“إن مسألة ما إذا كان من الممكن أن يتم الاعتراف للفكر البشري بالحقيقة الموضوعية ليست مسألة نظرية، بل هي مسألة عملية. فالممارسة هي المحك الذي يجب على الإنسان أن يثبت فيه الحقيقة -أي واقع وقوة تفكيره في هذا العالم. فالخلاف حول واقعية أو عدم واقعية فكرة معزولة عن الممارسة هو خلاف سكولاستيكي محض”. (ماركس، الأطروحة الثانية حول فيورباخ)
لقد احتلت مشكلة المعرفة مكانة مركزية في الفلسفة لعدة قرون. لكن هذه المشكلة المزعومة لا تنشأ إلا عندما نتعامل مع المعرفة الإنسانية باعتبارها:
أ) شيء منفصل عن الجسم المادي، و
ب) شيء منفصل عن العالم المادي.
ما لدينا هنا هو وجهة نظر أحادية الجانب للوعي، والذي يتم تقديمه وكأنه حاجز من المفترض أن يعزلنا عن العالم “الخارجي” في الواقع، نحن جزء من هذا العالم، ولسنا منفصلين عنه، والوعي لا يعزلنا عنه بل يربطنا به. إن علاقة البشر بالعالم المادي منذ البداية لم تكن علاقة تأملية، بل علاقة نشطة.
نحن لا نفكر بدماغنا فقط، بل بجسدنا كله. يجب أن ننظر إلى التفكير، ليس على أنه نشاط منعزل (“شبح داخل آلة”) بل على أنه جزء من التجربة الإنسانية بأكملها، جزء من النشاط الحسي البشري والتفاعل مع العالم ومع الآخرين. يجب أن يُنظر إليه بكونه جزءا من هذه السيرورة المعقدة من التفاعل الدائم، وليس كنشاط منعزل يتم وضعه بشكل ميكانيكي إلى جوارها.
ترفض المادية الفكرة القائلة بأن العقل والوعي والروح، وما إلى ذلك، أشياء منفصلة عن المادة. ليس التفكير إلا نمط وجود الدماغ، الذي، مثله مثل الحياة نفسها، ليس سوى مادة منظمة بطريقة معينة. العقل هو ما نسميه مجموع نشاط الدماغ والجهاز العصبي. لكن، ديالكتيكا، الكل أعظم من مجموع أجزاءه.
هذه النظرة المادية تتوافق بشكل وثيق مع خلاصات العلم، الذي يعمل تدريجيا على اكتشاف عمل الدماغ ويبين أسراره. وعلى النقيض من ذلك، يصر المثاليون على تقديم الوعي باعتباره “لغزا”، على أنه شيء لا يمكننا فهمه. وعند هذه النقطة، تعود صديقتنا القديمة، الروح، إلى الظهور منتصرة برفقة قدس الأقداس، والملائكة، والشيطان، وكل ما تبقى من الخزعبلات الصوفية التي كان ينبغي للعلم أن يودعها المتحف منذ زمن بعيد.
ديكارت والثنائية
وراء الواجهة المحترمة للمثالية الفلسفية يختبئ الدين والخرافة. المثالية هي دائما الدين، في جوهرها. من المفترض أن الروح الطاهرة والأبدية محبوسة داخل الجسد المادي الوضيع وغير الكامل وقصير العمر، ومشتاقة إلى التحرر في لحظة الموت، عندما “نسلم الروح” ونصعد إلى الفردوس (إذا كنا محظوظين).
بهذه الطريقة، كان يُنظر إلى المادة على أنها مواطن من الدرجة الثانية، على أنه فلاح قذر، مقدر له أن يفسح المجال أمام جلالة الروح الخالدة. وهذه الفكرة قديمة قدم أفلاطون وفيثاغورس على الأقل، اللذين رأيا العالم المادي على أنه نسخة سيئة للفكرة (النموذج) المثالية، التي كانت موجودة قبل وجود العالم.
وقد انتقلت فكرة وجود الروح بشكل مستقل عن الجسد، إلى العصر الحديث على يد الفيلسوف الفرنسي الشهير ديكارت (1596-1650). لقد أربك الأمر حينها، وقد أربك الأمر منذ ذلك الحين. لقد طرح فكرة الثنائية التي تقول إن الفكر (الوعي) شيء منفصل عن المادة. هنا يعتبر العقل شيئا موجودا داخل الجسد، ولكنه مختلف تماما عنه. وتكمن الصعوبة التي لا يمكن التغلب عليها في الثنائية في الآتي: إذا كان العقل مختلفا تماما عن الجسد المادي، فكيف يمكنهما أن يتفاعلا؟
يكمن الخطأ في التعامل مع الوعي على أنه “شيء”، على أنه كيان مستقل، مفارق ومنفصل عن النشاط الحسي البشري. لقد نفى العلم الحديث إلى الأبد فكرة الوعي باعتباره “شيئا” مستقلاً. نحن نعرف الآن ما لم يكن ديكارت يعرفه عن طريقة اشتغال الطبيعة، وعالم الجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية، وعن النبضات الكهربائية التي تحكم عمل الدماغ. وبدلا من الروح الغامضة، بدأنا في اكتساب فهم علمي لكيفية عمل الجسم البشري والدماغ.
عمل الخلايا العصبية هو كهربائي وكيميائي. توجد في نهايات كل خلية عصبية مناطق متخصصة، تسمى التشابكات العصبية، والتي تحتوي على أعداد كبيرة من الأكياس الغشائية الصغيرة التي تحتوي على مواد كيميائية للناقلات العصبية. تنقل هذه المواد الكيميائية النبضات العصبية من خلية عصبية إلى أخرى. بعد انتقال دفعة عصبية كهربائية على طول الخلية العصبية، تصل إلى النهاية وتحفز إطلاق الناقلات العصبية من أكياسها.
تنتقل الناقلات العصبية عبر المشبك العصبي (الوصل بين الخلايا العصبية المجاورة) وتحفز إنتاج شحنة كهربائية، والتي تحمل النبض العصبي للأمام. تتكرر هذه العملية مرارا وتكرارا حتى يتم تحريك العضلة أو استرخائها أو ملاحظة انطباع حسي من قبل الدماغ. ويمكن اعتبار هذه الأحداث الكهروكيميائية “لغة” الجهاز العصبي، التي تنتقل من خلالها المعلومات من جزء من الجسم إلى آخر. يلغي هذا التفسير العلمي على الفور وجهة النظر الصوفية المثالية التي تعتبر الفكر والوعي شيئا غامضا وغير قابل للتفسير، شيئا منفصلا عن الاشتغال العادي للطبيعة والوظائف الجسدية الأخرى.
اليد والدماغ
إن النظرة المثالية للوعي واللغة تتعارض مع حقائق التطور البشري. إنها مجردة وتعسفية. كما أنها غير تاريخية. تم تحديد علاقة البشر الأوائل (والبشر البدائيين) بالبيئة المادية من خلال الحاجة إلى العثور على الطعام والهروب من الحيوانات المفترسة. أدى الوضع المنتصب (الذي نتج عن التغيرات البيئية من خلال تغير المناخ) إلى تحرير اليدين، الذين صار من الممكن آنذاك استخدامهما في العمل اليدوي.
ينشأ الوعي من تطور الدماغ والجهاز العصبي المركزي. ويرتبط هذا التطور بدوره ارتباطا وثيقا بالنشاط العملي البشري، أي العمل. يغير البشر بيئتهم من خلال العمل الجسدي، وإذ يقومون بذلك يعملون أيضا على تغيير أنفسهم. وقد حدثت هذه السيرورة على مدى ملايين السنين، ولها جذورها في المراحل المبكرة من التطور، وعلى وجه الخصوص، الانتقال من اللافقاريات إلى الفقاريات، مما يؤدي إلى تطور الجهاز العصبي المركزي وفي نهاية المطاف الدماغ.
العلاقة بين اليد والدماغ موثقة جيدا. أدت زيادة البراعة اليدوية وتطور الأنشطة اليدوية المتعددة إلى نمو سريع للدماغ وزيادة القدرة على التفكير. وفي الواقع هناك علاقة ديالكتيكية بين كبر حجم الدماغ والوضعية المنتصبة وتطور اليد لأداء عمليات محددة. اليد البشرية إنتاج رائع للتطور! إن انفصال الإبهام عن بقية أصابع اليد هو التكيف الأول الذي يسمح بالإمساك والتحكم في الأشياء. هذا هو الشرط المسبق لكل التطور اللاحق.
استخدمت الرئيسيات (The apes) أيديها للتأرجح على الأشجار. كما استخدمتها أيضا للإمساك بالعصي وفي بعض الحالات كأدوات بدائية للقيام بعمليات معقدة جدا مثل الحفر بحثا عن النمل. وبمجرد أن اتخذ أسلافنا القدامى الوضعية المستقيمة، أصبحت الأيدي حرة لتجربة العديد من العمليات الأخرى. ومع الممارسة المستمرة، أصبحت الأيدي أكثر مهارة وقدرة على أداء عمليات أكثر دقة وتعقيدا، وخاصةً التعامل مع الأشياء الطبيعية كأدوات.
اليد هي التي طورت الدماغ، وليس العكس. ويمكن رؤية هذا أيضا في الحيوانات الدنيا، فهي لا تتأمل العالم، بل تأكله. وبنفس الطريقة “يعرف” الطفل البشري العالم من خلال وضعه في فمه. وبالمثل، فإن اللغة ليست “أداة”، مثل المطرقة أو المجرفة التي يتم صنعها واستخذامها حسب الرغبة. في الواقع، تتطور اللغة مع الوعي، نتيجة للتواصل الاجتماعي والإنتاج الجماعي. إنها ليست “مصنوعة” بل تنشأ بشكل عفوي من النشاط البشري الجماعي والحياة الاجتماعية على مدى فترة طويلة من الزمن.
لا بد أن الاستخدام المنتظم للأدوات والعمل الجماعي قد استلزم نوعا من اللغة، مما أدى إلى إطلاق سلسلة كاملة من العوامل المترابطة. جميع الوظائف الجسدية والعقلية ترتبط ارتباطا وثيقا. وبشكل ديالكتيكي يصير السبب نتيجة، والنتيجة تصير سببا. ترتبط اليد البشرية ارتباطًا وثيقا بالعين والدماغ، كما أن التنسيق اللازم لصنع حتى أشد الأدوات الحجرية بدائية هو تنسيق كبير. البشر يصنعون ويستخدمون الأدوات، والارتباط بين اليد والعين والدماغ اللازم لصنع الأدوات هو ما دفع تطور الدماغ على مدى ملايين السنين. “يبدو أن استخدام الأدوات قد سبق النمو الكبير للدماغ لدى الإنسان ويرتبط بالحفريات البشرية من نوع أسترالوبيثكس”[1].
من الواضح أن التصنيع الواعي للأدوات الحجرية الأولية كان القوة الدافعة لتكوين المفاهيم الأولية وبالتالي تطور التفكير. ولا شك أن هذا كان له تأثير على البنية الداخلية للدماغ، والذي تجلى في نمو حجم الدماغ. وقد مثلت هذه التحولات في مجملها النقلة النوعية التي فصلت الإنسانية عن سائر أشكال المادة الحية. ولذلك فإن جنسنا البشري ليس صنيعة لإله، بل هو نتاج التطور، الذي كان العمل اليدوي هو العنصر الحاسم فيه. وهكذا، كما أوضح إنجلز منذ أكثر من مائة عام، لم يكن الدماغ هو الذي طور إنسانيتنا، بل اليد هي التي طورت الدماغ.
ثورة ماركس الفلسفية
كتب ماركس في أطروحته الثالثة عن فيورباخ :
“إن المذهب المادي القائل بأن الناس هم نتاج الظروف والتربية، وبالتالي فإن تغير الناس هو نتاج لتغير الظروف وتغير التربية، ينسى أن الناس هم الذين يغيرون الظروف وأن المعلم نفسه يجب أن يتعلم. ومن ثم فإن هذا المذهب لا بد أن يقسم المجتمع إلى قسمين، أحدهما متفوق على المجتمع.إن تزامن تغير الظروف والنشاط البشري أو التغيير الذاتي [ Selbstveränderung ] لا يمكن تصوره وفهمه عقلانيا إلا كممارسة ثورية.”
تحتوي هذه الجمل القليلة المركزة على ثورة فلسفية. لقد اقترب الفيلسوف الألماني العظيم هيغل من اكتشاف الحقيقة، لكنه وعلى الرغم من عبقريته الهائلة، فشل في القيام بالقفزة الحاسمة من النظرية إلى الممارسة، حيث أعمته تصوراته المثالية المسبقة. عند هيغل، بقي الديالكتيك غامضا، وبقيت حقائقه العميقة مخفية في كتلة من التفكير المجرد والغامض. لقد تطلب الأمر عبقرية ماركس لاكتشاف النواة العقلانية المختبئة في صفحات منطق هيغل وتطبيقها على العالم المادي الحقيقي.
مع ماركس، خرجت الفلسفة أخيرا من القبو المظلم والمغلق الذي كانت محصورة فيه طيلة قرون من قبل الفكر السكولاستيكي، وتم سحبها إلى ضوء النهار. هنا اتحد أخيرا الفكر مع النشاط، وتم القطع مع النشاط الفكري المحض الأحادي الجانب للسكولاستيكي، لصالح النشاط الإنساني الحقيقي الحسي. رد الشاعر الألماني العظيم غوته، ردا على مقولة الكتاب المقدس بأنه “في البدء كانت الكلمة”، قائلا: “في البدء كان الفعل “.
لكن النشاط البشري الحقيقي (العمل) ليس نشاط ذرات معزولة. إنه بالضرورة نشاط جماعي في جوهره. إن تجميع الجهود الفردية ومساعي وإبداع الرجال والنساء هو الذي يؤدي إلى ظهور كل عجائب الحضارة. إنه التحقيق الملموس لما أسماه هيغل بوحدة الخاص والعام. ومع ذلك، فقد تم إنكار هذه الوحدة الضرورية بعناد. يتم تقديم أفكار وأفعال البشر، ليس كنشاط جماعي، ولكن كعمل لأفراد معزولين.
هذه الفكرة الخاطئة هي في الوقت نفسه انعكاس للتحيز البرجوازي ومحاولة لتبرير هياكل وأخلاق وقيم المجتمع البرجوازي، وهو المجتمع الذي يقال إن الأنا (“الفرد”) هي التي تسوده. في الواقع، يتم سحق فردانية الأغلبية العظمى واستعبادها لصالح فردانية حفنة صغيرة تمتلك وتتحكم في وسائل الإنتاج وبالتالي مفتاح الحياة نفسها. ولكي نقول الحقيقة كاملة، نضيف أنه حتى تلك الأقلية تخضع لقوى لا تتحكم فيها.
الاغتراب والمجتمع البرجوازي
سبق للراحلة غير المأسوف عليها، مارغريت تاتشر، أن قالت عبارتها الشهيرة: “ليس هناك شيء اسمه مجتمع” . لكن عندما قال أرسطو إن الإنسان حيوان سياسي، فقد كان يقصد: الإنسان حيوان اجتماعي. إن مفتاح التنمية البشرية (بما في ذلك التفكير والكلام) هو النشاط الاجتماعي، وهذا له جذوره في العمل الجماعي. سبق لهيغل أن قال إن ثراء شخصية الإنسان نابع من ثراء علاقاته. والشخص الذي تقطعت به السبل في جزيرة مهجورة أو احتُجز لسنوات عديدة في حبس انفرادي سيجد قدرته على التفكير والتواصل ضعيفة للغاية.
تميل الرأسمالية إلى عزل وتفتيت وتنفير الناس، الذين يتم تعليمهم رؤية أنفسهم باعتبارهم “أفرادا”، أي ذرات معزولة. وهذا يعكس الواقع الاجتماعي للبرجوازيين والبرجوازيين الصغار، اللذين يتنافسون باستمرار ضد بعضهم البعض. وهذا يجد انعكاسه في السياسة والدين والفلسفة. لقد شنت البرجوازية أولى معاركها الكبرى ضد الإقطاع في الحروب الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر عندما طالب البروتستانت بحق كل فرد في عبادة الرب على طريقته.
كانت الفردانية البرجوازية قوة تقدمية في فترة صعود الرأسمالية، عندما كانت البرجوازية ما تزال قادرة على تطوير القوى المنتجة ودفع آفاق الحضارة والثقافة الإنسانية إلى الأمام. لكن ذلك العصر انتهى. وفي عصر الانحطاط الرأسمالي، أصبحت الفردانية مجرد أنانية وتمركز على الذات وعداء للبشر الآخرين. إنها تولد اللامبالاة تجاه معاناة الآخرين وتثير مواقف وسلوكيات همجية تهدد بتقويض أساس الثقافة والحضارة.
نحب جميعا أن نعتقد أننا “أحرار” في فعل ما نحب، لكن هذا ليس هو الواقع. وكما لاحظ الفيلسوف الألماني لايبنتز ذات مرة، فإن لو كان بإمكان الإبرة المغناطيسية أن تفكر، فمن المؤكد أنها ستتخيل أنها تشير إلى اتجاه الشمال بمحض إرادتها. في القرن التاسع عشر، بذل داروين جهدا كبيرا لإظهار أن البشر ليسوا مخلوقات خاصة صنعها الإله، بل تطوروا من عالم الحيوان. وفي القرن العشرين أثبت فرويد أن العديد من أفعالنا لا واعية وأن “الإرادة الحرة” هي في الحقيقة مجرد وهم.
ومع ذلك، ففي كل مرحلة، حاول الرجال والنساء إنكار هذه الحقائق وسعوا إلى تأكيد مكانة خاصة ومتميزة للبشر في النظام العظيم للأشياء. إن فكرة أننا لسنا فاعلين أحرارا وأن أفعالنا تحددها قوى لا نستطيع فهمها والسيطرة عليها هي فكرة بغيضة للغاية بالنسبة لنا. ومع ذلك، كما أوضح هيغل، فإن الحرية الحقيقية ليست إنكار الضرورة، بل فهم الضرورة.
الوعي تحدده البيئة المادية. لو كان ألبرت أينشتاين قد ولد في كوخ فلاح في إحدى القرى الهندية، فربما كان ذكاؤه الفطري قد جعل منه خبيرا في زراعة الأرز، لكن هل يعتقد أحد أنه كان سيكتشف النظرية النسبية؟ تساءل تروتسكي ذات مرة: “كم من أرسطو يرعون الخنازير، وكم من رعاة خنازير جالسون على العروش؟”.
إن النظرة البرجوازية بأكملها أنانية. لكن الأمور مختلفة تماما بالنسبة للطبقة العاملة. يوضح ماركس أن الطبقة العاملة بدون تنظيم، تكون مجرد مادة خام للاستغلال. فالعمال ملزمون بالتعاون في العمل الجماعي، على خط الإنتاج، حيث يكون نمط الإنتاج اجتماعيا وليس فرديا. يمكن للفلاح أن يقول: لقد زرعت هذا الملفوف. لكن لا يستطيع أي عامل في شركة فورد أن يقول: أنا من صنعت تلك السيارة.
ومن ثم فإن وعي العامل جماعي بطبيعته، وأسلحة نضال الطبقة العاملة جماعية بطبيعتها: الإضراب، والإضراب العام، والاجتماع الجماهيري، والمظاهرات الجماهيرية. الفردانية هي السمة المميزة لكاسر الإضراب الذي يضع مصالحه الأنانية فوق مصالح زملائه في العمل. ولهذا السبب تشيد الصحافة الرأسمالية دائما بـ”شجاعة” كاسري الإضرابات الذين يُزعم أنهم يدافعون عن “حرية الفرد”.
يصنع الرجال والنساء تاريخهم الخاص من خلال النضال من أجل تغيير وتشكيل الظروف المحيطة بهم. إلا أننا إذ نغير الظروف الاجتماعية، فإننا نغير أنفسنا أيضا. إن فكرة وجود شيء أبدي وثابت يسمى “الطبيعة البشرية”، هي فكرة مسبقة متأصلة بعمق، لكن ليس لها أي أساس في الواقع. لقد تحولت ما يسمى بالطبيعة البشرية مرات عديدة عبر التاريخ، وما زالت تتغير وستتغير أكثر في المستقبل.
نحن نعيش في عالم مغترب وغير عقلاني، لا يستطيع الناس فهمه. في مثل هذا العالم، يصبح التفكير العقلاني غير مستساغ. ففي مثل هذا العالم من الأفضل عدم التفكير على الإطلاق. إن خواء الفلسفة البرجوازية الحديثة يعكس هذه الفكرة تماما، كما هو الحال في العبارات المبتذلة الفارغة لما بعد الحداثة. يشعر الرجال والنساء أنهم فقدوا السيطرة على حياتهم، وأن قوى غريبة وغير مفهومة خارجة عن سيطرتهم تتحكم فيهم. لقد تم تجريد الحياة الإنسانية من كل قيمتها وإنسانيتها وإغراقها في التوحش والعنف الذي يهدم أسس الوجود المتحضر والعقلاني. المعقول يصبح غير معقول”، كما قال هيغل.
إن الاغتراب الذي يعد سمة منتشرة في الحياة في المجتمع البرجوازي الحديث يتم التعبير عنه حتى في الثقافة الشعبية. كيف يمكن للمرء أن يفسر هذا الانبهار الحديث الغريب بالروبوتات، التي يتم تصويرها في كثير من الأحيان على أنها تخرج عن سيطرة الإنسان وتتجه إلى السيطرة على العالم، كما هو الحال في أفلامTerminator ؟ روايات الخيال العلمي تلك لا تخبرنا إلا القليل، أو لا تخبرنا شيئا، عن طبيعة الوعي، سواء عند البشر أو الروبوتات، لكنها تخبرنا الكثير جدا عن العالم المغترب الذي يسكنه البشر في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
في عالم Terminator المخيف، سيطرت “الأشياء” (الآلات والروبوتات) على العالم واستعبدت الناس. لكن هذا الكابوس قد أصبح حقيقة بالفعل. ففي زماننا هذا ينزل الناس إلى مستوى الأشياء وترتفع الأشياء (خاصة المال) فوق مستوى الناس. في العصور القديمة، كان الكهنة الوثنيون يضحون بالأطفال لمولوخ. أما اليوم فتتم التضحية بملايين الأطفال كل عام على مذبح رأس المال.
والطريقة الوحيدة للقضاء على هذا الشعور بالاغتراب هي القضاء على قاعدته المادية. والطريقة الوحيدة للقضاء على الفكر غير العقلاني هي القضاء على العلاقات غير العقلانية بين البشر في المجتمع الرأسمالي. والطريقة الوحيدة للقضاء على الشعور بأننا فقدنا السيطرة على حياتنا ومصائرنا هي إسقاط علاقات الإنتاج المتناقضة وإقامة اقتصاد مخطط عقلاني، حيث يتم اتخاذ جميع القرارات بشكل ديمقراطي من قبل رجال ونساء أحرار.
في المجتمع العقلاني، أي مجتمع التخطيط الاشتراكي، سيتم استبدال سيطرة الأشياء على الناس بإدارة الأشياء من قبل رجال ونساء أحرار. وعوض أن نكون عبيدا للآلات، ستصير الآلات أدوات طيعة في أيدينا. في ظل الرأسمالية كل تقدم تكنولوجي لا يؤدي إلا إلى إطالة يوم العمل وزيادة عبودية العمال. أما في ظل الاشتراكية، فبدلا من الكدح لفترة أطول من أجل إنتاج كميات أكبر من فائض القيمة، سيعمل الناس بشكل أقل ويستمتعون بالحياة أكثر.
إن التقدم المذهل الذي أحرزه العلم والتكنولوجيا خلال القرن الماضي قد وضع بين أيدينا كل ما هو ضروري لتحويل الكوكب. وما كشفه العلم عن كيفية عمل الكون هو أكثر روعة وإثارة وجمالا من كل “الحقائق الموحى بها” المزعومة التي يقدمها الدين. إن البشرية من خلال تثويرها لظروف حياتها، ستمهد الطريق لتحويل نفسها، ووضع حد لعصور ما قبل التاريخ لجنسنا البشري، بحيث سيعيش البشر ويتصرفون ويفكرون باعتبارهم بشرا، وليس كحيوانات، باعتبارهم رجالا ونساء أحرارا، وليس كعبيد.
وهذا يعيدنا إلى أطروحة ماركس الثالثة حول فيورباخ حيث كتب:
“إن المذهب المادي القائل بأن الناس هم نتاج الظروف والتربية، وبالتالي فإن تغير الناس هو نتاج لتغير الظروف وتغير التربية، ينسى أن الناس هم الذين يغيرون الظروف وأن المعلم نفسه يجب أن يتعلم. ومن ثم فإن هذا المذهب لا بد أن يقسم المجتمع إلى قسمين، أحدهما متفوق على المجتمع.إن تزامن تغير الظروف والنشاط البشري أو التغيير الذاتي [ Selbstveränderung ] لا يمكن تصوره وفهمه عقلانيا إلا كممارسة ثورية”.
وهذا يعني ببساطة أنه لإحداث ثورة في الفكر لا بد من ثورة في المجتمع.
آلان وودز
لندن، 17 مايو/أيار 2013
هوامش:
[1] H.J. Fleure and M. Davies, A Natural History of Man in Britain, p. 47.
ترجم عن النص الأصلي:
Marx’s revolution in philosophy – Reflections on the Theses on Feuerbach
تعليق واحد
تعقيبات: ثورة ماركس في الفلسفة – تأملات في أطروحات فيورباخ – آلان وودز | اُكْتُبْ كَيْ لَا تَكونَ وَحِيدًا