للاشتراكيين الديمقراطيين فلسفتهم الخاصة». تلك الفلسفة -الفلسفة الماركسية- تسمى المادية الديالكتيكية، والتي ما تزال أحد أهم الأسلحة في ترسانتنا الثورية.
وأي شخص يرغب في فهم كيفية استخدام هذا السلاح بشكل صحيح يجب أن يعتبر أنه من الواجب ليس فقط قراءة كتاب “المادية والمذهب النقدي التجريبي”، بل وإجراء دراسة متأنية له لكونه واحدا من أكثر النصوص الأساسية المهمة في كل ترسانة الفكر الماركسي الغنية.
هوامش ومصادر:
[1] : جوزيف ديتزغين: اشتراكي ديمقراطي ألماني (1828 – 1888)، وصفه ماركس بفيلسوف الاشتراكية، يعتبر هو من صاغ تعبير المادية الديالكتيكية.
[2]: V. I. Lenin, What Is to Be Done, Wellred Books, 2018, p. 26.
[3]: Ibid., p. 27.
[4]: V. I. Lenin, ‘The Vperyod Faction’, 1910.
[5]: V. I. Lenin, ‘A Letter to A. M. Gorky’, 1908.
[6] : تأتي كلمة fideism (الإيمان) من عبارة fides، اللاتينية التي تدل على الإيمان، وهي نظرية تؤكد أن الإيمان مستقل عن العقل، وأن الإيمان متفوق على العقل في الوصول إلى حقائق معينة.
[7]: V. I. Lenin, Materialism and Empirio-criticism, Wellred Books, 2021, p. 55.
[8]: Ibid., p. 74.
[9]: Ibid., p. 2.
[10]: Ibid. p. 283.
[11]: Ibid.
[12]: يركز الكاتب هنا على الكنيسة لكن الخلاصة يمكن تعميمها على المؤسسات الدينية جميعها (في الاسلام واليهودية، الخ)، ومن يريد دليلا فلينظر إلى مواقف وفتاوى الأزهر وغيره من المؤسسات الدينية الأخرى في مختلف بلدان المنطقة والعالم. –ملاحظة من المترجم-.
[13] : مثلما حدث في بلداننا تاريخيا من خلال فتاوي قتل الفلاسفة وإحراق كتبهم… المترجم.
[14]: Ibid., p. 12.
[15]: السوليبسيزم (Solipsism) مصطلح يترجم أحيانا إلى “وحدة الأنا” أو “الذاتوية”، وهي فكرة فلسفية تعتبر أنه لا وجود لما هو خارج الذات أو “الأنا”.
[16]: R. Knox, God in the Quad
[17]: L. Trotsky, Writings of Leon Trotsky: 1939-1940.
[18] : هي قابلية المادة الحية للاستجابة فوراً لتأثير البيئتين الداخلية والخارجية –المترجم-
[19]: V. I. Lenin, Materialism and Empirio-criticism, p. 78.
[20]: F. Engels, Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy, Marx and Engels Collected Works (Henceforth referred to as MECW), Vol. 26, Lawrence and Wishart, p. 367.
[21]: Ibid., p. 367.
[22]: K. Marx, ‘Theses On Feuerbach’, MECW, Vol. 5, p. 367.
[23]: F. Engels, Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy, MECW, Vol. 26, pp. 367-368.
[24]: K. Marx and F. Engels, The German Ideology, MECW, Vol. 5, p. 236.
2 تعليقات
تعقيبات: موقع الدفاع عن الماركسية: أكثر 10 قراءات لعام 2021 – ماركسي
تعقيبات: الماركسية ضد التحررية – ماركسي