الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / الحروب والثورات / منظورات الثورة في الشرق الأوسط

منظورات الثورة في الشرق الأوسط

مرت سنتان على اندلاع الثورة المصرية وقد شهدنا سقوط العديد من القتلى في شوارع القاهرة خلال اشتباكات بين الشباب والعمال الثوريين وبين الإسلاميين الحاكمين. هذا مؤشر عن حقيقة الوضع اليوم في العالم العربي. لقد أسقطت الثورة حكمي مبارك وبن علي، لكنها لم تحل أيا من المشاكل الاجتماعية التي كانت السبب الأساسي للثورة. [بيان على أساس نقاش داخل اللجنة التنفيذية الأممية للتيار الماركسي الأممي خلال اجتماعها الأخير شهر يناير].

ما قلناه في الماضي

لم تشكل الثورة العربية حدثا مفاجئا للماركسيين. لقد كنا نتابع التطورات هناك طيلة مدة من الزمن. وعلى سبيل المثال نشرنا مقالا عن الثورة العربية سنة 2007 تحت عنوان: “Class Struggle Brewing in the Middle East” (الصراع الطبقي ينضج في الشرق الأوسط) إلى جانب العديد من المقالات الأخرى. هذا في وقت كانت فيه الرأسمالية في أوروبا وأمريكا الشمالية ما تزال تعيش ازدهارا اقتصاديا وكانت أمريكا اللاتينية في الطليعة. لقد أكدنا على دور فنزويلا وأمريكا اللاتينية ككل، باعتبارها مركز التطورات الثورية على الصعيد العالمي.

في الوقت الذي كنا نؤكد فيه الإمكانيات الثورية التي يتضمنها الوضع في أمريكا اللاتينية، ونوضح أنه كان استشرافا لما سيحدث قريبا على نطاق عالمي، كانت العديد من التيارات اليسارية تشكك في ما نقول. إن هؤلاء الناس يحتقرون دائما الإمكانيات الثورية للجماهير. وقد كانوا في ذلك الوقت يزعمون أن الشرق الأوسط يسير في الاتجاه المعاكس لما يحدث في أمريكا اللاتينية. زعموا أن ما يسيطر في الشرق الأوسط هو الردة الرجعية، وحتى بعض “الماركسيين” قالوا إن قيادة التيار الماركسي الأممي تبالغ في التفاؤل بخصوص الثورة العالمية.

إلا أن الحقيقة هي أننا نبني منظوراتنا المتفائلة ليس على قاعدة المتمنيات الذاتية، بل على واقع الشروط الموضوعية، على قاعدة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والإمكانيات الحقيقية للثورة التي تنجم عن هذه الظروف. إن تفاؤلنا ليس تفاؤلا فارغا مجردا.

بالعودة إلى عام 2007 شرحنا أن إسرائيل، مع الهزيمة في الحرب في لبنان، ستشهد صعود التناقضات الطبقية إلى السطح. وسرعان ما تأكدت هذه المنظورات من خلال سلسلة من الإضرابات التي قام بها عمال الموانئ وغيرها من القطاعات. وفي إيران أشرنا إلى الانقسامات التي بدأت تظهر في قمة النظام وتزايد السخط الاجتماعي. بعد عامين على ذلك شهدنا اندلاع الحركة الثورية الرائعة التي هزت النظام من أساسه، والتي لم تفشل في الإطاحة به إلا بسبب عدم وجود قيادة ثورية حازمة.

وفي فلسطين شرحنا كيف أن كلا من فتح وحماس على حد سواء يفقدان شرعيتهما في أعين الجماهير، لكونهما يسيران الأراضي الفلسطينية في خدمة الإمبريالية.

أما بشأن الوضع في مصر، فقد كتبنا العديد من المقالات حول العاصفة المقبلة، فعلى الرغم من الازدهار كانت البلاد تعاني في ذلك الوقت. إذا كان المرء يتبنى نظرة سطحية وغير جدلية للأوضاع فإن كل شيء سيبدو له على ما يرام، إلا أننا كنا قادرين على أن نرى التقاطبات الاجتماعية الهائلة التي كانت تحدث. لقد فهمنا أن نمو الاقتصاد من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز الطبقة العاملة؛ كما أننا أبرزنا دور النساء والدور الثوري الذي سيلعبنه. وقد كانت إضرابات عمال النسيج بالمحلة، حيث فتحت نساء يرتدين الحجاب الطريق أمام انخراط الرجال بدورهم في الإضراب، مؤشرا لما كان يوشك على الحدوث. كما قمنا بالتركيز على دور الشباب المتعلمين ذوي الشواهد العليا لكن العاطلين عن العمل وبدون أفق. لقد كان برميل بارود ينتظر مجرد شرارة ليشتعل.

الشرارة التونسية تشعل الثورة

جاءت تلك الشرارة في نهاية عام 2010 في تونس، عندما قام شاب فقير ويائس بإضرام النار في جسده احتجاجا على الطريقة التي تم التعامل بها معه من قبل الشرطة. كان لهذا صدى فوري بين أوسع فئات الجماهير التي تماهت مع حالته، وانطلقت الثورة التونسية. وكانت الثورة التونسية الشرارة الأكبر التي انتشرت بعد ذلك إلى مصر، ثم إلى كل العالم العربي بعد ذلك.

كان تحليلنا للثورة المصرية فريدا من نوعه، كان تحليلا يوميا في ذروة النضال ضد مبارك. لقد قمنا بتحليل كل تغير في الوضع، وتوقعنا الخطوة التالية للجماهير الثورية. وقد تابعنا المراحل الرئيسية منذ ذلك الحين.

إن السمة الرئيسية للثورة العربية هي عدم وجود قيادة ثورية للطبقة العاملة. إذا لم نفهم هذا الواقع لا يمكننا أن نفسر الأحداث اللاحقة. إن الأحداث لا تقف في انتظار “نضج العامل الذاتي”، في انتظار بناء الحزب الثوري. في مثل هذه الظروف يحدث فراغ، وهذا الفراغ يجب أن يتم ملئه. في تونس ومصر، تم ملئ هذا الفراغ من قبل الإسلاميين. وقد كان هذا هو الحال أيضا في ليبيا وسورية وغيرهما.

عندما تحدث مثل هذه التغيرات السريعة، مع التقلبات التي تشهدها من الثورة إلى الثورة المضادة، يبدأ الكثير من اليساريين في الشكوى مرة أخرى، ويعودون إلى شعارهم السابق حول “الأصولية الإسلامية”، تقريبا كما لو أنها قوة غير مرئية لا يمكن وقفها. لكن هذا خاطئ كليا.

إن صعود هذه القوى هو نتيجة لعدم وجود قيادة ثورية. الثورة سيرورة وليست مسرحية من فصل واحد. إن الثورة والثورة المضادة يسيران معا وفي لحظات مختلفة من السيرورة يمكن لإحداهما أن تهيمن على الأخرى. والأساسي هو أن الحياة خير معلم. لقد سيطر الإسلاميون على السلطة في مصر وتونس، وملؤوا الفراغ، لكنهم الآن بعد أن وصلوا إلى السلطة بدأوا ينفضحون باعتبارهم قوة رجعية. إن مهمتهم هي الوقوف في وجه الثورة، وتحويل الجماهير إلى طريق الأصولية الإسلامية، بالتظاهر بأنهم “معادون للامبريالية” بينما هم يتعاملون سرا مع “الشيطان الأكبر”، ويطبقون السياسات الرأسمالية: التقشف، خفض الدعم، وما إلى ذلك. إنهم يقولون بديماغوجية إنهم يدافعون عن الثورة، بينما هم في الواقع يعملون على تقويضها. النقطة المهمة هي أن الجماهير الآن ترى هذا الواقع بأعينها وهذا ما يفسر التحول الأخير في الأحداث في هذين البلدين.

التحضير لموجة جديدة من الثورة

إن الثورة لم تنته بعد. بل على العكس من ذلك هناك موجة جديدة من الثورة تتحضر. ستكون هناك العديد من الموجات، وذلك تحديدا لعدة أسباب: 1) غياب العامل الذاتي، 2) الضعف النسبي للطبقة الحاكمة، و3) القوة الهائلة للطبقة العاملة. هذا يعني أن الطبقة الحاكمة أضعف من أن تقدم فورا على تنفيذ هجمة رجعية ساحقة، وبالتالي هي مضطرة إلى المناورة باستمرار والاعتماد على ضعف قيادة الطبقة العاملة.

سنة 2011 كانت كل العيون مركزة على الثورة في العالم العربي، لكن في غضون فترة قصيرة جدا تحول التركيز إلى أوروبا. إن هذا تطور مهم، فكما أوضحنا دائما إن مفتاح الثورة العالمية يوجد في البلدان الرأسمالية المتقدمة. في الماضي اندلعت الثورات ضد الاستعمار (في الستينات والسبعينات)، بينما كان الجزء الأكبر من البلدان الرأسمالية المتقدمة يعيش فترة ازدهار طويلة. كانت الظروف في البلدان المستعمرة سابقا ناضجة للثورة، لكن الثورة في البلدان الرأسمالية المتقدمة كانت مؤجلة. يوضح هذا التطورات الخاصة التي شهدتها تلك البلدان.

لم تكن الجماهير في تلك البلدان تستطيع أن تنتظر اندلاع الثورة في البلدان المتقدمة لتشرع هي في الثورة، لكن وفي ظل الظروف المعطاة، وبوجود قيادات ستالينية أساسا لتلك الثورات، كان أفضل ما يمكن تحقيقه هو شكل من أشكال الستالينية. هذا ما يفسر ظاهرة البونابارتية البروليتارية التي انبثقت عن حروب العصابات، والانقلابات العسكرية وما إلى ذلك.

الوضع مختلف جدا الآن. لدينا أوضاع ثورية وقبل- ثورية في جميع أنحاء العالم، في كل من البلدان المستعمرة سابقا والبلدان الرأسمالية المتقدمة. الجماهير العربية ترى الآن ثورتها كجزء من حركة إقليمية وعالمية. إنها تتطلع إلى إسبانيا، واليونان، وغيرها من أجل استلهام الدروس، وفي المقابل تستلهم الجماهير في أوروبا الدروس من الثورات في الشرق الأوسط. ونرى هذا أيضا في الولايات المتحدة. انظروا، على سبيل المثال، إلى النضال ضد حاكم ولاية ويسكونسن ووكر سكوت في نفس الفترة التي شهدت سقوط مبارك. ومن العناصر الهامة الأخرى أن الجماهير العربية ترى أيضا سلطة الإمبريالية الأمريكية والإسرائيلية تتراجع كما تتراجع قدرتها على سحق الثورات، الخ، وهذا يعطي ثقة أكبر للجماهير.

مصر

في البداية كان في مصر جزء من الشعب لديه أوهام حول جماعة الإخوان المسلمين. لكن وفي فترة قصيرة جدا من الزمن بدأ الناس يعرفون طبيعتها. الآن الرئيس مرسي، يحاول تشييد شكل من أشكال الأنظمة البونابارتية، من خلال تركيز صلاحيات أكبر بين يديه. لكن الجماهير ردت بخروج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع ومهاجمة مقرات الإخوان، والدعوة إلى سقوط النظام.

كانت رد النظام على جميع هذه التحركات وحشيا. ومن خلال هذه التجارب ترى الجماهير أنه لم يتغير أي شيء. الإخوان المسلمون الآن يفقدون قاعدة الدعم بسرعة. وذلك لأن الجماهير قامت بالثورة ليس فقط لإسقاط مبارك، بل من أجل حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الملحة التي تواجهها. والآن بعد أن تمت الإطاحة بمبارك فإن شيئا لم يتغير من حيث الجوهر بالنسبة للجماهير. بل على العكس من ذلك ازدادت الأمور سوءا في الواقع بالنسبة لهم.

تراجع الناتج الداخلي الإجمالي في مصر من أكثر من 6٪ قبل الثورة إلى 1.8٪ الآن. وقد شهد الاقتصاد تباطؤا حادا. وارتفع معدل البطالة وتراجع الاستثمار الأجنبي إلى 10٪ فقط عما كان عليه في السابق.

في ظل هذه الظروف يعمل الشباب والعمال على استخلاص الدروس. لقد انفضح الإسلاميون، وهناك تحول في الحياة السياسة. وهذا ما يفسر صعود نجم جبهة الإنقاذ الوطني، التي تتألف من قوى مختلفة، بمن في ذلك الناصريون مثل صباحي، الذي يعلن نفسه اشتراكيا (إنه في الواقع أقرب إلى الاشتراكية الديمقراطية. هذا تطور مهم، بالنظر إلى أن عبد الناصر كان يسير في اتجاه البونابارتية البروليتارية ونفذ العديد من عمليات التأميم والإصلاحات الاجتماعية، وعارض الإمبريالية، الخ. إن الطبقة العاملة المصرية تحمل ذكرى ايجابية عن عبد الناصر).

لكن جبهة الإنقاذ الوطني تشمل أيضا الليبراليين البرجوازيين مثل البرادعي، وموسى من نظام مبارك القديم. إنها نوع من جبهة شعبية تتشكل من قوى لديها جذور بين صفوف الجماهير العاملة وبين القوى التي تمثل نفس الطبقة الحاكمة التي ساندت مبارك. لقد جمعت هذه الجبهة الكثير من الدعم بين الجماهير، وخاصة الشباب في الفترة الأخيرة، وهذا مؤشر على وجود مزيد من التجذر.

سوف تشهد الفترة المقبلة تعرض الحكومة المصرية الحالية لضغوط قاسية. فبالنسة للبرجوازية والإمبريالية تتمثل المهمة الرئيسية لهذه الحكومة في تنفيذ إجراءات تقشف قاسية. وفي هذه المرحلة بدأ مرسي للتو في تنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. لقد أجبر على التراجع مؤقتا في وجه الاحتجاجات الجماهيرية. مشكلته هي أنه حتى الآن لم يرق إلى مستوى المهام التي تطلبها منه البرجوازية والإمبرياليون. وبالتالي فإنه يجب على الإخوان المسلمين المضي قدما في الهجمات – وهذا ما سوف يؤدي إلى المزيد من انفضاحهم في عيون الجماهير.

الأصولية الإسلامية – ظاهرة رجعية

إن الإخوان المسلمين كانوا دائما قوة رجعية. وقد اتخذنا موقفا مبدئيا من جماعة الإخوان المسلمين عندما حاولوا تقديم أنفسهم بأنهم جزء من الثورة. لقد شرحنا طبيعتهم وأهدافهم. بعض اليساريين الآخرين للأسف، مثل الاشتراكيين الثوريين (المجموعة المصرية المرتبطة بحزب العمال الاشتراكي البريطاني) دعموا الإخوان المسلمين بحجة أنهم “جزء من الثورة”، وإن كانوا على يمينها! لقد كان هذا موقفا مخزيا بالنسبة لمجموعة تدعي أنها اشتراكية.

ما نسيته جماعة الاشتراكيين الثوريين هو أن دور الماركسيين ليست السير خلف الجماهير، بل هو قول الحقيقة للعمال والشباب. في بعض الأحيان يمكن أن يجعلك قول الحقيقة تفقد شعبيتك مؤقتا. وفي بعض الأحيان يمكن أن يكون من الصعب تحديد الاتجاه الصحيح، وإذا لم يكن المرء مستندا على الأفكار الأساسية للماركسية يمكن له أن يسقط في أخطاء في غاية الخطورة. لقد قال التيار الماركسي الأممي الحقيقة، وشرح الطبيعة الحقيقية لجماعة الإخوان المسلمين. والآن لدينا الشرعية للدخول في حوار مع العناصر الأكثر تقدما بين صفوف اليسار في مصر، في حين ضربت شرعية أولئك الذين زرعوا الأوهام بشكل كبير.

هذا مثال واضح عن كيف تجعلك مناقشة وفهم نظري لظاهرة ما، والموقف الذي تأخذه منها، قادرا على البناء أم عاجزا عنه. لا يمكنك البناء بموقف خاطئ، حتى لو كنت قادرا مؤقتا على جمع الدعم. لأنه عاجلا أم آجلا ستظهر الحقيقة.

نرى وضعا مماثلا في تونس، حيث عادت الآن الاحتجاجات الكبيرة وموجات الإضراب إلى السطح. في نهاية العام الماضي كانت هناك سلسلة من الإضرابات المحلية والجهوية، مع إضراب عام تمت الدعوة له في منتصف شهر دجنبر، لكنه ألغي في اللحظة الأخيرة من قبل قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل. صدر قرار إلغاء الإضراب بهامش أصوات صغير جدا في اللجنة التنفيذية الوطنية للاتحاد. هناك في الواقع جناح يساري قوي داخل الاتحاد. لو لم يكن قرار الإلغاء هذا لكان هناك إضراب عام جماهيري كان يمكنه أن يسقط الحكومة الأصولية. [ومنذ ذلك الحين شهدنا حركة جماهيرية قوية، بما في ذلك الإضراب العام، بعد اغتيال زعيم المعارضة شكري بلعيد. حيث خرج آلاف إلى الشوارع، وهاجموا مكاتب حزب النهضة الحاكم، الذي اعتبروه مسؤولا عن عملية الاغتيال].

سواء في تونس أو مصر كشفت الحكومة الإسلامية بالفعل عن طبيعتها الحقيقية، ونتيجة لذلك بدأت الجماهير تتجذر أكثر فأكثر. من يمكنه أن يشكك في أنه إذا كانت هناك قوة اشتراكية حقيقية، كانت ستشهد نموا سريعا في ظل هذه الظروف؟ وبدلا من “الردة الإسلامية الرجعية” التي تسيطر على المشهد، لدينا جماهير تتعلم من تجربتها وتنتقل إلى مستوى أعلى في تطورها. هذا هو الحال في كل من مصر وتونس.

ليبيا

لقد أثارت الثورتان المصرية والتونسية سيرورة واسعة ذهبت إلى أبعد من حدود هذين البلدين. وقد رأينا كيف قامت الجماهير في ليبيا بتتبع خطوات جيرانها وانخرطت في طريق الثورة. لكن ليبيا تختلف كثيرا عن جيرانها. لديها تاريخ مختلف، ونظام مختلف، وطبقة عاملة أضعف بكثير، الخ. لذلك حدث أن العملية كانت أكثر تشوها، وليست واضحة كما هو الحال في مصر وتونس.

إن ما يسمى بعملية التحرير – التي تحققت بمساعدة من القنابل الإمبريالية- أدت بحكم الأمر الواقع إلى تفكك البلد. ظهرت ميليشيات مختلفة وأمراء حرب محليين، والبرجوازية الدولية تشعر بقلق عميق حول كيفية تطور الأمور. فبدلا من حصولها على نظام لطيف وودي ومستقر وموال للغرب، حصلت على حالة من الفوضى، مع الانقسام بين طرابلس وبنغازي، وسيطرة العديد من أمراء الحرب المحليين على أجزاء مختلفة من البلاد.

لقد فوجئ القذافي حقا عندما هوجم من قبل الغرب. كرر لهم عدة مرات ” أنا صديقكم!”، وأعرب عن صدمته لتعرضه للهجوم من البلدان الامبريالية التي كان يقوم معها بصفقات مربحة حتى وقت قريب جدا. كان قد تعاون مع الغرب في “الحرب على الإرهاب”، وكان يلعب دور شرطي الساحل الشمال إفريقي حيث يمنع تدفق موجة اليائسين الذين يحاولون الهجرة بطريقة غير شرعية إلى أوروبا. إلا أن الإمبرياليين، وخاصة الفرنسيون، رأوا في ليبيا فرصة للتدخل في مسار الثورة العربية، ووقف العملية برمتها ودفعها في اتجاه رجعي.

إنهم الآن يواجهون وضعا مضطربا للغاية، امتد إلى مالي، ويهدد بالوصول إلى ما هو أبعد من ذلك. صحيح أن تنظيم القاعدة قد وجد لنفسه ملجئا وصار يتدخل في الأحداث، لكنه سيكون من قبيل المبالغة تركيز كل الاهتمام على عناصر تنظيم القاعدة. إنهم موجودون هناك، بطبيعة الحال، لكن هذا ليس كل ما في الأمر. لقد بنى القذافي شبكة معقدة من التحالفات القبلية، وعمل على شراء من يسمون بقادة القبائل، ودفع بعضهم ضد بعض، الخ. لكن الآن ودون القوة المركزية للقذافي، كل هذا هو على وشك الانهيار، والبلاد مهددة بالتفكك.

ومع ذلك، ففي ليبيا أيضا، وكما هو الحال في مصر وتونس المجاورتان، هناك تيار قوي معاد للأصوليين. وعلى سبيل المثال فبعد مقتل السفير الأمريكي في بنغازي، هاجم الآلاف من الليبيين مقرات الميليشيات السلفية وأحرقوها، وقتلوا عددا منهم، وطالبوا بحل تنظيماتهم، ونزع سلاحهم، الخ.

الصراع في مالي

إن ما حققه الإمبرياليون من خلال تفجير البلد هو زعزعة استقرار ليبيا مما سمح للجماعات الإسلامية بالعمل هناك، وقد ارتبط هذا بالنزاع الداخلي في مالي، الذي هو من بقايا الحقبة الاستعمارية. إن حدود مالي مصطنعة؛ إنها تقطع أوصال مجتمعات، كما تجمع قسريا بين شعوب تتكلم لغات مختلفة ولها ديانات مختلفة. وقد خلق هذا وضعا قوميا معقدا، عمل الإسلاميون على استغلاله. إن الوضع يخرج أكثر فأكثر عن نطاق سيطرة الامبريالية- وهي تتعثر من خطأ إلى آخر.

كان الفرنسيون هم الأكثر حماسا في الدعوة إلى التدخل العسكري في ليبيا. لكنهم لم يحسبوا ما سيكون له من آثار في مالي، وها هم الآن مضطرون للتدخل هناك أيضا.

مالي في الواقع بلد دمرته الحرب الأهلية لأكثر من عام. لدى شعب الطوارق تاريخ من النضالات من أجل التحرر الوطني. على مدى عقود ناضلت الحركة الوطنية لتحرير أزاود ضد السلطة المركزية في باماكو. وفي نهاية عام 2011، تم تشكيل تحالف من ثلاث مجموعات أصولية: تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي؛ أنصار الدين، والحركة من أجل التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا. في أبريل احتل هذا التحالف شمال مالي والمدن الكبرى: كيدال وغاو وتومبوكتو ونيافنك. مكن اتفاق مؤقت وقع بين ميليشيات الطوارق وبين الحكومة المركزية من تحقيق هدنة مؤقتة، لكن سرعان ما تعرض “الرجال الزرق” للاكتساح من قبل الجهاديين في تنظيم القاعدة. التهديد الذي مثله أربعة آلاف من المقاتلين الجهاديين، المسلحين بشكل جيد والأكثر حزما وعدوانية من الجيش المالي، جعل الوضع غير مستقر للغاية ولا يمكن تحمله من وجهة نظر المصالح الفرنسية.

مالي بلد رئيسي في وسط غرب أفريقيا، ويعتبر طريقا هاما للنيجر المورد الرئيسي للاورانيوم لمحطات الطاقة النووية الفرنسية. لذلك، وبعيدا عن الذريعة الرسمية بخصوص التصدي “لصعود الأصولية الإسلامية”، هناك مصالح إستراتيجية واقتصادية هامة على المحك.

تزعم فرنسا أن التدخل العسكري هو من أجل “الدفاع عن الديمقراطية”. لكن لا توجد أصلا أي “ديمقراطية” في مالي، ولا حتى من نوع الديمقراطية البرجوازية المحدودة. في مارس 2012 حدث انقلاب أطاح بالحكومة السابقة وأقام ديكتاتورية عسكرية تحت سيطرة القائد أمادو هيا سانوجو، الذي علق العمل بالدستور ومنع الحقوق الديمقراطية، وقام بتعيين الرؤساء وعزلهم. تم تدريب سانوجو في الولايات المتحدة، وبالتالي حصل على درجة من الثقة للسيطرة على مالي. لكنه لم يكن قادرا على وقف تقدم المتمردين. هنا دقت ساعة فرنسا الديمقراطية للتدخل “المنزه عن الأغراض”.

والحقيقة هي أنه لا يوجد حل سهل لهذا الوضع، سواء في ليبيا أو مالي. إن الحل الحقيقي الوحيد أمام العمال في مصر وتونس هو الاستيلاء على السلطة. عند ذلك سيجد الوضع في ليبيا حلا سريعا.

لا يمكن للمرء أن يناقش المنظورات داخل الحدود الضيقة لهذا البلد أو ذاك، وخصوصا عندما نتعامل مع دول متخلفة تماما مثل مالي. ستحدد الأحداث في البلدان الرأسمالية المتقدمة، على المدى الطويل، ما يحدث في البلدان الأقل نموا. وبهذا المعنى فان الثورة الأوروبية هي أيضا مفتاح لفهم ما ستؤول إليه الأمور في هذا الوضع. في الواقع، إن العالم كله مترابط. لقد ألهمت الثورة العربية الجماهير الأوروبية والآن ها هي الجماهير الأوروبية تقدم الإلهام والأمل للجماهير العربية.

سوريا

علينا النظر إلى خصوصيات تطورات الثورة السورية. علينا أن نسأل أنفسنا حول ماذا كان أساس الثورة. الشرارة بالتأكيد قدمت من تونس ومصر وأثرت بالشباب تحديدا والذين تحركوا بشكل ضخم – ولكن بدرجة من السذاجة أيضا. بنظرهم إلى التجربتين التونسية والمصرية، اعتقدوا أن المسيرات الضخمة واحتلال الساحات سيكون كافيا لإسقاط نظام الأسد. لقد شكلوا حركة شجاعة جدا، ولكنهم أثبتوا عدم قدرتهم على إسقاط النظام الذي برهن على أنه أكثر قدرة على التحمل مما تخيل المتظاهرون.

لمعرفة ما يحدث في سوريا علينا أن ننظر إلى التحولات التي حدثت في الاقتصاد السوري خال المرحلة الأخيرة. لقد شهد البلد مسلسل خصخصة للشركات العمومية، مما غير بشكل جذري طبيعة الاقتصاد.

خلال عقد الستينات كان قد تم تأميم اغلب الشركات الصناعية والتجارية. وبفضل ذلك تم تبني العديد من الاصلاحات الاجتماعية، من قبيل التعليم والخدمات الصحية. كان النظام الذي وصل إلى الحكم عن طريق الانقلاب في الستينات نظاما بونابرتيا بروليتاريا، أي نظام تكون فيه مفاتيح الاقتصاد في ملكية الدولة ويخضع لتخطيط مركزي، لكن حيث لا توجد الديمقراطية العمالية. لقد تشكل من الناحية الجوهرية على صورة النظام السوفييتي في ظل ستالين.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدء النظام السوري عملية مشابهة جدا لما رأيناه في الصين. لقد تمت خصخصة الصناعات، لكن الملاك الجدد كانوا من شخصيات النظام نفسه. بدأت العملية سنة 1991 لكنها تسارعت في العقد الأخير.

إذا قارنا السنوات 2001 – 2005 (الخطة الخماسية التاسعة) بالسنوات 2006 – 2010 (الخطة الخمسية العاشرة) يمكننا أن نرى الصورة التالية: في النصف الأول من العقد استمر القطاع العام بالهيمنة، ولكن كان هنالك تغيير في الطريقة التي تعمل بها مؤسسات الدولة. لقد تم تحويلهم إلى مؤسسات رأسمالية الدولة التي تعمل وفق قوانين السوق لا قوانين الاقتصاد المخطط. في النصف الثاني من العقد، أطلق العنان للقطاع الخاص فعليا. بحلول 2007 كان 70% من الاقتصاد السوري بأيدي الخواص.

كان لهذه العملية أثر كارثي على ظروف معيشة الجماهير. أصبحنا نرى استقطابا اجتماعيا حادا، مع بروز نخبة غنية جدا مرتبطة بالنظام العلوي، مقابل نمو الفقر على الطرف الأخر من المجتمع. في 2005 على سبيل المثال، كان 30% من السكان يعيشون دون خط الفقر (5.3 مليون شخص) ومن بين هؤلاء كان مليونا -2 مليون- شخص فاقدين “للأمن الغذائي”.

التضخم أنطلق في بدايات 2000 ونما من 1.3% في 2003 إلى 18% في 2007. أسعار البضائع الاستهلاكية الأساسية ارتفعت إلى حد 60%. الأمية التي تم محوها عمليا في الماضي أصبحت تنمو من جديد الآن.

الكثير من اليساريين غير قادرين على فهم ما يحصل ويرون الأمور بمنطق الأبيض والأسود: ثورة أو ثورة مضادة، امبريالية أو معادة الامبريالية… البعض يتحدث عن “ربيع عربي تبعه شتاء إسلامي”. هم ينظرون إلى الجماهير على أنها متخلفة ورجعية! غير قادرين على فهم كيف يمكن أن تنحرف العملية الثورية عن مسارها وأن تذهب في اتجاه رجعي. علينا أن ندرس ونفهم بحق المادية الجدلية كي نستطيع فهم هذه العمليات المتناقضة. هذه ليست عملية خطية! الأمور يمكن أن تنقلب إلى عكسها…

مرة أخرى، غياب القيادة الثورية هو مفتاح فهم هذه الفوضى. بسبب همجية النظام في سوريا، بناء أي حزب ثوري فاعل كان مهمة أكثر صعوبة مما هي عليه في مصر على سبيل المثال.

في هذه الظروف انفجرت الثورة في سوريا التي دعمها الماركسيون. ما علينا فهمه هو أنه على الرغم من انفجار الثورات عندما تكون الجماهير جاهزة للحركة فليس هناك ضمانة أنها ستنجح. إذا لم تتحقق شروط معينة – وأهمها وجود قيادة ثورية – يمكن للثورة أن تتحول إلى ثورة مضادة.

لدينا المثال التاريخي للثورة الاسبانية في الثلاثينات حيث قامت الثورة المضادة بخنق الثورة بطريقتين: تمرد فرانكو الفاشي الواضح، والثورة المضادة “الديمقراطية” الستالينية في المعسكر الجمهوري. على الرغم من كل ذلك فما حدث في اسبانيا في الثلاثينات كان ثورة. ولكن الثورة ليس عملية خطية. لا يمكننا أن نتوقع رؤية حلول بسيطة خطية بيضاء أو سوداء في ظل غياب العامل الذاتي المتمثل في الحزب الجماهيري الثوري.

الوضع في سوريا الآن أكثر تعقيدا بكثير. مازال العديد من الشباب الثوري في سوريا يقاتل من أجل التخلص من الأسد، لكنهم ليسوا من يحددون طبيعة معارضة الأسد ككل. علينا أن نوضح الوضع القائم وأن نشرح بصدق ما حصل. لقد تعرضت الأوهام الساذجة للمرحلة الأولى من الثورة للسحق من قبل الواقع الحالي. لقد تحولت الآن إلى حرب أهلية وحشية..

في هذا الظرف تدخلت المجموعات الإسلامية، مدعومة وممولة من السعودية وقطر وغيرها من الأنظمة الرجعية في المنطقة. هذه العناصر مسؤولة عن قتل الناس فقط لكونهم من العلويين أو المسيحيين الخ. هؤلاء ليسوا قوى ثورية على الإطلاق. هدفهم الأول بالضبط هو تزكية الصراع على أسس دينية وإثنية. هذا الأمر دفع بالكثيرين إلى أحضان الأسد. نحن نؤيد إسقاط الأسد ولكن لا يمكننا تقديم ذرة من الدعم لمثل هذه القوى الرجعية. نحن ضد التدخل الامبريالي ولكن أيضا ضد المعارضة الرجعية – كلاهما غير قادر على تقديم أي شيء للطبقة العاملة، الشباب والفقراء.

يوجد الكثير من الكلام في الغرب عن التدخل في سوريا أو تسليح معارضي الأسد، ولكن بإمكانهم رؤية أن الأمر لن يكون سهلا. هم قلقون بخصوص مآل تلك الأسلحة – كما حصل في حالة ليبيا/مالي. لقد فهموا بعد تجربتي العراق وأفغانستان أن التدخل العسكري شيء، لكن السيطرة على الوضع وإعداد استرتيجية للخروج شيء أخر تماما.

أصبحت المسألة الكردية تبرز من جديد في هذا الوضع. لقد حصل الأكراد عمليا على حكم ذاتي في شمال العراق وفي سوريا يحاول الأسد استغلال المسألة الكردية من خلال تقديم بعض التنازلات لأكراد سوريا وبالتالي فصلهم عن القوى التي تصارع النظام. الحراك الكردي يتم إعادة إحيائه في هذا الظرف ومن الممكن أن يمتد لتركيا التي فيها عدد كبير من السكان الأكراد. هذه هي طريقة الأسد في الرد على تركيا. في الحقيقة ما يحصل هو استخدام الأكراد وتلاعب بهم. الطريقة الوحيدة التي ستمكن الأكراد من الحصول على وطن حقيقي هي من خلال ثورة اشتراكية في جميع البلدان التي يقطنونها، ففي ظل فدرالية اشتراكية واسعة سيصير بإمكانهم تحقيق تقرير المصير. في ظل الرأسمالية سوف يواجهون نفس المصير الذي واجهته الكثير من القوميات في الماضي. يتم وعدهم بالحصول في أحد الأيام على الحكم الذاتي وحتى بالاستقلال لكن فقط بغرض خدمة أجندة هذه القوة الامبريالية أو تلك وخيانتهم لاحقا.

إن ما يقوم به نظام الأسد في اللعب على الوتر العرقي في محاولة للمحافظة على قاعدة دعم له في البلد، وما تقوم به أيضا الأنظمة الرجعية في الخليج بتزكية الصراع الديني/الإثني يطرح إمكانية تقسيم سوريا، مع كل تأثيرات عدم الاستقرار التي سيسببها ذلك في المنطقة برمتها وامتدادها إلى دول الجوار.

الحرب الأهلية في سوريا

لدينا أيضا الإمكانية الواقعية لحرب أهلية بعد سقوط الأسد. هناك قطاعات من الجيش السوري الحر اصطدمت مع العناصر الجهادية التي يعتبرون أنها تخطف الثورة. بسبب غياب قيادة ثورية واضحة أصبح الوضع عبثيا. لو كانت الطبقة العاملة موحدة حول حزب ثوري لكان الوضع اختلف تماما. قوات المعارضة تجد إسقاط النظام أصعب بكثير مما توقعت بالأساليب العسكرية فقط. ظهور قوى رجعية إسلامية متطرفة ضمن المعارضة، واتباعهم أسلوب التحريض على الصراع العرقي بدل الصراع الطبقي، أضعف جاذبية المعارضة بين سكان المدن.

ما قد يسقط النظام في نهاية المطاف هو إضراب عام على مستوى سوريا قادر على شل البلد. تحقيق ذلك يحتاج إلى وجود حزب قادر على توحيد جميع العمال والفقراء خلفه وهذا قابل للتحقيق فقط إذا امتلك هكذا حزب برنامج يقدم حلولا لجميع القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحة والتي تؤثر على فئات واسعة من الشعب. ولكن بسبب عدم امتلاك قوى المعارضة مثل ذلك البرنامج فإن الصراع قد تحلل باتجاهات إثنية ودينية. في أحسن الأحوال، يدعو برنامج المعارضة إلى شكل من الديمقراطية البرجوازية و”اقتصاد السوق” وهو بالتالي عاجز عن تقديم أي حلول للعمال والفقراء. هذا ما يفسر لماذا تغوص سوريا الآن في حرب أهلية طائفية بإمكانها أن تطول وتستمر حتى بعد السقوط المحتوم للأسد.

لقد دعمنا الثورة السورية حين انطلقت، ولكن علينا أن نشرح أن الأمور قد تغيرت. يوجد الآن ثورة مضادة في كلا الطرفين. نحن ندرك أنه مازال يوجد بعض العناصر الثورية – خاصة في أوساط الشباب – بين المعارضين ولكن العناصر الرجعية تطغى عليهم. لا يمكننا أن نتوقع بأن تكون الأمور بيضاء أو سوداء، ثورة أو ثورة مضادة. كما قلنا سابقا، الثورة والثورة المضادة تسيران يد بيد ولكن في النهاية على إحداهما أن تنتصر، فهذا الوضع لا يمكن أن يستمر للأبد. في سوريا، وخلال فترة قصيرة من الزمن نسبيا، أصبحت عناصر الثورة المضادة هي المسيطرة. الظرف الموضوعي لا يبقى ثابتا في مكانه بل يتغير مع الوقت. الظروف تغيرت وعلى تحليلنا أن يتغير كذلك. علينا أن نعترف بالواقع. لا يمكن لمقاربتنا لمسائل الثورة والثورة المضادة أن تكون عاطفية أو رومانسية.

لسوء الحظ يسعى بعض اليساريين، ومن ضمنهم من يدعون الماركسية، دائما إلى دعم أحد الأطراف في صراع ما. يذكرنا هذا بانهيار يوغسلافيا عندما دعمت بعض المجموعات اليسارية الصرب وأخرى دعمت الكروات. الحقيقة هي أنه لم يكن هناك أي شيء تقدمي بالنسبة لانهيار يوغسلافيا أو لأولئك المتورطين بالقتال. لقد كانت كل الأطراف رجعية، بحيث تلاعبت الامبريالية – الامبريالية الألمانية تحديدا- بالمجموعات المختلفة التي شكلت الاتحاد اليوغسلافي السابق كي تخدم مصالح الرأسمالية.

ما أضاف إلى التشوش في سوريا هو الانتصار المؤقت للإسلاميين في مصر وتونس. في ذروة الثورتين التونسية والمصرية رأينا الجماهير الكادحة تخرج بقوة وتطيح بالطغاة المكروهين، ولكن كما شرحنا مسبقا، استغل الإسلاميون الفراغ السياسي الذي تلا ذلك وفازوا بالانتخابات. هذا بدوره زاد من قوة الإسلاميين في سوريا.

الحقيقة هي أن حل الأزمة في سوريا يمكن إيجاده في مصر وتونس – لا بل وأكثر من ذلك في إيران. لا يوجد حل ضمن الحدود الضيقة لسوريا. حتى بوجود حزب جماهيري اشتراكي سليم في سوريا، الحل النهائي لا يمكن إيجاده ضمن حدود سوريا نفسها. حتى ولو وجدت ثورة اشتراكية ناجحة في سوريا اليوم، فلكي تستمر عليها أن تمتد خارج حدودها إلى تركيا، إيران وأبعد من ذلك. والأكثر الأهمية أنها تحتاج إلى انتصار اشتراكي في مصر، وهي أكبر البلدان العربية وتملك أكبر طبقة عاملة، وقادرة على قيادة العمال والشباب في كامل الشرق الأوسط.

علينا أن نشرح كل هذا لأفضل العناصر ضمن الشباب السوري. نحتاج إلى تطوير تحليل ماركسي واضح وأن ننظر إلى المدى البعيد شارحين حقيقة الوضع. نظام الأسد سينهار في النهاية، ولكن كيفية انهياره ومن سوف يسقطه أمر بنفس أهمية سقوط النظام بحد ذاته. في ليبيا نرى عواقب تغيير النظام بمساعدة الامبريالية – الفوضى والضياع في حين يستمر الامبرياليين بالتحكم من الخارج. مشاكل الطبقة العاملة الليبية لم تنحل بعد لا بل على العكس تزداد سوءا. نفس الأمر سينطبق على سوريا إذا سقط النظام بواسطة مليشيات مدعومة من قبل دول الخليج الرجعية والامبريالية الغربية.

بكل الأحوال، سيستقر الوضع وسيجد العمال موطئ قدمهم في نهاية المطاف. سوف يبدؤون بالتنظيم وخلق منظمات نقابية عندما يتحركون للدفاع عن مصالحهم. في النهاية ستبرز الحركة العمالية كقوة عندما يتضح للجماهير أن سقوط الأسد بحد ذاته لم يغير أي شي أساسي. لذلك ما يتوجب على طليعة الشباب والعمال القيام به هو الاستعداد للمستقبل بخلق معارضة سورية ماركسية. معارضة من هذا النوع سيكون لها دور كبير كي تلعبه في المستقبل.

الثورة العربية ستكون عملية طويلة وبطيئة تتخللها فترات من الحراك الجماهيري والاندفاع نحو اليسار تتلوها فترات من السكون المؤقت حيث تبدو الرجعية أقوى. ولكن الثورة ستسير قدما بطريقة أو بأخرى. السبب في ذلك هو عدم وجود حل في ظل الرأسمالية للمشاكل الأساسية مثل البطالة وانخفاض الأجور الخ.

الثورة بالفعل أخذت تنهض إلى مستوى أعلى في تونس ومصر وسيمتد ذلك إلى باقي الدول من دون شك. العراق سوف يتأثر، المملكة العربية السعودية والدول الخليجية ستتأثر أيضا. جميع دول المنطقة ستتأثر في مرحلة ما. سياسة فرق تسد المتبعة في المنطقة من قبل الامبريالية الغربية، إيران، الدول الخليجية الخ. لتقسيم المجتمع على أسس عرقية ودينية طائفية هي محاولة لاعتراض المسائل الطبقية. ممكن لهذا الأمر أن ينجح لفترة ولكن في النهاية ستطفو إلى السطح القضايا الطبقية.

الكويت والبحرين

دعونا ننظر إلى الكويت التي شهدت أكبر تظاهرات في تاريخها، مسيرة 150.000 في أكتوبر، مسيرة “الكرامة”. هذا أمر هائل بالنظر إلى أن عدد مواطني الكويت 1,5 مليون (بالإضافة إلى 3 ملايين من المهاجرين). الحراك بدء على شكل حركة معتدلة من أجل الإصلاحات والديمقراطية ولكن الدولة قمعتها بوحشية، تم اعتقال الناشطين الخ وبذلك هم مضطرون إلى فهم طبيعة الدولة بسرعة.

يمكننا رؤية كيف أن الحركة التي تبدأ بمطالب ديمقراطية تؤدي بالضرورة إلى اصطدام طبقي والحاجة إلى الثورة الاشتراكية. لقد رأينا عدة محاولات لرشوة الحركة ولكنها غير قادرة على دفن الثورة. الوحشية ستؤدي فقط إلى إطلاق غضب الجماهير أكثر. لا يمكن لأي دولة أن تتكل على نظامها الأمني فقط كي تستمر، عليها توفير حد أدنى من الظروف المعيشية المقبولة. نظام مبارك كان نموذجا واضحا عن هذا الأمر.

الحركة الثورية في البحرين أيضا هامة حيث رأينا 100.000 يتظاهرون في نوفمبر. في عمان أيضا رأينا حراكا. رد فعل النظام كان قمعا قاسيا مع بعض تنازلات هامة.

إيران

بالإضافة إلى مصر، إيران بلد رئيسي أخر في المنطقة سواء من حيث الحجم العام أو قوة الطبقة العاملة. لقد حللنا الثورة الإيرانية في الماضي متتبعين صعودها وهبوطها. حاليا من الواضح أنها في حالة جزر على الرغم من وجود إشارات تدل إلى قدوم موجة ثورية أخرى.

الوضع الاقتصادي في البلد تدهور في المرحلة الأخيرة وانفجارا جديدا يلوح في الأفق. التضخم يقف عند 26% رسميا. الإنتاج الصناعي ينهار. الطبقة الوسطى مفلسة. ملايين العمال لا يتلقون أجورهم والصراع الطبقي عاد إلى الأجندة..

القابعين على قمة النظام قلقون جدا. رئيس شرطة طهران ذهب العام الماضي إلى حد الطلب من الإعلام عدم إظهار الدجاج على التلفاز! السبب في ذلك هو تحول الدجاج إلى سلعة رفاهية، بما أن سعره مرتفع جدا، وظهوره على التلفاز قد يثير غضب الجماهير ويدفعها إلى “اخذ سكاكينها واخذ حقهم من الأغنياء”. لقد شرح أن ذلك يثير غضب الناس إلى حد التسبب بثورة ثانية.

أسابيع متواصلة تمر لا يتم فيها دفع أجور الحرس الثوري – وضع غير جيد للنظام. لقد رأينا للتو انتفاضات عفوية ضد الأسعار المرتفعة للدجاج والأكل بشكل عام. عمال المعامل ينظمون حملات ضد الأسعار المرتفعة والأجور المنخفضة ويتظاهرون أمام، وحتى يدخلون، البرلمان للاحتجاج.

مسيرة يوم 17 يونيو 2009

يوجد صراع واضح في قمة النظام. خامنئي يلقي اللوم على احمدي نجاد ويدعو إلى التوقف عن طباعة أوراق العملة من أجل الحد من التضخم. احمدي نجاد يلقي اللوم على خامنئي ل “خلقه مشاكل مع الغرب” ويريد طباعة المزيد من العملة كحل.

في الواقع لقد تزايد عرض المال بمقدار 7 مرات في السنوات 6 الأخيرة! هذا هو “التسهيل الكمي” على أوسع نطاق! ولكن نجاد يستخدم ذلك بأسلوب شعبوي. ففي حين يخفض الدعم يعطي في نفس الوقت لكل مواطن تعويضا من 40$ في الشهر. في طهران لا يشكل هذا الكثير، ولكن في القرى الصغيرة في المناطق الريفية يمثل هذا مبلغا كبيرا. يقوم بإتباع هذا السياسة لتوسيع قاعدة الدعم استعدادا للانتخابات القادمة.

الشرخ بين معسكري النظام يتوسع كل يوم. توجد أخبار دائمة عن حالات من الفساد ترافقها اعتقالات في الأعلى. تطورات ثورية في طور الإعداد في إيران. بإمكان هذا أن يتعطل مرحليا في حال حصول هجوم على إيران من قبل إسرائيل أو الامبريالية الأمريكية. ولكن تصرف كهذا سيؤدي فقط إلى ازدياد عدم الاستقرار في المنطقة بأكملها لأن الهجوم المفتوح على إيران سيعني إغلاق مضيق هرمز ( الذي يعبر منه 40% من نفط العالم) وهذا سيكون له عواقب على الاقتصاد على مستوى العالم.

كل هذا يشرح سبب، على الرغم من الحديث الكثير، إحجام الامبريالية الغربية عن ضرب إيران وذلك لخوفها من العواقب. الأمر نفسه ينطبق على إسرائيل، والتي هددت مرات عديدة بضرب إيران، ولكنها لحد الآن توقفت عن القيام بذلك. لكن الوضع غير مستقر للغاية ومليء بالتناقضات ومع نمو الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا يمكن استبعاد شن هجوم.

إسرائيل وفلسطين

الفلسطينيون أبعد اليوم من تحقيق تقرير المصير مما كانوا عليه منذ 50 سنة. “حل الدولتين” فشل فشلا ذريعا، وما يدعى “الكفاح المسلح” – وهو في الحقيقة إرهاب فردي – أيضا اثبت انه طريق مسدود أمام الجماهير الفلسطينية. لا يوجد إمكانية لحل ضمن حدود النظام الرأسمالي القائم أو ضمن الحدود الحالية الضيقة. قد يكون هذا ما لا يرغب الناس بسماعه ولكنه الحقيقة.

ولكن هذه المنطقة أيضا تأثرت بالثورة العربية. لقد رأينا حراكا كبيرا في غزة، وفي الضفة الغربية وإسرائيل نفسها. رأينا الحراك الضخم في إسرائيل في غشت 2011 مع مئات الآلاف من المتظاهرين لأجل المطالب الاجتماعية. عشر السكان كانوا في الشوارع. لقد كان حراكا ذو أهمية حيث رأينا لافتات تشي غيفارا وشعارات من قبيل “ناضل مثل المصري” . الناس حملوا صور لمبارك ونتنياهو وبن علي سويا. هذا يبين بوضوح الطبيعة الطبقية وتناقضات المجتمع الإسرائيلي حيث يواجه العمال الرأسماليين والامبرياليين. حركة 2011 أيضا شهدت انعكاسا سياسيا على الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة حيث زادت بعض الأحزاب اليسارية أصواتها بشكل ملحوظ. في الواقع لقد ضعف نتنياهو وحصل استقطاب على كل من اليمين واليسار. هذا يشير إلى نمو الانقسام الطبقي في إسرائيل وإلى الصراع الطبقي الذي سينفجر في حين ما في المستقبل.

ضمن الوسط الفلسطيني يمكننا أن نجد حراكا موازيا لما يحصل في العالم العربي. فكما تعاونت فتح في إدارة ومراقبة الفلسطينيين نيابة عن الامبرياليين، إسرائيل بالأخص، ملئت حماس الفراغ السياسي. عندما برزت حماس كقوة وتمكنت في النهاية من السيطرة على غزة، كان هناك كلام كثير عن التأثير الإسلامي بين السكان الفلسطينيين، حتى أن البعض من اليساريين رأوا ذلك كخطوة نحو الأمام!

دعونا لا ننسى أن الموساد نفسها (المخابرات الإسرائيلية) هي من مولت ودعمت حماس والجهاد الإسلامي من أجل الوقوف في وجه التيار اليساري الصاعد. هذا عندما كان العدو الأساسي هو منظمة التحرير وفتح. هذا الأمر نفسه يحصل في كل مكان. المتطرفين الإسلاميين تم دعمهم في أفغانستان لموازنة النفوذ السوفياتي.

الفكرة القائلة بأن الإسلاميين بشكل ما “معادين للامبريالية” أمر سخيف. المتطرفون الإسلاميون رجعيون بشكل كامل ولا يلعبون أي دور تقدمي بأي شكل من الأشكال. هذا الأمر يتم إثباته في غزة الآن حيث تقوم حماس بمراقبة الفلسطينيين من أجل إسرائيل بنفس طريقة فتح في الماضي. الولايات المتحدة أيضا في حالة صدام مع المتطرفين. التطرف الإسلامي والامبريالية وجهين لعملة واحدة.

كما في حالة سوريا، لا يمكننا أن نقارب المسألة الفلسطينية الإسرائيلية بشكل عاطفي. لمدة 50 سنة كان موقفنا بأن حل المسألة الفلسطينية يكمن في الصراع الطبقي وفي بناء فدرالية اشتراكية في الشرق الأوسط. تعرضنا للهجوم من قبل العديد من الإصلاحيين والستالينيين البراغماتيين ولكننا صمدنا في موقفنا.

نحن نفهم أن يهود إسرائيل يخافون أن يقتلوا ويبادوا من قبل الحكومات العربية المجاورة المعادية. هذا ما يدفعهم باتجاه نتنياهو وأمثاله. وطالما أن مجموعات مثل حماس، ومنظمة التحرير منذ زمن قصير في الماصي، يطرحون فكرة طرد اليهود بدلا من إضعاف الدولة الصهيونية، فالأغلبية من السكان اليهود يندفعون إلى الالتفاف حول الطبقة الحاكمة الإسرائيلية مما يقوي الصهيونية ولا يضعفها.

الماركسيون يعارضون الدولة الصهيونية. هي دولة امبريالية واستغلالية كما هي جميع الدول البرجوازية. ولكن كيف يمكننا القضاء هذه الدولة؟ من أجل تحقيق ذلك على المجتمع الإسرائيلي أن يقسم إلى أسسه الطبقية. هذا يعني كسب ثقة الطبقة العاملة الإسرائيلية. أحد مفاتيح الوضع هو الطبقة العاملة الإسرائيلية.

هذا ما يدفعنا إلى الدعوة إلى دولة واحدة فدرالية اشتراكية يهودية-فلسطينية تعطي حكم ذاتي لكل مجموعة (مع المحافظة على حقوقهم في مدارسهم الخاصة، استخدام لغتهم، إتباع أي دين يرغبون به الخ) بحيث تكون القدس هي عاصمة حكومة فدرالية واحدة. ضمن هكذا دولة ستتوافر حرية الحركة للناس بين المناطق المختلفة. كل ذلك سيكون جزء من فدرالية اشتراكية طوعية للشرق الأوسط بحقوق كاملة وحكم ذاتي وحق تقرير المصير لجميع الناس في المنطقة، بالاتكال على اقتصاد اشتراكي. باستخدام جميع الموارد المتوافرة في المنطقة من الممكن خلال فترة قصير توفير الأشغال، المداخيل الكريمة، الطعام، المسكن، الرعاية الصحية، والتعليم للجميع بغض النظر عن دينهم، عرقهم، لغتهم الخ. خلال مسار الثورة بحد ذاتها ستتضح المسائل القومية. بمرور الوقت وعلى أساس حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الأساسية ستختفي الأحقاد والاتهامات القديمة.

لا يوجد أي حل على أسس رأسمالية. حتى لو كان بالإمكان تحقيق شكل من الدولة الفلسطينية المستقلة في ظل الرأسمالية فلن تكون صالحة من الناحية الاقتصادية، والسياسية والعسكرية لأنها ستبقى تحت هيمنة إسرائيل. ضمن هكذا دولة لن يحل شيء بالنسبة للفلسطينيين العاديين.

الماركسيون يملكون نظرة أكثر اتساعا للمسائل ولا يحصرون أنفسهم بإيجاد حلول ضمن الحدود الضيقة للدول. كما شرحنا لعدة عقود الثورة في مصر وإيران، دولتين أساسيتين في المنطقة، سوف توضح المسائل لكل من اليهود في إسرائيل وللفلسطينيين. الصراع الطبقي سيبدو الحل لقضاياهم.

في هذا الوضع يمكننا أن نرى الدور المنافق والمجرم للقادة الفلسطينيين، كل من حماس وفتح، الملالي العرب، المشايخ، السلاطين، الملوك، الجامعة العربية الخ جميعهم يدافعون عن الرأسمالية وجميعهم يحرضون الصراعات القومية لأنهم يرون في هذا الأمر وسيلة للدفاع عن مواقعهم.

وحدة الطبقة العاملة العربية والإسرائيلية (ومن ضمنها العرب الإسرائيليين) هو إذا الطريق الوحيد إلى الأمام في النضال ضد عدو مشترك. الطبقة الحاكمة الإسرائيلية تعمل على تعطيل القضايا الطبقية في غزة حيث ما نراه أن كلا من الحكومة الإسرائيلية وحماس يتكلان على بعضهما وفي الحقيقة يساعدان بعضهما. عندما تطلق حماس الصواريخ على إسرائيل، كما تفعل في الفترة الأخيرة، فإنها تساعد الحكومة الإسرائيلية على اعتراض القضايا الطبقية في إسرائيل من خلال خلق مناخ الدولة المحاصرة التي تحتاج إلى الاتحاد كي تدافع عن نفسها. بنفس الطريقة، عندما ترد إسرائيل على الهجمات الصاروخية بقصف غزة بشدة فهي توقف الراديكالية التي تتطور ضد حماس بين الفلسطينيين. هنا نرى كيف أن قادة حماس (و فتح)، وعلى الرغم من الشعارات الفارغة، لديهم شيء مشترك مع البرجوازية الإسرائيلية، وهو الخوف من تطور الصراع الطبقي في المنطقة..

الخلاصة

في الشرق الأوسط نرى مستويات فاضحة من الغنى في أوساط الطبقات الحاكمة لهذه المنطقة. فاحشوا الثراء يعيشون حياة باذخة في وسط انتشار الفقر والفاقة. النخب الحاكمة لهذه البلدان هي الأكثر رجعية وإثارة للقرف بين النخب الحاكمة. هم يدافعون عن مصالحهم المادية بكل الوسائل التي يملكونها. كما نرى في سوريا وغيرها من الدول، يستخدمون أموالهم الطائلة للدفع بقواهم الرجعية والمتخلفة ولحرف الثورات الصادقة عن مسارها باتجاه طريق الصراع الإثني الدموي. هؤلاء الناس يعتقدون أنهم فئة سامية وأنهم يملكون الحق الإلهي في الحكم وبأن الناس في الأسفل، العمال، الفقراء، الشباب المعطل، هم في مكانهم الصحيح. ولكنهم يجلسون على برميل من البارود على وشك الانفجار. انه بالضبط هذا التناقض بين حياة كثيري الغنى وحياة جماهير الناس العاديين الكادحين ما يجعل الوضع قابلا للانفجار.

نحن نقف بصلابة ضد الرأسمالية والامبريالية وضد كل الأنظمة المحلية الرجعية في المنطقة. علينا أيضا النظر إلى الصورة الأكبر للقوى الطبقية في المنطقة وفهم أن الثورة ما تزال بعيدة عن الانتهاء وفي بلدان مثل مصر تصعد إلى مستوى أعلى في الحقيقة.

الوضع معقد حيث أن الثورة والثورة المضادة تسيران معا. نحن بحاجة إلى تطبيق محكم للمذهب الماركسي لفهم ما يحصل في الواقع، لفك شبكة التشوش، ولفصل العناصر الثورية عن العناصر الرجعية.

بالعموم يبدو المنظور ايجابي مع تنامي التجذر وتعلم الجماهير من كل تجربة. هذا ما يخلق ظروفا مواتية لانتشار الأفكار الماركسية ولبناء قوى الماركسية في المنطقة. لا يوجد طريق سهل إلى الثورة – ولكن الثورة هي الطريق الوحيد.

الثورة العربية هي أحد أهم الأحداث في تاريخ الإنسانية. الملايين من الناس الذي كانوا في الواقع مثل العبيد ينتفضون. ولكن كما شرحنا مسبقا الثورة ليست دراما واحدة. سوف تمر وعليها أن تمر بمراحل عديدة. والبروليتاريا المصرية هي مفتاح الثورة العربية.

في المرحلة الأولى تخرج الجماهير إلى الشوارع وتشعر بقوتها، تشعر بأنها غير قابلة للإيقاف، وبأن الحركة التي خلقتها ستسير إلى الأمام بشكل دائم. هنالك شعور من “الوحدة الوطنية”، من النشوة، وجو شبيه بالاحتفال.

ولكن ريثما يستقر الغبار بعد رحيل الطاغية، تبدأ الجماهير باستيعاب أن الأمر ليس بالسهولة التي توقعوها في البداية وأن لا شيء أساسي قد تغير. الفئات الأكثر تقدما تلاحظ هذا في البداية في حين أن الفئات الأخرى تتعلم بسرعات مختلفة.

الانتخابات في مصر مثلت انتصارا للجماهير الأكثر تخلفا (الريفية، الفلاحية، الخ) على الفئات الأكثر تقدما (الحضرية، العمالية، الخ) ولكن هذا الفئات أيضا تتعلم الآن أن الإخوان المسلمين محتالين لأنهم لا يرون أي تحسن في ظروفهم المعيشية. بإمكانهم رؤية أن الإخوان يدافعون عن نفس المصالح الطبقية لنظام مبارك.

في الحقيقة الثورة الآن تنتقل إلى مستوى جديد مع احتداد الاستقطاب الطبقي. الارتداد ضد الإخوان والسلفيين بدء بالحدوث. الأحزاب الإسلامية بدأت تنكشف بسبب تصرفاتها. الجماهير تتعلم من التجربة.

من يمكنه الشك أنه لو وجد حزب مثل الحزب البلشفي في هذا الوضع فإن العمال المصريين سيكونون على وشك الوصول إلى السلطة؟ المأساة أن حزب كهذا غير موجود. لذلك فالعملية ستمتد إلى فترة سنين عديدة.

في الماضي، في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، الثورات ضد الاستعمار أنتجت مختلف أنواع التشوهات. السبب في هذا كان تأخر حصول ثورات في أوربا وأميركا الشمالية. ولكن الآن الأمور اختلفت تماما حيث نرى أمام أعيننا عملية الثورة العالمية.

نحن نعتمد بصلابة على نظرية الثورة الدائمة لتروتسكي. في ظروف سيطرة الامبريالية من المستحل لبلد متخلف حل مسائل الثورة الديمقراطية البرجوازية. هذه الأمر أثبت صحته في 70 سنة الأخيرة. الاستقلال الرسمي لم يحل أي شيء. لقد استمرت أغلال الامبريالية من خلال الهيمنة الاقتصادية.

و لكن الآن الثورة العربية تحصل في وسط أزمة عالمية للرأسمالية. الثورة وصلت قلب أوربا مع الحراك الجماهيري في عدة بلدان. الثورة تقبع على الأجندة في البلدان الرأسمالية المتقدمة. يمكننا رؤية كيف ألهمت الثورة العربية الجماهير في البلدان الرأسمالية المتقدمة وكيف أعطت التطورات الثورية في الدول الرأسمالية المتقدمة بدورها قوة للجماهير في الدول المستعمرة سابقا…

ما نراه هو تجمع كافة خيوط الثورة العالمية في واحد مع تأثير الأزمة على جميع الدول ودفعها لهم بنفس الاتجاه، باتجاه الثورة الاشتراكية.

التيار الماركسي الأممي
يناير2013

عنوان النص بالإنجليزية:

Perspectives for Revolution in the Middle East

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *