لينين: بعد 100 عام

نشرنا هذه المقالة للرفيق روب سيويل في العدد 14 من مجلتنا “الحرية والشيوعية” وهو عدد خاص جدا تم إعداده بالتعاون مع المجلة الأممية المتعددة اللغات “الدفاع عن الماركسية”.

ونشرت بالإنجليزية على موقع الدفاع عن الماركسية، يوم 21 يناير/كانون الثاني، تخليدا للذكرى المائوية لوفاة فلاديمير إيليتش لينين.


  يصادف تاريخ 21 يناير 2024 الذكرى المائوية لوفاة فلاديمير إيليتش أوليانوف، المعروف باسم لينين، الذي كان بلا شك واحدا من أعظم الثوريين في التاريخ على الإطلاق. ومن خلال قيادته للحزب البلشفي، قام هذا الرجل الاستثنائي بتغيير مسار التاريخ حرفيا.

لقد كرس لينين حياته بأكملها للنضال من أجل تحرر الطبقة العاملة، والذي بلغ ذروته بانتصار ثورة أكتوبر 1917، وهو الحدث الذي أوضحت روزا لوكسمبورغ أهميته بشكل بارع حين قالت:

«كل ما يمكن للحزب أن يقدمه من شجاعة وبُعد نظر ثوري وثبات في اللحظة التاريخية، قد قدمه لينين وتروتسكي والرفاق الآخرون بجدارة. لقد جسد البلاشفة كل الشرف الثوري والمقدرة اللذان كانت تفتقر إليهما الاشتراكية الديمقراطية في الغرب. لم تكن انتفاضة أكتوبر التي قاموا بها بمثابة إنقاذ فعلي للثورة الروسية فحسب؛ لقد كانت أيضا إنقاذا لشرف الاشتراكية الأممية»[1].

فلأول مرة في التاريخ، باستثناء الحدث البطولي لكن القصير الذي مثلته تجربة كومونة باريس، تمكنت الطبقة العاملة من الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها. ولهذا السبب يمكن اعتبار ثورة أكتوبر أعظم حدث في التاريخ. ومهما كانت التطورات التي حدثت لاحقا فقد شكلت انتصارا لا يمكن إنكاره أو محوه.

وهذا هو السبب في أن لينين قد أصبح أكثر الأشخاص المكروهين من طرف الطبقة السائدة والمدافعين عنها، وأكثر الأشخاص عرضة للافتراءات.

في حين أنه من الممكن في بعض الأحيان أن نجد المعلقين البرجوازيين يثنون على ماركس لما قام به في دراسة الرأسمالية، على الرغم من أنهم يرفضون بالطبع استنتاجاته الثورية، فإن لينين محكوم عليه باللعنة الكاملة. وبطبيعة الحال لا ينبغي لهذا أن يفاجئنا.

فمثلما تعرضت الثورة الفرنسية لهجمات بذيئة من قبل الصحافة الإنجليزية الحقيرة في ذلك الوقت، نجد الأقلام المأجورة للرأسمالية تدين لينين والثورة الروسية. هدفهم هو تشويه سمعتهما ومحو أهميتهما الحقيقية من التاريخ. لقد كانت هذه هي مهمة هؤلاء المأجورين منذ أكثر من قرن إلى حدود الآن.

ولذلك فقد تم تصوير لينين على أنه “ديكتاتور” و“عميل ألماني”، و“عميل قيصري”، و“قيصر جديد”، واتهم أيضا بأنه سبب صعود ستالين والستالينية. وقائمة الافتراءات لا تنتهي.

القصص التي ينشرونها مضحكة للغاية لدرجة أنها تجعلك تحمر خجلا عند قراءتها. هناك المئات من هؤلاء الجهلة الذين يطلق عليهم اسم “مؤرخين”، والذين يغنون جميعهم نفس الترنيمة وجميعهم يرددون نفس الادعاءات السخيفة والمروعة حول لينين. القليل منهم من يستحق القراءة، هذا إن وجد أصلا. حتى أكثر تلك الكتابات “اعتدالا” تنضح بالسم.

«لقد تأسست البلشفية على أساس كذبة، وشكلت سابقة كان من المقرر اتباعها على مدى التسعين عاما التالية. لم يكن لدى لينين وقت للديمقراطية، ولم تكن لديه ثقة في الجماهير ولم يكن يتردد في استخدام العنف. لقد أراد حزبا صغيرا محكم التنظيم ومنضبطا بشكل صارم مشكلا من ثوريين محترفين متشددين، يطبقون حرفيا ما يُطلب منهم»[2]. هذه عينة مأخوذة من القلم المسموم لأنطوني ريد في كتابه “العالم يحترق”.

بينما يقول ريتشارد بايبس، في قصة رعب كتبت لتخويف أصحاب الأعصاب الهشة: «هنا تكمن بذور الحكم عن طريق الإرهاب، والطموح الشمولي للسيطرة الكاملة على الحياة العامة والرأي العام»[3].

في حين يكتب فيجيس، الذي يحرص على ألا يتفوق عليه الآخرون: «كان لينين أول رئيس حزب حديث يصل إلى مرتبة إله: أما ستالين وموسوليني وهتلر وماو تسي تونغ فجميعهم كانوا مجرد خلفاء له بهذا المعنى»[4].

هؤلاء المشعوذون المتخمون الذين يتقاضون أجورا جيدة لن يستسلموا أبدا. وستستمر حملات أكاذيبهم حتى تتم الإطاحة بالرأسمالية نفسها. يجب أن نتركهم لعملهم القذر، مثل الساحرات في مسرحية ماكبث.

لكن وعلى الرغم من كل الجهود التي يبذلونها لبث الارتباك في عقول الشباب ضد لينين والبلشفية، فإن الأمور لا تسير كما خططوا لها. لقد بدأ الناس يشككون في “السردية” الرسمية، كما هو الحال مع معظم الأشياء الأخرى. ولسوء حظ أقلام البرجوازية المأجورين، فإن هراءهم المناهض للشيوعية لا يعمل كما ينبغي!

وكما اعترف البروفيسور أورلاندو فيجيس على مضض فإن «أشباح عام 1917 لم تختف بعد»[5]. وبالنظر إلى طبيعة المرحلة التي دخلناها فإنها لسوء حظه لن تختفي.

هذه مرحلة اضطرابات غير مسبوقة. الرأسمالية باعتبارها نظاما اجتماعيا واقتصاديا قد استنفدت نفسها، وبدأ عشرات الملايين من الناس على المستوى العالمي يشككون في شرعيتها. ونتيجة لذلك فإنهم يبحثون بنشاط عن وسيلة للخروج من هذا المأزق. لكن الأحزاب القديمة فقدت مصداقيتها بشكل متزايد، وأصبح الملايين ساخطين بشكل كامل على الإصلاحيين المخادعين من جميع الأنواع والذين كل ما يريدونه هو فقط “إصلاح” النظام إلى هذا الحد أو ذاك. تشبه سياستهم مطالبة النمر بتغيير طبيعته أو محاولة تجفيف المحيط باستعمال ملعقة.

يبرز لينين كعملاق على عكس قادة الحركة العمالية الإصلاحيين، سواء اليمينيين منهم أو اليساريين، الذين قبلوا عمليا بالنظام الرأسمالي. والذين هم مثلهم مثل البرجوازيين، ينظرون إلى لينين إما برعب، أو في أحسن الأحوال باعتباره ببساطة شخصا “تجاوزه الزمن”، وصارت أفكاره بدون قيمة أو أهمية.

لكن ليس من السهل التخلص من لينين وأفكاره. “إن المذهب الماركسي قوي لأنه صحيح” على حد تعبيره. إنه «نظرة متكاملة إلى العالم لا يمكن التوفيق بينها وبين أي شكل من أشكال الخرافة أو الرجعية أو الدفاع عن الاضطهاد البرجوازي»[6].

إنها نظرية لتغيير العالم، حيث النظرية والممارسة ليستا منفصلتين، بل تشكلان كلا موحدا. ولذلك فقد عمل لينين، المناضل الماركسي الحقيقي، على تكريس كل حياته لانتصار الثورة الاشتراكية العالمية. وهو، في هذا الصدد، يبرز كمنارة للعمال ذوي الوعي الطبقي في كل مكان.

هناك اليوم اهتمام متزايد بلينين وأفكاره، وهناك محاولة، خاصة من قبل العديد من الشباب، لإعادة اكتشاف البرنامج الحقيقي للينينية والبلشفية. إن هذا الاهتمام إلى جانب الأزمة العميقة للنظام الرأسمالي يؤكدان أهمية لينين هنا والآن.

وقف لينين على أكتاف ماركس وإنجلز، ووضع أفكارهما موضع التنفيذ. إن اللينينية هي ببساطة الماركسية في عصر الإمبريالية، عصر الثورات والثورات المضادة.

ونظرا لطبيعة النضال القاسي ضد النظام الرأسمالي القديم، فقد أكد لينين على الحاجة الماسة لبناء حزب منضبط وقوي من الناحية النظرية. لقد كان ثوريا بهذه الرؤية وكان زعيما للحزب الأكثر شجاعة، القادر على حمل أفكاره وأفعاله إلى نهايتها المنطقية. وقد دمج مصيره مع مصير الحزب البروليتاري وأهدافه.

ونظرا لخيانة القادة الاشتراكيين الديمقراطيين القدامى، فقد كان من الضروري بناء قيادة ثورية جديدة. وهذا يعني أنه كان لا بد من تشكيل أحزاب شيوعية جديدة لتنظيم نضال الطبقة العاملة للاستيلاء على السلطة. وعلى النقيض من الأحزاب الإصلاحية القديمة، التي أصبحت إلى حد كبير مجرد آلات انتخابية، فإن الأحزاب الجديدة سوف تكون على غرار الحزب البلشفي، سواء من حيث التنظيم أو النظرة الثورية.

أوضح لينين في كتابه “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية” أن «النموذج الروسي هو الذي يكشف لجميع البلدان، في اللحظة الحالية من التاريخ، شيئا -وشيئا مهما للغاية- عن مستقبلها القريب والحتمي»[7].

«إن تاريخ البلشفية خلال كامل فترة وجودها هو وحده القادر على تفسير سبب قدرتها على بناء الانضباط الحديدي اللازم لانتصار البروليتاريا والحفاظ عليه في ظل أصعب الظروف»[8].

لقد تمكن الحزب البلشفي من لعب مثل هذا الدور، نظرا لتاريخه الفريد ودور لينين، مثلما يوضح هو نفسه إذ يقول:

«لقد توصلت روسيا إلى الماركسية -النظرية الثورية الصحيحة الوحيدة- من خلال المعاناة التي عاشتها على مدار نصف قرن من العذاب والتضحيات التي لا مثيل لها، والبطولة الثورية التي لا مثيل لها، والطاقة المذهلة، والبحث المخلص، والدراسة، والتجربة العملية، وخيبة الأمل، والتحقق، والفشل، والمقارنة بالتجربة الأوروبية. وبفضل الهجرة السياسية التي سببتها القيصرية، اكتسبت روسيا الثورية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثروة من العلاقات الأممية ومعلومات ممتازة عن أشكال ونظريات الحركة الثورية العالمية، لم يمتلكها أي بلد آخر»[9].

كان الحزب البلشفي في عهد لينين هو الحزب الأكثر ثورية في التاريخ. لقد فهم لينين أنه لا بد من بناء مثل ذلك الحزب قبل اندلاع الأحداث الثورية. فمن المؤكد أنه لا يمكن ارتجاله أو إعلانه بشكل عفوي في خضم الثورة، لأنه آنذاك سيكون قد فات الأوان. وتبين كل التجارب التاريخية أن هذا صحيح.

كان من المهم، بادئ ذي بدء، إنشاء شبكة من الكوادر الماركسية، والتي من شأنها أن تكون بمثابة إطار يمْكِن، في آخر المطاف، بناء حزب جماهيري حوله. وبما أن الثورة عمل جدي، فقد ناضل لينين من أجل إنشاء حزب من “الثوريين المحترفين” الذين يكرسون أنفسهم للثورة.

علاوة على ذلك فإن الحزب الثوري بحاجة إلى أن يتأسس على قاعدة النظرية الماركسية. “لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية” كما أوضح لينين في كتابه “ما العمل؟”، وهو الكتاب المخصص لبناء مثل ذلك الحزب[10]. لقد كان حارس البوابة النظرية للحزب، الذي طور تحت قيادته أخلاقه البروليتارية الخاصة به، المبنية على أساس مصالح الثورة الاشتراكية.

كان ذلك النضال من أجل النظرية الماركسية مهمة أساسية بالنسبة للينين. لذلك فقد كان دور الإيسكرا اللينينية هو الانخراط في «نضال حازم ومستمر لدعم أساسيات الماركسية»، والتي، كما أوضح، «وضعت مرة أخرى على رأس سلم الأولويات»[11].

ألف لينين كتابه “ما العمل؟” في فترة التراجع النظري وانتشار التحريفية داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية. وقد خصص جزءا كبيرا من كتابه لدحض حجج التيار “الاقتصادوي” الذي تخلى عن النضال السياسي باسم الدفاع عن “العفوية” والنزعة العمالوية. لكنه كان من الضروري أيضا مواجهة تأثير ما يسمى بـ“الماركسية الشرعية”، التي حاولت إفراغ الماركسية من كل محتواها الثوري.

بالنسبة للينين، كان الدفاع عن النظرية الماركسية يتطلب أكثر من مجرد تكرار للصيغ القديمة؛ كان يعني تطبيق المنهج الماركسي على الوضع الملموس. من الضروري عدم فرض النظرية على الواقع. فالواقع هو نقطة البداية. وكما حذر لينين، فإن النظرية، عندما تتحول إلى عقيدة مجردة، يمكن أن يساء استخدامها لتبرير التحريفية:

«إن الماركسية عقيدة عميقة للغاية ومتعددة الجوانب. ولذلك فلا عجب أنه يمكن دائما ايجاد قصاصات من الاقتباسات من ماركس -خاصة عندما تكون الاقتباسات غير دقيقة- بين “حجج” أولئك الذين ينفصلون عن الماركسية»[12].

وقد شدد على أن الماركسية ليست عقيدة هامدة أو عقيدة جاهزة وغير قابلة للتغيير، بل هي دليل حي للعمل. وهذا يعني أنه من الضروري ربط الأفكار الماركسية بالوضع الحقيقي، وعدم الانخراط في النقاشات الخيالية. كان يردد دائما أن “الحقيقة ملموسة”. وكان الاختبار الكبير للثوريين هو ربط هذه الأفكار بالحركة الحقيقية للطبقة العاملة. وبهذه الطريقة يمكنهم كسب الدعم وتحقيق النتائج.

لقد كان لينين دائما حازما فيما يتعلق بالمبادئ، لكنه كان مرنا للغاية فيما يتعلق بالتنظيم والتكتيكات. وكانت هذه إحدى أعظم نقاط قوته. لقد فهم أن بناء حزب شيوعي حقيقي، كما هو الحال مع الحزب البلشفي، ليس خطا مستقيما. إن كسب تأييد العمال، وخاصة أولئك الذين ما زالوا تحت تأثير الأحزاب الإصلاحية، يتطلب تكتيكات مرنة. ولم تكن تلك مسألة ثانوية. وفي كتابه الرائع، “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية” أوضح أنه:

«لا ينقصنا سوى شيء واحد لتمكيننا من المضي قدما بثقة وثبات أكبر نحو النصر، وهو الوعي العام والشامل لجميع الشيوعيين في جميع البلدان بضرورة إظهار أقصى قدر من المرونة في تكتيكاتهم»[13].

طور لينين “إحساسا” عظيما بالموقف وكان قادرا على تقييم الأمور كلما كان هناك تحول حاد في الأحداث. كان قادرا على التمييز بين ما هو أساسي وما هو ثانوي.

وكما أوضح تروتسكي

«فقد كانت موهبة لينين الخاصة، التي امتلكها إلى أعلى درجة، هي أنه من خلال نظرته الثورية الحادة، كان يستطيع أن يرى ويشير للآخرين إلى ما هو الأكثر أهمية، والأكثر ضرورة، والأكثر جوهرية. وهؤلاء الرفاق الذين أتيحت لهم، مثلي، الفرصة لمراقبة نشاط لينين وطريقة عمل عقله عن كثب، لم يكن بوسعهم إلا أن يعجبوا بحماس -أجل، أكرر، يعجبوا بحماس- ببعد نظره وحدة فكره الذي رفض كل ما كان خارجيا عرضيا سطحيا، ويصل إلى جوهر الأمر ويستوعب أساليب العمل الأساسية. تتعلم الطبقة العاملة ألا تقدر سوى أولئك القادة الذين، بعد أن يفتحوا طرقا جديدة، يمضون قدما بتصميم حتى لو كانت تحيزات البروليتاريا تعوق تقدمهم مؤقتا»[14].

كان لينين قادرا، قبل كل شيء، على التكيف ببصيرة مع التغيرات التي تحدث. وهذا يستلزم عادة تغييرا في التكتيكات لتتوافق مع الاحتياجات الجديدة للوضع. ومرة أخرى لم تكن تلك التغييرات واضحة دائما، وكانت تؤدي أحيانا إلى جدالات حادة داخل الحزب. لم يكن من قبيل الصدفة أن تُعرف البلشفية بأنها مدرسة للضربات القوية.

فعند كل مرحلة من مراحل تطور الحزب، انطلاقا من الحلقات الأولى للعمل السري إلى العمل الجماهيري عام 1905، وحتى عام 1917 وما بعده، كان على لينين أن يتغلب على مقاومة أولئك الذين تشبثوا بأساليب الماضي. كان يقابل عموما بمقاومة شديدة عند كل تغيير مقترح للتكتيكات. وكان سبب تلك المقاومة هو أن حياة الحزب تطور دائما نوعا من الروتين. وعندما يتغير الوضع، تتعارض هذه الروتينية مع المتطلبات الجديدة. وهناك الكثير من الامثلة على هذا.

إن محاولة لينين إضفاء الطابع الاحترافي على عمل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، في مؤتمره الثاني عام 1903، حيث حاول إبعاد الحزب عن عقلية “الحلقات الصغرى” التي تغيب فيها الرسمية، التي كانت سائدة في بدايات الحركة، أدت في الواقع إلى الانقسام بين البلاشفة والمناشفة.

طرحت ثورة 1905 تحديات جديدة. ومن أجل الاستفادة من الظروف المتاحة، حاول لينين القطع مع أساليب العمل السري. وهذا ما جعله يدخل في صراع مع “أعضاء اللجان”، الذين هم ثوريون مخلصون نشأوا في ظل ظروف العمل السري، التي شكلت نظرتهم. لذلك عندما انفتح الوضع أمام إمكانية العمل الشرعي، وجدوا صعوبة في التكيف وأصبحوا عائقا. وقد أدى ذلك إلى مواجهة قوية.

لكن لينين لم يكن مستعدا للتنازل. تتطلب الفرص الجديدة تغييرا في اسلوب العمل. ولذلك كان عليه أن يخوض معركة مع أعضاء اللجان وأساليبهم. لقد كان الوقت قد حان لفتح أبواب الحزب! وقد عبر لينين عن ذلك بأقوى الكلمات:

«نحن بحاجة إلى قوى شابة. أنا أؤيد إطلاق النار فورا على أي شخص يفترض أنه لا يوجد أشخاص يمكن العثور عليهم. الناس في روسيا كثيرون؛ كل ما يتعين علينا القيام به هو كسب الشباب على نطاق أوسع وبجرأة أكبر، بجرأة أكبر وعلى نطاق أوسع، ومرة أخرى على نطاق أوسع ومرة أخرى بجرأة أكبر، دون خوف منهم. هذا وقت الحرب. إن الشباب -الطلاب، وخاصة العمال الشباب- سوف يقررون نتيجة النضال برمته. تخلصوا من كل العادات القديمة المتمثلة في عدم الحركة، واحترام الرتب، وما إلى ذلك. قوموا بتكوين مئات الحلقات من الفبريوديين بين الشباب وشجعوهم على العمل بأقصى طاقتهم…»[15].

وطالب لينين القادة البلاشفة بالتخلص من الروتين القديم ووضع المنظمة في حالة استنفار. وإذا لم يحصل الأمر كذلك، فسوف يكون هناك خطر حقيقي يتمثل في إهدار الفرص الجديدة التي تنفتح أمام الحزب. ومرة أخرى دعا لينين إلى التحرك قائلا:

«يجب عليكم فقط أن تتأكدوا من التنظيم، وتنظيم مئات الحلقات، مما يدفع تماما إلى الخلف بحماقات اللجنة (الهرمية) المعتادة حسنة النية. هذا وقت الحرب. إما أن تنشئوا منظمات قتالية جديدة، شابة، نشيطة، في كل مكان من أجل العمل الاشتراكي الديمقراطي الثوري من جميع الأنواع وبين جميع الفئات، أو أنكم ستغرقون وأنتم تتوشحون بهالة بيروقراطيي “اللجان”»[16].

لقد امتدت المقاربة الروتينية لبعض القادة البلاشفة إلى موقفهم من السوفييتات التي كانت قد تشكلت حديثا. ظهرت السوفييتات بشكل عفوي بمبادرة من العمال في خضم النضال، والتي كانت عبارة عن لجان إضراب موسعة. وسرعان ما أصبحت سلطة بديلة لسلطة النظام القيصري.

وبدلا من أن يقوم القادة البلاشفة القدامى باحتضان هذه التشكيلات الطبقية الجديدة، اعتبرها بعضهم أجهزة منافسة للحزب. لقد تبنوا موقفا عصبويا متطرفا. تطلب الأمر تدخل لينين بشكل شخصي لتصحيح ذلك الخطأ. كان لينين يعتبر السوفييتات “جنينا لحكومة عمالية”[17]، وهو ما تأكد في أحداث عام 1917، مما أثبت بعد نظره.

في عام 1905، تحول الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، الذي كان يتكون آنذاك من المناشفة والبلاشفة، إلى حزب جماهيري. وقد أظهر ذلك الإمكانات الهائلة التي يتضمنها الوضع، لكنه لم يستمر.

فتحت هزيمة ثورة 1905 فترة ردة رجعية دموية في روسيا. تعرضت الحركة لانتكاسة كبيرة. وأدى ذلك بدوره إلى هروب الكثير من الأعضاء من الحزب، وخاصة من بين الفئات البرجوازية الصغيرة التي لم تستطع تحمل الضغط. كان الجو داخل الحزب سيئا للغاية وتحول البلاشفة إلى ما يشبه صَدَفة فارغة.

كانت هناك الكثير من المشاكل خلال سنوات الردة الرجعية تلك. واضطر لينين إلى القطع، من جهة، مع أولئك الذين استسلموا لمزاج اليأس وانحرفوا نحو اليسارية المتطرفة، مثل أولئك البلاشفة الذين أصروا على مقاطعة انتخابات مجلس الدوما بعد فترة طويلة من هزيمة الثورة، ومع أولئك الذين أرادوا حل الحزب بالكامل (“التصفويون”) من جهة أخرى.

ومرة أخرى، كان على لينين أن يدخل في صراع على المستوى النظري، ضد أولئك الذين كانوا يحاولون مراجعة المبادئ الفلسفية الأساسية للحركة الماركسية، بما في ذلك المادية نفسها. كانت هذه هي الفترة التي كتب فيها لينين كتابه “المادية والنقد التجريبي”، للجدال ضد ذلك التيار في الحركة الماركسية الروسية الذي كان يبتعد عن المادية الديالكتيكية ويتجه نحو الفلسفة المثالية الذاتية.

بعد ثورة 1905، كانت هناك على الصعيد التنظيمي، محاولات لدمج الفصيلين المنشفي والبلشفي. لكن الخلافات السياسية المتزايدة حالت دون ذلك. كان المناشفة ينظرون إلى الليبراليين باعتبارهم القوة التي ستقود الثورة، بينما كان البلاشفة ينظرون إلى العمال والفلاحين الفقراء. وفي النهاية، انفصلا عن بعضهما، وتم تشكيل الحزب البلشفي رسميا في أبريل 1912.

لقد تم خلق الأسطورة القائلة بأن لينين حكم الحزب البلشفي بعصا من حديد، لكن من الواضح أن الأمر لم يكن كذلك. كانت هناك أوقات عديدة كان فيها لينين في موقع الأقلية، حتى داخل القيادة. لم تكن سلطة لينين مبنية على التلويح بالعصا الغليظة، بل على سلطته السياسية المبنية على الشرح الصبور.

عندما واجه لينين ثورة فبراير عام 1917، لم تجد التكتيكات الجديدة التي دافع عنها سوى القليل من الدعم.

أدت الثورة إلى الإطاحة بالقيصر وتشكيل حكومة مؤقتة مكونة من ممثلين للبرجوازية. وفي الوقت نفسه، أنشأ العمال الروس السوفييتات على نطاق أوسع مما كان عليه الحال في عام 1905. كان القادة البلاشفة داخل روسيا -وخاصة كامينيف وستالين- فاقدين للبوصلة في خضم الثورة وتأثروا بمشاعر “الوحدة” التي سادت في أيامها الأولى. ونتيجة لذلك، اتخذوا موقفا خاطئا تماما تجاه الحكومة المؤقتة. وبدلا من معارضة الحكومة، قدموا لها “دعما نقديا”، بما في ذلك دعمهم للحرب الإمبريالية.

كان لينين غاضبا. وبينما كان ما يزال يحاول مغادرة سويسرا إلى روسيا، كتب سلسلة من المقالات -“رسائل من بعيد” الشهيرة، والتي شكلت أساس “موضوعات أبريل” الشهيرة- حيث عارض الحكومة المؤقتة الرأسمالية ودعا إلى ثورة جديدة.

كان البلاشفة قد تربوا منذ فترة طويلة على أساس منظور “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية”، المرتبطة بفكرة إثارة ثورة اشتراكية في الغرب. وبينما اعتبرت هذه الصيغة أن الثورة المقبلة هي ثورة برجوازية لإزالة بقايا الإقطاع وتمهيد الطريق للتطور الرأسمالي، فإنها أكدت أن قيادة تلك الثورة لن تقع على عاتق البرجوازية، التي ستلعب دورا مضادا للثورة، بل على عاتق العمال والفلاحين. ومع ذلك، فقد تركت هذه الصيغة مسألة الطبقة التي ستلعب الدور القيادي في ذلك التحالف مفتوحة، باعتبارها “رقما مجهولا”.

كان الموقف البلشفي يتناقض بشكل ملحوظ مع موقف المناشفة، الذين قالوا إن الثورة برجوازية وبالتالي يجب أن تقودها البرجوازية. وكان على العمال، من وجهة نظرهم، أن يلعبوا دورا داعما فقط.

بينما قام تروتسكي، من جهته، بطرح نظريته الخاصة حول “الثورة الدائمة” كمنظور للثورة في روسيا. وبينما اتفق مع البلاشفة على أن البرجوازية قوة معادية للثورة، فقد اعتقد أن الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة الثورة هي الطبقة العاملة، بدعم من الفلاحين الفقراء. إلا أنه عوض الحديث عن إقامة “ديكتاتورية ديمقراطية”، فقد دافع عن حكومة عمالية من شأنها أن تكتسح الإقطاع (المهام “الديمقراطية”) أولا، لكنها ستنتقل بعد ذلك إلى المهام الاشتراكية. هذه الثورة الاشتراكية، بدورها، ستثير الثورة في الغرب، التي ستهب لمساعدة العمال الروس. وهذا ما يعطيها طابعها “الدائم”.

كان الموقف الذي طرحه لينين في أبريل 1917 مطابقا من حيث الجوهر لموقف تروتسكي. إلا أن القادة “البلاشفة القدماء” قاوموا هذا الأمر، وتمسكوا بالصيغة الأصلية المتمثلة في “الدكتاتورية الديمقراطية”.

اضطر لينين إلى استخدام كل سلطته السياسية لتغيير اتجاه الحزب. وبهذه الطريقة، كان عليه أن يواجه “البلاشفة القدماء” الذين اتهموه بـ “التروتسكية”!

وفي مواجهة أخطاء القادة البلاشفة، وبالنظر إلى أهمية القضايا التي كانت على المحك لم يتردد لينين في إعلان الحرب ضدهم، كتب قائلا:

«سأفضل الانفصال الفوري عن أي شخص في حزبنا، أيا كان، بدلا من تقديم التنازلات للاشتراكية الوطنية لكيرنسكي وشركائه، وللاشتراكية السلمية والكاوتسكية لتشخيدزه وشركائه»[18].

وأضاف:

«يجب أن تقال الحقيقة للعمال. يجب أن نقول إن حكومة غوتشكوف-ميليوكوف وشركائهما هي حكومة إمبريالية… [يجب أن تنتقل] كل سلطة الدولة إلى أيدي الطبقة العاملة، عدوة رأس المال، وعدوة الحرب الإمبريالية، وعندها فقط سيكون لها الحق في المطالبة بإسقاط جميع الملوك وجميع الحكومات البرجوازية»[19].

ثم حول انتباهه إلى “البلاشفة القدماء”، فقال:

«لكننا عند هذه النقطة نسمع احتجاجا صاخبا من أشخاص يطلقون على أنفسهم بسهولة اسم “البلاشفة القدماء”. يقولون: ألم نقل دائما إن الثورة الديمقراطية البرجوازية لا تكتمل إلا من خلال “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية”؟ هل الثورة الزراعية، التي هي أيضاً ثورة برجوازية ديمقراطية، قد اكتملت؟ أليس الحقيقة هي أنها، على العكس من ذلك، لم تبدأ بعد؟

جوابي هو: إن الشعارات والأفكار البلشفية قد أكدها التاريخ بشكل عام؛ لكن الأمور سارت في الواقع الملموس بشكل مختلف؛ فهي أكثر إبداعا، وأكثر غرابة، وأكثر تنوعا مما كان يتوقعه أي شخص.

إن تجاهل هذه الحقيقة أو التغاضي عنها يعني اتباع هؤلاء “البلاشفة القدماء”، الذين لعبوا أكثر من مرة دورا مؤسفا في تاريخ حزبنا من خلال تكرارهم الصيغ التي تم تعلمها عن ظهر قلب بدون فهم، بدلا من دراسة السمات المحددة للواقع الجديد الحي…

إن ذلك الشخص الذي لا يتحدث الآن إلا عن “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية” هو متخلف عن العصر، وبالتالي، فهو في الواقع قد انتقل إلى البرجوازية الصغيرة ضد نضال البروليتاريا الطبقي؛ ذلك الشخص يجب أن يُودع في أرشيف آثار “البلشفية” ما قبل الثورة (الذي يمكن تسميته بأرشيف “البلاشفة القدماء”)…

في الوقت الحاضر، من الضروري فهم الحقيقة التي لا جدال فيها، وهي أن الماركسي يجب أن يأخذ في الاعتبار الحياة الواقعية، والحقائق الحقيقية للواقع، وألا يتمسك بنظرية الأمس، التي، مثلها مثل كل النظريات، لا تحدد في أحسن الأحوال سوى الرئيسي والعام، وبالكاد تقترب من احتضان الحياة بكل تعقيداتها.

“النظرية رمادية اللون يا صديقي، لكن شجرة الحياة الأبدية خضراء”.

إن التعامل مع مسألة “استكمال” الثورة البرجوازية بالطريقة القديمة يعني التضحية بالماركسية الحية لصالح الحرف الميت»[20].

في بداية أبريل 1917، كان لينين معزولا تماما داخل الحزب البلشفي عندما طرح المنظور الجديد للثورة الاشتراكية. لقد أصبح القادة القدماء عائقا، كما هو الحال مع أعضاء اللجان السابقين. كانت القيادية الوحيدة التي دعمته هي كولونتاي، في حين عارضه الباقون.

لكن بقوة حجج لينين وبالخبرة التي راكمها البلاشفة على الأرض، سرعان ما تمكن من كسب أغلبية الحزب إلى صفه وتوجيه المسار نحو ثورة أكتوبر.

وحتى في ذلك الوقت، في أكتوبر 1917، خلال الأيام التي سبقت الانتفاضة، واجه لينين معارضة داخل القيادة، وخاصة من جانب زينوفييف وكامينيف، اللذَيْن ناضلا إلى جانبه لسنوات. ومرة أخرى كان عليه أن يضع سلطته السياسية بأكملها على المحك لضمان نجاح الانتفاضة.

كان كل شيء قد أعده لهذه اللحظة. “لقد تجرأوا!”، على حد تعبير روزا لوكسمبورغ. لقد وضع لينين الأفكار الماركسية موضع التنفيذ. ليس هناك ما يمكن أن نطلبه أكثر من العمال الروس. لقد كنسوا الرأسمالية والملاكين العقاريين وأنشأوا جمهورية الكادحين السوفياتية.

بالنسبة للينين، لم تكن ثورة أكتوبر غاية في حد ذاتها، بل كانت مجرد الطلقة الأولى في معركة الطبقة العاملة للاستيلاء على السلطة في جميع أنحاء العالم. ولم تكن هذه النزعة الأممية لأسباب عاطفية، بل نابعة من الطابع العالمي للرأسمالية، التي وضعت الأساس المادي لمجتمع جديد لا طبقي. وخلقت، على وجه الخصوص، طبقة عاملة عالمية، مهمتها التاريخية هي أن تصبح حفار قبر الرأسمالية.

على هذا الأساس المتين أقام لينين موقفا طبقيا مبدئيا بشأن اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، في وقت كانت فيه كل أحزاب الأممية الثانية تصطف دفاعا عن طبقتها الرأسمالية “الخاصة بها”. وقد توج هذا النضال من أجل الحفاظ على راية الأممية البروليتارية، والذي وجد فيه لينين نفسه في موقع أقلية صغيرة، بالإطاحة الثورية بالرأسمالية في روسيا في عام 1917، وتأسيس الأممية الشيوعية باعتبارها الحزب العالمي للثورة الاشتراكية، في عام 1919.

لم يتبن لينين قط فكرة “الاشتراكية في بلد واحد”، التي طرحها الستالينيون لاحقا. تقف تلك الفكرة على طرف النقيض مع منظوره للثورة العالمية. بالنسبة للينين، لم يكن المقصود من الثورة الروسية بناء “الاشتراكية الروسية”، وهو ما كان محض هراء في مثل تلك الظروف المتخلفة. من وجهة نظره كان الانتصار في روسيا، الذي أدى إلى إنشاء قلعة بروليتارية، نقطة انطلاق الثورة العالمية. وليس من قبيل الصدفة أنه أكد أنه بدون ثورة في الغرب، فإن الثورة الروسية محكوم عليها بالفشل.

وكما أوضح بنفسه في 29 يوليوز 1918 فإنه:

«لم يكن لدينا أبدا الوهم بأن قوى البروليتاريا والشعب الثوري في أي بلد، مهما كانت بطولية ومهما كانت منظمة ومنضبطة، قادرة على الإطاحة بالإمبريالية العالمية. لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال الجهود المشتركة لعمال العالم… ولم نخدع أنفسنا أبدا بالاعتقاد بأن هذا يمكن تحقيقه من خلال جهود بلد واحد وحدها. كنا نعلم أن جهودنا ستؤدي حتما إلى ثورة عالمية، وأن الحرب التي بدأتها الحكومات الإمبريالية لا يمكن إيقافها بجهود تلك الحكومات نفسها. لا يمكن إيقافها إلا بجهود جميع العمال؛ وعندما وصلنا إلى السلطة، كانت مهمتنا… هي الاحتفاظ بتلك السلطة، بشعلة الاشتراكية تلك، بحيث يمكنها أن تنثر أكبر عدد ممكن من الشرارات لتضيف إلى نيران الثورة الاشتراكية المتصاعدة»[21].

لقد عبر لينين عن هذه الفكرة مرارا وتكرارا. لقد اعتمد بشكل كامل على نجاح الثورة العالمية، وعمل على تحقيقها.

ومع ذلك فقد أصبحت نظرية “الاشتراكية في بلد واحد” المناهضة للماركسية حجر الزاوية في الستالينية. بل، في الواقع، أصبح قبولها شرطا للعضوية في الأحزاب الشيوعية الستالينية.

في عام 1956، حدثت أزمة عميقة في صفوف الأحزاب الشيوعية في أعقاب تصريحات خروتشوف حول ستالين خلال المؤتمر العشرين. وقد تفاقم ذلك بعد سحق القوات الروسية للثورة المجرية في وقت لاحق من ذلك العام. لقد أصبح كل ما تعلمه أعضاء الحزب الشيوعي موضع تساؤل، وكان هناك الكثير من النقاش حول ماضي الحزب وأهمية الثورة الروسية.

وخلال المناقشات، عندما أثيرت اقتباسات من لينين ضد نظرية الاشتراكية في بلد واحد، كان بعض الأعضاء القياديين في الحزب الشيوعي مشوشين إلى حد أنهم شككوا في شرعية ثورة أكتوبر.

وكتبت أليسون ماكلويد، التي عملت في صحيفة ديلي وركر:

«لم أجد قط أنه من الممكن (على الرغم من أنني واصلت المحاولة) إقناع أحد التروتسكيين بأن هذه الاقتباسات تثبت أن لينين مقامر مجنون. أي حق كان يملكه (لينين) للإطاحة بكيرينسكي، إذا لم يكن الاستيلاء على السلطة في روسيا كافيا؟ بأي حق كان له أن يخاطر بحياة الملايين من أجل ثورة في ألمانيا، والتي لم تكن لديه القدرة على إحداثها؟»[22].

أصيبت ماكلويد بالارتباك والإحباط بشكل كامل، فتركت الحزب الشيوعي في أبريل 1957، إلى جانب آلاف آخرين، بعد أن اشتغلت في ديلي وركر لمدة اثنتي عشرة سنة. لقد تعرضت، هي والعديد من الأشخاص الآخرين، للتضليل الإجرامي والكذب عليهم من قبل موسكو. ونتيجة لذلك أدار الكثيرون منهم ظهورهم للحركة الثورية.

لم يكن إيمان لينين بنجاح الثورة في ألمانيا مقامرة ميؤوس منها، كما تدعي ماكلويد. لقد كانت فرص انتصار الثورة الألمانية في عام 1923 مرتفعة للغاية. فقبل كل شيء كان الحزب الشيوعي الألماني أقوى حزب شيوعي خارج الاتحاد السوفياتي، وقد أنتجت أزمة صيف عام 1923 وضعا ثوريا. وكانت الجماهير تتطلع إلى الحزب الشيوعي الألماني لإعطاء الحل.

لكن ولسوء الحظ، لم يكن قادة الحزب الشيوعي الألماني على مستوى تلك المهمة. وعندما ذهبوا إلى موسكو للحصول على المشورة، كان لينين قد صار عاجزا بعد إصابته بجلطات، ولم يكن تروتسكي موجودا. فكان الذين قدموا لهم النصيحة هم ستالين وزينوفييف، اللذان حثا على كبح جماح الحركة في الوقت الذي كان على الشيوعيين الألمان أن يستعدوا لحسم السلطة. ونتيجة لذلك، ضاعت الفرصة، وكانت العواقب وخيمة.

لو انتصرت الثورة الألمانية لكانت ستغير مسار تاريخ العالم بالكامل. كان من الممكن أن تكسر عزلة روسيا السوفياتية وتثير أزمة ثورية ضخمة في أوروبا. لكن هزيمتها أدت إلى خيبة أمل مريرة، خاصة في روسيا، الأمر الذي عزز قبضة البيروقراطية السوفياتية، ووضع بدوره الأساس للستالينية. ونتيجة لذلك، أصبحت الستالينية عائقا هائلا أمام الثورة العالمية، ومهدت الطريق لانتصار هتلر بنظريتها عن “الاشتراكية الفاشية” التي قسمت الطبقة العاملة الألمانية. وهو ما أدى إلى أهوال الحرب العالمية الثانية.

لم يكن ذلك محتوما. كان من شأن ثورة ناجحة في ألمانيا أن تقطع مع مثل ذلك التطور. لكن ما كان ينقص ألمانيا لم يكن هو حزب شيوعي جماهيري، بل كان ينقصها قادة من أمثال لينين وتروتسكي ليقودونه.

كان لدى لينين، على عكس القادة الستالينيين، إيمان هائل بالطبقة العاملة وقدرتها على الإطاحة بالرأسمالية في جميع أنحاء العالم. لكن ما كان مطلوبا هو قيادة ثورية حقيقية لتوجيه النضال إلى نهايته المنطقية. كان هذا هو الدرس الذي قدمته البلشفية.

إن الخلط بين راية لينين الطاهرة وبين نظام ستالين الدموي ليس من مصلحة الرأسماليين فحسب، بل من مصلحة الستالينيين أيضا، لأسبابهم الخاصة بهم. ولا يمكن أن يكون هناك افتراء أبشع من هذا.

كان لينين، على الرغم من دوره المحوري، رجلا متواضعا للغاية، ولم يكن يشبه الصورة الكاريكاتورية للقائد المعصوم التي قدمها الستالينيون عنه. لقد كان يعترف بصراحة بأخطائه لكي يتعلم منها. وبعد ثورة أكتوبر كان ينظر إلى الماضي في كثير من الأحيان ويضحك من الأخطاء و“الحماقات” التي ارتكبوها. ومع ذلك، فقد ارتكب لينين أخطاء أقل من معظم القادة الآخرين وكان قادرا على تصحيحها. وهذا ما عزز سلطته. وكانت قوته في أنه لا يخاف من الحقيقة مهما كانت الظروف.

لينين، وعلى عكس الأسطورة التي نشرها الستالينيون على مر السنين، لم يظهر منذ البداية مكتمل التكوين، مثلما خرجت أثينا من جبين زيوس. بالنسبة لتلك الصورة الستالينية الزائفة، لا يوجد مجال لتطور الأفكار أو حتى الأخطاء. لقد تم تصوير لينين على أنه نموذج مثالي مفارق للواقع. كان الستالينيون بحاجة لمثل تلك الشخصية لتبرير عصمتهم المفترضة. لقد حولوه بكلبية إلى أيقونة لا معنى لها. لكنها صورة خاطئة تماما ولينين لم يكن كذلك.

في الواقع، لقد صنع لينين نفسه بنفسه. لقد عمل على توسيع آفاقه باستمرار، وتعلم من الآخرين، وصعد بنفسه كل يوم إلى مستوى أعلى. لقد اكتشف الأفكار الماركسية بنفسه وأثرى فهمه في كل خطوة. لقد أعطى ذلك للينين تكوينا لا مثيل له. وهذا ما أعطاه الثقة واليقين.

لقد كرس حياته كلها للنضال من أجل الماركسية وبناء الحزب الثوري. وكانت سنواته الأخيرة بمثابة صراع ضد مرض تصلب شرايينه، وضد البيروقراطية السوفياتية التي كانت تهدد بانحطاط الثورة وخطر عودة الرأسمالية.

ارتبط ذلك النضال ارتباطا مباشرا بالدفاع عن المبادئ الأساسية للماركسية، التي ناضل لينين من أجلها طوال حياته. لقد كان الموقف الشوفيني والازدراء الذي تبنته زمرة ستالين في التعامل مع المسألة القومية، وخاصة فيما يتعلق بجورجيا، هو ما نبه لينين إلى الخطر الجسيم المتمثل في الانحطاط السياسي داخل قيادة الحزب البلشفي نفسه.

إن الذكرى المائوية لوفاة لينين تعطي فرصة للتأمل في حياته الاستثنائية ومساهماته وتعلم الدروس منها. ينبغي أن تمكننا من اكتشاف لينين الحقيقي وأفكاره. وهذا ليس لأي سبب أكاديمي، بل لإعداد أنفسنا للأحداث العظيمة الوشيكة.

ما زلنا اليوم نواجه خيار الاشتراكية أو البربرية. ونظرا لإفلاس المنظمات العمالية القديمة، فإن الأزمة التي تواجه الإنسانية يمكن اختزالها في أزمة القيادة الثورية على المستوى العالمي. إن أمميتنا، التي ترتكز على أفكار لينين وغيره من المعلمين الماركسيين العظماء، تقوم بحشد القوى على الصعيد الأممي بهدف واضح هو حل هذه الأزمة.

إن دراسة لينين اليوم، في خضم هذه الأزمة العالمية، تقدم تجربة ملموسة قيمة جدا لحل المشاكل التي تواجه الطبقة العاملة في عصر الحروب والثورات هذا.

أفكار لينين، بالنسبة لنا، أشبه ما تكون بدليل للثورة العالمية. لكنها تشكل بالنسبة للكثيرين، حتى بين صفوف “اليسار” المزعوم، كتابا مغلقا. يجب علينا أن نترك جانبا هؤلاء المتشككين والكلبيين، الذين يرفضون أفكار لينين باعتبارها “قد عفا عليها الزمن”.

ترتبط الشيوعية ارتباطا وثيقا باسم لينين والثورة الروسية، لكن الأحزاب الشيوعية اليوم هي “شيوعية” بالاسم فقط. لقد عانت من انحطاط كامل في ظل الستالينية. لقد تخلت منذ فترة طويلة عن أفكار لينين والبلشفية، وتبنت بدلا من ذلك وجهة نظر إصلاحية.

ينخرط الستالينيون السابقون الآن في حملة المؤرخين البرجوازيين لتشويه اسم البلشفية. أجل، يمكنهم التنديد بلينين، ويمكنهم هدم التماثيل، ويمكنهم نهب أصول الدولة، لكن هناك شيء واحد لا يمكنهم فعله: لا يمكنهم أبدا قتل فكرة آن أوانها. وهذه هي الحقيقة التي تطاردهم وتصيبهم بالكوابيس.

ومع الاهتمام المتزايد بلينين والشيوعية، يجدر بنا أن نكرر كلمات لينين نفسه التي قالها منذ 06 مارس 1919:

«يبدو أنهم خائفون بشدة من أن ينقل عشرة أو اثنتي عشرة من البلاشفة العدوى إلى العالم أجمع. لكننا، بالطبع، نعلم أن هذا الخوف مثير للسخرية، لأنهم قد أصابوا بالفعل العالم أجمع بالعدوى…»[23].

ومع أخذ هذه الأفكار في الاعتبار، علينا أن نكرس أنفسنا لهدف إعادة بناء الأممية الشيوعية على مستوى أعلى. وهذا يعني الدفاع عن أفكار لينين وبناء قوى الشيوعية الحقيقية في جميع أنحاء العالم. هذه هي مهمتنا العاجلة، بعد مرور مائة عام على وفاة لينين.

روب سيويل
19 يناير 2024


[1]: R Luxemburg, The Russian Revolution, Workers Age Publishers, 1940, pg 12

[2]: A Read, The World on Fire, W. W. Norton & Co, 2008, pg 5-6

[3]: R Pipes, The Russian Revolution, Vintage, 1991, pg 349

[4]: O Figes, A People’s Tragedy, Pimlico, 1997, pg 391

[5]: ibid. pg 824

[6]: V I Lenin, “The Three Sources and Three Component Parts of Marxism”, Lenin Collected Works, Vol. 19, Progress Publishers, 1973, pg 21

[7]: V I Lenin, “Left-Wing Communism, an infantile disorder”, Lenin Collected Works, Vol. 31, Progress Publishers, 1966, pg 22

[8]: ibid. pg 24

[9]: ibid. pg 25-26.

[10]: V I Lenin, What is to be done?, Wellred Books, 2018, pg 26

[11]: V I Lenin, “Certain Features of the Historical Development of Marxism”, Lenin Collected Works, Vol. 17, Progress Publishers, 1974, pg 43

[12]: V I Lenin, “Letter to Comrades”, Lenin Collected Works, Vol. 26, Progress Publishers, 1972, pg 214

[13]: V I Lenin, “‘Left Wing’ Communism: an Infantile Disorder”, The Classics of Marxism, Vol. 2, Wellred Books, 2015, pg 187

[14]: L Trotsky, On Lenin, George G.Harrap & Co, 1971, pg 193-194

[15]: V I Lenin, “A Letter to Bogdanov and S.I. Gusev”, Lenin Collected Works, Vol. 8, Progress Publishers, 1977, pg 143-145

[16] : ibid. pg 146

[17]: V I Lenin, “The First Stage of the First Revolution”, Lenin Collected Works, Vol. 23, Progress Publishers, 1964, pg 304

[18]: V I Lenin, “Letter to J.S. Hanecki”, Lenin Collected Works, Vol. 35, Progress Publishers, 1973, pg 310

[19]: ibid. pg 312

[20]: V I Lenin, “Letters on tactics”, Lenin Collected Works, Vol. 24, Progress Publishers, 1974, pg 44-45

[21]: V I Lenin, “Speech at a joint session of the All-Russia Central Executive Committee, the Moscow Soviet, Factory Committees and Trade Unions of Moscow”, Lenin Collected Works, Vol. 28, Progress Publishers, 1965, pg 24-25

[22]: A Macleod, The Death of Uncle Joe, Merlin Press, 1997, pg 212, emphasis added

[23]: V I Lenin, “Founding of the Communist International”, Lenin Collected Works, Vol. 28, Progress Publishers, 1965, pg 481