الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / الشرق الأوسط / سوريا / تفكك سوريا: إرث الحرب والتدخلات الإمبريالية

تفكك سوريا: إرث الحرب والتدخلات الإمبريالية

في منعطف مفاجئ وحاد آخر، يميز إلى حد كبير المرحلة التاريخية التي نعيشها، بدأ هجوم مفاجئ من قبل المتشددين الإسلاميين السوريين في تفكيك سوريا بسرعة. إن حروب إسرائيل المدعومة من الغرب ضد غزة ولبنان قد حطمت التوازن الهش في الشرق الأوسط وسحبت خيطا بدأ في فك نسيج المنطقة بأسرها.

بدءا من 27 نوفمبر، وبينما كان يتم تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان المجاورة، بين حزب الله وإسرائيل، اجتاح الهجوم الذي شنته هيئة تحرير الشام، التي تسيطر على محافظة إدلب في شمال غرب البلاد، مدينة حلب -التي هي ثاني أكبر مدينة في البلاد- واعتبارا من أمس، مدينة حماة الاستراتيجية. وقد أصبحت مدينة حمص، التي هي بدورها مدينة رئيسية أخرى، مهددة الآن وقد تسقط في أية لحظة. وهذا من شأنه أن يجعل المناطق الساحلية التي يسيطر عليها النظام في اللاذقية منفصلة عن العاصمة دمشق، مع احتمال انهيار نظام الأسد تماما. إن سوريا تتجه نحو هاوية من الهمجية.

لقد عاد ‘المتمردون’!

إذا أخذنا وسائل الإعلام الغربية على محمل الجد، فمن الصعب ألا نشعر بالتعاطف مع الجماعات المسلحة التي تصفها بـ’المتمردين السوريين’، والتي تقاتل ضد نظام الأسد، والمعروفة سابقا باسم ‘المتمردين المعتدلين’. لكن هذه اللغة المعقمة تحجب الطبيعة الحقيقية لتلك الجماعات.

وفي حين يتم وصف حماس وحزب الله بانتظام بأنهما منظمتان ‘إرهابيتان’، فإن مصطلح ‘المتمرد’ يستخدمه الغرب عمدا لاستحضار صورة رومانسية تعمل على تجميل الأصول والطبيعة الرجعية لجماعات مثل هيئة تحرير الشام. إذ أن المتمرد هو، في آخر المطاف، شخص يقاتل ضد الظلم والقمع. لكن الواقع هو أن هؤلاء ليسوا سوى جهاديين قتلة، تم تأسيسهم من قبل سلف الدولة الإسلامية وتعود أصولهم إلى تنظيم القاعدة.

لكن مهلا، قد تتساءل، أين هو الغضب؟ أين صرخات الإدانة ضد تلك  المجموعة؟ أين هي الدعوات إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ لا وجود لها على الإطلاق. وعوضا عن ذلك فإنه منذ بدء هيئة تحرير الشام لهجومها، عملت وسائل الإعلام الغربية على تلميع سمعتها، فأشادت بـ’تسامح’ الجماعة مع المسيحيين، ونهجها ‘المتقبل للتنوع’، بل وحتى ترويجها لقيام الجماعة بجمع القمامة في مدينة حلب التي استولت عليها مؤخرا! والشيء الآخر الذي يمر دون أن يلاحظه أحد هو دور الغرب في رعاية هؤلاء البرابرة.

خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية السورية، ضخت الولايات المتحدة وحلفاؤها، بما في ذلك تركيا وممالك الخليج، مليارات الدولارات في الميليشيات الإسلامية التي قاتلت ضد نظام الأسد. وقد تم ذلك آنذاك بموجب برنامج وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في سوريا بقيمة مليار دولار، وهو أحد أعلى برامجها تكلفة في تاريخها، حيث تم توجيه الأسلحة والتدريب لمجموعة متنوعة من الجماعات الجهادية في البلاد. ولم يضاه هذا البرنامج سوى برنامج “الجهاد بالدولار” الذي نفذته الوكالة في وقت سابق في أفغانستان، حيث أدى الدعم الأمريكي للمجاهدين إلى تمهيد الطريق لصعود طالبان.

إن هيئة تحرير الشام، التي تقف وراء الهجوم الأخير، تطورت من جبهة النصرة، الفرع السوري لتنظيم القاعدة الذي كان المستفيد الأكبر من برنامج وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وزعيمها هو أبو محمد الجولاني، وهو رجل يحاول الآن تقديم نفسه على أنه ‘معتدل’، لكنه رجعي مثله مثل أسامة بن لادن وزعيم داعش السابق، أبو بكر البغدادي.

انطلقت مسيرة الجولاني من كونه عضوا في تنظيم دولة العراق الإسلامية -السلف المبكر لداعش- قبل أن ينشق عن نظرائه العراقيين لتأسيس جبهة النصرة تحت القيادة المباشرة لتنظيم القاعدة. وفي وقت لاحق، رأى الجولاني فرصة لكسب الدعم الغربي والإقليمي، فاقترح إعلان قطع علاقته مع تنظيم القاعدة، في حين أقسم في السر بالولاء للمنظمة. ويقال إن القاعدة رفضت ذلك الاقتراح، لكن لا يمكننا أن نتأكد من ذلك أبدا.

وفي الوقت نفسه، مضى الجولاني قدما في إعادة تدوير هيئة تحرير الشام لجعلها كيانا سوريا أكثر تركيزا على الداخل، بدون رغبة في نشر نسخته الإسلاموية إلى بلدان أخرى. ولم تكن تلك سوى مناورة تكتيكية، بل كانت تعكس استراتيجية أوسع لجعل هيئة تحرير الشام مقبولة أكثر لدى القوى الغربية. ومع تدفق الأموال والأسلحة إلى سوريا من الولايات المتحدة وحلفائها، مثل تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر، عملت جماعات مثل جبهة النصرة على تكييف خطابها ليناسب داعميها. لكن وبينما تنكر في العلن طموحاتها، فإن الجماعة، خارج حدود سوريا، تظل منظمة جهادية ملتزمة بالحكم الثيوقراطي.

من خلال صب البنزين على لهيب الصراع السوري، نشر الغرب وحلفاؤه بذور الهمجية في جميع أنحاء المنطقة. ولم تفشل استراتيجية الغرب المتمثلة في “الفوضى الخاضعة للسيطرة” في تحقيق أهدافها فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لقوى أفلتت من سيطرتها. وقد كان صعود تنظيم الدولة الإسلامية، وانتشار الفصائل الجهادية، والنزوح الجماعي لملايين البشر، من بين العواقب المباشرة لذلك التدخل.

لكن وبحلول عام 2018، أدى تدخل روسيا بتفوقها الجوي، والجماعات المتحالفة مع إيران، بما في ذلك حزب الله، إلى خلق حالة من الجمود، الأمر الذي أنقذ النظام السوري وترك الجماعات الجهادية معزولة في محافظة إدلب على طول الحدود التركية. وبفضل سيطرتها على جميع الطرق الرئيسية للإمدادات داخل وخارج المحافظة، أصبحت إدلب في الأساس محمية تركية وصارت هيئة تحرير الشام وكيلا خاضعا بشكل كبير لسيطرة تركيا.

إلى جانب تركيا وبإذنها، كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تحافظ بلا شك على الاتصال ببعض الجماعات المسلحة التي كانت تستخدم سابقا لنقل الأموال والأسلحة إلى هيئة تحرير الشام. وعلاوة على ذلك، فقد أنشأت تركيا سلسلة من المواقع العسكرية في المنطقة، ودافعت عنها من هجمات قوات الأسد والقوات الإيرانية.

ورغم أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد حذر علنا من الأحداث في سوريا، فلا شك أن الهجوم الحالي قد تم إعداده وتنسيقه من قبل تركيا. تكشف الأسلحة الحديثة والطائرات المسيرة والدعم اللوجستي، عن مستوى من التنظيم كان من المستحيل تحقيقه بدون مشاركة تركية مباشرة. وعلاوة على ذلك، فإن قدرة تركيا على التحكم في التجارة عبر الحدود وخطوط الإمداد تضمن أن تظل هيئة تحرير الشام معتمدة على أنقرة من أجل بقائها.

لا يخفى على أحد أن أردوغان، الذي لم يتردد قط في مغازلة الأصوليين الإسلاميين، كان يريد منذ فترة طويلة توسيع سيطرته على سوريا. وهذا جزء من طموحه الكبير المتمثل في إحياء الإمبراطورية العثمانية وبسط السيطرة التركية على كامل شمال سوريا وشمال العراق. وتشكل حلب عنصرا أساسيا في هذه الخطة، التي تشمل أيضا الموصل والمناطق الكردية الشمالية في العراق. وعلاوة على ذلك، فقد كان أردوغان يريد، منذ فترة طويلة، تنفيذ تطهير اثني للمناطق الكردية في شمال شرق سوريا، حيث تحتفظ منظمة كردية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني بالسلطة. وبينما أقوم بكتابة هذه السطور، يجري بالفعل هجوم آخر من قبل وكلاء تركيا على مدينة منبج الكردية.

لكن وفي حين أن تركيا هي التي تقف بلا شك وراء العملية الحالية، فمن الحماقة أن نتخيل أن وكالة المخابرات المركزية والموساد لم يكونا على علم بالاستعدادات للهجوم. في الواقع، من المرجح أنهما أعطيا موافقتهما عليها. في الأيام الماضية، واصلت القوات الإسرائيلية الضغط على حزب الله في لبنان -الذي هو حليف رئيسي للأسد- بأكثر من مائة غارة بالقنابل، فضلا عن استهداف التحركات عبر الحدود بين حزب الله وسوريا. لقد كانوا، في جوهر الأمر، يستهدفون خطوط إمداد نظام الأسد دعما لهجوم الجهاديين.

نظام الأسد: دولة نخرة

وفي الوقت نفسه، يؤكد السقوط السريع لحلب وحماة على الضعف الشديد لنظام الأسد. ويكشف عن نظام نخر بالكامل ولا يمكنه الاستمرار إلا من خلال الدعم الخارجي من إيران وروسيا. وهذا الارتهان يسلط الضوء على مدى الدمار الذي لحق بسوريا نتيجة لأكثر من عقد من الحرب.

قبل الصراع، كانت سوريا من بين المجتمعات الأكثر تقدما في الشرق الأوسط. وبعد القضاء على الرأسمالية في السبعينيات، بفضل سلسلة غريبة من الظروف، حققت مستويات عالية من التصنيع والتحديث فضلا عن مستويات عالية من الثقافة والرفاهية التي ميزت البلد عن معظم جيرانه. وحتى مع عودة الرأسمالية في التسعينيات، ظلت العديد من تلك الإنجازات قائمة. لكن الحرب الأهلية التي يغذيها الغرب محت كل تلك المكاسب وأكثر.

إن التكلفة البشرية للصراع في سوريا رهيبة. فقد قُتل أكثر من نصف مليون شخص، ونزح الملايين. لقد تمزق نسيج المجتمع السوري، حيث انقسمت المجتمعات على أسس طائفية ونشأت أجيال بأكملها في ظل الحرب.

انكمش الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بأكثر من 60%  ما بين عام 2011 وعام 2021. وتجاوز معدل البطالة 50% . تم تدمير البنية التحتية، مثل الطرق والمدارس والمستشفيات. ويعيش أكثر من 90%  من السكان تحت خط الفقر، على أقل من دولارين (02) في اليوم. أدى التضخم المفرط، الذي تفاقم بسبب العقوبات الأمريكية والأزمة المصرفية في لبنان المجاور -والتي تسببت فيها أيضا العقوبات الأمريكية- إلى دفع الملايين إلى الفقر المدقع. ووفقا لمسح أجري عام 2023، أفاد حوالي 11%  من الأسر، في منطقة حلب وحدها، أن أطفالهم يشتغلون، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى عدم كفاية دخل الأسرة.

ومما يؤكد مستوى التدهور، هو أن إنتاج الكبتاغون، الذي هو أمفيتامين يستخدم على نطاق واسع أثناء الحرب، قد أصبح الآن أحد المصادر الرئيسية للدخل بالنسبة للنظام. الفساد مستشر إلى حد بعيد، ويسود مزاج من الاحباط بين السكان، وهذا هو السبب وراء السهولة التي تمكن بها الجهاديون من اختراق المدن الكبرى مثل حلب، التي دارت حولها معارك لسنوات أثناء الحرب الأهلية.

إن قسما كبيرا من السكان صاروا محبطين للغاية بسبب النظام لدرجة أنهم لم يعودوا يهتمون ببقائه أو رحيله. وهذا هو العكس تماما لما حدث أثناء الحرب الأهلية، عندما انحازت غالبية السكان وراء نظام الأسد لمعارضة الجهاديين المجانين. وبالتالي أصبح نظام الأسد إلى حد ما مجرد شبح يعتمد على رعاته الروس والإيرانيين لأجل البقاء. والعنصر الأكثر أهمية هنا هو حزب الله، الذي لعبت وحداته النخبوية دورا رئيسيا في محاربة المعارضة الجهادية في سوريا، لكن معظم تلك الوحدات تم نقلها إلى لبنان في العام الماضي لمحاربة إسرائيل.

انهيار التوازن

إن الغزو الأمريكي للعراق وتدمير الجيش العراقي، إلى جانب التدخل الأمريكي الفاشل في سوريا والذي أدى إلى ظهور أمثال جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية، قد أدى في نهاية المطاف إلى خلق وضع جديد في الشرق الأوسط، حيث برزت إيران لتصبح أكبر قوة إقليمية هناك.

لقد اكتسبت الميليشيات المرتبطة بإيران، مثل حزب الله في لبنان، دعما شعبيا لأنها كانت تظهر على أنها الوحيدة التي تقاتل ضد الإمبرياليين والجهاديين. ومن العراق إلى سوريا إلى لبنان، أصبحت هذه الميليشيات، التي يبلغ تعدادها مئات الآلاف، قوة لا يستهان بها. بل إنها في الواقع، أصبحت خلال القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، القوة الأكثر قدرة على الاستمرار والتي يمكن للغرب الاعتماد عليها.

وفي سوريا، جاءت قوات الحرس الثوري الإيراني والميليشيات العراقية، وكذلك حزب الله، لمساعدة نظام الأسد. وتعزز موقفهم بعد دخول روسيا الحرب الأهلية السورية إلى جانبهم. وقد تمكن التحالف الروسي الإيراني في نهاية المطاف من هزيمة المعارضة الجهادية، وبالتالي الحاق الهزيمة بالتدخل الغربي في سوريا.

في غضون ذلك، لعبت تركيا على جانبي الصراع. فبعد أن رأت الاتجاه الذي تهب فيه الرياح في الحرب الأهلية السورية، غيرت تركيا -التي كانت ذات يوم لاعبا رئيسيا في التدخل الأمريكي- موقفها، وشكلت تحالفا مع إيران وروسيا، وهو التحالف الذي أدى إلى المزيد من الهزائم للولايات المتحدة.

أصبحت سوريا، بالنسبة لروسيا، الجسر الرئيسي إلى المنطقة، ونقطة نفوذ حاسمة في شرق البحر الأبيض المتوسط. أما بالنسبة لإيران، فقد أصبحت البلاد بمثابة حلقة وصل حيوية في “محور المقاومة”، الذي يربط طهران بحزب الله في لبنان.

وهكذا، فعلى تلك الأنقاض التي خلفتها التدخلات الغربية في العراق وسوريا، تم تأسيس توازن جديد في المنطقة من قبل إيران وحلفائها، الذين خرجوا منتصرين. وقد اضطرت الإمبريالية الأمريكية على مضض إلى قبول الوضع الجديد مع تراجع قوتها ونفوذها. إلا أن ذلك كان شيئا لا يستطيع حلفاء أمريكا، وخاصة إسرائيل، تحمله.

لكن ومع الضعف النسبي الذي أصاب حزب الله بسبب الحرب مع إسرائيل، فإن هذا الوضع قد انقلب الآن رأسا على عقب. وهنا تأتي إسرائيل لمساعدة الجهاديين.

جاء في مقالة نشرت في صحيفة The Times of Israel، بعنوان “المتمردون السوريون ينسبون الفضل إلى الضربات الإسرائيلية على حزب الله في المساعدة على تقدم الهجوم”، اعترافا على لسان أحد هؤلاء الجهاديين أنفسهم:

“”لا أحد يعرف ما إذا كانت إيران والنظام سيضعفان لولا الهجمات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا، والتي سمحت لنا بالعودة وتحرير الأراضي والبلاد”، هكذا صرح رجل وُصف بأنه ناشط معارض من منطقة حلب لقناة Kan  العمومية الإسرائيلية في سياق تعليقات بثت يوم الأحد. وقد نفذت إسرائيل لفترة طويلة ضربات دورية ضد أهداف إيرانية وضد عمليات نقل الأسلحة في سوريا.

“كما قام متمرد آخر من منطقة إدلب تحدث إلى الشبكة بشكر القدس وقال إن المعارضة “راضية جدا” عن عمليات إسرائيل ضد حزب الله واللاعبين الآخرين المدعومين من إيران. حزب الله مصمم على تدمير إسرائيل.

“وقال ذلك المصدر: “إنهم يتهموننا بالتعاون معكم لأننا كنا سعداء للغاية عندما هاجمتم حزب الله، سعداء حقا، ونحن سعداء بفوزكم”.

الواقع هو أن الحروب التي تشنها إسرائيل بدعم غربي ضد غزة ولبنان، إلى جانب المحاولات اليائسة التي تبذلها الإمبريالية الأمريكية للحفاظ على هيمنتها في الشرق الأوسط، قد خلقت بالفعل أرضا خصبة للإسلاميين ليرفعوا رؤوسهم القبيحة مرة أخرى.

ونتيجة لذلك فإن كل الزبالة الرجعية التي كانت تحت السيطرة في ظل التوازن السابق بدأت تعود هي أيضا. فأردوغان بعد أن رأى إيران مشغولة في لبنان، وروسيا مشغولة في أوكرانيا، وجد فرصته في إرساء “حقائق جديدة على الأرض”، فدعم هيئة تحرير الشام لحمل السلاح مرة أخرى ضد نظام الأسد. والآن يعمل زحفهم نحو دمشق على إحداث تغيير سريع في تركيبة المنطقة، مع عواقب بعيدة المدى.

إن دعم إسرائيل والإمبريالية الغربية مرة أخرى لهجوم العصابات الجهادية -الذي يرون فيه ضربة موجهة ضد عدوهم الرئيسي: إيران- يشكل دليلا على الكلبية القذرة التي يتسمون بها. دون أي اهتمام بأن هذا قد يؤدي إلى تفكك سوريا وزعزعة استقرار المنطقة بأسرها.

نظام عالمي جديد

في الوقت الذي تصطف فيه الولايات المتحدة وإسرائيل خلف الإسلاميين، تسعى روسيا وإيران جاهدتين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النظام ومصالحهما في البلاد. كما أعلنت الصين دعمها للأسد. يتم الآن رسم الخطوط العريضة لصراع آخر بين الإمبريالية الأمريكية وحلفائها من جهة، وبين كتلة روسيا والصين وحلفائهما من جهة أخرى.

إن النظام العالمي الذي قام بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والذي كانت فيه الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة على هذا الكوكب، ينهار، وصارت واشنطن تواجه تحديا من جانب كل من الكرملين وبكين. لكن هذا التوازن الجديد للقوى يفتح الطريق أيضا أمام بلدان أخرى، مثل تركيا، للتوازن بين هاتين الكتلتين من أجل تحقيق مساحة أكبر للمناورة.

تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك فقد عملت على مدى السنوات الماضية على التقارب مع روسيا على الصعيد العالمي ومع إيران على المستوى الإقليمي. وفي حين كان الغرب يفرض عقوبات على روسيا، كانت تركيا تستفيد من الصفقات التجارية مع موسكو، بما في ذلك الصفقات التي من شأنها أن تساعد الروس على التحايل على العقوبات الغربية. وبعد الحرب الأهلية في سوريا، اتفق الأتراك مع الروس والإيرانيين على بذل جهد مشترك لدفع الغرب إلى الانسحاب. ولكن الآن، بدأ البندول يتأرجح في الاتجاه الآخر مرة أخرى. فبعد أن رأى أردوغان فرصته، بدأ ينتزع تنازلات من الولايات المتحدة في شكل دعم لحملته للاستيلاء على شريحة أكبر من سوريا.

الاشتراكية أم الهمجية

لقد عمل الإمبرياليون، لعقود من الزمان، على تخريب الشرق الأوسط، وكانوا عند كل منعطف يدفعونه إلى المزيد من الهمجية. لقد حولوا تلك المنطقة التي كانت ذات يوم مهد الحضارة المزدهر، إلى أرض قاحلة غارقة في الآلام والرعب والمعاناة. وحروب إسرائيل ليست استثناء. هذه الحروب تهدد الآن بالانتشار وزعزعة استقرار بلدان المنطقة، الواحد منها تلو الآخر، مما يفتح الأبواب أمام حريق إقليمي ستكون له عواقب مدمرة للغاية.

إن الفكرة التي يروج لها الغرب هي أن الشرق الأوسط يحتاج إلى التدخل الحضاري من طرف القوى الغربية، خشية أن يقع في براثن الأصولية الإسلامية المتعصبة. لكن واقع الأمر هو أن الإمبريالية الغربية وحلفائها هم المسؤولون عن كل البؤس الذي تقاسيه جماهير الشرق الأوسط. ولولا الدعم الغربي لما استطاعت تلك الوحوش الإرهابية المسعورة أن تصمد ولو ليوم واحد.

إن ما يظهر بوضوح في هذه المنطقة هو جوهر الرأسمالية: المصلحة الضيقة لقلة من الرأسماليين في قمة المجتمع تأتي فوق مصلحة البشرية. إنه يفضح طبقة ليس فقط لم تعد صالحة للحكم، بل إن حكمها صار يتعارض تماما مع الحياة المتحضرة.

حميد على زاده

8 ديسمبر/كانون الأول 2024

ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:

The unravelling of Syria: a legacy of imperialist war and meddling