تعيش مدينة جرادة منذ يوم الجمعة الماضي، 23 دجنبر 2017، على وقع انتفاضة جماهيرية، مع تنظيم مسيرات واحتجاجات وإضراب عام عرف مشاركة واسعة. وتأتي هذه الانتفاضة على خلفية مقتل عاملين منجميين (الدعيوي جدوان والدعيوي الحسين) انهار عليهما بئر عشوائي لاستخراج الفحم بعد أن غمرته المياه. وبسبب افتقار مصالح الوقاية المدنية أبسط التجهيزات استغرق استخراج الجثتين من داخل البئر أكثر من 36 ساعة، بمجهود العمال الآخرين وبوسائل متخلفة.
بعد استخراج الجثتين نظم العمال مسيرة جماهيرية جابت أنحاء المدينة التي خاضت محلاتها ومختلف مرافقها إضرابا عاما شل الحركة بالمدينة. ويوم السبت حاولت السلطات الإسراع بدفن الجثة، لإخفاء معالم الجريمة ومنع الناس من طرح الأسئلة الحقيقية التي ستقود بالضرورة إلى محاكمة المسؤولين عن سياسة التهميش والتفقير، بدءا من سلطات المنطقة إلى النظام الحاكم والطبقة السائدة عموما. لكن العمال وأسرة الضحيتين وعموم الساكنة تصدوا للمؤامرة حيث تظاهروا في اتجاه مستودع الأموات ومنعوا عملية الاختطاف والدفن السري الذي كانت السلطات تنوي القيام بها.
الضرورة تعبر عن نفسها من خلال الصدفة
مدينة جرادة رمز التهميش وجرائم ووحشية النظام الرأسمالي. فبعد أن استغل الرأسماليون ثروات المنطقة لعقود طويلة، منذ سنة 1927، وراكموا أرباحا هائلة، أغلق المنجم سنة 2001 بموجب قرار صدر سنة 1998، مما أسفر عن رمي آلاف العمال (حوالي 6000) إلى البطالة هم وعائلاتهم، وتركوا يعانون من الفقر والأمراض الخطيرة (السيليكوز، الحساسية، الخ) والتلوث وغياب الخدمات الأساسية.
منذ تلك اللحظة بقي المنفذ الوحيد لأغلب شباب المنطقة، بالإضافة إلى الهجرة والتهريب، هو العمل في آبار الفحم بوسائلهم البدائية وبدون أي حماية وفي ظروف شديدة الصعوبة، مما يؤدي إلى الكثير من الإصابات والوفيات.
وبالتالي فإن الغضب الذي تراكم طيلة سنين كان يبحث عن طريقة لكي يعبر عن نفسه. ومثلما حدث في الحسيمة يوم 28 أكتوبر 2016 عندما عمل البوليس على سحق الشاب محسن فكري في حاوية الأزبال، وهو الحدث الذي فجر احتجاجات قوية أصابت النظام والطبقة السائدة بالرعب الشديد. جاء حدث مقتل العاملين ليشكل شرارة فجرت جبالا من بارود الغضب والسخط اللذان تراكما طيلة عقود من التهميش والتفقير والقمع، واستمرارية لنضالات كفاحية طويلة اشتهرت بها المدينة ذات التقاليد العمالية العظيمة، والتي آخرها احتجاجات الساكنة ضد غلاء أسعار الماء والكهرباء، ورفضهم أداء الفواتير.[1]
وما تزال الاحتجاجات مستمرة لحد كتابة هذه السطور، فيوم أمس الأحد خرج الآلاف من سكان المدينة في مسيرة جماهيرية حاشدة انطلقت من المقبرة نحو مركز المدينة، ثم نظموا اعتصاما أمام مقر البلدية ورفعوا شعارات تندد بالتهميش والتفقير والنهب.
لا شيء يختفي الكل يتحول
وعلى عكس ما توهم المدافعون عن النظام القائم ووراءهم المحبطون الذين ينهارون عند كل تراجع مؤقت للحركة الجماهيرية، فإن الحراك الثوري الذي عرفه المغرب منذ انطلاق حركة عشرين فبراير ثم حراك الريف وانتفاضة زاكورة، الخ، لم يختف كليا من الوجود. إن السيرورة الثورية لا تختفي حتى عندما تتراجع، كما لا تختفي دروسها والتقاليد التي خلقتها، بل تتحول بطريقة جدلية، تحت السطح وتأخذ وقتا لكي يتم استيعابها، وتعود للظهور من نقطة أعلى.
إن الملاحظ عن مختلف الشعارات التي رفعها المحتجون هو انها نفس الشعارات التي سبق أن رفعها شباب حركة 20 فبراير وحراك الريف، تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. كما أن المحتجين أدوا قسما جماعيا بأن لا يخونوا العهد وبالاستمرار في النضالات حتى تحقيق مطالبهم، وهو التقليد الذي يذكرنا بدوره بحراك الريف.
لم تشهد الانتفاضة الحالية إحياء تقاليد السنوات القليلة الماضية فقط، بل شهدت أيضا إحياء التقاليد العمالية العريقة التي تمتلكها المدينة العمالية، التي شكلت لعقود طويلة واحدة من معاقل الكفاحات العمالية. حيث سرعان ما عادت تقاليد الإضراب العام والجموعات العامة الجماهيرية الديمقراطية واللجان التنظيمية إلى الظهور.
أهم الدروس:
من أهم الدروس التي يجب استخلاصها هو أننا نعيش في المرحلة الأكثر غليانا واضطرابا في التاريخ، حيث النظام الرأسمالي القائم، محليا وعالميا، وصل إلى حدوده القصوى -بل تجاوزها منذ وقت طويل- ولم يعد قادرا على تقديم أي حل للمشاكل التي يعيشها المجتمع.
إنه نظام مفلس بشكل كامل ولا بديل إلا بإسقاطه وبناء نظام اشتراكي تكون فيه السلطة والثروات المادية والثقافية تحت رقابة الطبقة العاملة، المنتجة الحقيقية للثروة. فوحده التخطيط الاشتراكي الديمقراطي للاقتصاد ما سيمكن من التوزيع العادل للثورة والقضاء على الفقر والبطالة وتوفير العيش الكريم للجميع.
إن الجماهير، في جرادة والحسيمة وزاكورة وبني ملال، الخ الخ، قدمت كل التضحيات الممكنة وأكثر، كما عبرت بشكل واضح وبالممارسة عن أنها تريد تغيير المجتمع، ونهضت المرة تلو المرة لتحقيق ذلك التغيير؛ ليس من حق أي كان أن يحمل جماهير العمال والفلاحين وعموم الفقراء مسؤولية المأزق الذي تقف أمامه الحركة الثورية.
لكن في ظل وضع الأزمة الذاتية للحركة العمالية، سيتمكن النظام من المناورة من خلال المزاوجة بين القمع والوعود وبعض التنازلات الشكلية، وفي النهاية سيتمكن من إطفاء الحركة، لتعود لتشتعل من جديد، عاجلا أو آجلا، هنا أو هناك، لهذا السبب المباشر أو ذاك، في سيرورة قد تؤدي، إذا لم تتدخل الطبقة العاملة لحسمها بالثورة الاشتراكية، إلى الفوضى وتفكك المجتمع.
بسبب غياب الحزب الماركسي الثوري، حزب من قبيل ذلك الحزب الذي قادة قبل مائة سنة الطبقة العاملة الروسية إلى حسم السلطة السياسية ومصادرة ممتلكات كبار الرأسماليين والملاكين العقاريين والإمبريالية ووضعها تحت رقابة المجالس العمالية، ستستمر السيرورة الثورية طويلة ومؤلمة، وستسير الثورة والثورة المضادة والانتصارات والهزائم يدا في يد، سنعيش فترات من النهوض تتلوها فترات من الهبوط والتراجع، سنشهد بروز قادة ثم تساقطهم جانبا بسبب الإرهاق والإحباط، أو لأسباب أخرى عديدة، ثم بروز آخرين، في نزيف لن يوقفه إلا بناء الحزب الماركسي الثوري.
إن الأزمة أزمة غياب الحزب الثوري، وهذه المهمة هي التي يتوجب على كل عامل واع وكل شاب ثوري أن يكرس جهده لإنجازها، وهي المهمة التي نكرس لها، نحن الماركسيون، كل جهدنا وكل نشاطنا، فإن كنت متفقا معنا التحق بنا في هذا النضال التاريخي العظيم.
هوامش:
1: وهي المعركة التي عرفت تدخلا قمعيا، كما هي العادة دائما، واعتقال أربعة من المحتجين، أطلق سراحهم لاحقا ويتابعون في حالة سراح.
أنس رحيمي
الاثنين: 25 دجنبر 2017