الرئيسية / دول العالم / أمريكا / الولايات المتحدة / تجارب نضالية: ابق حيا وقاوم

تجارب نضالية: ابق حيا وقاوم

ننشر هنا هذه المقالة للرفيقة ي.ل.، من الفرع الأمريكي للتيار الماركسي الأممي، التي تسرد فيها تجربتها الخاصة مع المعاناة النفسية والاكتئاب والتحاقها بعد ذلك بصفوف التيار الماركسي الأممي.


تحتوي هذه المقالة على توصيف للمرض العقلي وإيذاء النفس والانتحار وهمجية الرأسمالية. إنها ليست قصة واضحة وخطية عن الشعور بالحزن، ثم “إصلاح” الشخص باستخدام الماركسية. الواقع معقد، ونحن بحاجة إلى قبول هذا لفهمه – وتغييره.

يمكنكم القول إنني مررت بمرض عقلي شديد. لا يمكنني إحصاء جميع الأخصائيين والأطباء النفسيين الذين زرتهم، والذين قدموا لي جميع أنواع التشخيصات – الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب واضطراب الشخصية الحدية واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD)، واضطراب ما قبل الطمث الاكتئابي(PMDD)- وحوالي 30 دواءً نفسيًا مختلفًا. لقد جربت كل علاج يمكنني الوصول إليه، حتى إنني جربت بعض الـ”علاجات” الزائفة. بعضها ساعدني، لكن ليس كثيرًا. لقد فقدت الأمل تمامًا في أن تقلباتي المزاجية الشديدة والانفصال عن الواقع والألم المزمن وتصورات إيذاء النفس العنيفة ستختفي يومًا ما.

لم يكن لدي “خلل كيميائي”، كما يسميه الأشخاص الذين يستفيدون من بيع هذه الأدوية. لقد كانت أيضًا أكثر من مجرد “أفكار سلبية”. إن السبب الحقيقي لمشاعري هو أن كوني على قيد الحياة يعني الغرق في العمل. لقد قضيت حياتي البالغة في الذهاب إلى المدرسة بدوام كامل، وعادة ما أعمل في وظيفتين، وعادة ما يكون ذلك بمقابل يقل عن الحد الأدنى للأجور. إن التفكير في “العمل والعمل والعمل” لمدة 40 إلى 50 عامًا أخرى خلال محاربة كل هذه الأعراض المؤلمة كان أحيانًا يبقيني في الفراش حتى الساعة 3 عصرًا في أيام إجازتي النادرة. إضافة إلى ذلك، فإن الشعور بالعار لكوني شخصًا من المفترض أنه غير راغب في العمل الجاد جعلني أشعر بأنني بلا قيمة. ومشكلتي في جوهرها هي أنني لم يكن لدي سبب أساسي للبقاء على قيد الحياة. لا يمكن لأي طبيب إصلاح هذه المشكلات.

وأسوأ ما في القصة هو أن هذا هو أفضل احتمال يمكن أن يحصل عليه كل أولئك الذين لا يمتلكون أي صناديق استئمانية(1). وأنا واحدة من ذوي “الامتياز”. يحصل آخرون على رواتب أقل مقابل المزيد من العمل، ويموتون في الحروب، ويعانون من عنف العصابات، وتجارة الجنس، وما إلى ذلك. كل هذا، وفكرة الجلوس في مكتب مكيف طوال اليوم تجعلني أرغب في إيذاء نفسي؟ لماذا أنفقت آلاف الدولارات على الأخصائيين والأطباء للشكوى من ذلك، ومع ذلك ما زلت في حالة من الفوضى؟ “مشكلات العالم الأول”، يا لي من شخص ضعيف وجاحدة للنعم ومنكسرة داخليًا! اعتقدت أنني لا أستحق أن أكون على قيد الحياة.

التقيت ببعض الرفاق من التيار الماركسي الأممي في أكتوبر 2019، وحضرت اجتماعًا معهم، وقضيت وقتًا ممتعًا. لكن في الليالي التي تلت ذلك اليوم، لم أنم كثيرًا. لسوء الحظ، لم يكن اجتماعًا واحدًا كافيًا لجعل الحياة تبدو تستحق العيش. كنت أقضي ساعات كل ليلة في البحث عن كيفية الموت المؤكد بسرعة، وبدون ألم، وبطريقة لا تؤذي أي شخص آخر. كانت مهمة صعبة بشكل كبير. أخيرًا اخترت طريقة وبدأت في تصفح الأنترنت للترتيب لشراء ما أحتاجه. تلقيت شهورًا بعدها إعلانات مستهدفة لهذه الأشياء.

من الواضح أنني لم أقدم على ذلك. دخلت المستشفى وتحملت ست ساعات من المقابلات المهينة. لم يكن أسوأ شئ اختبرته هو خطة الانتحار – لقد تم التعامل معي كأنني حيوان في الحديقة لجمهور من طلاب الطب. في الداخل، قابلت امرأة كان لديها سابقًا مشروعًا صغيرًا مربحًا، لكنها أصيبت بالسرطان. تعافت، لكن الفواتير الطبية استنزفت كل ما لديها، لذلك أصبحت بلا مأوى وحاولت الانتحار. كانت تنتظر في الصف في الكافتيريا، التفتت إلي وقالت بهدوء شديد: “هذا العالم قاسٍ للغاية ولا يمكنني العيش فيه بعد الآن”. اتفقت معها تمامًا، لأنني كنت أعرف أن ما مرت به يمكن أن يحدث – ويحدث كثيرًا – لأي شخص تقريبًا في الولايات المتحدة.

لقد مكثت مدة خمسة أيام في المستشفى، كنت أصطنع التحسن حتى يسمحوا لي بالمغادرة. عندما كنت في المستشفى، فاتني اجتماع للتيار الماركسي الأممي، لكنني عقدت العزم على العودة بانتظام منذ ذلك الحين. اعتقدت، أنه إذا كانت الحياة ألم مستمر، فسوف أجد سببًا لمقاومة ذلك. لكن لأكون صريحة، حتى تلك اللحظة لم أكن متفائلة جدًا بشأن التيار الماركسي الأممي.

تشاؤم “اليسار”

جعلتني تجربتي مع “اليسار” عمومًا متشككة للغاية في أي منظمة سياسية. كنت أعد نفسي يسارية منذ مدة طويلة. لسوء الحظ، فإن معظم “اليساريين” في أمريكا محبطين بشكل لا يصدق. مثل العديد من الشباب، كنت مفتونة تمامًا بسياسات الهوية. لقد كان الخيار الوحيد الذي رأيته أمامي إذ لم أكن أريد أن أكون رجعية، لذلك انخرطت فيه. كنت “محاربة من أجل العدالة الاجتماعية” على استعداد لوصم الآخرين بشجاعة بالعار بصوت عالٍ. لقد قضيت ساعات في المعارك عبر الإنترنت. كنت أركب دراجتي وأقودها في منتصف الشارع وأصرخ في وجه السائقين لأنهم “يدمرون البيئة”. لكن كل هذا جعلني أشعر بمزيد من الانفصال عن الواقع والانهزام والاكتئاب والخجل لإيذاء الآخرين أيضًا. وكل الحديث عن “الامتياز” – الفردانية البرجوازية المقنعة – جعلني أشعر أن هذا خطأي بالكامل، ولا يمكنني فعل شئ أبدًا حيال ذلك.

لقد اعتقدت حقًا أن باراك أوباما سوف يجلب لنا الأمل والتغيير. لكنه بعد ذلك أنقذ وول ستريت على حسابنا، وهجر الناس وقصفهم. وخسر بيرني ساندرز، على ما يبدو بسبب أشخاص مثل أوباما. هذا مؤلم. لقد شعرت بالألم أكثر عندما علمت أن بيرني ساندرز لم يخسر حقًا – لقد استسلم. لقد لعب نفس اللعبة. لقد كان في فريقهم.

لقد أيقنت أنني يجب أن أنضم إلى منظمة “يسارية”. وقد قدمت طعام مجاني مع منظمة خيرية محلية، لكن ذلك لم يعالج المشكلات على مستوى المجتمع. وانضممت إلى “فرقة مسيرة أناركية”، لكن “البروفات” كانت مضيعة للوقت. وعندما ظهر الاشتراكيون الديمقراطيون (DSA) في منطقتي في عام 2017، كنت متحمسة. أخيرًا منظمة اشتراكية!

لقد كنت أعرف نفسي بأنني اشتراكية منذ أن قرأت البيان الشيوعي وتعلمت أن الاشتراكية ستضمن لكل شخص ضروريات الحياة، وتقلص أسبوع العمل بشكل كبير، وتحسن ظروف العمل بواسطة ديمقراطية عمالية حقيقية. بالنسبة لي، كان ذلك مهولًا. إن التحول الاشتراكي للمجتمع من شأنه أن يعالج الأسباب الحقيقية لأزماتي النفسية، بدلًا من “إعادة صياغة أفكاري”. يمكن لماركس وأنجلز أن يفسروا حقيقة مشاعري – الاغتراب الشديد الناجم عن نمط الإنتاج الرأسمالي.

لكن عندما ذهبت إلى اجتماع الاشتراكيين الديمقراطيين، وجدت نفس الشيء القديم. حملات من أجل دعم بيرني ساندرز. صوتوا لهذا الديموقراطي. استقلوا الحافلات إلى الحدود واصرخوا في وجه قوات إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك (ICE). لقد علمت لاحقًا أن هذه الفوضى تُسمى “الحركية المفرطة” وهي تؤدي حتمًا إلى شيء يُسمى “الاحتراق”. يحرق الناس قلوبهم وأرواحهم في الحملات، ثم عندما يخسر مرشحهم – أو يفوز ولا يفعل شيئًا – ينهارون. ثم يحاولون اتباع التكتيكات اليسارية المتطرفة مثل تعريض أنفسهم للاعتقال عن قصد. عندما لا ينجح ذلك، فإنهم يعودون مباشرة إلى الديمقراطيين. لقد افترضت حينها للتو ألا وجود منظمة جادة بما يكفي لانتصار الاشتراكية.

تفاؤل ثوري

عندما قابلت رفاق التيار الماركسي الأممي، قلت: “حسنًا، هؤلاء أفضل بكثير من الاشتراكيين الديمقراطيين، لكن يبدو أنهم ثماني أشخاص فقط”. لم يكن لدي في البداية، خلال اجتماعات الفرع المحلي، أي فكرة عما يتحدثون عنه معظم الوقت، مع أنني كنت قد قرأت البيان الشيوعي. وقد اتضح لي أن الإنسان لا يمكن أن يصبح بلشفيًا في يوم واحد. لم أكن أعرف حتى ما هي البلشفية في ذلك الوقت.

لم يكن الأمر ممتعًا في البداية، لكن ذلك جذبني في الواقع، لأنني سئمت من التلاعب. لم يعدني أحد بطرق مختصرة أو إجابات سهلة. لم يكذبوا قط ولم يحاولوا التلاعب بي. كانوا قادرين على دعم ادعاءاتهم بحقائق. لقد ساعدوني في تعلم كيف يسير العالم حقًا، ومن أين تأتي كل هذه المعاناة حقًا: إنها تتلخص في حقيقة أن الإنتاج مملوك ومسيطر عليه من الطبقة الرأسمالية، وليس الأشخاص الذين ينتجون بالفعل. إن الرأسماليين هم الأشخاص ذوي الامتيازات وعديمي الفائدة حقًا. كل الذنب والعار الذي كاد أن يقتلني جاء من الأكاذيب التي يقولها الرأسماليون على وجه التحديد لمنع العمال من الاستيلاء على السلطة.

ما حسم الأمر حقًا بالنسبة لي هو دراسة التاريخ الثوري. تشكل الجماهير، بأعجوبة، مرارًا وتكرارًا لجانها وجيوشها وتكافح من أجل نفسها – في كثير من الأحيان، كل ذلك دون وجود ماركسيين حولها. ولكن بعدم وجود ماركسيين لربط برنامج لتغيير المجتمع بالجماهير، فإن هذه الحركات تموت. بالنسبة لي، أصبح الاختيار سهلًا. كان علي أن أكون واحدة من هؤلاء الماركسيين، وأن أحاول أن أجعل المزيد من الناس ماركسيين.

لقد تحولت إلى شخص يتمتع بتفاؤل ثوري لا يتزعزع، وشعور ثابت بالقيمة ازداد قوة بمرور السنوات. لقد ساعدت في تحويل الفرع المحلي الصغير للتيار الماركسي الأممي في منطقتي إلى فرع محلي يضم الكثيرين. منذ عام 2019، انتابتني نوبة واحدة فقط من الرغبة في الموت، واستمرت تلك النوبة لوقت أقل من وقت الذهاب إلى متجر للأدوات المعدنية. سرعان ما تلاشى دافع الموت بتذكر أن الأحداث العظيمة تنتظرني ولا أرغب أبدًا في تفويتها.

ثم جاء عام 2020. أنا لا أتحدث عن الفيروس. أنا أتحدث عن أكبر حركة جماهيرية في تاريخ أمريكا. لقد قتل شرطي رجلًا أسودًا وتظاهر عشرات الملايين من الأمريكيين من كل أركان البلاد في آلاف المدن والبلدات الصغيرة. وحذت ستون بلدًا أخرى حذونا. ربما، بالرغم من كل شئ، لم يكن الأمريكيون دائمًا متخلفين للغاية، أو “يتمتعون بامتيازات زائدة”، ورجعيين. ربما يمكننا الكفاح والفوز.

ماذا لو كنت مت، باختياري، في عام 2019، ولم أري مع حدث مطلقًا؟ لا يمكنني التعبير بالكلمات عما أشعر به حيال هذا الاحتمال. الصدمة والراحة والخوف. لا توجد كلمة تعبر بشكل كافٍ.

انتهى الأمر بالحركة، لسوء الحظ، إلى الموت في مقبرة الديمقراطيين. مرة أخرى، لم يكن هناك سوى عنصر واحد مفقود: القيادة الثورية. لحسن الحظ، هذا هو الشيء الوحيد الذي نتحكم فيه. يمكننا بنائه.

الديالكتيك

لذا، أنا “أفضل” الآن، ولكن ما زلت أعيش أيام سيئة للغاية. إن التعافي ليس خطيًا، ولا تقدم الإنساني أيضًا. إذا كنا نتوقع تحسينات تصاعدية مستمرة، فسنواجه حتمًا الهزيمة. يجب أن نسعى، بدلًا من ذلك، لفهم كيفية عمل الواقع حقًا – بالحركة الديالكتيكية، حيث تؤدي التناقضات إلى تغييرات متفجرة. لذا، يجب ألا تكون سنوات الركود محبطة، إذا فهمنا أن الإضرابات والتمردات والثورات قادمة بالتأكيد – ويمكن الفوز بها، إذا استعدينا لها بشكل صحيح.

إن مصدر العنف والاستغلال والقمع الذي لا يوصف في العالم، حاليًا، هو الرأسمالية. لكن الرأسمالية جاءت بسبب تقدم قوى الإنتاج – إبداع وبراعة أسلافنا. لن تكون الحرية الشيوعية ممكنة بدونها. إن الواقع مؤلم بشكل ساحق ورائع في نفس الوقت.

سيكون العقدين المقبلين نقطة تحول في تاريخ البشرية. تتسارع تناقضات الرأسمالية. ويموت الملايين بسبب الجائحة، بالإضافة إلى موت تسعة ملايين شخص من الجوع كل عام. سيكون هناك المزيد من حالات الركود الرهيب، وعمليات إطلاق النار الجماعية، والكوارث المناخية.

أخشى من المستقبل بسبب هذا، لكن في نفس الوقت، لا أريد أن أفوته أبدًا. لأنني أعلم أن الطبقة العاملة، الأشخاص المسؤولين عن كل شيء جيد في العالم، سوف يقاومون. بصفتي ملحدة طوال حياتي، لدي إيمان كامل في طبقتنا. إن العنصر الوحيد المفقود لمساعدة طبقتنا على تغيير المجتمع هو القيادة الماركسية الواعية. هناك كتب تناقش كيفية بناء مثل هذه القيادة، كتبها أشخاص بنوا تلك القيادة من قبل. وهناك الآلاف من الرفاق/ات منظمين في أممية واحدة، ينشطون في أكثر من 40 بلد حول العالم، ويبنونها الآن. إن الاشتراكية في حياتنا مطروحة تمامًا على جدول الأعمال.

المسألة بسيطة جدًا. إذا شعرت يومًا بما شعرتُ به أنا من قبل، فأنت بحاجة إلى البقاء على قيد الحياة والانضمام إلى التيار الماركسي الأممي.

ي.ل.

20 يوليو/تموز 2022

الهوامش:

(1) الصندوق الاستئماني هو كيان قانوني يحتفظ بالأصول ويديرها نيابة عن فرد أو كيان آخر.

ترجم عن النص الأصلي:

Stay Alive and Fight: Why I Joined the IMT