الرئيسية / لينين خلال عام / لينين خلال عام: تطور الرأسمالية في روسيا (1899)

لينين خلال عام: تطور الرأسمالية في روسيا (1899)

في حلقة هذا الأسبوع من سلسلة لينين خلال عام، نلقي نظرة على كتابه “تطور الرأسمالية في روسيا“، الذي هو عمل رائع لكنه غير معروف على نطاق واسع، حيث رسم لينين خطا فاصلا واضحا بين الماركسية وبين جميع التيارات الثورية الأخرى التي كانت تعمل آنذاك في روسيا. وللحصول على تحليل أعمق والتعرف على السياق الأوسع لتلك الفترة من حياة لينين، نوصي بالإصدار الأخير لدار النشر Wellred، من تأليف روب سيويل وألان وودز، بعنوان: دفاعا عن لينين. احصل على نسختك اليوم!


في دجنبر 1895، ساهم لينين في تأسيس المجموعة الماركسية في سان بيترسبورغ، وهي رابطة النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة. لكن وبينما كانت المجموعة على وشك طباعة العدد الأول من صحيفتها، قامت الشرطة السرية القيصرية باعتقال لينين وشخصيات قيادية أخرى.

لكن نشاط لينين السياسي لم يتوقف عندما تعرض للسجن والنفي لاحقا إلى شوشينسكوي في سيبيريا. بل في الواقع، كانت تلك الفترة هي التي أصدر فيها لينين كتاب “تطور الرأسمالية في روسيا”، وهو تحليل علمي دقيق للسيرورات الاقتصادية التي كانت تقوض النظام الاجتماعي القديم في البلد، وتعمل على إعداد الطريق للأحداث الثورية.

يشكل هذا الكتاب، في حد ذاته، مثالا رائعا للمنهج الماركسي، وكان استمرارا لجداله ضد النارودنيين. وكما رأينا في الأسبوع الماضي، كان النارودنيون ينظرون إلى الفلاحين، وخاصة كومونة القرية الفلاحية، باعتبارهم حصنا ضد الرأسمالية في روسيا.

لقد عكست نظرتهم، التي كانت تعتبر الفلاحين الطبقة الثورية التي ستقوم بالإطاحة بالقيصرية، حقيقة مفادها أن الطبقة العاملة، في الإمبراطورية الروسية المتخلفة، كانت ما تزال أقلية، على الرغم من أنها كانت قد بدأت في استعراض عضلاتها. أصبح السؤال آنذاك هو: ما هي الطبقات التي كانت في صعود؟ وما هي الطبقة التي تحمل مشعل المستقبل بين يديها؟

ورغم أن النارودنيين لم يستطيعوا أن يتجاهلوا أن التطور الرأسمالي كان يجري في روسيا، فقد رأوا أن ذلك التطور مصطنع، وغير مرغوب فيه، ويمكن تجنبه، ومصيره الفشل. في حين يثبت لينين، في هذا الكتاب، من خلال دراسة دقيقة لمجموعة من المصادر، عكس ذلك. لم تكن الرأسمالية قد بدأت في التوغل في “المقاطعات الصناعية” والمناطق الحدودية لروسيا الأوروبية فحسب، بل كانت العلاقات الرأسمالية تتشكل حتى في مناطق المركز شبه الإقطاعية، وفي ضيعات ملاك الأراضي، وحتى داخل المجتمع القروي “المتساوي” نفسه. وبينما كان مصير المشاعة الفلاحية إلى الاضمحلال، فقد كان مصير تغلغل العلاقات الرأسمالية في جميع أنحاء روسيا، وكذلك العداوات الطبقية بين البرجوازية والبروليتاريا، هو الاشتداد.

كانت نقطة البداية التي انطلق منها لينين في دراسته هي الإصلاح الفلاحي عام 1861. قبل ذلك الإصلاح، سيطرت القنانة على الريف الروسي، حيث كان الفلاحون يعملون في الأراضي تابعين لأسيادهم. وبالضرورة سادت في ظل ذلك النظام الأساليب الزراعية البدائية للغاية. وكانت الأدوات المستخدمة هي فقط تلك التي يمكن للفلاح الحصول عليها واستخدامها بنفسه. وكانت الضيعة -المقسمة بين أرض السيد وقطع مخصصة للفلاحين الأقنان- وحدة معزولة مكتفية ذاتيا قائمة على الاقتصاد الطبيعي. وعندما بدأت منافسة السوق الرأسمالية تمارس الضغط على النظام القديم، بدأت سيرورة تحلل ذلك النظام. كتب لينين: «إن إنتاج الحبوب من قبل الملاكين العقاريين بهدف البيع، والذي تطور بشكل خاص خلال الفترة الأخيرة من وجود القنانة، كان بالفعل نذيرا بانهيار النظام القديم».

اضغط على الصورة لتحميل الكتاب

اضطر الملاكون إلى القيام بالإصلاح. فمن ناحية، دفعت التجارة المتزايدة بين روسيا وأوروبا، بروسيا إلى السير على طريق الرأسمالية، ومن ناحية أخرى، كان الفلاحون يثورون، وأصبحت انتفاضاتهم أكثر كثافة وعددا مع مرور الوقت. وقد أعرب القيصر ألكسندر الثاني، الذي كان في ذلك الوقت أكبر مالك للأراضي في روسيا، بوضوح عن موقف ملاك الأراضي حين قال: «من الأفضل إلغاء القنانة من الأعلى، بدلا من الانتظار حتى تبدأ في إلغاء نفسها من الأسفل».

الطريقة التي تم بها تنفيذ ذلك الإصلاح أجبرت الفلاحين على ترك أفضل الأراضي، في حين كان عليهم أن يدفعوا تعويضا للسيد مقابل الحصول على الأراضي الأقل إنتاجية. وبعبارة أخرى، كان “تحرير” القن يعني المزيد من السرقة والمزيد من القهر للفلاح.

وبينما كان الفلاحون قد تحرروا من الناحية القانونية من نظام القنانة، فإنهم لم يتحرروا بأي حال من الأحوال من اعتمادهم على السيد مالك الأرض. تم منع الفلاح من استخدام المروج والغابات والمراعي وأماكن الري، التي كانت مشتركة سابقا، والتي كان الفلاحون يحتاجون إلى الوصول إليها من أجل تسيير مزارعهم، والتي أصبح السيد يطالب بها الآن. كان وضع التبعية المفروض على الفلاحين يعني أنه يتعين عليهم مواصلة العمل في أراضي المالك كما كان الحال عليه من قبل، لكن وبدلا من السخرة القسرية، قام الفلاحون بتبادل “خدمات العمل” مقابل الإيجارات والديون. وعلى نحو متزايد، تم استبدال ذلك بدوره بالعمل الرأسمالي المأجور، حيث بدأ الملاكون في إدخال تقنيات زراعية جديدة وتحسين الأدوات.

كانت مخصصات كل أسرة فلاحية تعتمد على عدد الرجال العاملين. لم يكن من الممكن قانونا بيع الأرض أو تأجيرها، وكانت تقع على عاتق الفلاحين فيها مسؤولية دفع حصة من الضرائب المفروضة على القرية. لقد جعل النارودنيون المجتمع القروي “المتساوي” نموذجا مثاليا، تسوده حسب تصورهم “روح التعاون”.

ومن خلال إضفائهم صبغة المثالية على هذه “الكومونة” الفلاحية، تجاهل النارودنيون التمايز الطبقي الذي كان ينمو في القرى. فمن ناحية، كان هناك فلاحون تحولوا إلى متسولين، وآخرون كانوا يمضون معظم وقتهم عمالا مأجورين، في حين كانت لدى بعضهم مزارع مزدهرة ومكتفية ذاتيا، وكانت أقلية منهم قد أصبحوا مزارعين رأسماليين بشكل كامل. لقد كان من الخطأ تماما تجميع الفلاحين في إطار واحد كما فعل النارودنيون.

زعم الاقتصاديون النارودنيون أن السوق المحلية للرأسمالية لا يمكن أن تتطور في روسيا/ الصورة: المجال العام

كانت مزارع الفلاحين في وضع هش محفوف بالمخاطر. كانت مثقلة بالضرائب المرتفعة والعمل شبه العبودي، وكان من شأن سنة سيئة واحدة أن تدفع المزرعة بسهولة نحو الخراب. ومع كل محصول سيء، كان عدد كبير من الفلاحين يتعرضون للإفلاس. تصور النارودنيون أن الوضع القانوني للقرية الفلاحية، بما يتضمنه من تقسيم متساو للأرض، من شأنه أن يمنع رأس المال من السيطرة على الزراعة. لكن لينين يوضح أنه لا يمكن لأي شكل من أشكال حيازة الأراضي أن تشكل عائقا مطلقا أمام تقدم الرأسمالية.

وعلى الرغم من كون تلك القطع الأرضية تابعة قانونا للفلاحين، فقد انتهى الأمر بالفلاحين إلى تأجيرها وبيعها، حيث قام أفقر 50% من الفلاحين بتأجير أربعة أخماس الأراضي بأسعار منخفضة للغاية، إذ لم تكن لديهم الوسائل اللازمة لزراعتها بأنفسهم بشكل مربح.

كان على هؤلاء الفلاحين الفقراء أنفسهم أن يجدوا عملا في أماكن أخرى، غالبا كعمال زراعيين في مزارع الفلاحين الميسورين، الذين استأجروا مخصصات الفلاحين الفقراء.

أدت سيرورة التمايز تلك، والتي أطلق عليها الفلاحون أنفسهم اسم “تصفية الفلاحين”، إلى خلق قطبين متعارضين: برجوازية ريفية صغيرة عدديا لكنها قوية اقتصاديا، من جهة، ومن جهة أخرى عدد متزايد من البروليتاريين الريفيين الذين يملكون حصصا صغيرة.

زعم الاقتصاديون النارودنيون أن السوق المحلية للرأسمالية لا يمكن أن تتطور في روسيا لأن تحويل صغار المنتجين الفلاحين إلى عمال مأجورين يعني تدمير الفلاحين الصغار، وبالتالي تقليص السوق المحلية مع تضاؤل القوة الشرائية للفلاحين. لكن الواقع، كما يقول لينين، كان عكس ذلك.

سيرورة التمايز خلقت السوق المحلية. وأصبحت أرض الفلاح المدمر سلعة وانتقلت إلى أيدي جديدة. إن منتجات تلك الأرض، التي كان الفلاح يستهلكها بشكل مباشر في السابق، أصبح عليه الآن أن يشتريها. ومن أجل أن يتمكن من الشراء، كان عليه أن يبيع قوة عمله. وفي المقابل، فإن المالك الجديد للأرض يخلق الطلب على المواد الاستهلاكية والآلات الزراعية.

ادعى الاقتصاديون النارودنيون أن الرأسماليين لا يستطيعون تحقيق فائض القيمة من أجل مراكمة رأس المال إلا على أساس الأسواق الخارجية، لكن الرأسمالية الروسية ظهرت متأخرة للغاية بحيث لا يمكنها أن تنافس. في حين أن لينين أثبت أن ذلك غير صحيح. فالطلب المحلي على الآلات ووسائل الإنتاج الأخرى في المصانع الجديدة، يمكنه أن يوفر في حد ذاته سوقا تتوسع بمعدل أسرع بكثير من سوق السلع الاستهلاكية.

والمفارقة هي أن روزا لوكسمبورغ قد كررت، في وقت لاحق، حججا خاطئة مماثلة، بعد عقد ونصف من الزمن، في كتابها تراكم رأس المال عام 1913، حول كون الأسواق الأجنبية ضرورية لتراكم رأس المال، في محاولة لتفسير التوترات الإمبريالية المتنامية. وهكذا فقد أجاب كتاب تطور الرأسمالية في روسيا على تلك الحجج بشكل مسبق، في حين طور لينين تحليله الرائع للقوى التي دفعت أوروبا نحو الحرب في كتابه: الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية.

في ذلك الوقت نفسه، كانت المناطق الجنوبية والشرقية من روسيا الأوروبية عبارة عن مستوطنات ذات كثافة سكانية منخفضة في المناطق الوسطى، حيث أنشأ المستوطنون مزارع جديدة ليس على أساس العلاقات الإقطاعية القديمة بل على أسس رأسمالية متقدمة. كانت تلك المزارع الجديدة في كثير من الأحيان ذات نطاق هائل وكانت منذ البداية مزارع تنتج محاصيل موجهة للسوق. كان من الممكن مبادلة تلك السلع الزراعية بالسلع الصناعية القادمة من المقاطعات في وسط روسيا. في تلك المناطق نمت الصناعة الرأسمالية والزراعة جنبا إلى جنب، حيث وفرت إحداهما سوقا للأخرى.

هاجرت أعداد كبيرة من العمال المأجورين إلى المناطق الجنوبية والشرقية، قدر لينين أن عددهم تجاوز مليوني عامل ريفي. كان هؤلاء بشكل رئيسي من الفلاحين الصغار الذين تخلوا عن مخصصاتهم في محافظات الحزام الأسود المركزية المكتظة بالسكان وشبه الإقطاعية من أجل العثور على عمل مأجور في أماكن أخرى.

لم يتمكن النارودنيون من فهم سبب هجرة الفلاحين من مزارعهم. فإذا كان عليهم بالضرورة أن يبحثوا عن عمل آخر (بخلاف زراعة قطعهم الخاصة) فلماذا لا يستطيعون القيام بذلك محليا؟ وبالفعل فقد كانت الهجرة أحيانا شديدة للغاية في بعض المناطق مما أدى إلى حدوث نقص في العمال.

ونظرا لتكاليف السفر وصعوباته وحقيقة عدم توفر فرص العمل دائما، فقد زعم النارودنيون أنه على الرغم من أن بعض الأفراد قد يستفيدون من تلك الهجرة، فإن الفلاحين ككل خسروا بكل تأكيد. والمفارقة هي أن الملاكين العقاريين القدامى شاركوا الشعبويين في تطلعهم الرجعي إلى وقف هروب الفلاحين من مزارعهم التقليدية.

لكن لينين أوضح أن ذلك كان تطورا تقدميا هائلا. فقد أدت هجرة العمال نحو المناطق التي يكون فيها الطلب على قوة العمل أكبر، إلى ارتفاع مستويات المعيشة. كما هؤلاء الفلاحين السابقين فقد أدى تحولهم إلى عمال مأجورين إلى انتشالهم من الجهل وتخلف القرية المعزولة. وتم توسيع آفاقهم.

يتناول الكتاب تفاصيل كثيرة عن التناقضات والجوانب المظلمة لتطور الرأسمالية في روسيا. لكن وعلى الرغم من ذلك، فإنه بفضل التطور الرأسمالي في روسيا ما بعد الإصلاح، كما قال لينين: «روسيا المحراث الخشبي والطاحونة المائية والنول اليدوي، بدأت تتحول بسرعة إلى روسيا المحراث الميكانيكي وآلة الدرس والمطحنة البخارية والنول الآلي».

إن هذا التحليل العلمي للحقائق التي تطورت تاريخيا -كما هي في الواقع وكما تظهر إلى الوجود، وليس كما نريدها أن تكون- هو بالضبط منهج الماركسية، منهج المادية التاريخية. يفهم الماركسيون مثل لينين الطابع التقدمي لهذا التطور، الذي لا يوسع قوى الإنتاج فحسب، بل ويضع الأساس لشكل جديد أعلى من أشكال المجتمع. إن الرأسمالية، من خلال خلقها لقوى إنتاجية جديدة ولطبقة عاملة قوية، تضع الأساس للثورة الاشتراكية، التي تتدفق كضرورة من تلك الظروف وليس باعتبارها مجرد يوتوبيا متخيلة. وقد كان افتقار النارودنيين لهذا المفهوم هو السبب الجذري لخلاف لينين معهم:

«ربما يكون السبب الأعمق للخلاف مع النارودنيين هو الاختلاف في وجهات نظرنا الأساسية حول السيرورات الاجتماعية والاقتصادية. فعند دراسته لهذه الأخيرة، عادة ما يستخلص النارودني استنتاجات تشير إلى جوانب أخلاقية؛ فهو لا يعتبر المجموعات المتنوعة من الأشخاص المشاركين في الإنتاج على  أنهم مبدعون لمختلف أشكال الحياة؛ وهو لا يعمل على تقديم مجموع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية باعتبارها نتيجة للعلاقات المتبادلة بين تلك المجموعات التي لها مصالح مختلفة وأدوار تاريخية مختلفة».

لقد أثبتت الأحداث، وقبل كل شيء، الثورة الروسية نفسها، صحة التحليل الوارد في هذا الكتاب. إن خلد التطور الرأسمالي في روسيا، الذي استمر يحفر على مدى عقود، قد قوض تماما الاستبداد القيصري العتيق وأدى إلى انهياره. لكن في الوقت الذي كان فيه الاستبداد الروسي على وشك الانهيار، كانت الرأسمالية على المستوى العالمي قد استنفدت ضرورتها التاريخية. وكانت، في الوقت نفسه، قد خلقت طبقة عاملة قوية في روسيا.

وفي النهاية، لم يكن هؤلاء الرأسماليون الروس الضعفاء والخانعون هم الذين وصلوا إلى السلطة بعد انهيار النظام القيصري، بل الطبقة العاملة، التي استولت على السلطة وأنشأت معقلا للثورة الاشتراكية العالمية، بقيادة لينين والبلاشفة، الذين درسوا تلك السيرورة العميقة، وأدركوا أهميتها الثورية الكاملة قبل عقود من الزمن.


في الأسبوع القادم، وفي سلسلتنا حول لينين خلال عام، سندخل السنوات المضطربة من القرن العشرين بإلقاء نظرة على كراس لينين بما نبدأ؟، الذي نُشر عام 1901. فبعد هروبه من المنفى في سيبيريا، واجه لينين تشتت قوى الماركسية الروسية. وألقى بكل ثقله في النضال من أجل توحيد الحزب في قوة قادرة على الوصول إلى الجماهير.

فإذا كنت شيوعيا/ة، التحق بنا لبناء أممية ثورية، وشارك في عملية إعادة بناء حزب لينين على أساس التقاليد الحقيقية للبلاشفة. تسجل الآن لحضور كونفرانس إعلان الأممية الشيوعية الثورية في يونيو، وانضم إلينا الآن في النضال من أجل الشيوعية اليوم.

Lenin in a year: The Development of Capitalism in Russia (1899)