الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / الشرق الأوسط / سوريا / نظام الأسد كيف كان وما الذي صار عليه

نظام الأسد كيف كان وما الذي صار عليه

ننشر فيما يلي مقالاً للعضو القيادي في التيار الماركسي الأممي، الرفيق فريد ويستون، والذي ما يزال يحتفظ براهنيته. يوضح المقال موقف الماركسيين من الثورة السورية عند إنطلاقتها ثم الموقف الذي اتخذوه من الحرب الأهلية التي اندلعت لاحقًا بين طرفين كلاهما رجعيان -بين النظام وبين الميليشيات المسلحة المدعومة إقليميًا وإمبرياليًا-. كما يوضح السيرورة التي مر منها النظام السوري منذ إنشاءه حتى الآن، وهو التحليل الضروري جدًا لامتلاك موقف صحيح منه، في مواجهة المواقف الأخرى التي عبرت عنها أغلب تيارات اليسار، والتي تمثلت عموما في مساندة النظام بالنسبة للبعض، أو مساندة المتمردين بالنسبة للبعض الآخر.


كانت الثورة السورية، التي اندلعت في مارس 2011، جزءا من الموجة الأوسع للثورة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم العربي. لقد دعم التيار الماركسي الأممي الثورة دون تحفظات على الرغم من نواقصها. لكن منذ ذلك الحين، وبسبب الافتقار إلى قيادة ثورية، تعرض ما كان تعبيرا حقيقيا عن الجماهير، للاختطاف الآن من طرف عناصر رجعية لها أجندة مختلفة تماما.

وعلى الرغم من أن الأحداث التي وقعت كانت مدفوعة بشكل واضح بعوامل خارجية، فإن بذور الثورة السورية كانت موجودة في الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في سوريا نفسها. إذ أن متوسط ​​الدخل، على سبيل المثال، انخفض بين عامي 1980 و2000 بنحو 10% وبلغ معدل البطالة رسميا 9%، لكن الرقم الحقيقي كان أقرب إلى 20%.

الشيء الذي سمح للنظام السوري بالحفاظ على نفسه، على الرغم من الصعوبات الاقتصادية المتزايدة، هو حقيقة أن لديه احتياطيات نفطية مهمة. في عام 2002، شكل النفط ثلثي الصادرات ونصف إيرادات الدولة. ومع ذلك فإن الاقتصاد كان ما يزال متخلفا نسبيا، كما يتضح من وزن الفلاحة فيه، والتي ما تزال تمثل 27% من الناتج المحلي الإجمالي وتوظف حوالي 30% من القوة العاملة.

القطاع الخاص -الذي كان يلعب في السابق دورا ثانويا فقط- ينمو وصار قويا بشكل خاص في قطاع النسيج والصناعات الغذائية / الزراعية، والكيماويات، والصيدلة، والهندسة. وبعد عام 1990، صار القطاع العام يشغل حوالي ربع السكان النشيطين، وكان يخلق 20 ألف فرصة عمل في السنة، بينما كان القطاع الخاص يخلق ما بين 40 ألف و60 ألف فرصة عمل في السنة. إلا أنه كان هناك 250,000 شاب يدخلون إلى سوق العمل كل عام، وهذا ما يفسر تزايد بطالة الشباب، التي كانت عاملا مهما في اندلاع الثورة!

كانت تلك الظروف نتيجة للسياسات الاقتصادية التي تبناها نظام الأسد على مدى السنوات السابقة، والسياسات التي أدت إلى الانهيار التدريجي للاقتصاد القديم المؤمم والمخطط مركزيا وتعزيز مشاركة أكبر فأكبر للقطاع الخاص في إدارة الشؤون الاقتصادية. مع نقل أصول الدولة بشكل أساسي إلى المقربين من النظام. كل هذا أدى إلى حدوث تقاطب اجتماعي متزايد، والذي يوجد في صميم الاضطرابات الثورية.

يجب القول إن هناك الكثير من اللبس بين صفوف اليسار حول طبيعة نظام الأسد. ما يزال البعض يرى فيه ذلك النظام القديم الذي كان قائما على الاقتصاد المؤمم والمخطط مركزيا. وقد أدى ذلك بالبعض إلى معارضة الثورة منذ البداية عندما كانت ما تزال تعبيرا حقيقيا عن الحركة الجماهيرية من أسفل. إنهم يرون كل شيء من منظور المناورات الرجعية للإمبريالية، ولا سيما الأنظمة الرجعية مثل المملكة السعودية أو قطر.

وفي حين أنه من الصحيح أن تلك الأنظمة كانت تقدم المساعدة والسلاح لقسم من المتمردين، وتدعم تلك القوات التي تتناسب مع أجندتهم الرجعية –وصحيح أن المرتزقة الأجانب متورطون في القتال- فإنه سيكون من التبسيط والخطأ رؤية كل شيء من هذا المنظور. في البداية كانت هناك ثورة حقيقية خلال الأيام الأولى للنضال ضد الأسد. وكان من واجب الماركسيين الحقيقيين دعم تلك الحركة. ومع ذلك، فبمجرد انحسار الطابع الثوري لتلك الحركة وانتقال المبادرة إلى مختلف العناصر الرجعية، فقد كان من واجب الماركسيين أيضا أن يشرحوا بوضوح ما حدث.

الحقيقة هي أنه بسبب المأزق الذي وصله الوضع، تم اكتساح العناصر الثورية الحقيقية من طرف كل أنواع العناصر الانتهازية والمعادية للثورة التي صعدت إلى المقدمة والتي تم الترويج لها من قبل قوى أجنبية مختلفة تسعى إلى تعزيز مصالحها الرجعية. هذه مأساة حدثت بسبب عدم وجود قيادة ثورية لها جذور بين الجماهير. في البداية لم تكن الحركة، وخاصة الشباب الذين شاركوا في الاحتجاجات الجماهيرية، قائمة على أساس اثني أو ديني. ومن بين الشعارات التي كان من الممكن سماعها في المسيرات شعار: “كلنا سوريون”، وهي رسالة واضحة لمن أراد تقسيم المجتمع السوري على أسس اثنية/دينية.

أولئك اليساريون الذين خرجوا لدعم نظام الأسد، يرون فيه بعض مظاهر “التقدمية” و”مناهضة الإمبريالية”. لكن الحقيقة ملموسة للغاية: لا توجد ولو ذرة واحدة من معاداة الإمبريالية في نظام الأسد. لا يوجد أي شيء تقدمي بشأنه قد يبرر بأي حال من الأحوال قيام الاشتراكيين بمنح النظام ولو حتى ذرة من “الدعم النقدي”. ومن أجل عدم الخلط بين الثورة والثورة المضادة، من الضروري إجراء تحليل شامل لما كان عليه النظام في الماضي وما أصبح عليه على مر السنين. (سنقدم تحليلنا لهذا لاحقا في هذه المقالة).

فرق تسد

في مواجهته للانتفاضة الثورية الأولى خلال العام الماضي، قام النظام، كما رأينا، بمحاولات لتقسيم السكان على أسس إثنية ودينية. عمل نظام الأسد على تسعير مثل تلك الانقسامات (مثلما فعلت الأنظمة الرجعية في المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى). فبعد أن فقد الدعم في بعض المناطق الرئيسية في البلاد، كانت الوسيلة التي استعملها نظام الأسد للاحتفاظ بقاعدة جماهيرية ما، على الأقل في بعض المناطق، هي تحريف مسار الثورة الحقيقية التي بدأت، وإثارة الصراع بين مختلف المجموعات التي يتكون منها المجتمع السوري.

وقد تم ذلك بالطريقة الكلاسيكية المتمثلة في استهداف مجموعات معينة وتنفيذ هجمات عشوائية وحشية ضدها. وبما أن جزءا كبيرا من قوات الأمن التي تنفذ مثل هذه الهجمات تتكون في الغالب من العلويين، فقد كانت هذه خطوة صغيرة لإثارة رد فعل مضاد بين المجموعات الاثنية/الدينية التي تتعرض للهجوم. وبدأ يُنظر إلى العلويين ككل على أنهم “العدو”. وعلى الطرف الآخر، رأت الجماعات الأصولية الرجعية في الانقسامات الاثنية/الدينية وسيلة لتعزيز أجندتها الخاصة. وهذا هو ما أدى إلى المأزق الحالي. وفي هذه السيرورة، تم طمس صوت الثوريين الحقيقيين مقابل تمدد القوى الرجعية.

وكما رأينا، فقد كانت عوامل الثورة متجذّرة في الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية التي تطورت في ظل نظام الأسد على مدى عقود من الزمن. في الفترة الأخيرة، أصبح المجتمع السوري أكثر فأكثر انقساما إلى قطبين، مع وجود نخبة صغيرة في الأعلى تثري نفسها، من جهة، بينما في الطرف الآخر من الطيف الاجتماعي، نشهد فقرا متزايدا وتدهورا عاما في الظروف المعيشية. وفي إطار سيرورة الاستقطاب هذه، صارت بعض الشرائح في وضع أسوء بكثير، لكن من الصحيح أيضا أنه كانت هناك طبقة برجوازية صغيرة، وخاصة في المدن مثل دمشق وحلب، تجني أيضا بعض الفوائد من التغيرات الاقتصادية الأخيرة.

هذا العامل يفسر أيضا قدرة النظام على الصمود. لو قدمت الثورة برنامجا بمقدوره أن يكسب هذه الشرائح، لكان نظام الأسد قد سقط منذ زمن طويل. لكن وللأسف، فشلت الثورة في تطوير مثل هذا البرنامج، وهو ما فتح المجال أمام العناصر الرجعية. كان الشعار الأساسي الذي عبرت عنه الثورة هو إسقاط النظام و”الديمقراطية”. لكن الديمقراطية في حد ذاتها لا تكفي دائما لتعبئة كل فئات الجماهير. يجب أن تقترن بحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، مثل الأجور والوظائف والإسكان وما إلى ذلك. إن المطالبة بالديمقراطية، كما هو الحال في مصر وتونس، تعكس رغبة القسم الأعظم من الطبقة العاملة في إحداث تغيير اجتماعي ووضع حد للبؤس الذي يعيشون فيه. لكن إذا تم النظر إلى “الديمقراطية” على أنها تجلب الاضطراب والصراعات الاثنية والدينية والاضطرابات الاقتصادية، فإنها ستفشل في الحصول على الدعم الكامل من جميع فئات الطبقة العاملة.

أضف إلى ذلك حقيقة دخول عناصر أصولية رجعية للغاية إلى الحركة، في محاولة لتحويلها في مسار مختلف، مُقدمين للنظام بالضبط ما يحتاجه، أي الفزاعة الأصولية التي يمكن بها إرهاب البرجوازية الصغيرة الحضرية. والفكرة التي عمل النظام على نشرها بين هذه الفئات هي أن المعارضة مكونة فقط من “إرهابيين” يريدون جر المجتمع السوري إلى الوراء وليس إلى الأمام؛ وأنها مكونة من عناصر من شأنها أن تدمر الطبيعة العلمانية و”الحديثة” للمجتمع السوري؛ أي أنها باختصار تعني البربرية. وقد أدى هذا بالتأكيد إلى تحييد، على الأقل، بعض شرائح السكان، الذين يتمسكون بالنظام، ليس لأنهم يدعمون نظام الأسد، بل خوفا من أن يحل محله شيء أسوء.

هناك عامل آخر يفسر تعثر الثورة السورية وخروجها عن مسارها. فقد انحرفت الثورتان المصرية والتونسية ـأيضا بسبب الافتقار إلى قيادة ثوريةـ عن مسارهما، وبرزت الأحزاب الإسلامية إلى الواجهة في المراحل الأولى. هناك أيضا، وعلى الرغم من أن الثورة شهدت مشاركة جماهيرية للعمال والشباب وتمكنت من الإطاحة السريعة بالديكتاتوريين القدامى المكروهين، فإنه بعد سقوط تلك الأنظمة، لم يكن لدى الجماهير، للأسف، حزب ثوري جماهيري تتجمع حوله. حدث فراغ فامتلأ بما توفر من أشكال مختلفة من الأحزاب الدينية. (في مصر الآن تسير الأمور قدما، مع تحول شريحة كبيرة من السكان ضد نظام مرسي الجديد، لكن لا يوجد حتى الآن منظور واضح لكيفية استكمال الثورة المصرية).

وزاد الوضع في ليبيا من الارتباك. حيث سقط النظام في نهاية المطاف، لكن ما حل محله لا يمكن أن يكون جذابا للغاية بالنسبة للعديد من السوريين العاديين الذين يتساءلون عما سيحل محل نظام الأسد بعد سقوطه. إن احتمال تقسيم البلاد إلى إقطاعيات مختلفة، ومجموعات قوى محلية مختلفة وميليشيات، بالإضافة إلى انهيار الاقتصاد، ليس خيارا جذابا للغاية. وهذا ما يفسر، مرة أخرى، سبب تمكن النظام، على الرغم من وحشيته، من الصمود لفترة طويلة.

وبعد كل هذا، من الواضح أن الأسد سيسقط عاجلا أم آجلا. إن النظام الذي يحكم بالسيف وحده محكوم عليه بالانهيار في نهاية المطاف. حتى أكثر الطغاة وحشية يجب أن يقدموا للجماهير شيئا آخر غير القوة الوحشية. فإذا لم يتمكنوا من توفير ما يكفي من الوظائف والأجور والخدمات والغذاء، وما إلى ذلك، فسوف يسقطون في نهاية المطاف.

لو كان هناك تيار ثوري، متجذر داخل الجماهير، يرتكز على الفكرة الأساسية القائلة بأن حل مشاكل العمال والشباب السوريين لا يمكن إيجاده إلا من خلال التحويل الجذري للمجتمع -وهوما لا يمكن أن يعني سوى التحويل الاشتراكي في سوريا، لكان في مقدوره أن يكون في وضع يسمح له بكسب أسماع الجماهير وقيادتها في الصراع الطبقي. لكن المأساة هي أن مثل هذا التيار غير موجود في سوريا.

دور الاتحاد السوفياتي

 هنا نجد أنفسنا أمام نقطة جوهرية في أي نقاش حول سوريا. حتى العمال والشباب الأكثر كفاحية وثورية في سوريا سوف يتساءلون عما نعنيه بالتحويل الاشتراكي للمجتمع السوري. ففي نهاية المطاف، ألم يكن نظام الأسد “اشتراكيا”؟ ألم يكن الاقتصاد اقتصادا “اشتراكيا” يقوم على ملكية الدولة وتخطيطها؟ ألم تكن سوريا جزءا من دائرة نفوذ الاتحاد السوفياتي “الاشتراكي” الذي انهار في نهاية المطاف؟

يجب على الماركسيين أن يجيبوا على كل هذا؛ وإلا فلن يجدوا أبدا صدى لهم بين الشباب الثوري الأكثر تقدما في سوريا، وتحديدا أولئك الذين تم رميهم جانبا من قبل القوى الرجعية المختلفة التي تتنافس من أجل السيطرة على “المعارضة”، من العناصر العميلة المكشوفة للإمبريالية الغربية إلى الجماعات الأصولية الرجعية المتطرفة.

عندما يطرح أحد الماركسيين الحاجة إلى إحداث تحويل اشتراكي في سوريا باعتباره السبيل الوحيد للحل، فسوف يواجه حتما بوابل من الاحتجاجات، من قبيل: “لكن سوريا كانت اشتراكية وقد فشلت”. إن الماركسيين الحقيقيين، أي الذين يتبنون ليس فقط أفكار ماركس وإنجلز ولينين، بل أيضا أفكار تروتسكي، يمكنهم تفسير سبب انهيار الاتحاد السوفياتي. كل هذا موجود في كتاب تروتسكي الكلاسيكي “الثورة المغدورة” (المكتوب عام 1936!)، حيث يشرح كيف انحط الاتحاد السوفياتي إلى الديكتاتورية الستالينية التي تمثل مصالح البيروقراطية وليس العمال والفلاحين. كانت هناك عوامل مادية ملموسة أدت إلى سيرورة الانحطاط تلك وأنتجت ظاهرة مثل ظاهرة ستالين.

لم يتصور لينين أبدا إمكانية “بناء الاشتراكية في بلد واحد”. لقد فهم الحاجة إلى ثورة أممية، وإلا فإن البلد يمكن أن يرجع مجددا إلى الرأسمالية. ولهذا السبب كرّس الكثير من طاقته لبناء الأممية الشيوعية. لكن نظرية “الاشتراكية في بلد واحد” أصبحت هي المدرسة الفكرية المهيمنة داخل الاتحاد السوفياتي بعد وفاة لينين، حيث صعدت البيروقراطية فوق الطبقة العاملة واكتسبت مصالح مادية خاصة بها. بعد ذلك تم فرض هذه الفكرة على الحركة الشيوعية العالمية بأكملها، والتي تسببت بدورها في هزائم رهيبة للثورات الواحدة منها تلو الأخرى، مما أدى إلى مزيد من عزلة الاتحاد السوفياتي وبالتالي تعزيز قبضة البيروقراطية على السلطة.

ليس الغرض من هذا المقال تقديم وصف تفصيلي لماذا وكيف انتهت الثورة الروسية في أكتوبر 1917 على هذا الحال. للحصول على شرح مفصل، نحيل قرائنا إلى كتاب تروتسكي “الثورة المغدورة” وكتاب تيد غرانت “روسيا: من الثورة إلى الثورة المضادة“. ومع ذلك، فإننا نؤكد على أن التقييم الماركسي الصحيح لما حدث في الاتحاد السوفياتي، لما كان عليه وما أصبح عليه، أمر ضروري إذا أردنا أن نفهم ما هو نظام الأسد والتغيرات والتحولات المختلفة التي مر بها على مدى فترة طويلة من السنين.

بدون مثل هذا الفهم، يمكن للمرء أن ينتهي به الأمر إلى ارتكاب بعض الأخطاء البدائية للغاية، مثل تلك التي ارتكبها، في الفترة الأخيرة، بعض اليساريين، وخاصة الستالينيين أو الستالينيين السابقين. إن حقيقة استمرار الأحزاب التي تدعي أنها شيوعية في دعم نظام الأسد قد ألحقت أضرارا جسيمة بقضية الثورة السورية. ولهذا السبب بالتحديد، هناك حاجة إلى مقال مثل هذا المقال ليوضح بجلاء ماهية الموقف الماركسي من الأحداث في سوريا.

لقد وقف الماركسيون بوضوح إلى جانب الجماهير عندما انتفضت ضد نظام الأسد. ومع ذلك، فإن التصريح بهذا غير كاف. لأنه وكما أشرنا، هناك قوى رجعية للغاية تعمل داخل سوريا وخارجها من أجل إسقاط النظام، لكن لا يمكن للماركسيين الحقيقيين أن يتعاونوا معها بأي شكل من الأشكال. في الواقع إنه من واجب الماركسيين الحقيقيين تحذير عمال وشباب سوريا من تلك العناصر، وذلك مهما كانت رغبة الجماهير في إسقاط الأسد. إن تلك القوى في نهاية المطاف ليست حليفة للجماهير السورية. ويكفي أن ننظر إلى الوضع في مصر وتونس، حيث يحاول كل من الإخوان المسلمين وحزب النهضة تقويض مكاسب الثورة. لقد أوضحنا طوال سيرورة الثورة في هذين البلدين أن تلك القوى رجعية وأنه لا ينبغي تقديم أي دعم لها. ويجب إطلاق نفس التحذير اليوم في ما يتعلق بسوريا.

على الرغم من المواقف الرجعية التي تتبناها مختلف القوى التي تدعي أنها تقود المعارضة في سوريا، إلا أنه من الواضح أن هناك الكثير من الشرفاء من العمال والشباب والعاطلين، الذين يشاركون في الصراع ضد النظام. وقد انضم العديد منهم إلى مختلف الجماعات المقاتلة ويواجهون النظام بشجاعة. بل إنهم، في كثير من الحالات، ينضمون ببساطة إلى أي قوة تسمح لهم بالدفاع عن عائلاتهم وأحيائهم ضد الهجمات الوحشية التي يشنها النظام. وهذا المقال موجه بشكل أساسي إلى هذه الفئة بالتحديد.

مأساة الوضع السوري هي أنه بسبب سنوات من الدكتاتورية الخانقة، لم يكن من الممكن بناء مجموعة معارضة اشتراكية حقيقية داخل البلد. وعلاوة على ذلك، فإن حقيقة أن نظام الأسد كان يُنظر إليه على أنه قريب جدا من الاتحاد السوفياتي، أدت في وعي الجماهير إلى ضرب مصداقية فكرة أن الشيوعية يمكنها أن تحل مشاكل الشعب السوري.

وما زاد الطين بلة هو خروج العديد من الأحزاب الشيوعية حول العالم لدعم النظام. وهذا يعني أن كل من يعلن أنه شيوعي أو اشتراكي أو ماركسي ويؤيد الثورة، يجب عليه أولا أن يعتذر عن شيء هو غير مسؤول عنه.

ومثال على هؤلاء “الشيوعيين” نجده في إسرائيل، حيث نشر الأمين العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي، محمد نافع، في ماي 2011، مقالا في موقع “الحوار المتمدن”، وهو موقع ناطق بالعربية شهير، أدان فيه الثورة السورية. (ويمكن العثور على تصريحات مماثلة عند الحزب الشيوعي اللبناني وغيره). وفي الشهر الموالي، نشر الموقع الإلكتروني العربي للحزب بيانا صادرا عن اجتماع للأحزاب الشيوعية في بروكسل، جاء فيه أن “الأحزاب الشيوعية تعبر عن دعمها لسوريا في مواجهة المؤامرات الإمبريالية…”.

ونجد مثالا آخر على هذا التفكير المشوه في ما يلي:

… لقد صارت سوريا الخط الأمامي الجديد للحرب بين الإمبريالية وبين أولئك الذين يقاومونها… إن النظام السوري، وعلى الرغم من عيوبه العديدة، يقاوم بنشاط العدوان الإمبريالي، وأي موقف أقل من تقديم الدعم الكامل له -على الأقل أثناء هذه الأزمة- هو موقف يعادل معارضة مقاومته للعدوان الإمبريالي. وعلى الرغم من أن جزءا من واجبنا كمثقفين هو الدعوة إلى إصلاحات سياسية وإشراك المعارضة الشرعية المحلية بشكل أكبر في عملية الإصلاح، فإنه يجب أن يتم ذلك بطريقة لا تؤدي إلى تقويض الموقف الحالي للنظام في مواجهة أعدائنا المشتركين، ولا خدمة مصالحهم.[1] (خط التشديد من عندنا. ف و).

لدينا هنا دعم صريح للنظام في المثال الأول، ونوع من “الدعم النقدي” للنظام في المثال الثاني.

كل هذا يستند على فكرة أن نظام الأسد هو نظام مناهض للإمبريالية. وهذا يتعارض مع الواقع ولا يمكن أن يستمر إلا إذا كان المرء يعاني من نوع من فقدان الذاكرة التاريخية والانتقائية ويتجاهل ما فعله النظام بالفعل في مناسبات عديدة للتعاون مع الإمبريالية. في عام 1976، غزا حافظ الأسد مخيمات اللاجئين في لبنان لتصفية المقاومة الفلسطينية، وذلك بتنسيق مع إسرائيل، وبدعم كامل من الإمبريالية الأمريكية. في الواقع، تمت دعوة سوريا للتدخل من قبل الغرب (بما في ذلك هنري كيسنجر) لمنع هزيمة الميليشيات المسيحية المارونية اليمينية في الحرب الأهلية، التي بدأت عام 1975، بين العلمانيين التقدميين والميليشيات الإسلامية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وفي وقت لاحق، في فترة 1990-1991، شارك النظام في الهجوم الأمريكي على العراق؛ وفي عام 2003، لم يحرك النظام ساكنا للدفاع عن العراق ضد الهجوم الإمبريالي. وانسحب من لبنان تحت الضغط الأمريكي. هذه هي الحقائق حول معاداة الأسد المزعومة للإمبريالية.

إن الفكرة الخاطئة القائلة بأن نظام الأسد تقدمي إلى حد ما، تعود إلى أحداث الستينيات، والتي أدت في النهاية إلى إنشاء اقتصاد مؤمم مخطط مركزيا، مشابه جدا لذلك الذي كان موجودا في الاتحاد السوفياتي. ومع ذلك، فقد غيرت سيرورة طويلة الأمد طبيعة الاقتصاد السوري، وحولته من اقتصاد مخطط في الأساس إلى اقتصاد يهيمن عليه القطاع الخاص، ويجب فهم ذلك إذا أردنا إجراء تقييم صحيح لطبيعة النظام الذي يترأسه الأسد اليوم.

السنوات الأولى لنظام البعث

تعتبر الأحداث التي وقعت في الخمسينيات والستينيات، من القرن الماضي، أساسية لفهم نوع النظام الذي أنشأه حزب البعث عند وصوله إلى السلطة. ولا يمكن فهم أحداث تلك العقود إلا في سياق الاستقطاب الاجتماعي المتزايد الذي ظهر في الخمسينيات بعد الاستقلال. تم طرد الإمبريالية الفرنسية، بعد الحرب العالمية الثانية، لكن البلاد ظلت تحت سيطرة الإمبريالية. كانت البرجوازية المحلية ضعيفة وغير قادرة على إنشاء دولة برجوازية حديثة ومستقلة حقا. كانت برجوازية كومبرادورية في خدمة الإمبريالية. وهذا ما يفسر المزاج الراديكالي بين الجماهير ورغبتها في التغيير الاجتماعي.

وفي أواخر الخمسينيات، ولوقف هذه الحركة الثورية المتصاعدة بين الجماهير السورية، لجأ قسم من النخبة العسكرية إلى مصر طلبا للمساعدة. وهكذا، في عام 1958، دفعت مجموعة من ضباط الجيش نحو الاتحاد مع مصر عبد الناصر، ونشأت الجمهورية العربية المتحدة التي لم تدم طويلا. تضمنت التدابير التي تم اعتمادها خلال فترة الجمهورية العربية المتحدة إعادة توزيع الأراضي، وتوفير الرعاية الاجتماعية للعمال والفقراء، والدفع نحو تصنيع البلاد. لكن هذه الإجراءات الشعبية اقترنت بحظر الإضرابات وكذلك حظر النقابات العمالية المستقلة ومنظمات الفلاحين.

ما يجب أن نتذكره هو أن عبد الناصر في ذلك الوقت كان قد بدأ يتحرك نحو اليسار، وصار يتبنى إجراءات ضد الإمبريالية وكذلك ضد الرأسماليين وملاك الأراضي المحليين. وهذا يفسر لماذا قررت الفئة العسكرية الرجعية في سوريا بسرعة كبيرة كسر الاتحاد مع مصر في عام 1961. إن الاتحاد مع مصر الناصرية بدلا من أن يحل مشاكلهم، أدى في الواقع إلى تفاقمها، وذلك من خلال تقديم التدابير التي أرادت فئة الضباط تجنبها على وجه التحديد!

ومع ذلك، وعلى الرغم من رغباتهم، فإن الطبيعة المتخلفة للاقتصاد تطلبت استثمارات كبيرة في مشاريع البنية التحتية مثل الطرق والموانئ وأنظمة الري، والتي لم تكن البرجوازية المحلية قادرة على توفيرها كلها. وحدها الدولة هي التي كانت قادرة على توفير مستويات الاستثمار المطلوبة لمثل تلك التنمية.

لم تتمكن سوريا، في ظل تلك الظروف، وعلى أساس الرأسمالية، من الخروج من تخلفها التاريخي. لم يكن بإمكان الفلاحين أن يلعبوا أي دور مستقل، وبالتالي فإن مهمة تحديث البلاد، والتي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التحويل الاشتراكي للبلد، وقعت على كاهل الطبقة العاملة. لكن ولسوء الحظ، كانت قيادة العمال مكونة من أحزاب مثل الحزب الشيوعي السوري الذي لم يكن لديه أي منظور للإطاحة بالبرجوازية من خلال الثورة الاشتراكية. بل على العكس من ذلك، كان قادته يسعون باستمرار إلى التحالف مع ما يسمى بالبرجوازية “التقدمية”، والتي لم يكن لها وجود!

يعود هذا المنظور إلى نظرية “المرحلتين” الستالينية، التي ارتكزت على فكرة أن مهمة الطبقة العاملة في البلدان المتخلفة وشبه الإقطاعية، هي أولا دعم ما يسمى “البرجوازية التقدمية” في القضاء على بقايا الإقطاع وإقامة الدولة البرجوازية الحديثة وهذه هي “المرحلة الأولى”. لاحقا، بعد فترة طويلة، وبعد بناء الرأسمالية وتوطيدها، سيتم طرح المهام الاشتراكية. كان ذلك يعني في الممارسة، أنه على العمال في كل ثورة أن يخضعوا مصالحهم لمصالح البرجوازية.

وهكذا، كان لدينا وضع حيث البرجوازية غير قادرة على دفع البلاد إلى الأمام، لكن الطبقة العاملة لم تكن لديها القيادة اللازمة لتتمكن من إنجاز المهام التاريخية غير المكتملة والتي تمثلت في تحديث البلاد. في ظل تلك الظروف، تولت فئة الضباط العسكريين دورا أكبر بكثير مما كان من المفترض فيها. لقد كان الجيش منخرطا باستمرار في الشؤون السياسية للبلاد.

تلك الظروف الموضوعية، إلى جانب التحول العالمي العام نحو تزايد سيطرة الدولة، كما حدث في بلدان مثل مصر والجزائر والعديد من البلدان المتخلفة الأخرى التي خرجت من الفترة الاستعمارية، حددت الأحداث التي تكشفت في سوريا في ذلك الوقت.

كما لعب تأثير الاتحاد السوفياتي والصين دورا رئيسيا. كان النمو الاقتصادي في كلا البلدين ما يزال قويا للغاية. وهكذا فإن فكرة أن الاقتصاد المخطط هو الحل لمشاكل تلك البلدان، كانت تنمو بين فئات واسعة من السكان، وكان هذا هو الحال أيضا بين المثقفين والبرجوازيين الصغار وقسم من فئة الضباط في سوريا، وهو ما تم التعبير عنه من خلال تطور حزب البعث.

انقلابات 1963-1966

في هذا السياق، قام قسم من فئة الضباط العسكريين بانقلاب، في عام 1963. لكن ذلك الانقلاب كان مختلفا تماما عن الانقلابات التي سبقته. حيث أنه قد أطلق سيرورة أدت إلى تأميم المزيد والمزيد من قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك تدابير إعادة توزيع الأراضي وتأميم البنوك الخاصة، والذهاب إلى أبعد بكثير مما فعله عبد الناصر، وفي نهاية المطاف إنشاء نظام على صورة الاتحاد السوفياتي.

وهكذا، وعلى الرغم من المناورات التي كانت ترمي إلى تجنب التدابير الجذرية المتخذة ضد الرأسماليين وملاك الأراضي المحليين، فإن عجز البرجوازية المحلية تاريخيا عن تطوير الاقتصاد السوري هوما أدى إلى انقلاب عام 1963 الذي جلب إلى السلطة جناحا راديكاليا من فئة الضباط، في شخص حزب البعث، إلى السلطة.

يجب أيضا أن نقدم هنا ملاحظة حول طبيعة فئة ضباط الجيش السوري. ففي سوريا، وكما هو الحال في العديد من البلدان المتخلفة، لم يكن العديد من ضباط الجيش مرتبطين بشكل مباشر بالبرجوازية، مثلما هو عليه الحال في البلدان الرأسمالية المتقدمة، أي من خلال الروابط العائلية وما إلى ذلك. حيث ينحدرون، في كثير من الأحيان، من الشرائح الدنيا في المجتمع. وهذا ما يفسر على سبيل المثال سبب كون الكثير من الضباط السوريين ينتمون إلى الأقلية العلوية، التي كانت تعتبر، في ذلك الوقت، شريحة مضطهَدة في المجتمع.

وقد كان صلاح جديد، الذي قاد لاحقا انقلابا آخر أكثر جذرية في عام 1966، مثالا عن هؤلاء الضباط. سعى هؤلاء الضباط إلى تحديث بلدانهم، ولأن البرجوازية المحلية كانت مرتبطة بمصالح الإمبريالية، فقد دخلوا في كثير من الأحيان في صراع مع الطبقة التي كان من المفترض أن يمثلوها. وفي حضور النماذج الموجودة مسبقا في الاتحاد السوفياتي والصين، والتي بدت في ذلك الوقت وكأنها توفر بديلا اقتصاديا ناجحا عن الرأسمالية، رأت هذه الفئة من الضباط أن التخطيط الاقتصادي هو الحل لمشاكل البلاد. وقد كان الاتحاد السوفياتي والصين جذابين في نظر هؤلاء الضباط، لأنهما كذلك استغنيا عن أي شكل من أشكال الديمقراطية، وخاصة الديمقراطية العمالية، وسمحا أيضا بوجود نخبة بيروقراطية متميزة.

كانت إحدى أول الإجراءات التي قام بها النظام هو تنفيذ الإصلاح الزراعي، حيث أخذ من ممتلكات كبار ملاك الأراضي، وأعطى بعض الأراضي للفلاحين الذين لا يملكون أرضا. تم تأميم البنوك التجارية وشركات التأمين بالكامل، وبحلول عام 1965 تم تأميم معظم الشركات الكبرى كليا أو جزئيا.

وكما رأينا، فإنه بسبب عجز الطبقة البرجوازية المحلية عن تطوير الاقتصاد، فقد اضطرت الدولة إلى التدخل، ليس جزئيا في هذه الصناعة أو تلك، بل لإدارة الاقتصاد برمته. وقد أثار ذلك رد فعل عنيف من جانب رجال الدين المسلمين و”الأوساط الاقتصادية”.

تحت ضغط تلك العناصر كان النظام العسكري قد بدا يتجه نحو التسوية، لكن ذلك لم يؤد إلا إلى انقلاب آخر نفذه ضباط شباب أكثر تجذرا كانوا أكثر انسجاما مع مزاج الجماهير. كان هؤلاء الضباط الشباب هم الذين ذهبوا إلى أبعد في التحول الاجتماعي في سوريا. كانت المسألة بالنسبة لهم قد أصبحت مسألة حياة أو موت. وهذا ما يفسر وقوع الانقلاب، بقيادة جديد، في عام 1966، والذي أكمل السيرورة وعززها في النهاية.

بحلول عام 1966، كان الجزء الأكبر من الاقتصاد في أيدي الدولة، التي صارت تسيطر على تنمية الموارد الطبيعية، وتوليد الكهرباء، وإمدادات المياه، ومعظم المنشآت الصناعية، والخدمات المصرفية، والتأمين، وأجزاء من نظام النقل ومعظم التجارة الأجنبية وتجارة الجملة المحلية. كما سيطرت الحكومة على معظم الاستثمارات والقروض وتسعير العديد من السلع.

ما يجب ملاحظته هنا هو أن ضباط الجيش الراديكاليين شرعوا في تشكيل ميليشيا وجيش فلاحي ضخم لكسر سلطة النظام القديم شبه الإقطاعي وشبه الرأسمالي الفاسد الموالي للإمبريالية. وفي هذه السيرورة تم إنشاء آلة دولة جديدة، مع وضع الصناعة، بأكملها تقريبا، وجزء كبير من الأرض أيضا، في أيدي الدولة.

ما كان يحدث هو صراع بين الثورة والثورة المضادة. وفي محاولتهم الحاق الهزيمة بالثورة المضادة، اضطر قادة نظام البعث إلى الاعتماد على الجماهير، وهذه هي الطريقة التي وصف بها تيد غرانت تلك العملية في عام 1965:

في أوائل شهر يناير، قامت حكومة حزب البعث الاشتراكي بتأميم 106 من أكبر المؤسسات الصناعية والبنوك برأسمال يزيد عن 25 مليون جنيه استرليني. ولكسر المقاومة المحتملة للرأسماليين، تم تنظيم محاكم خاصة تتمتع بسلطات تصل إلى عقوبة الإعدام لأي شخص يحاول عرقلة هذه الإجراءات الجديدة.

في غضون أسبوع، حاول الرأسماليون تنظيم ثورة مضادة: نظم التجار وأصحاب المتاجر الصغيرة ‘إضرابا’ رأسماليا احتجاجيا، وأغلقوا متاجرهم وبازاراتهم. انضم شيوخ المساجد الإسلامية الرجعيون في سوريا إلى المؤامرة وأدانوا الحكومة باعتبارها ضد “الله والدين”. وأطلقوا معا حملة عصيان مدني ومظاهرات. لكن الحكومة كانت حازمة. كان التراجع يعني انهيار الحكومة وربما إعدام القادة الاشتراكيين البعثيين.

تم إبعاد المتظاهرين بواسطة الشاحنات. وتم كسر أقفال المتاجر المغلقة ومصادرة مخزونها؛ وتم تجريد 22 من كبار التجار من ممتلكاتهم؛ ونقلت سلطة المؤسسات الدينية إلى المجلس العسكري الحاكم، بما في ذلك سلطة تعيين وعزل رجال الدين المسلمين؛ وحكم على ثمانية “زعماء” لمنظمة دينية متطرفة بالإعدام، بتهمة التآمر لاغتيال رئيس الدولة اللواء حافظ.

ولخوض الصراع بشكل ناجح، كان على حكومة البعث أن توجه دعوة للعمال والفلاحين في سوريا للحصول على الدعم. وفي يوم الثلاثاء 26 يناير، واستجابة لتلك الدعوة، توافد آلاف الفلاحين إلى دمشق لإظهار دعمهم القوي لهذه الإجراءات.

وكما أشارت جريدة الأوبزرفر بشكل صحيح:

في سوريا، سيكون لبقاء حزب البعث والإجراءات القمعية الصارمة آثار عميقة. لقد تلقى القطاع الخاص ضربة قاتلة، على الأقل فيما يتعلق بالشركات الخاصة الكبرى. ولم يعد أمام الحكومة الآن أي خيار سوى مواصلة عملية مصادرة الاقتصاد حتى النهاية.

وفي الداخل، يعني هذا أن السلطة انتقلت بشكل حاسم من برجوازية المدن إلى الريف الأكثر راديكالية وإلى جيش الفلاحين الذي يعتمد عليه النظام”.

وهكذا فإن هذه الأحداث تمثل البداية الحاسمة لانهيار الرأسمالية في سوريا. ماذا ينبغي أن يكون موقف العمال المتقدمين والحركة العمالية تجاه هذه الأحداث؟ أولا، من الضروري تقديم الدعم غير المشروط لإجراءات حزب البعث الاشتراكي ضد الرأسمالية في سوريا، وهي رأسمالية اعتمدت على الإمبريالية في الماضي من أجل بقائها واستمرارها. لكن من الضروري أيضا أن نفهم خلفية هذه الأحداث، وحدودها، ومسار الثورة.” (20 فبراير 1965)

لقد دعم الماركسيون الحقيقيون عمليات التأميم التي تمت في ذلك الوقت. ولكن في الوقت نفسه، لم تكن لديهم أي أوهام حول طبيعة النظام. على الرغم من أن عمليات التأميم واسعة النطاق كانت تقدمية، إلا أن غياب الديمقراطية العمالية ورقابة العمال على الصناعة وإدارتها، يعني أن ما ظهر إلى الوجود في سوريا كان نظاما مثل ذلك الذي كان قائما في الاتحاد السوفياتي، أي دكتاتورية الحزب الواحد الشمولية، مع تركز السلطة في أيدي بيروقراطية متميزة تعتمد على الاقتصاد المؤمم. لم تكن تلك “اشتراكية”. ولكي يتحرك مثل هذا النظام نحو الاشتراكية الحقيقية كان من الضروري القيام بثورة ثانية، ثورة سياسية.

وكما أشار تيد غرانت فإن:

النظام السوري، المشوه والبونابرتي منذ بدايته، يعتمد على جيش الفلاحين. وسوف يتم وضع الأساس لخطة صناعية من خلال إنهاء الفوضى الرأسمالية التي لا معنى لها. لكن ونظرا لعدم وجود أي ديمقراطية عمالية، فإنها لا يمكن أن تؤدي إلا إلى خلق فئة متميزة جديدة من المديرين وضباط الجيش والبيروقراطيين، كما هو الحال في روسيا والصين.

إن إدخال هذه [الديمقراطية العمالية] سيتطلب ثورة جديدة، ليس ثورة اجتماعية، بل ثورة سياسية. وسيتعين على الجماهير في هذه البلدان أن تدفع ثمن هذه الثورة الثانية بسبب تأخر الثورة الاشتراكية في الغرب. (20 فبراير 1965)

تظهر هذه الاقتباسات تفوق الماركسية في فهمها للسيرورات التي جرت في سوريا في ذلك الوقت. لم تكن لدى الماركسيين أية أوهام بشأن النظام، في حين اعترفوا في نفس الوقت بكل الإجراءات التقدمية التي قام بها ودعموها. كان النظام الجديد هو ما يعرّفه الماركسيون على أنه دولة عمالية مشوهة، أي دولة يكون فيها الاقتصاد مملوكا للدولة ومخططا من طرفها، لكن السلطة في أيدي نخبة بيروقراطية تقف فوق العمال.

ثورة دائمة في شكل مشوه

إن انقلاب 1963، والانقلابات التي تلته، مثال على نظرية “الثورة الدائمة”، ولو بشكل مشوه. لقد أوضح ليون تروتسكي كيف أنه في البلدان المتخلفة الخارجة من ربقة الاستعمار، يتعين على الطبقة العاملة أن تأخذ زمام المبادرة في تنفيذ المهام التي تخص الثورة البرجوازية، أي كسر قبضة الطبقة الحاكمة الإقطاعية القديمة، وتطوير أمة صناعية حديثة.

إلا أنه أوضح أيضا أنه بسبب الدور الرجعي للبرجوازية الناشئة في هذه البلدان، ومع وجود الطبقة العاملة على رأس الثورة، فإن النضال سيتجه حتما نحو الاشتراكية. لكن في سوريا، وبسبب القوى السياسية التي قادت الثورة، لم تبرز الطبقة العاملة السورية كقوة قيادية مستقلة في المجتمع.

في ظل تلك الظروف، تدخلت الفئة الراديكالية من ضباط الجيش البرجوازيين الصغار ونفذت العديد من المهام التي كانت تخص الطبقة العاملة. ولهذا السبب، كما أوضحنا من قبل، كان النظام الذي ظهر نظاما بونابارتيا في طبيعته، بينما كان يرتكز على علاقات الملكية المؤممة.

جاء في “التقرير الأيديولوجي” لحزب البعث السوري، الصادر عن المؤتمر السادس للحزب، في أكتوبر 1963، أن هدف الحزب هو “بناء مجتمع اشتراكي”. كما أشار إلى ضرورة الإصلاح الزراعي وتأميم الشركات التجارية والصناعية والتخطيط الاقتصادي وإنشاء بنك حكومي. وفي الوقت نفسه نص على وضع النقابات العمالية تحت سيطرة الدولة. ما يعنيه هذا هو أنه لن يُسمح بأي منظمات عمالية مستقلة، وهو ما يعني تكرار تجربة الاتحاد السوفياتي مرة أخرى.

كان المتضررون الأوائل هم أصحاب المشاريع الخاصة، وكبار التجار، وكبار ملاك الأراضي والمصرفيين، الذين فر الكثير منهم من البلاد برؤوس أموالهم. وفي عام 1967 تم تأميم المدارس الخاصة. كان هذا إجراء ضد الأسس الدينية. على الساحة العالمية، لجأ البلد إلى الاتحاد السوفياتي للحصول على مساعدات عسكرية واقتصادية. كان البلد، في الواقع، قد أصبح تحت نفوذ الاتحاد السوفياتي، على الرغم من حقيقة أن بريجنيف لم يضغط من أجل اتخاذ أي من تلك التدابير.

لقد كان الاقتصاد المؤمم المخطط مركزيا في سوريا هو الذي وفر الأساس للتوسع والنمو الاقتصادي السريعين. خلال الستينيات ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة إجمالية قدرها 80%، وفي السبعينيات وصل الرقم إلى 336%.

شهدت السنوات الأولى اتخاذ التدابير الأكثر جذرية. كانت هذه هي السنوات التي كان فيها الجناح الأكثر راديكالية في حزب البعث هو الأكثر تأثيرا في تحديد سياسة النظام.

صعود الأسد

لكن، وكما رأينا مرات عديدة في التاريخ، بمجرد أن يلعب الجناح الأكثر ثورية دورا في إنشاء النظام وتوطيده، وبالنظر إلى طبيعة الجهاز البيروقراطي المحافظ الذي يتم إنشاؤه، فإن العناصر الأكثر “براغماتية” داخل النظام تسيطر على العناصر الأكثر راديكالية وتحل محلها.

وهذا ما يفسر التغيرات المتكررة التي حصلت على رأس النظام بين عامي 1964 و1966، والصراع اللاحق بين جديد والأسد، والذي عكس الصراع بين الجناح الأكثر راديكالية والجناح الأكثر محافظة داخل حزب البعث. ويمكن مقارنة ذلك -مع أخذ كل الاختلافات الواضحة بعين الاعتبار- بما وصفه تروتسكي بالردة التيرميدورية الستالينية في روسيا.

كانت هذه هي السيرورة التي أدت إلى صعود نظام حافظ الأسد، والد بشار الدكتاتور الحالي لسوريا. في البداية، اضطر حافظ الأسد إلى أن يتقاسم السلطة مع بعض القادة الأكثر راديكالية، لكنه في النهاية وضع على النظام ختم ما يسمى بالحزبيين “البراغماتيين” الذين كانوا يرغبون في دفع “الثوريين” جانبا.

خلال الأيام الأولى للنظام، كان الشخص القيادي الرئيسي في حزب البعث هو صلاح جديد، وهو ضابط في الجيش البعثي. وبعد الهزيمة في حرب عام 1967 ضد إسرائيل، على وجه الخصوص، بدأت التوترات تتزايد داخل النظام بين جديد وأتباعه في حزب البعث من جهة، وبين فصيل أكثر محافظة متحلق حول وزير الدفاع، حافظ الأسد، الذي دعا إلى تبني موقف أكثر اعتدالا بخصوص سياسة جديد للتأميم على نطاق واسع. حصل جديد على دعم معظم الجانب المدني من حزب البعث، لكن الأسد، باستخدام منصبه كوزير للدفاع، تمكن تدريجيا من السيطرة على الجناح العسكري للحزب. وفي عام 1969، شرع الأسد في إزالة أنصار جديد من مواقع النفوذ.

أدى الصراع المحتدم بين الفصيلين في نهاية المطاف، في عام 1970، إلى محاولة جديد الإطاحة بالأسد وأنصاره في مؤتمر حزب البعث، لكن الأخير، من خلال سيطرته على الجيش، هو الذي نجح في إطلاق انقلاب داخل الحزب ضد جديد، الذي اعتقل وبقي في السجن، ثم تحت الإقامة الجبرية، حتى وفاته عام 1993.

أدت السيرورة برمتها إلى إقامة نظام شديد المركزية، حيث لعب الجيش دورا رئيسيا على جميع المستويات، حتى على المستوى الاقتصادي. وإلى جانب ذلك رأينا الطبيعة العلوية المتنامية للنظام، إذ كان حافظ الأسد ينتمي إلى الأقلية العلوية، التي كانت تعتبر دائما فئة مضطهدة، وليس من قبيل الصدفة أن تنبثق من هذه الأقلية فئة من الضباط الراديكاليين. شرع حافظ في ترقية العلويين إلى أعلى مستويات الدولة وقوات الأمن. وما زال العلويون، حتى يومنا هذا، يهيمنون على بعض المواقع الرئيسية.

أصبحت سوريا، من خلال هذه السيرورة كلها، نظاما شموليا يعتمد على اقتصاد مملوك للدولة ومخطط مركزيا، مشابه للنظام الذي كان قائما في الاتحاد السوفياتي. وهو ما شكل في البداية، كما رأينا أعلاه، حافزا كبيرا للنمو الاقتصادي.

نما الناتج المحلي الإجمالي، في عقد السبعينيات، بمعدل سنوي بلغ 9.7%، وهو معدل أعلى بكثير مما كانت تحققه البلدان الرأسمالية المتقدمة، حتى خلال ذروة طفرة ما بعد الحرب. ومع هذا النمو، جاءت العديد من الإصلاحات الاجتماعية في مجالات الرعاية الاجتماعية والتعليم والخدمات الصحية، وما إلى ذلك. وهذا ما أدى إلى استقرار النظام لفترة من الزمن.

حتى وسائل الإعلام البرجوازية كانت تشير إلى هذه الفترة بكونها فترة “الاشتراكية”. وكانت تشير إلى ذلك الاقتصاد باسم “الاشتراكي”. بالطبع لم تكن تلك اشتراكية حقيقية، إذ لم تكن هناك ديمقراطية عمالية. لقد كانت صورة كاريكاتورية مشوهة بشكل رهيب عن الاشتراكية الحقيقية.

“الانفتاح”

لكن ما حدث لاحقا للاقتصاد السوري يهمنا في فهم ما أصبحت عليه سوريا اليوم. فبحلول عام 1970، عندما عزز حافظ الأسد قبضته على السلطة، وفي أعقاب الهزيمة في حرب عام 1967 ضد إسرائيل، بدأت سيرورة فتح الاقتصاد أمام الاستثمارات الخاصة.

سُميت هذه السياسة بـ”الانفتاح”، وإن كان انفتاحا “متواضعا” أو “معتدلا”. تم السماح بدرجة معينة من رأس المال الخاص في مختلف القطاعات، مثل التجارة والعقارات والخدمات. طلب الأسد المساعدة من الرأسماليين السوريين المغتربين والمستثمرين الأجانب. وفي هذا الصدد، تمت إعادة بعض الممتلكات المصادرة سابقا إلى أصحابها في محاولة لجذب الاستثمارات الخاصة. كانت الاستثمارات التي جاءت خلال هذه الانفتاح الأول ذات طبيعة مضارباتية بالأساس، وهو مؤشر على أن المستثمرين لم يكونوا يثقون بالنظام الحاكم. وعلى الرغم من الانفتاح المتواضع في أوائل السبعينيات، فقد استمرت الدولة في السيطرة على معظم الناتج الاقتصادي.

ومع ذلك، فإن النمو السريع الذي كان يعرفه الاقتصاد خلال السبعينيات بلغ ذروته في عام 1981، عندما بلغ النمو 10.2%، ثم تباطأ بشكل حاد إلى 3.2% في عام 1982، وفي عام 1984 سار في الاتجاه المعاكس مع انخفاض فعلي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.1%. في ذلك الوقت، كانت الدولة ما تزال تسيطر على أكثر من 60% من الناتج، وكان لها، من خلال وسائل مختلفة، تأثير كبير على القطاع الخاص الضعيف، لكن من الواضح أن النظام كان يدخل في أزمة.

بدأت جميع مساوئ السيطرة البيروقراطية على الإنتاج تظهر على السطح. وكان هذا يحدث في نفس الوقت الذي كان فيه اقتصاد الاتحاد السوفياتي وكتلة أوروبا الشرقية يواجه أزمة كبيرة. كان ذلك عندما وصل غورباتشوف إلى السلطة (1985 – 1991) وروج لسياساته المتمثلة في الغلاسنوست (“الانفتاح”) والبيريسترويكا (إعادة بناء النظام السياسي والاقتصادي). كانت البيريسترويكا تهدف إلى السماح بوجود بعض الشركات شبه الخاصة وإنشاء نظام سوق شبه حر.

كان من الواضح أن البيروقراطية السوفياتية قد بدأت تتبنى بشكل متزايد الفكرة القائلة بأن “السوق” يعمل بشكل أفضل من التخطيط. لابد من فهم هذا في سياق الاقتصاد المنهار في الاتحاد السوفياتي، بينما كانت الرأسمالية في الغرب قد تعافت جزئيا من أزمة السبعينيات وعادت إلى الازدهار. ويتعين علينا أيضا أن نضيف إلى ذلك تلك “الإصلاحات” التي أدخلها دينغ في الصين، حيث تم إنشاء مناطق اقتصادية خاصة سمح فيها للعلاقات الرأسمالية بالتطور.

نفس السيرورة التي لاحظناها في الاتحاد السوفياتي في عهد غورباتشوف، وفي كتلة أوروبا الشرقية ككل، يمكن رؤيتها داخل نظام الأسد في منتصف الثمانينيات. ففي عام 1986، كانت الدولة في سوريا ما تزال تسيطر على غالبية الاقتصاد، لكن تم إدخال تدابير تُعرف باسم “الانفتاح الثاني”، لأجل المزيد من خصخصة الاقتصاد. تم السماح بمزيد من نشاط القطاع الخاص واستثماراته وتم تخفيف الضوابط الحكومية للسماح بدرجة من التجارة الخاصة في استيراد سلع معينة.

كانت هذه بداية تفكيك احتكار الدولة للتجارة الخارجية، على الرغم من أن أكثر من 100 من السلع الأجنبية الرئيسية كانت ما تزال تستورد من طرف المؤسسات التجارية الحكومية فقط. وفي عام 1986 أيضا، تم تنظيم حيازة العملات الأجنبية، واستمرت القيود على الواردات، التي بدأ تطبيقها عام 1977 وتم تعميمها عام 1981، مما يشير إلى أن الدولة استمرت متمسكة بوسائل سيطرتها على الاقتصاد.

لكن الحكومة أنشأت ست مناطق للتجارة الحرة، مسترشدة بوضوح بسياسات دنغ في الصين، حيث سُمح للتجار والمصنعين المحليين باستيراد السلع ومعالجتها وإعادة تصديرها بحرية. وتم السماح بوجود الاستثمارات الخاصة، المحلية والأجنبية، في بعض قطاعات الصناعة. وتم إدخال تدابير، مثل الإعفاءات الضريبية والقروض الرخيصة، لتسهيل عمل مستثمري القطاع الخاص.

ومع ذلك، فإن الاقتصاد القديم المؤمم والمخطط مركزيا لم ينته. إذ استمر القطاع الحكومي في الهيمنة، على الرغم من أن القطاع الخاص صار يهيمن على الزراعة والتجارة الصغيرة. كما تزايد نفوذ القطاع الخاص في الصناعات الخفيفة والبناء والنقل والسياحة.

في تلك المرحلة، لم تكن طبيعة النظام قد تغيرت بشكل جوهري، على الرغم من أن سيرورات مماثلة لما رأيناه في الصين كانت قد بدأت تجري: حيث كانت أهمية القطاع الخاص تتزايد. كان النظام ما يزال في مرحلة البحث عن محفزات السوق لتوليد النمو ضمن ما ظل إلى حد كبير اقتصادا مخططا.

وعلى الرغم من تقديم بعض التنازلات لرأس المال الخاص في عهد حافظ الأسد، فإن ما أدى إلى تسريع السيرورة وحدوث تغيير نوعي كان هو انهيار الكتلة الشرقية، في عام 1989، والاتحاد السوفياتي، في عام 1991. انهارت الأنظمة التي بنى الأسد نظامه على شاكلتها مثل بيت من ورق. ومثلما اجتذب النموذج السوفياتي الضباط الشباب الذين نفذوا الانقلاب في عام 1963، فقد هز انهياره الآن ثقتهم في نفس النظام.

تأثير انهيار الاتحاد السوفياتي على سوريا

لم يفهم أي منهم على الإطلاق نواقص الاتحاد السوفياتي، حيث لم يكن الاقتصاد المخطط تحت سيطرة الطبقة العاملة، بل كان في أيدي نخبة بيروقراطية تحتكر الامتيازات. في الواقع، لقد انجذبوا إلى النموذج السوفياتي على وجه التحديد لأنه بدا وكأنه يعطي نتائج فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي.

آنذاك تفاعلوا بنفس الطريقة التجريبية، وبدأوا في التحول بجرأة أكبر إلى التدابير الرأسمالية. بعد فترة 1990-1991، وبعد أن فقد النظام نقطته المرجعية الراسخة التي كانت هي الاتحاد السوفياتي ـ ومساعداته- شرع في السير على الطريق الذي كان من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى تفكيك النظام القديم القائم على التخطيط. والدليل على كيفية تغير الأمور هو حقيقة أنه في عام 1990 دخل رجال الأعمال إلى البرلمان السوري، وفي عام 1991 صدر القانون رقم 10 لتشجيع الاستثمارات الخاصة.

ومع تزايد قوة سيرورة العودة إلى الرأسمالية، انفتحت الانقسامات داخل النظام، بين ما سمي بجناح “المحافظين”، الذين دافعوا عن استمرارية النظام القديم، و”الاصلاحيين”، الذين كانوا يؤيدون الإصلاح التدريجي، والانتقال البطيء الخاضع للسيطرة نحو اقتصاد السوق. كان الجناح الأول يمثل كل أعضاء مدراء الاقتصاد المؤمم الذين كانوا مهددين بخسارة الكثير في عملية الخصخصة. في حين كان الأخرون يمثلون الضغوط المتزايدة للرأسمالية العالمية ورغبة قسم من البيروقراطية في أن يصبحوا مالكين مباشرين لوسائل الإنتاج. كان هذا الانقسام مشابها جدا للانقسامات التي ظهرت داخل صفوف البيروقراطية الصينية مع تحرك الاقتصاد في اتجاه الرأسمالية منذ عام 1980 فصاعدا.

لكن وعلى الرغم من كل هذا، فإن النهج الذي اتبعته إدارة بوش تجاه سوريا كان هو التعامل معها باعتبارها “دولة مارقة”، بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع إيران أو كوريا الشمالية. لقد فرضت العقوبات على النظام وبذلت كل ما في وسعها لعزله. ومع ذلك، فقد كان موقف الفئة الأكثر ذكاء من بين البرجوازيين الأمريكيين هو “التعامل” مع القطاع الخاص السوري وإقامة مشاريع مشتركة، والاستثمار في البلاد، وما إلى ذلك، كوسيلة لسحب سوريا إلى دائرة النفوذ الأمريكي وتسريع وتيرة تحول البلد إلى الرأسمالية.

وفي محاولة للالتفاف على هذه العزلة، لجأ النظام إلى الاتحاد الأوروبي وبدأ في عام 2003 مفاوضات للحصول على وضع المنتسب إلى الاتحاد الأوروبي، لكنه فشل في الحصول على النتائج المرجوة، وفي النهاية اضطر إلى اللجوء إلى بلدان مثل إيران وروسيا. في عام 2005، على سبيل المثال، ألغت روسيا 73% من الديون المستحقة على سوريا. ورأت روسيا الرأسمالية الفرصة سانحة لاستعادة مناطق النفوذ التي خسرتها في الماضي، خاصة وأن نتائج حرب العراق كانت تتكشف مع قيام الولايات المتحدة بتوسيع نفوذها في المنطقة من خلال تواجدها العسكري المباشر.

في عام 2004، ذهب الأسد إلى بكين في زيارة رسمية، باحثا مرة أخرى عن نقطة دعم حينما كانت الولايات المتحدة تحاول تشديد قبضتها الاقتصادية على البلاد. قدمت الصين النموذج الذي كان النظام السوري يطلبه، بما سمي بالتحرير الاقتصادي، أي إعطاء دور متزايد للقطاع الخاص، لكن دون أي إشارة إلى التحرك نحو ديمقراطية برلمانية على النمط الغربي. واستمر الحكم الاستبدادي دون ما يسمى بـ”الإصلاح السياسي”.

في تلك الفترة، عام 2004، سعى النظام أيضا إلى الانفتاح على كل من إسرائيل والولايات المتحدة. كانت النتيجة موافقة النظام على سحب قواته من لبنان. وفي أبريل 2005، انسحب آخر الجنود السوريين من لبنان بعد تواجد دام 29 عاما في البلاد. وقد رحب الغرب، بما في ذلك واشنطن، بالدور الذي لعبته سوريا في لبنان.

ما يجب أن نفهمه عن لبنان هو أنه لعب دورا مهما في الاقتصاد السوري باعتباره مصدرا للاستثمار، فيما يشبه هونغ كونغ بالنسبة لرجال الأعمال السوريين المهتمين بالوصول بشكل أكبر إلى السوق العالمية، لا سيما فيما يتعلق بالتجارة والتمويل والخدمات المصرفية.

لكن بعد فقدان السيطرة المباشرة على لبنان، أصبح من الملح بالنسبة لهم إيجاد مصادر أخرى للاستثمار. وكانت النتيجة زيادة تسريع سيرورة إعادة الرأسمالية.

رأسمالية المحسوبية

شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تسارع عملية استعادة الرأسمالية، لكن الرأسمالية التي تم إنشاؤها لم تكن على هوى الإمبريالية الأمريكية أو الأوروبية. لقد كانت “رأسمالية المحسوبية” حيث شهدت عملية الخصخصة نقل ممتلكات الدولة إلى أفراد أقوياء من داخل النظام أو ذوي صلات وثيقة بالنظام، وأفراد عائلات الأشخاص في قمة النظام.

ومن بين تلك الشخصيات هناك رامي مخلوف، ابن عم الرئيس بشار الأسد، الذي يسيطر على قطاع الاتصالات السورية (Syriatel)، والمتاجر المعفاة من الرسوم الجمركية، وجزء كبير من صناعة النفط، والنقل الجوي، وشبكة التلفزيون، والكثير من العقارات. قبل اندلاع الصراع الحالي، أفادت التقارير أنه يمتلك أصولا تبلغ قيمتها حوالي 5 مليارات دولار.

يمكن فهم نوع الرأسمالية التي تم خلقها في سوريا من خلال حقيقة أن مخلوف تمكن من إبقاء شركة الاتصالات المصرية، أوراسكوم، بعيدة عن السوق السورية لأنه كان يحظى بدعم الدولة. وقد حصل على ترخيص من الدولة لمدة ثماني سنوات، مما منحه احتكارا عمليا لشبكة الهاتف المحمول. وبحلول عام 2009، كان مخلوف قد استحوذ على أسهم تسعة من أصل 12 بنكا خاصا. في الواقع، كان هذا الشخص يهيمن على كل القطاع الخاص السوري.

وهناك أيضا مثال السيد حمشو، الذي تحول بسرعة كبيرة إلى رجل أعمال قوي. وتشير حقيقة زواجه من أخت زوجة ماهر الأسد إلى أسباب صعوده داخل “مجتمع الأعمال”. كان الفساد منتشرا.

لم يعد القطاع العام، أي الشركات المملوكة للدولة، يعمل وفقا لخطة، بل وفقا لقوانين السوق، كشركات رأسمالية للدولة. وفي الوقت نفسه كان قطاع “رأسمالية المحسوبية” الخاص يتطور. وفي 10 مارس 2009، تم أخيرا إنشاء البورصة.

بعد الأزمة الاقتصادية في عام 1996، والتي كان خلالها النفط وحده هو الذي أنقذ النظام، أصبحت “الحاجة إلى الإصلاحات البنيوية” تطرح بشكل أكثر حدة. وهذا ما يفسر لماذا وضع بشار الأسد “الإصلاح الاقتصادي” في قلب “خطابه”.

كانت “مجموعة الـ 18″ بقيادة الاقتصادي البعثي محمد حسين، الذي أصبح فيما بعد نائبا لرئيس الوزراء في عام 2001، ووزيرا للمالية في عام 2003، عبارة عن مجموعة من أساتذة الجامعات و”الخبراء” ورجال الأعمال والليبراليين، وما إلى ذلك، وقد تم إنشاؤها للإشراف على عملية الخصخصة.

رشح بشار من يسمون بـ”المستقلين” لشغل مناصب المسؤولية في الحكومة. ودُعي العديد من الاقتصاديين والمهندسين الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات الأوروبية أو الأمريكية للعودة إلى البلاد للمساعدة في إدارة “الإصلاحات”، أي بداية عملية فتح السوق السورية أمام مستثمري القطاع الخاص. وكانت تلك إشارة واضحة إلى أن الأسد يريد تسريع العملية. وتم منح الأعضاء من خارج حزب البعث وزارات رئيسية. ومن بين هؤلاء شخصيات مثل عصام الزعيم، الذي تقلد منصب وزير للتخطيط عام 2000، ثم وزيرا للصناعة عام 2001، وكان خبيرا في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ وغسان الرفاعي، الذي عين وزيرا للاقتصاد والتجارة أواخر عام 2001، وهو مسؤول في البنك الدولي؛ ونبراس فاضل، التكنوقراطي المغترب، عُيّن مستشارا للرئيس مكلفا بإصلاح الدولة.

بالإضافة إلى هذه التغييرات في تشكيل الحكومة، والتي كانت جزءا واضحا من برنامج فتح الاقتصاد أمام الرأسمالية، كان هناك أيضا تفكيك قطاعين احتكاريين للدولة: ففي دجنبر 2011، وافق النظام على إنشاء بنوك خاصة وبورصة للأوراق المالية، وفي العام التالي، في فبراير 2011، وافقت الحكومة على إنشاء جامعات يديرها القطاع الخاص.

لكن هذه الإجراءات واجهت مقاومة قوية من جانب الجناح “المحافظ” داخل النظام، ولم تظهر البنوك الخاصة فعليا في ذلك الوقت. وهذا البطء في تطوير القطاع المصرفي الخاص هو الذي يفسر الدور المهم الذي لعبته البنوك اللبنانية التي ملأت الفراغ وقدمت القروض اللازمة للشركات.

“اقتصاد السوق الاجتماعي”

تبنى النظام فكرة “اقتصاد السوق الاجتماعي” ـالتي تكاد تكون نسخة طبق الأصل من المواقف الرسمية الصينيةـ من أجل إخفاء الطبيعة الحقيقية لما كان يحدث، أي نقل الملكية من الدولة إلى أيدي القطاع الخاص.

تضمن هذا النموذج تغييرا في الطريقة التي تعمل بها الصناعات التي تديرها الدولة. حيث أصبح عليها أن تعمل وفقا لقوانين السوق، لكن من دون خصخصة ومن دون خفض للوظائف.

نرى هنا مقاومة أي برنامج كامل للخصخصة والانفتاح على رأس المال الأجنبي. لكن هل كانت تلك مقاومة للرأسمالية في حد ذاتها؟ كلا، لم تكن كذلك. إذ كما هو الحال في الصين، أراد النظام نموذجا للرأسمالية يسمح لنفس الفئة المتميزة الموجودة في القمة بالحفاظ على مواقعها. وكانت الطريقة التي تم بها القيام بذلك هي التأكد من نقل ملكية الدولة إلى أفراد النخبة الحاكمة، أو أفراد أسرهم والمقربين منهم.

كان عام 2005 [بعد إنهاء احتلال لبنان] بمثابة نقطة تحول مهمة في السيرورة برمتها. ففي مؤتمر حزب البعث تمكن أولئك الذين يؤيدون ما يسمى بـ”اقتصاد السوق الاجتماعي” من إلحاق الهزيمة بأولئك الذين أرادوا الدفاع عن الوضع الراهن. وكان الطريق الذي تم اعتماده هو تفضيل إنشاء احتكارات أوليغارشية في أيدي المقربين من النظام. لقد كانت خطوة حاسمة في اتجاه الرأسمالية.

والشيء الذي أغضب الإمبرياليين الغربيين هو حقيقة أن إدخال الرأسمالية إلى سوريا تم تحت السيطرة الصارمة لمحسوبي النظام. كان الإمبرياليون يطالبون بالانفتاح الكامل للاقتصاد السوري، إذ كانوا يبحثون عن المزيد من مجالات الاستثمار لشركاتهم المتعددة الجنسيات.

فضل النظام إبقاء الأمور “داخلية” والتقدم نحو الرأسمالية عن طريق تحويل قطاعات من البيروقراطية إلى مالكين مباشرين لوسائل الإنتاج. هذه البيئة هي التي سمحت بظهور شخصيات مثل رامي مخلوف المشار إليه أعلاه.

وبحلول عام 2007، في غضون عامين، صار عدد لا يحصى من شركات التأمين والبنوك الخاصة تعمل في البلاد. وصار القطاع المصرفي مفتوحا أمام الاستثمار الخاص وكذلك التجارة الخارجية. ولإعطاء فكرة عن التغييرات التي كانت تحدث يمكننا إلقاء نظرة على إحصائيات عدد المنتجات التي تم منع استيرادها. في شتنبر 2003 كان العدد 11000، لكن وبحلول يناير 2007 انخفض هذا الرقم إلى 1000.

وهكذا أنشأ النظام الظروف اللازمة لتطوير السوق الحرة، أي الرأسمالية. وكان ذلك جزءا من محاولة النظام كسر العزلة المفروضة عليه، وخاصة من قبل الأميركيين.

كان لبنان أيضا مصدرا كبيرا للإقراض المصرفي في تلك الفترة. وبسبب المقاطعة الأميركية، وبعد أن رفض الاتحاد الأوروبي في عام 2004 إقامة علاقة “شراكة” معه، لجأ النظام إلى تركيا وإيران طلبا للمساعدة، وكانت إيران على وجه الخصوص على استعداد تام للاستثمار، إذ كانت هي نفسها ضحية للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة. وفي عام 2006، نتيجة للتحرير، حدثت طفرة مالية، مع استثمارات كبيرة، ذات طبيعة مضارباتية بشكل رئيسي، في العقارات.

خلال الفترة الممتدة بين 2000-2010، شهدنا تغيرا نوعياً يحدث، حيث تم أخيرا تعزيز حركة الابتعاد عن التخطيط الاقتصادي والاتجاه نحو الرأسمالية. وإذا قارنا الأعوام 2001-2005 (الخطة الخمسية التاسعة) بالسنوات 2006-2010 (الخطة الخمسية العاشرة) نحصل على الصورة التالية: في النصف الأول من العقد، استمر القطاع العام في الهيمنة، لكن مع تغيير في الطريقة التي تعمل بها الشركات المملوكة للدولة. وكما رأينا فقد تحولت إلى مؤسسات رأسمالية حكومية. وفي النصف الثاني من العقد، انطلق القطاع الخاص بالفعل. ففي عام 2007، كان 70% من الاقتصاد السوري قد صار في أيدي القطاع الخاص.

لم يكن بوسع “الليبراليين” أن يطالبوا بأكثر من ذلك، حيث أصبح من الممكن الآن تحقيق أرباح سخية. كانت الطفرة العقارية مثالا على ذلك. في السنوات 2003-2004 ارتفعت أسعار العقارات بنسبة 59%، لكن في السنوات الثلاث اللاحقة، 2005-2007، ارتفعت أسعار العقارات بنسبة 59%. إلا أنها في السنوات الثلاث اللاحقة، 2005-2007، ارتفعت بنسبة 400%!

وفي الوقت نفسه، صرنا نشهد عودة الرأسماليين والمصرفيين السوريين القدامى الذين فروا من البلاد، والذين كان العديد منهم يمارسون أعمالهم في لبنان. كانت هذه عودة هؤلاء البرجوازيين الذين غادروا البلاد بعد التأميم في الستينيات. لكن كانت هناك أيضا فئة برجوازية كان قد تم التسامح معها منذ أن سيطر حافظ الأسد على النظام في السبعينيات. وقد تم التسامح مع هؤلاء الرأسماليين “المستقلين” طالما لم يتجمعوا كمجموعة رئيسية، واستمروا يعملون كأفراد، وبالتالي لا يشكلون تهديدا للنظام.

لكن الجانب الآخر لكل هذا الطفرة من الربح والمضاربة، كان هو الإفقار المتزايد لقسم من السكان، كما أشرنا في بداية هذا المقال. أدى الاستقطاب الاجتماعي المتزايد إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

في عام 2005، كان هناك 5.3 مليون شخص (30% من السكان) يعيشون تحت خط الفقر، من بينهم 2 مليون (11.4%) غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الغذائية. واستمر عدد السكان في النمو بشكل ملحوظ، مما أدى إلى إضافة المزيد والمزيد من الشباب إلى قائمة الباحثين عن عمل. وفي الوقت نفسه، كان هناك نزوح جماعي مستمر من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، مما زاد من المشاكل الاجتماعية في المدن. وكانت دمشق وحدها تنمو بمعدل 150 ألفا سنويا. أدى هذا إلى خلق هيكل حضري حيث الأحياء الثرية من المدينة محاطة بضواحي البؤس.

انطلق التضخم من عقاله في تلك الظروف. في عام 2003، كانت النسبة 1.3% فقط، وبحلول ربيع عام 2007 وصلت إلى 18%. لكن أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية كانت ترتفع بسرعة أكبر، حيث ارتفعت بنسبة 60% في عام 2007.

ومن المؤشرات الرئيسية الأخرى للتدهور الاجتماعي، بداية تراجع معدل معرفة القراءة والكتابة في البلاد. كان عدد الأميين في تزايد. وهذا يوضح الفرق بين التدابير التقدمية الماضية، التي شهدت انخفاض معدلات الأمية، وبين إجراءات “السوق” الجديدة التي شهدت تدهور نظام التعليم.

وهنا أيضا نرى الاستقطاب الاجتماعي. إذ بينما كان التعليم الأساسي للجماهير يتعرض للاقتطاعات، فقد تم إنشاء ثماني جامعات خاصة في الفترة 2000-2007 لتلبية احتياجات النخبة. لدينا تراكم متزايد للثراء الفاحش وسط البؤس المنتشر على نطاق واسع. كان عدد الفنادق الفاخرة، وسيارات الدفع الرباعي، والمرسيدس، وما إلى ذلك، في ارتفاع بينما كان على شريحة كبيرة من السكان العيش على دولارين في اليوم! ففي عام 2004، كان أفقر 20% من السكان يمثلون 7% فقط من الإنفاق الإجمالي؛ في حين أن أغنى 20% يستحوذون على 45% من الإنفاق.

وفي محاولة للتعويض عن فقدان المزايا القديمة التي كانت مرتبطة بالاقتصاد المخطط القديم المملوك للدولة، حاول النظام تقديم شكل من أشكال الضمان الاجتماعي، لكن الفساد المستشري في النظام أعاق تطبيقه.

وهكذا نرى كيف شهدت سوريا، على مدى عشرين عاما، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، سيرورة طويلة من الانهيار التدريجي للاقتصاد المخطط وإدخال المزيد والمزيد من عناصر الرأسمالية، مما أدى في النهاية إلى النظام الرأسمالي الحالي.

وهذا ما يفسر الارتباك السائد بين بعض اليساريين. إذ أن البعض، كما رأينا أعلاه، استمروا في دعم نظام الأسد على الرغم من الانتفاضة الشعبية، ومبررهم للقيام بذلك، كما رأينا، هو أن النظام تقدمي إلى حد ما ومعاد للإمبريالية. وهذا خاطئ بالطبع، كما تثبت ذلك الحقائق والأرقام الواردة في هذا المقال.

في حين يدعم آخرون في اليسار المعارضة ككل بشكل أعمى، ويفضلون تجاهل حقيقة مفادها أن الثورة الحقيقية التي اندلعت في عام 2011 قد اختطفتها مختلف المجموعات الرجعية. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بأن الثورة السورية لم تجد القيادة المطلوبة القادرة على تحويلها إلى ثورة اشتراكية. لقد انفجرت الثورة تحت تأثير الثورتين التونسية والمصرية. أرادت الجماهير وضع حد للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتنامية ولدكتاتورية الأسد، لكنها لم تجد حزبا قادرا على توحيد جميع الشغيلة والشباب والعاطلين عن العمل والفقراء، في نضال مشترك ضد النظام الديكتاتوري.

ما العمل؟

بسبب كل هذا، أصبح الوضع الآن أكثر تعقيدا بكثير. ما يزال العديد من الشباب الثوري يناضلون من أجل إسقاط الدكتاتور المكروه وجميع أتباعه. لكن ما يحدد الطبيعة الحقيقية للمعارضة ككل هو قيادتها وبرنامجها.

صحيح أن بعض أقسام الجيش السوري الحر قد اشتبكت مع الأصوليين الذين يرون أنهم اختطفوا ثورتهم، لكن ما هو البديل؟ إن البرنامج هو في الأساس إما برنامج لإقامة ديمقراطية برجوازية في أحسن الأحوال، أو الردة الرجعية الأصولية الإسلامية في أسوء الأحوال.

يجب أن نقول الحقيقة ونشرح بصراحة ما حدث. نحن مع إسقاط الأسد، لكننا أيضا ضد التدخل الإمبريالي ومناورات الأنظمة الرجعية في المنطقة.

وكما سبق لنا أن أوضحنا في بيان التيار الماركسي حول الوضع في سوريا، في وثيقة منظورات الثورة في الشرق الأوسط فإن:

ما سوف يسقط النظام في نهاية المطاف هو إضراب عام على مستوى سوريا قادر على شل البلد. تحقيق ذلك يحتاج إلى وجود حزب قادر على توحيد جميع العمال والفقراء خلفه وهذا قابل للتحقيق فقط إذا امتلك هكذا حزب برنامجا يقدم حلولا لجميع القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحة والتي تؤثر على فئات واسعة من الشعب.

كما أوضحنا ما يلي:

الحقيقة هي أن حل الأزمة في سوريا يمكن إيجاده في مصر وتونس، لا بل وأكثر من ذلك في إيران. لا يوجد حل ضمن الحدود الضيقة لسوريا. حتى بوجود حزب جماهيري اشتراكي سليم في سوريا، الحل النهائي لا يمكن إيجاده ضمن حدود سوريا نفسها. حتى ولو وجدت ثورة اشتراكية ناجحة في سوريا اليوم، فلكي تستمر عليها أن تمتد خارج حدودها إلى تركيا، إيران وأبعد من ذلك. والأكثر الأهمية أنها تحتاج إلى انتصار اشتراكي في مصر، وهي أكبر البلدان العربية وتملك أكبر طبقة عاملة، وقادرة على قيادة العمال والشباب في كامل الشرق الأوسط.

علينا أن نشرح كل هذا لأفضل العناصر ضمن الشباب السوري. نحتاج إلى تطوير تحليل ماركسي واضح وأن ننظر إلى المدى البعيد شارحين حقيقة الوضع. نظام الأسد سينهار في النهاية، ولكن كيفية انهياره ومن سوف يسقطه أمر بنفس أهمية سقوط النظام بحد ذاته. في ليبيا نرى عواقب تغيير النظام بمساعدة الامبريالية – الفوضى والضياع في حين يستمر الامبرياليين بالتحكم من الخارج. مشاكل الطبقة العاملة الليبية لم تنحل بعد، لا بل على العكس تزداد سوءا. نفس الأمر سينطبق على سوريا إذا سقط النظام بواسطة مليشيات مدعومة من قبل دول الخليج الرجعية والامبريالية الغربية.

لكن، بكل الأحوال، سيستقر الوضع وسيجد العمال موطئ قدمهم في نهاية المطاف. سوف يبدؤون بالتنظيم وخلق منظمات نقابية عندما يتحركون للدفاع عن مصالحهم. وفي النهاية ستبرز الحركة العمالية كقوة عندما يتضح للجماهير أن سقوط الأسد بحد ذاته لم يغير أي شيء جوهري. لذلك ما يتوجب على طليعة الشباب والعمال القيام به هو الاستعداد للمستقبل بخلق معارضة سورية ماركسية. معارضة من هذا النوع سيكون لها دور كبير لتلعبه في المستقبل.

الهوامش:

[1] Syrian Crisis: Three’s a Crowd by Amal Saad-Ghorayeb , Published Tuesday, June 12, 2012.

فريد ويستون

لندن، 25 فبراير 2013

ترجم عن النص الأصلي:

What the Assad regime was and what it has become