كتب آلان وودز هذا المقال عام 2005، بمناسبة الذكرى السنوية الـ400 لنشر أول طبعة لرواية “دون كيشوت”، التي تعتبر أعظم تحفة في الأدب الإسباني. في ذلك الوقت، أوضح آلان، في مقدمة هذا المقال، أن «الطبقة العاملة، الطبقة التي لديها مصلحة كبيرة في النضال من أجل الدفاع عن الثقافة، يجب عليها أن تحتفي بحماس بهذه الذكرى. كانت هذه أول رواية حديثة عظيمة، مكتوبة بلغة يمكن أن يفهمها الرجال والنساء العاديون. لقد كانت أحد الكتب المفضلة لدى ماركس، والتي كثيرا ما كان يقرأها لأطفاله. إن النضال من أجل الاشتراكية لا ينفصل عن النضال من أجل الأفكار والثقافة». ولذلك فنحن فخورون بإعادة نشر هذا التحليل لرواية دون كيشوت، والعصر الذي كُتبت فيه، من وجهة نظر المادية التاريخية.
أينما ظفرت البرجوازية بالسلطة حطمت كل العلاقات الإقطاعية البطريركية الشاعرية. لقد مزقت بلا رحمة الروابط الإقطاعية التي كانت تربط الإنسان بـ “سادته الطبيعيين”، ولم تُـبق على أية رابطة بين الإنسان والإنسان سوى رابطة المصلحة الذاتية البحتة، والإلزام القاسي بـ “الدفع عدا ونقدا”.[1]
عرفت إسبانيا فترات ازدهار عظيم وتفوق على بقية أوروبا والسيطرة على أمريكا الجنوبية. وقد تغلب التطور الهائل للتجارة المحلية والعالمية أكثر فأكثر على التقسيم الإقطاعي للأقاليم وخصوصية الكيانات الوطنية في البلد. ارتبط نمو قوة وأهمية النظام الملكي الإسباني، في تلك القرون، ارتباطا وثيقا بالدور المركزي لرأس المال التجاري، وبالتشكل التدريجي للأمة الإسبانية.[2]
حياة سرفانتس
ميغيل دي سرفانتس (1547-1616) هو الشخصية الأكثر شهرة في الأدب الإسباني. روائي وكاتب مسرحي وشاعر ذو إنتاج أدبي كبير، لكنه يكاد لا يُذكر اليوم تقريبا إلا بكونه مبدع رواية دون كيشوت. وُلِد سرفانتس في ألكالا دي إيناريس، وهي بلدة قريبة من مدريد، لعائلة من النبلاء الصغار. كان والده، رودريغو دي سرفانتس، جراحا، وقد قضى قسما كبيرا من طفولته في الانتقال من مدينة إلى أخرى عندما كان والده يبحث عن عمل. كان والده معروفًا في بلد الوليد وطليطلة وسيغوفيا ومدريد، بسبب ديونه. تسبب له ذلك في دخول السجن في أكثر من مناسبة، وهو المصير الذي كان شائعا جدا في ذلك الوقت.
في الوهلة الأولى كانت حياة سرفانتس مجرد سلسلة طويلة من الإخفاقات: لقد فشل كجندي، وفشل كشاعر وكاتب مسرحي. وكان عليه، في وقت لاحق، أن يجد عملا كجابي ضرائب، لكن حتى هناك حدثت الكارثة. اتهم بالفساد وانتهى به المطاف في السجن. إلا أن تلك التجربة الواسعة في الحياة مكنته من اكتساب معرفة مباشرة بمجموعة كبيرة ومتنوعة من أنواع البشر ونظرة ثاقبة على مجتمع ذلك العصر.
اهتم سرفانتس بالكتابة لأول مرة في عام 1568، عندما كتب بعض الأبيات تكريما للراحلة إيزابيل دي فالوا، الزوجة الثالثة لفيليب الثاني، وذلك بلا شك بهدف الحصول على الحظوة والمال. لكن مسيرته الأدبية انقطعت بسبب الخدمة العسكرية. فبعد دراسته في مدريد (1568-1569)، تحت إشراف المفكر الإنسي، خوان لوبيز دي أويوس، التحق عام 1570 بالجيش الإسباني في إيطاليا. شارك في المعركة البحرية في ليبانتو (1571) على متن السفينة الحربية ماركيزا. حيث أصيب في ذراعه بطلقة بندقية تسببت له في شلل يده اليسرى لبقية حياته. لكن ذلك لم يمنعه من الانضمام إلى الميليشيا لمدة أربع سنوات أخرى.
وبعد أن سئم الحروب، عاد إلى إسبانيا في عام 1575، حيث انطلق مع شقيقه رودريغو على متن السفينة إل سول. لكن السفينة سقطت في يد الأتراك وتم نقله، هو وأخوه، إلى الجزائر كعبدين. أمضى سرفانتس خمس سنوات كعبد، إلى أن تمكنت عائلته من جمع ما يكفي من المال لدفع فديته. ليطلق سراحه عام 1580.
بعد عودته إلى مدريد، شغل عدة مناصب إدارية مؤقتة، ولم يتحول إلى الكتابة إلا في وقت متأخر نسبيا من حياته. كتب أعمالا مثل: لاغالاتيا (Galatea) وصفقات الجزائر (Los Tratos de Argel)، والتي تناولت حياة العبيد المسيحيين في الجزائر العاصمة وحققت له بعض النجاح. وبصرف النظر عن مسرحياته، كانت أكثر أعماله الشعرية طموحا هي “رحلة إلى [جبل] بارناسو” (Viaje Del Parnaso)، عام 1614. كما كتب العديد من المسرحيات، لم يبق منها سوى اثنتين، وروايات قصيرة. لكن ولا واحدة من تلك الأعمال مكنته من كسب لقمة العيش.
بعد أن تزوج أخيرا، أدرك سرفانتس أن مهنة الأدب لن توفر له ما يكفي لإعالة أسرته. لذلك انتقل إلى إشبيلية، حيث حصل على عمل كمشرف على تموين السفن الحربية الإسبانية. لكن مغامراته لم تتوقف هناك. لقد حقق النجاح لكنه كسب أيضا العديد من الأعداء، ونتيجة لذلك عانى فترات طويلة من السجن. وفي واحدة من نوبات الخمول القسري تلك، بدأ العمل على الكتاب الذي من شأنه أن يكسبه شهرة أبدية. ظهرت الطبعة الأولى من دون كيشوت عام 1605. تمت كتابتها في سجن أرغاماسيلا في لامانشا. وظهر الجزء الثاني منها عام 1615.
لاقى الكتاب نجاحا باهرا، وجلب لمؤلفه شهرة عالمية، لكنه بقي فقيرا. وبين عامي 1596 و1600، عاش بشكل أساسي في إشبيلية. انتقل إلى مدريد، في عام 1606، حيث استقر لبقية حياته. ويوم 22 أبريل 1616 توفي سرفانتس فقيرا في ذلك الشارع بمدريد الذي صار يحمل اسمه الآن، وذلك بعد عام واحد فقط من ظهور الطبعة الثانية من روايته دون كيشوت.
يبدو أن تحفة سرفانتس بدأت حياتها بكونها حكاية كاريكاتورية كوميدية عن قصص الفروسية التي كانت شائعة في ذلك الوقت، إلا أنها اتسعت لتصبح وصفا متنوعا للفترة التي عاش فيها. إنها مليئة بالحياة لأنها تعكس بصدق حياة تلك الفترة، فسيفساء غنية لعالم يمر بمرحلة انتقالية، وغليان من المُثُل والعادات المتضاربة ومجموعة متنوعة لا نهاية لها من الشخصيات. تنتمي معظم شخصياته إلى الطبقات الدنيا. شكلت رواية دون كيشوت انطلاقة جديدة في الأدب: صورة حية للحياة الحقيقية والأخلاق مكتوبة بلغة بسيطة واضحة. وقد أشاد الجمهور القارئ بإدخال الكلام اليومي في عمل أدبي.
وعلى عكس العديد من معاصريه، لم يكن لدى سرفانتس راعي ثري. كان يعتمد حصريا على قرائه. كانت تلك علاقة جديدة تماما بين الكاتب وبين جمهوره. لم يكن بإمكان سرفانتس أن يأكل إلا ببيع كتبه، ولم يكن بإمكانه بيع كتبه إلا بتقديم أدب يصل صداه إلى قلوب وعقول جمهوره. وقد نجح ببراعة في ذلك. فقط كتب قليلة في التاريخ هي التي عكست بأمانة الروح الجديدة التي كانت تتطور في المجتمع. ومن أجل تقدير هذه الحقيقة، من الضروري أن تكون لديك فكرة تقريبية عما كان عليه المجتمع الإسباني في ذلك الوقت.
إسبانيا سرفانتس
اكتشاف أمريكا، والالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، فتح للبرجوازية الصاعدة أرضا جديدة. إن أسواق الهند الشرقية والصين، واستعمار أمريكا، والتجارة مع المستعمرات، وزيادة وسائل التبادل والسلع بشكل عام، أعطت للتجارة والملاحة والصناعة، دفعا لم يسبق له مثيل، وبالتالي وفرت تطورا سريعا للعنصر الثوري داخل رحم المجتمع الإقطاعي المترنح.[3]
كانت إسبانيا في عصر سرفانتس مجتمعا يمر بمرحلة انتقالية. خلق اتحاد تاجي أراغون وقشتالة، الذي تحقق من خلال زواج فرديناند وإيزابيل، الأساس لتوحيد إسبانيا وإنشاء نظام ملكي مطلق. وكان سقوط غرناطة، آخر مملكة مورية في إسبانيا، آخر فصل في حرب الاسترداد التي استمرت لقرون. تبع ذلك بسرعة اكتشاف أمريكا وصعود إسبانيا باعتبارها قوة اقتصادية وعسكرية مهيمنة في أوروبا.
بحلول الوقت الذي ولد فيه سرفانتس، كان عدد سكان مدريد يبلغ 4000 نسمة فقط، على الرغم من أن هذا كان مشابها لعدد سكان طليطلة أو سيغوفيا أو بلد الوليد. كان نمو مدريد نتيجة للحقوق (Fueros) التي تنازل عنها ملوك قشتالة وليون للبرجوازية الإسبانية الناشئة في مرحلة العصور الوسطى. وخلال القرن الرابع عشر نقل فرديناند الرابع بلاطه إلى هناك للاستفادة من فرص القنص الوفيرة والطقس الجيد والمياه النقية. كما أنها أعطت للنظام الملكي قاعدة مستقلة، بعيدة عن سيطرة نبلاء المقاطعات.
في عهد فيليب الثاني، صار بناء الجهاز البيروقراطي الهائل للدولة المطلقة مكتملا ومتقنا. وتحولت مدريد من قرية ريفية رثة، إلى مدينة يسكنها 100.000 نسمة، مليئة بالكنائس والكاتدرائيات والقصور والسفارات. لكن من أجل بناء المدينة تم قطع جميع الغابات، فأصبحت المنطقة التي اشتهرت بهوائها الصحي ومياهها النقية، بؤرة للأوبئة. كانت شوارع مدريد مظلمة وضيقة ومليئة بالقمامة الفاسدة، والخنازير التي ترتع في القذارة. ومنازل بشعة وقصور سيئة الذوق وشوارع مليئة بالأوساخ، وجثث الحيوانات النافقة، والأحياء الفقيرة بجوها الكئيب، وأكواخ الفقراء المكدسة حول بيوت الأغنياء. كانت تنبعث في كل مكان الرائحة الكريهة للقمامة المتعفنة، وما هو أسوأ من القمامة، تتخمر في الشوارع حيث يتم رميها تحت جنح الظلام. لم يكن بلاط مدريد أفضل بكثير، فقد كان بكل المقاييس سيئ السمعة باعتباره الأكثر قذارة في كل أوروبا.
كان ذلك بمثابة مرجل يغلي بالتغيير الاجتماعي، حيث كانت الطبقات القديمة تذوب بشكل أسرع قبل أن تتمكن الطبقات الجديدة من أن تحل محلها. كان لانحلال الإقطاع، إلى جانب اكتشاف أمريكا، تأثير مدمر على الزراعة الإسبانية. فبدلا من فلاحين منتجين يكسبون خبزهم بعرق جبينهم، صرنا نشهد جيشا من المتسولين والطفيليات، وأرستقراطيين مفلسين ولصوص، وخدم ملكيون وسكارى، وكلهم يسعون لكسب العيش دون عمل.
بدأ العفن في القمة. وفي خضم كل هذا الفقر والقذارة والضوضاء، كان البلاط الإسباني واحدا من أكثر بلاطات أوروبا تبذيرا. كان هناك مشهد لا نهاية له من الحفلات، والأقنعة والموسيقى. عاش أفراد العائلة المالكة الإسبانية حياة مترفة- لكن بالاستدانة. نادرا ما كانوا يدفعون لتجارهم. لقد كان ذلك الشيء المبتذل الذي هو المال، آخر ما يمكن للطبقة الأرستقراطية أن تفكر فيه.
عاشت طبقة النبلاء الطفيليين في ظروف من البذخ الفاحش لدرجة أنه أصبح من الضروري إصدار قوانين ضد الترف المفرط في الملابس والأثاث وحتى السروج. بل إن السلطات اضطرت لتنظيم عمليات حرق عامة للنعال المزينة والأحزمة النسائية والأقمشة المطرزة. في حين كان بعض الدوقات يتجولون برفقة مائة خادم يرتدون الحرير. وحتى ضباط الجيش ظهروا أمام العامة مرتدين لملابس فاحشة الثراء وسترات مزينة بالشرائط والمجوهرات والريش.
وعلى الرغم من القشرة الخارجية للتقوى الدينية، كان العديد من النبلاء يتغزلون علنا بالراهبات الشابات والجميلات اللواتي يقابلوهن في الشوارع. ويقال إن لوحة فيلاسكويز الشهيرة للمسيح قدّمها فيليب الرابع كهدية ندم على إحدى مغامراته الجنسية التي لا تعد ولا تحصى. لم تكن سيدات طبقة النبلاء أفضل حالا من رجالهن. فعندما تشاجرت دوقة ناجيرا وكونتيسة ميديلين، انهالتا في البداية على بعضهما البعض بسيل من الشتائم التي من شأنها أن تجعل الجماد يحمر خجلا، قبل أن تلتجئا إلى حجة أكثر اختراقا مصنوعة من الفولاذ البارد.
كان الفساد هو القاعدة، والمسؤولون الشرفاء هم الاستثناء. كانت الكنيسة والدولة تضمان جيشا كاملا من الطفيليات والمتملقين، كلهم يسعون جاهدين لجني ثروتهم من المال العام. عاش العديد من المسؤولين حياة بئيسة وكانوا مستعدين لبيع جدتهم مقابل بضعة ريالات. كان بيع المناصب هو القاعدة. وقد كتبت قصائد شعرية للاستهزاء بالوزراء الأكثر فسادا. لكن، وكقاعدة عامة، لم يكن أحد يعير اهتماما كبيرا لظاهرة كانت شائعة جدا بحيث صار في الإمكان اعتبارها طبيعية.
الأرمادا العظيمة[4]
ورث فيليب الثاني إمبراطورية واسعة الثراء، لكنها كانت قائمة على أسس غير سليمة. ثم ساعد هو في تقويضها أكثر بالمغامرات والحروب الخارجية. شكل الايسكوريال (El Escorial) صرحا معماريا معبرا عن نظامه البيروقراطي الجامد. اختلطت هناك روح البيروقراطية ضيقة الأفق، بروح التعصب الديني: جزء منه قصر، وجزء منه دير، وجزء منه ضريح، وكان المركز الإداري لإمبراطورية شاسعة. وخلف الأسوار العالية للايسكوريال، انغمس فيليب الثاني في تخيلاته الإمبراطورية، حيث قام باستمرار ببناء وإصلاح وإعادة بناء قصوره الملكية، باستخدام الرخام ومواد أخرى باهظة الثمن.
سارع النبلاء إلى تقليد مثال ملكهم، فقاموا ببناء قصور خاصة بهم. سرعان ما أدى الانفجار العمراني إلى تدمير الغابات الكثيفة التي غطت منذ زمن سحيق جبال سييرا حول مدريد. أدت تلك المخططات الضخمة في النهاية إلى الإفلاس. هذه هي المفارقة المركزية: فإسبانيا في ذروة قوتها وثروتها، كانت تتجه نحو الانحطاط والفقر. وبعد قرن من الزمان، صارت شخصية هيدالغو (Hidalgo)، النبيل الفخور المفلس، بعباءته المليئة بالثقوب، وكيس نقوده الفارغ، وشجرة عائلته الطويلة طول قائمة ديونه، شخصية شائعة بالفعل في الأدب.
على الرغم من أن إسبانيا كانت القوة المهيمنة في أوروبا، فإن تطورها الاجتماعي تخلف عن نظيره في إنجلترا، حيث كانت العلاقات الرأسمالية في الزراعة متقدمة بالفعل، بعد الصدمات التي خلفها الطاعون وثورات الفلاحين في أواخر القرن الرابع عشر، كما يوضح ماركس:
في إنجلترا، اختفت القنانة عمليا في الجزء الأخير من القرن الرابع عشر. تشكلت الغالبية العظمى من السكان في ذلك الوقت، وإلى حد أكبر في القرن الخامس عشر، من فلاحين أحرار مالكين، بغض النظر عن اللقب الإقطاعي الذي كان يختفي تحته حقهم في الملكية. وفي الإقطاعات الأكبر، تم استبدال وكيل المزرعة القديم، والذي كان هو نفسه من الأقنان، بالمزارع الحر.[5]
في بداية القرن السادس عشر، تطورت الرأسمالية بالفعل في كل من إسبانيا وإنجلترا. ومع ذلك فإنه من المفارقات أن اكتشاف أمريكا ونهبها من قبل إسبانيا أدى إلى خنق الرأسمالية الإسبانية عند الولادة. أدى تدفق الذهب والفضة من مناجم العبيد في العالم الجديد، إلى تقويض تطور الزراعة والتجارة والحرف والصناعة الإسبانية. لقد أشعلت نيران التضخم وخلقت البؤس بدلا من الرخاء.
الاكتشافات الجديدة حولت التجارة البرية مع الهند إلى تجارة بحرية؛ وبلدان شبه الجزيرة، التي كانت حتى ذلك الحين بعيدة عن الطرق التجارية الكبرى، أصبحت آنذاك الفاعل الرئيسي في أوروبا.[6]
كان من الحتمي أن تصطدم القوة الصاعدة للرأسمالية الإنجليزية بقوة الإمبراطورية الإسبانية. قام التاج الإنجليزي، في البداية عن طريق القرصنة، ثم بشكل أكثر وضوحا، بتحدي السيادة الإسبانية على البحار. وتدريجيا بدأ الإنجليز والهولنديون في تعزيز موطئ قدمهم في منطقة البحر الكاريبي، مما وضع الأساس لإمبراطوريات استعمارية جديدة. وصل الصراع بين إسبانيا وإنجلترا إلى ذروته عندما أرسل الإنجليز مساعدة عسكرية إلى المتمردين الهولنديين البروتستانت، الذين ثاروا ضد الحكم الإسباني. الشيء الذي أدى بشكل حتمي إلى الحرب.
تلقت قوة إسبانيا ضربة موجعة وانهار فخرها بضربة قوية عندما تعرضت الأرمادا العظيمة للهزيمة في صيف 1588، بمزيج مميت من نيران السفن الإنجليزية والطقس السيٍّئ. بين عشية وضحاها وجدت إسبانيا نفسها مهانة من قبل قوة إنجلترا الصاعدة. كان لتلك الهزيمة طابع رمزي، حيث تمت إزاحة عالم الإقطاعية الكاثوليكية القديم بسرعة على يد القوة الصاعدة للبروتستانتية الرأسمالية في شمال أوروبا.
كانت السنوات الأخيرة لفيليب الثاني سنوات من التدهور الجسدي الشديد والمرارة والقلق. كانت الحروب الدموية في فلاندرز مستمرة بلا نهاية في الأفق. توفي عام 1598، بعد ثماني سنوات من هزيمة أسطول الأرمادا، وبوفاته انتهى العصر الذي كانت فيه إسبانيا سيدة العالم. كان ابنه فيليب الثالث إنسانا تافها، كان مهتما بمتعة المطاردة (سواء الخنازير البرية أو الممثلات الجميلات) أكثر من اهتمامه بشؤون الدولة. وبعد وقت قصير من وفاة والده، دنى منه أحد أمنائه وسأله: «ماذا سنفعل بالمراسلات يا مولاي؟»، فأجابه: «ضعها في يد دوق ليرما».
وهكذا أصبح الملك المطلق ملكا غائبا. كانت كل السلطات الحقيقية في يد خادمه، دوق ليرما. الانحطاط الداخلي لإسبانيا ازداد سرعة بسبب عدم كفاءة وانحطاط بلاطها الملكي. لكن الأسباب الحقيقية للانحطاط كانت في مكان آخر. كان ملوك إسبانيا يلعبون بإتقان دورهم في تلك الكوميديا المأساوية المتمثلة في احتضار إسبانيا وتفشي المحسوبية والفساد.
إسبانيا، التي كانت أول دولة قومية موحدة في أوروبا، والقوة الاقتصادية والعسكرية الرائدة فيها، تعرضت للهزيمة على يد تلك الأمم -بدءا من إنجلترا وهولندا- التي دخلت بشكل حاسم الطريق الرأسمالي، وحيث كانت البرجوازية تسعى جاهدة للحصول على السلطة السياسية .
الثروات الهائلة التي انتزعت من شرايين قارة بأكملها تبددت بسرعة على يد البلاط وجيش الأرستقراطية التابع له. ووراء جدران البلاط كان هناك بحر متلاطم من البؤس والفقر واليأس، والذي كان يتفجر بشكل دوري على شكل أعمال شغب واضطرابات عنيفة.
القرن الذهبي [7]
كانت إسبانيا في تلك المرحلة خلية نحل من النشاط. كانت أحداث كبرى تقع في الداخل والخارج هزت روح ومخيلة الجميع (رجالا ونساء). كانت تلك هي الخلفية الاجتماعية للقرن الذهبي الإسباني. لم يسبق للحياة الأدبية الإسبانية أبدا أن بلغت مثل تلك القمم المذهلة التي بلغتها في ذلك الوقت. في تلك الفترة، تولى ملوك ونبلاء إسبانيا تحت رعايتهم عددا كبيرا من الشعراء والروائيين والرسامين ذوي المستوى العالي. نادرا ما شهد العالم مثل تلك المجرة من المواهب الأدبية، بأسماء مثل ميغيل دي سرفانتس ، وفيليكس لوبي دي فيغا، وفرانثيسكو دي كيفيدو، وبيدرو كالديرون دي لا باركا، وتيرسو دي مولينا. وتجدر الإشارة إلى أننا لم نذكر هنا إلا أهم الأسماء فقط.
كان الشخصية البارزة في ذلك العصر هو لوبي دي فيغا، الذي وعلى الرغم من أنه ينحدر من عائلة أرستقراطية في سانتاندير، فإنه كان، مثله مثل سرفانتس ، يواجه دائما صعوبات اقتصادية . كان رجل عصره، وشارك انتصاراته ومآسيه. كان قد شارك في المغامرة الكارثية للأرمادا. وخاض مبارزة قاتلة، وتم طرده من مدريد بسبب ذلك. تزوج مرتين، وصار قسيسا بعد وفاة زوجته الثانية. وتوفي عام 1635 بعد أن جمع ثروة كبيرة.
من هذه المعلومات نرى أن حياته كانت، مثل حياة سرفانتس، مليئة بالمغامرات والحب والسفر. كانت تلك الحياة ممتلئة لدرجة أننا نسأل أنفسنا متى كان يجد الوقت لكتابة أي شيء على الإطلاق. إلا أنه كتب عددا هائلا من الأعمال: 2000 مسرحية لم يسبق لها مثيل في الأدب الإسباني. لم يعد موجودا منها سوى حوالي 430. من بينها هناك: أفضل عمدة (El Mejor Alcalde)، الملك El Rey؛ وفوينتي أوبيخونا (Fuenteovejuna) (استنادا إلى حدث حقيقي)، وبيريبانييز وقائد أوكانيا (Peribañez o El Comendador de Ocaña). كما كتب الكثير من القصائد والملاحم والروايات النثرية، وكذلك مؤلفات دينية.
نرى في بعض تلك الأعمال عناصر اجتماعية وسياسية مهمة. استندت “فوينتي أوبيخونا” إلى حدث حقيقي يتضمن تمردا شعبيا، بينما تفضح “بيريبانييز وقائد أوكانيا” العلاقات الإقطاعية الاستبدادية في ريف إسبانيا. يظهر عامة الناس في تلك الأعمال في حالة تمرد ضد السادة الإقطاعيين، لكن المَلكية تُصَوَّر على أنها حليف الشعب والمدافع عنه. وبعبارة أخرى، ما لدينا هنا هو تعبير أدبي عن مفهوم الحكم المطلق. لقد عزز النظام الملكي المطلق سيطرته في إسبانيا، مثله مثل أي مكان آخر، على حساب النبلاء من خلال التوازن بين الطبقات.
كان بيدرو كالديرون دي لا باركا، معاصر لوبي، كاتبا مسرحيا وفيلسوفا وعالم لاهوت، كتب، من بين مؤلفات أخرى، الحياة حلم (La Vida es Sueño) وعمدة ثلاميا (El Alcalde de Zalamea). كان يتمتع بشعبية مساوية لشعبية لوبي. ولد عام 1600 لعائلة ميسورة الحال، كان والده سكرتيرا للخزانة، وتلقى تعليمه في جامعات مرموقة في سالامانكا وألكالا دي إيناريس. شارك لاحقا في الحملات على فلاندرز وفي قمع الانتفاضة الكتالونية عام 1640. ويقال إنه كانت لديه علاقة حب غير شرعية، واحدة على الأقل، وطفل غير شرعي. لكنه في عام 1651، أعرب عن رغبته الانخراط في حياة القساوسة، ولم يتم إيقافه إلا بتدخل شخصي من فيليب الرابع.
مسرحيات كالديرون لها عنصر أخلاقي قوي يطبع شخصياته بقوة. إنها مكتوبة بأسلوب باروكي. الموضوع الرئيسي في عمدة ثلاميا (El Alcalde de Zalamea) وطبيب سيادته (El Médico de su Honra)، هو الشرف. إنه المثل الأعلى الإقطاعي لمجتمع البلاط الذي لم يوجد قط، وبالتأكيد لم يكن موجودا في ذلك الوقت. لا عجب أن فيليب الرابع، أمير العاهرات، كان معجبا بتلك الأعمال بشدة! وكان عنوان أشهر أعماله، أي “الحياة حلم”، هو العنوان الأنسب للعصر الذي كتب فيه. فقد كانت الطبقة السائدة الإسبانية تعيش في حلم كانت ستستيقظ منه بضربة موجعة.
اسم فرانسيسكو دي كيفيدو غير معروف كثيرا خارج إسبانيا، لكنه كان كاتبا عظيما آخر من كتاب القرن الذهبي. اسمه مرتبط بالسخرية. وقد ترك وراءه صورة حية عن إسبانيا في ذلك الوقت، في تحفته “المحتال” (El Buscón)، التي تنتمي لما يُعرف بأدب الصعاليك (Picaresque literature). تتميز أعماله بروح الدعابة الخفية والروح النقدية، والتي تضرب بجذورها بوضوح في أحداث تلك الفترة المأساوية في التاريخ الإسباني التي كان مقدرا له أن يعيش ويكتب فيها.
رأى كيفيدو أن تراجع إسبانيا كان مرتبطا بتدهور وفساد البلاط. كانت عصابة الطفيليات التي تحتل قصر مدريد معروفة جيدا بالنسبة له، بفضل تجربته داخل البلاط عندما كان شابا. وفي سن الواحد والثلاثين قرر الانتقال إلى إيطاليا ليشتغل في نابولي في منصب سكرتير لدوق أوسونا، لكن عندما سقط هذا الأخير، عانى كيفيدو من السجن والنفي. تم إنقاذه من قبل دوق أوليفاريس، المساعد المستقبلي لفيليب الرابع، والذي حافظ معه طوال حياته على علاقة حب وكراهية غريبة.
ربما يكون كتابه، “المحتال”، أفضل روايات أدب الصعاليك في القرن السابع عشر. ويصف في روايته (أحلام) حياة البلاط والأرستقراطية. لكن ذلك لم ينته بشكل جيد فتعرض للسجن لاحقا بسبب انتقاده للدوائر الحاكمة ودوق أوليفاريس. وعندما سقط الأخير، تم إطلاق سراح كيفيدو من السجن، لكنه توفي في غياهب النسيان بعد عامين فقط، في عام 1645.
قائمة المؤلفين طويلة، لكننا سنكتفي بذكر واحد آخر فقط من تلك الفترة، وهو: تيرسو دي مولينا. كان هذا هو الاسم المستعار لفرايل غابرييل تيليث (Fraile Gabriel Tellez)، الذي كان قسيسا، وترك لنا قصة خالدة لواحدة من أكثر الشخصيات اللاأخلاقية (أو بالأحرى المتحررة من الأخلاق) في الأدب العالمي -دون جوان- الشخصية المركزية في رواية “محتال إشبيلية” ( (El Burlador de Sevilla. من المثير للاهتمام أن هذا الكاهن كان على دراية جيدة بسيكولوجية النساء. ففي كوميديا الدسائس “Comedias de Enredo” (على سبيل المثال مسرحيتي: Don Gil de las calzas verdes وEl amor medico) تكون الشخصية الرئيسية دائما امرأة.
رواية الصعاليك
نشأت البروليتاريا نتيجة تفكيك روابط الالتزامات الإقطاعية وانتزاع الأرض بشكل قسري من الشعب. هذه البروليتاريا “الحرة” لم يكن من الممكن امتصاصها من طرف المانيفاكتورات الوليدة بنفس السرعة التي ألقيت بها إلى العالم. ومن ناحية أخرى، لم يكن في إمكان هؤلاء الذين انتزعوا فجأة من نمط حياتهم المعتاد، أن يتكيفوا بغتة مع الانضباط الذي يفرضه وضعهم الجديد. لقد تحولوا بشكل جماعي إلى متسولين ولصوص ومتشردين، برغبة منهم أحيانا، وبفعل ضغط الظروف في معظم الأحيان. لهذا صدرت، في نهاية القرن الخامس عشر وخلال القرن السادس عشر بأكمله، في جميع أنحاء أوروبا الغربية تشريعات دموية ضد التشرد. تمت معاقبة أسلاف الطبقة العاملة الحالية لأنهم تحولوا، رغما عنهم، إلى متشردين ومعوزين. لقد عاملهم التشريع كمجرمين “بإرادتهم”، وافترض أن مواصلة العمل في ظل الظروف القديمة التي لم تعد موجودة، أمر رهين بإرادتهم.[8]
كانت تلك هي الفترة التي عرفت ميلاد ذلك النوع الأدبي الإسباني: رواية الصعاليك (The picaresque novel). الصعلوك (‘picaro’) هو إنسان غشاش مارق ومغامر، يعيش باستعمال ذكاءه لأنه ليس لديه أي شيء آخر يعيش به. إنه نتاج لمرحلة اجتماعية تاريخية محددة: مرحلة الانتقال التي نتجت عن انحطاط النظام الإقطاعي. لدينا هنا حطام ومخلفات عالم في سيرورة تحلل كاملة. أدى انحلال النظام القديم إلى ظهور حالة فوضوية كانت خلالها الأخلاق القديمة تتحلل، لكن دون أن يوجد شيء يحل محلها: ومن هنا جاءت العدمية الأخلاقية المبهجة للصعلوك.
يقدم لنا المجتمع الإسباني في ذلك الوقت فسيفساء غنية من الأوغاد واللصوص والمحتالين، بشكل، ربما، لا مثيل له في تاريخ العالم. يمكن تلخيص فلسفة هذه الفئة في كلمة واحدة: الصراع من أجل البقاء. كانت حياتهم عبارة عن تدافع مجنون لتأمين وسائل العيش بأي طريقة ممكنة. وكان شعارهم: “كل إنسان لنفسه، وليذهب العالم إلى الجحيم”.
بحلول النصف الثاني من القرن الخامس عشر، أصبحت مدريد بالفعل عاصمة إسبانيا “النبيلة والمخلصة للغاية” (muy noble y leal). بدأ عدد السكان في الارتفاع مع تدفق الغرباء الذين انجذبوا إلى البلاط مثل انجذاب النحل إلى العسل، أو الذباب إلى الأشياء الأقل جمالا. لقد عكست رواية الصعاليك حقيقة الوضع خلال تلك المرحلة التي كان فيها النظام الإقطاعي الإسباني في حالة احتضار. خداع التاجر، ووحشية الجنود، وتعصب الكهنة، وفساد الحاشية، كانت تلك ببساطة حقائق الحياة الواقعية.
كان ذلك المشهد المعقد، في الواقع، تعبيرا عن مجتمع في سيرورة تحلل لا مفر منها. وإلى جانب الطبقة الأرستقراطية، بألقابها الرفيعة ومحافظها الفارغة، كان هناك عدد كبير من العناصر المتحللة طبقيا والمرتزقة والمغامرين. كانت شوارع العاصمة مليئة بالمجرمين والفارين من الجيش والبلطجية من جميع الأنواع والأحجام، وهم يحملون السيوف والخناجر. كان بإمكانهم أن يخوضوا قتالا أو ينشلوا جيبا بنفس السهولة. كانت عصابات اللصوص نشطة، وفي الليل لم يكن التواجد في الشوارع فكرة حكيمة. وقد أعرب أحد المؤرخين المعاصرين عن أسفه قائلا: «لا يوجد أي متمرد أو مشلول أو شخص بيد واحدة أو ساق واحدة أو أعمى في كل فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا أو فلاندرز، لم ينزل إلى قشتالة».
هذه هي التربة الحقيقية التي نشأ منها لازاريلو دي تورميس وبوسكون، وأخيرا، لكن ليس آخرا، دون كيشوت. رواية الصعاليك، باعتبارها أسلوبا أدبيا، نشأت عن انحطاط رومانسية الفروسية، تماما كما نشأت تلك النماذج البشرية المشار إليها أعلاه عن انحطاط الإقطاع، إنها مجرد طريقة أخرى للتعبير عن نفس الفكرة. انحلال الإقطاع أدى بشكل حتمي إلى رد فعل ضد القيم والأخلاق والمثل العليا للإقطاع. وقد عبر رد الفعل هذا عن نفسه من خلال السخرية والتهكم. إن النظرة التي عفا عليها الزمن، والتي استنفذت صلاحيتها، تصير سخيفة بطبيعتها، وبالتالي تصير مصدرا للفكاهة.
تعج تلك الصفحات بجميع أنواع الحياة والأشخاص ذوي الشخصيات القوية والملونة. وذلك البطل المخالف للعرف (Anti-hero) في رواية الصعاليك، مثل لاثاريو دي تورميس (Lazarillo de Tormes) هو تصوير كاريكاتوري لأبطال مرحلة الرومانسية الفروسية. فبدلا من فارس يرتدي درعا لامعا، نجد متسولا شابا نذلا، وهو الشخصية المألوفة في إسبانيا في ذلك الوقت.
لدينا هنا الميلاد الحقيقي لنوع أدبي شهير ظهر مرة أخرى لاحقا في رواية “جيل بلاس” (Gil Blas) لمؤلفها لوساج (Lesage)، ورواية جوناثان وايلد (Jonathan Wilde) لفيلدينغ، ورواية باري ليندون (Barry Lyndon) لثاكيراي (Thackaray). تمتلئ صفحات رواية دون كيشوت بشخصيات ومواقف مأخوذة من الكتاب العظيم للحياة نفسها. إن روح هذا الكتاب، بواقعيته الدنيوية وتفاؤله المبهج، تعكس بوضوح تام روح النزعة الإنسية في عصر النهضة، وليس روح الإصلاح المضاد على الإطلاق. في هذه الرواية لا تتجه أعيننا إلى أعلى نحو السماء، بل إلى الأسفل نحو الأرض وكل ثرواتها. وشعارها هو: “لا أعتبر أي شيء بشري غريبا عني.”
هناك عنصر قومي قوي في رواية دون كيشوت. فهذا كتاب إسباني بشكل جوهري. لم يكن من الممكن أن يكتب في أي مكان آخر. لدينا هنا كل التباين الحاد بين الشمس والظل الذي يميز المشهد الإسباني، والذي ينعكس أيضا في الحياة الإسبانية وشخصية الشعب الإسباني. لكن هذا التفسير، على الرغم من صحته، غير كاف بأي حال من الأحوال. لا يمكن للمرء أن يشرح بشكل كامل ثراء توصيف سرفانتس، بالاعتماد فقط على مفاهيم قومية بحتة. فمن أجل فهم سرفانتس بشكل صحيح، من الضروري وضعه في سياقه الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي.
كان ماركس هو الذي أشار إلى أن فترات التحول التاريخي الكبرى تكون غنية بشكل خاص “بالشخصيات”. ينطبق هذا على شكسبير مثلما ينطبق على سرفانتس. كانت إنجلترا في عصر شكسبير، مثل إسبانيا في عصر سرفانتس، في خضم ثورة اجتماعية واقتصادية عظيمة. كان ذلك تحولا مضطربا ومؤلما للغاية، دفع عددا كبيرا من الناس إلى الفقر وخلق في المدن طبقة كبيرة من حثالة البروليتارية المحرومة: المتسولون واللصوص والعاهرات والفارون من الجيش، وما شابه ذلك، والذين احتكوا مع أبناء الأرستقراطيين المفلسين والكهنة المطرودين ليشكلوا احتياطيا لا نهاية له من الشخصيات مثل: السير جون فالستاف، ولازاريلو دي تورميس.
مشاهد التهتك والبهجة في الحانات الوضيعة في رواية دون كيشوت، تضفي على الرواية الحياة والألوان، بينما تسلط الضوء على التناقض المركزي لتلك الفترة التاريخية. حيث أن عامة الشعب الإسباني كانت حيوية ومقبلة على الحياة، في حين أن النبلاء كانوا عبثيين ودون روح. يحتوي الموضوع المركزي لرواية دون كيشوت على حقيقة تاريخية أساسية عن إسبانيا في مرحلة الانحطاط الإقطاعي. حيث تظهر أن مُثُل الفروسية صارت آنذاك غريبة وسخيفة وعفا عليها الزمن في عصر الاقتصاد الرأسمالي الناشئ، حيث صارت جميع العلاقات الاجتماعية والأخلاق والقيم محكومة من خلال رابطة المال عدا ونقدا.
فترة انتقالية
لقد وضع [ماركس] سرفانتس وبلزاك فوق كل الروائيين الآخرين. وقد رأى في دون كيشوت ملحمة الفروسية المحتضرة التي تمت السخرية من قيمها والاستهزاء بها في العالم البرجوازي الناشئ.[9]
تحيك كل الطبقات السائدة نفس الأوهام عن نفسها. فهم في خيالهم يصارعون ويقهرون الأبطال، في حين أنهم في الواقع منغمسون في أكثر الأعمال دناءة وقذارة. كتب ماركس، الذي كان معجبا جدا بدون كيشوت:
ومع ذلك، فمن الواضح أنه لا العصور الوسطى كانت تستطيع أن تعيش على الكاثوليكية، ولا العالم القديم على السياسة. بل على العكس من ذلك، فإن الطريقة التي اكتسبوا من خلالها سبل العيش هي التي تفسر لماذا لعبت السياسة هنا، والكاثوليكية هناك الدور الرئيسي. هذا بالإضافة إلى أن الأمر لا يتطلب سوى معرفة بسيطة بتاريخ الجمهورية الرومانية، على سبيل المثال، لإدراك أن تاريخها السري هو تاريخ ملكيتها العقارية. ومن ناحية أخرى فقد دفع دون كيشوت، منذ زمن بعيد، ثمن تصوره الخاطئ القائل بأن نظام الفروسية الجوالة متوافق مع جميع الأشكال الاقتصادية للمجتمع.[10]
وفي حين نجد أنه في كتابات لوبي دي فيغا (Lope de Vega) يتم التعامل مع فكرة الشرف الإقطاعية القديمة بجدية كبيرة ، فإنه يتم تحويلها في دون كيشوت إلى موضوع للفكاهة. سرفانتس يتطلع إلى الأمام، بينما لوبي ينظر إلى الوراء. يمثل سرفانتس الانتقال نحو المجتمع والأخلاق الرأسماليين، القائمين على أساس المال وليس الرتبة، بينما ينظر لوبي بحنين إلى الوراء، إلى اليقينيات الأخلاقية لعالم متلاشي، حيث كان كل إنسان يعرف مكانه، وكان المجتمع متماسكا من خلال دعامة قوية من الشرف والالتزامات المتبادلة. ومع ذلك فإن أعمال لوبي تعترف بالهزيمة: إنها اعتراف ضمني بأن تلك القيم قد انهارت مع المجتمع القديم الذي أنتجها.
جوهر الفكاهة في رواية دون كيشوت هو بالضبط التناقضات الناتجة عن الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، من مجتمع قائم على مفهوم الخدمة الإقطاعية والشرف والولاء، إلى مجتمع مختلف تماما يعتمد حصريا على العلاقات المالية. أسلوب الفارس الجوال دون كيشوت يتعارض مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي القائم، مثلما تتعارض الأحلام مع حقائق الحياة اليومية. إنها تعبير أدبي عن إفلاس الأرستقراطية الإسبانية، التي غطت فقرها بهالة من النبل المزيف. إنها تعبير عن مأزق طبقة اجتماعية لا تفهم أنها محكوم عليها بالفناء، وأن الطرق القديمة لم يعد لها أي دور لتلعبه.
يبدو لنا هذا التناقض سخيفا وبالتالي فكاهيا. الفقراء، الذين يُفترض أنهم جاهلون، يفهمون حقيقة الأمور وينسبون سلوك الفرسان إلى الجنون. إنه بالفعل نوع من الجنون، لكنه ليس جنونا فرديا بل جنون طبقة اجتماعية بأكملها استنفدت شروط بقاءها، لكنها مع ذلك تظل غير متوافقة مع الحقيقة، وغافلة عنها بالفعل.
في واقع الأمر، كانت إسبانيا، في ذلك الوقت، مليئة بذوي الأسماء العظيمة والألقاب الرائعة الذين لم يكن لديهم بنس واحد. بل وكان هناك حتى ملاكون عقاريون عظماء، كانوا بالكاد أفضل من المتسولين. في الفصل الأول، نجد بالفعل وصفا للدون كيشوت بكونه عضوا في طبقة النبلاء التي هي مجرد ظل لنفسها، طبقة تعيش على حافة الفقر، ولا تولي اهتماما كبيرا للأعمال الدنيوية كالإنتاج الزراعي:
عليك أن تعلم إذن، أنه عندما لم يكن لدى نبيلنا هذا شيء ليفعله (وهو ما يصدق على العام كله تقريبا)، كان يقضي وقته في قراءة كتب الفروسية؛ وهو ما كان يفعله بنهم وابتهاج، إلى درجة أن انتهى به الأمر إلى أن تخلى تماما عن القنص، بل وحتى العناية بممتلكاته.[11]
لم يكن لدى دون كيشوت أي تصور عن المال. وقد هتف ساخطا: «هل سبق له أن سمع بفارس جوال دفع ضرائب أو إعانة أو جزية أو ما شابه ذلك مثل رسم السفر أو رسوم مرور؟ متى حصل أي خياط على مال منه مقابل خياطة ملابسه؟ أو أي حاكم جعله يدفع مقابل الإقامة في قلعته؟»[12]. إنه خارج الاقتصاد النقدي تماما، على الأقل في ذهنه. لو تُرك الاقتصاد لدون كيشوت لانهار المجتمع سريعا، لأنه في ذلك الوقت لم يكن أحد قد سمع عن الائتمان، كما أنه حتى حامل بطاقة الائتمان سيواجه، عاجلا أم آجلا، ضرورة تسوية فواتيره.
في حلقة النزل، في الفصل الثالث، تلقى دون كيشوت درسا عن الاقتصاد الحديث من صاحب الحانة الذي سأله عما إذا كانت لديه أي أموال، فأجابه دون كيشوت: «“ولا سنتيم، [لأنني] لم أقرأ في أي من كتب تاريخ الفروسية أنه سبق لأي فارس جوال أن حمل أموالا معه”. فرد عليه صاحب الحانة “أنت مخطئ، فمع اعترافي بأن كتب التاريخ لم تذكر هذا الأمر، فذلك لأن المؤلفين رأوا أنه لا داعي لذكر أشياء ضرورية للغاية مثل المال والقمصان النظيفة، ومع ذلك فإنه لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الفرسان كانوا يسافرون دونهما؛ ويمكنك أن تطمئن أن جميع الفرسان الجوالين، الذين امتلأت بذكرهم العديد من كتب التاريخ، كانت أكياسهم ممتلئة جيدا لتوفير الضروريات لأنفسهم، كما حملوا معهم أيضا بعض القمصان، وصندوقًا صغيرا من المراهم لمداواة جروحهم”«[13].
وقد تعلم الدرس جيدا. فعند انطلاقه في جولته الثانية من المغامرات، حرص دون كيشوت على التزود بقدر كاف من المال، مما أدى إلى إغراقه في الكثير من الديون نتيجة لذلك. وقد تم إبلاغنا في الفصل السابع أن: «دون كيشوت حرص على أن يزود نفسه بالمال؛ ولذلك الغرض عمل على بيع منزل ورهن منزل آخر، وخسارة كل شيء، فحصل أخيرا على مبلغ جيد جدا»[14]. كانت هذه قصة الأرستقراطية الإسبانية بأكملها وقصة إسبانيا نفسها.
سانشو بانزا
في رواية دون كيشوت هناك بطلان، وليس بطل واحد. فإلى جانب الفارس الطويل النحيف، الذي يمتطي حصانا عجوزا هزيلا، يوجد فلاح سمين قصير يمتطي بغلا. نجد هنا أحد أعظم ثنائيات الأدب العالمي، لا ينفصلان مثل السالب والموجب. لكن ماذا عن ذلك البطل الثاني للرواية؟ سانشو بانزا هو عامل مزرعة فقير، وهو أحد جيران دون كيشوت، “رجل نزيه (إذا كان من الممكن بالفعل منح هذا اللقب لمن هو فقير)، لكن مع القليل من الذكاء”. من المفترض أن افتقار سانشو إلى الذكاء هو ما دفعه إلى اتباع سيده نصف المجنون. ومع ذلك، فإن العامل الزراعي غير المتعلم هو الذي كان في كل خطوة يفهم حقيقة الوضع ويحاول إظهارها لسيده، الذي يرفض بطبيعة الحال تصديقه.
نجد هنا أفكارا فلسفية أيضا. لم تكن الفلسفة السائدة في إسبانيا في عصر سرفانتس تصل أبعد من مدرسة العصور الوسطى، وهي نسخة مبتذلة من أرسطو مختلطة مع مثالية أفلاطون. كان التقدم الحقيقي الوحيد الذي حققته الفلسفة، خلال العصور الوسطى، قد تم على يد الفلاسفة المسلمين وعلماء الأندلس، لكن بما أن إسبانيا المسيحية كانت قد خرجت للتو من حرب طويلة لانتزاع الجنوب من الموريين، فقد كانت تلك الأفكار ملعونة بالنسبة لها. أحكمت الكنيسة قبضتها الخانقة على الفلسفة، شأنها في ذلك شأن جميع جوانب الحياة الفكرية الأخرى باستثناء الأدب.
أمضى الفلاسفة السكولاستيكيون المسيحيون وقتا طويلا للغاية في مناقشة أسئلة مثل جنس الملائكة، وعدد الملائكة الذين يمكنهم الرقص فوق رأس دبوس. يسخر سرفانتس من جدالات الجامعة من خلال الجدل المضحك حول خوذة مامبرينو. إلا أن دون كيشوت نفسه يتبنى فلسفة مثالية. ففي الفصل العاشر، ألقى أحد خطاباته المعتادة حول مبادئ الفرسان الجوالين، حيث أثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن الفرسان الجوالين (وضمنيا مرافقيهم) لا يحتاجون إلى تناول الطعام:
أجاب دون كيشوت: كم أنت مخطئ أيها الصديق سانشو. اعلم أن مجد الفرسان الجوالين هو أن يقضوا شهرا كاملا دون أكل؛ وعندما يفعلون ذلك، فإنهم يتناولون أي شيء يحصلون عليه، حتى ولو لم يكن طعاما مألوفا. فلو كنت قد قرأت الكثير من الكتب كما فعلت أنا، لكنت على دراية أفضل بهذه المسألة؛ وعلى الرغم من أنني أعتقد أنني قد قرأت العديد من كتب تاريخ الفروسية أكثر من أي رجل آخر، فإنني لم أجد أبدا أن الفرسان الجوالين قد كانوا يأكلون أبدا، إلا إذا كان ذلك عن طريق الصدفة، أو عندما كانت تتم دعوتهم إلى المآدب الكبرى والموائد الملكية؛ أما في أوقات أخرى فقد كانوا يتناولون القليل من الطعام إلى جانب أفكارهم. لكن لا تتخيل أنه كان بمقدورهم العيش دون تلبية متطلبات الطبيعة البشرية، حيث إنهم في نهاية المطاف ليسوا سوى بشر مثلنا، لكن ولأنهم يقضون الجزء الأكبر من حياتهم في الغابات والصحاري، ودائما دون طباخ، فإن وجباتهم المعتادة لم تكن سوى الطعام الخشن مثل هذا الذي تقدمه لي الآن. لذلك لا تنزعج أبدا، يا صديقي سانشو، بشأن يرضيني، ولا تتظاهر بصنع عالم جديد، ولا تفكك دستور وعادات الفرسان الجوالين القديمة.[15]
لكن سانشو بانزا مادي فلسفي مقتنع ولن يوافق على أي كلمة من ذلك:
صاح سانشو: أشكر فخامتك. لكني ومع ذلك يجب أن أتزود ببعض الحاجيات، لو كان لدي قدر كبير من اللحم أمامي، لكنت سألتهمه حتى لو كنت وحدي بنفس الشهية، أو بالأحرى أفضل، مما لو جلست بجانب إمبراطور؛ ولكي أكون صريحا وصادقا معك، أقول لك إنه من الأفضل لي أن أتناول قطعة خبز أسمر وبصل في زاوية معزولة، دون مزيد من اللغط أو الاحتفال، عوض أن أتغذى على ديك رومي على طاولة رجل آخر، حيث يكون المرء مجبرا على أن يجلس وهو يمضغ قطعة لحم لمدة ساعة، ولا يشرب إلا قليلا، ويمسح أصابعه وفمه بشكل دائم، ولا يجرؤ أبدا على أن يسعل أو يعطس، ولا أن يقوم بالعديد من الأشياء التي قد يفعلها الإنسان بحرية عندما يكون وحيدا، لذلك ألتمس منك، يا سيدي، أن تغيّر علامات لطفك، التي تغدقها علي لأني خادمك، إلى شيء قد يفيدني أكثر. أما بالنسبة إلى تلك الأفضال نفسها، التي أشكرك من صميم القلب عليها كما لو كنت قد قبلتها، فإني أتخلى عن حقي فيها من الآن حتى يوم القيامة.[16]
يتضح من هنا أن سانشو بانزا ليس جاهلا حقا. فأقواله تحتوي على الحس الدنيوي العام للجماهير. وقدماه راسختان على الأرض. إنه يعيش في العالم الحقيقي، الذي غادره دون كيشوت منذ فترة طويلة. إنه يأكل ويشرب ويعطس وينام ويؤدي جميع الوظائف الجسدية الأخرى التي يحتقرها سيده المثالي. في الواقع، كان سانشو مهتما بشكل أساسي ببطنه (كلمة بانزا (Panza) بالإسبانية تعني في الواقع “بطن”). عند مرحلة ما سأل سيده عن معدلات الأجور المخصصة لمرافقي الفرسان الجوالين. وفي مكان آخر، يقول دون كيشوت: «لأني تعلمت، من خلال التجربة، أن كلمة الفلاح لا يحكمها الشرف، بل يحكمها الربح».
الكنيسة
خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كانت إسبانيا الكاثوليكية في طليعة الرجعية الأوروبية. كان ذلك عصر الإصلاح – والإصلاح المضاد. وقفت الكنيسة الرومانية المقدسة في مركز النظام القائم وحاربت بضراوة للدفاع عن سلطتها وامتيازاتها ضد روح العصر الجديد. وفي تلك المعركة الدامية من أجل أرواح الناس، لم تكن الأسلحة المستخدمة مجرد الكلام فقط، بل السيف والنار. لقد أخذوا على محمل الجد كلمات الكتاب المقدس التي تقول: “ما جئت لأجلب سلاما بل سيفا”.
كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قوية للغاية في إسبانيا، وهي حقيقة يؤكدها واقع أن الكاردينال سيسنيروس أصبح وصيًا على العرش بعد وفاة فرديناند. وبعد أن قضى عامين في الحكم عمل على تسمية تشارلز، حفيد الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا، ملكا على إسبانيا. بدأ تشارلز سياسة مركزية، وفي سياقها جعل مدريد عاصمة لحكمه. أمر ببناء الايسكوريال في سييرا، بل وشارك أحيانا في الإشراف على العمل فيها.
كان ذلك المجتمع مجتمعا يسوده الكهنة. أدى ذلك إلى إنشاء محاكم التفتيش وجمعية يسوع (اليسوعيون)، التي أسسها المتعصب الباسكي سان إغناسيو دي لويولا، كقوة ضاربة متشددة في خدمة الإصلاح المضاد. كان فيليب الثاني خاضعا للدين ومهووسا به لدرجة أنه لم يكن قادرا على اتخاذ حتى أصغر قرار سياسي دون التشاور أولا مع كهنته.
كانت مدريد والمدن الإسبانية الأخرى مليئة بالمؤسسات الدينية والكنائس والمعابد والأديرة المخصصة للرتب الكهنوتية مثل دير ديسكالثاس (Descalzas) أو دير الراهبات الحفاة اللواتي عشن بالطريقة التي يشير إليها أسمهن. وكانت بلازا مايور في مدريد، تشهد جميع أنواع الألعاب والحفلات للترفيه عن الجمهور، بما في ذلك الحدث الأكثر إثارة على الإطلاق وهو احتفال فعل الإيمان “auto da fé”[17].
تغلغل الدين في كل مسام المجتمع الإسباني دون إحداث أي تأثير ملحوظ على الآداب العامة. كانت الطبقات الشعبية، ورغم كونها متدينة ظاهريا، مهووسة بالفتِشية الخرافية التي لم تفعل شيئا لغرس شعور الاعتدال في سلوكهم. كان الآلاف يتجمعون في ساحة بلازا دي لا سيبادا للاستماع إلى صراخ بعض الرهبان شبه المجانين. كما دفعهم الهوس بعبادة الأيقونات إلى كشط الجبس من جدران الكنائس للاحتفاظ به للبركة.
ومع ذلك فإن مزاج التعصب الديني السائد لم يفعل شيئا لمنع انتشار وباء السرقة والاغتصاب والقتل والصراعات والمبارزات، التي كانت منتشرة على نطاق واسع آنذاك. ومن عهد المتعصب الديني ضيق الأفق فيليب الثاني، إلى عهد المتهتك فيليب الرابع، وصل الفسق إلى أقصى الحدود. كانت الكنيسة نفسها تعكس الأخلاق العامة لذلك العصر. كانت هناك حالات تورط خلالها الرهبان في عمليات السطو والاغتصاب والقتل. كانت المبارزات تحدث بالعشرات كل يوم. وفي الليل، كان من المستحيل تقريبا عبور الشوارع، حيث كانت إضاءة المدينة مقتصرة على تلك المصابيح التي تومض على جدران المنازل أمام صور العذراء والقديسين.
والكنيسة، التي كان من المفترض فيها أن تكون حارس الأخلاق العامة، كانت في الواقع مرتعا للمكائد السياسية. أما إصرارها المتعصب على التمسك بالنقاء العقائدي المفترض، فقد كان في الواقع مجرد وسيلة لتعزيز سيطرتها على كل جوانب الحياة والسلوك البشريين. كانت تلك الديكتاتورية الروحية، المدعومة بمحاكم التفتيش -جستابو العصور الوسطى- مجرد مظهر آخر من مظاهر الدولة البيروقراطية التي سيطرت على إسبانيا وحكمت فوق أنقاضها.
كان التعصب وانعدام التسامح سائدان. وبعد غزو غرناطة، أُجبر المسلمون على اعتناق المسيحية أو مغادرة إسبانيا. اضطر الكثير منهم إلى اعتناق المسيحية من أجل البقاء في وطنهم، لكنهم رغم ذلك تعرضوا لكل أنواع القيود والمكائد تحت أنظار العين الساهرة لمحاكم التفتيش. لقد وصل الأمر إلى حد إجبار كل العائلات الموريسكية على إبقاء لحم الخنزير معلقا في المطبخ، بل وقد قاموا حتى بإنشاء “شرطة لحم الخنزير” التي كانت تفتش منازل هؤلاء على فترات منتظمة للتأكد من أنهم كانوا يستهلكونها. لكن ورغم ذلك تجرء دون كيشوت على التحدث بتعاطف عن الموريسكيين.
عندما خاطب كيشوت صديقه سانشو بالكلمات الشهيرة التالية: [18]“Con la Iglesia hemos dado, Sancho”، (“مع الكنيسة لقد انتهينا، يا سانشو”) ابتكر تعبيرا صار بمثابة مثل في اللغة الإسبانية. وبينما كان دون كيشوت مستعدا بشكل كامل لمواجهة طواحين الهواء، فقد كان عليه أن يفكر مليا عندما يتعلق الأمر بالكنيسة. بطبيعة الحال، ففي عصر كانت فيه محاكم التفتيش تحرق الرجال والنساء لأبسط الجرائم، كان على سرفانتس أن يسير بحذر، وكان حريصا على حماية نفسه بتأكيد إيمانه. لكنه كان من الواضح جدا أن موقفه من المؤسسة الدينية على الأقل، كان نقديا، إن لم يكن معاديا بشكل صريح. إذا قرأ المرء رواية دون كيشوت بتمعن، سيتضح له على الفور أن نقد الكنيسة يمر كخيط أحمر في الكتاب بأكمله. ففي الفصل الخامس، على سبيل المثال، تقول ابنة أخ كيشوت:
في الواقع، أنا هي السبب في كل هذا الأذى، لأني لم أعلمك في الوقت المناسب بهذيان عمي، لكنتَ قد عالجتَه قبل فوات الأوان، وأحرقتَ كل تلك الكتب المحرمة، لأن الكثير منها يستحق أن يحرق مثلما أحرق عتاة الزنادقة.[19]
وقد تم تنفيذ ذلك على النحو الواجب بعد فصلين، عندما تم إرسال جميع كتب دون كيشوت إلى النيران:
في تلك الليلة أحرقت مدبرة المنزل جميع الكتب، ليس فقط تلك الموجودة في الفناء، بل جميع الكتب التي كانت موجودة في المنزل؛ والعديد من تلك الكتب التي عانت من الكارثة العامة، كانت تستحق أن تُحفظ في أرشيفات أبدية، لولا أن مصيرها وتقصير من تم تكليفهم بتفتيشها قضيا بخلاف ذلك. وهكذا تحققوا من المثل القائل: “غالبا ما يدفع الخَيِّر ثمن ما يرتكبه الشرير”.[20]
من الواضح أن هذه محاكاة ساخرة لعمليات الإحراق التي كانت محاكم التفتيش تنفذها، والتي ملأت الساحات المركزية للمدن الإسبانية برائحة اللحم المحترق. في تلك الاحتفالات الوحشية كان الأبرياء، في كثير من الأحيان، هم الذين يعانون، بينما كان المذنبون هم من يشرف على الاحتفال. وفي مناسبات أخرى أيضا يتحدث دون كيشوت عن الكنيسة بازدراء كبير. كان هذا موقفا شجاعا للغاية، بل وحتى متهورا، في ذلك العصر الذي كانت فيه محاكم التفتيش المقدسة تمتلك سلطة مطلقة على حياة الناس وموتهم. في الفصل 13، يقول أحدهم إن الرهبان الكارثوسيين (Carthusian) هم أيضا يعيشون حياة التقشف مثلهم مثل الفرسان الجوالين، فأجابه دون كيشوت: «ربما، قد تكون مهنة الكارثوسي متقشفة، لكنني أكاد أشك فيما إذا كانت مهنتهم مفيدة للعالم مثل مهنتنا»[21].
روح متمردة
إذا قام المرء بقراءة ما وراء السطور يمكنه أن يكتشف عناصر النقد الاجتماعي في كل صفحة من صفحات الرواية تقريبا. بل إن روح التمرد حاضرة منذ البداية، حيث نقرأ في مقدمة المؤلف ما يلي:
[…] أنت لست قريبا له ولا صديقه، وروحك ملك لك وإرادتك حرة مثلك مثل أي إنسان آخر، أيا كان، وأنت سيد في بيتك كسيادة الملك على ما يجبيه من ضرائب، وأنت تعرف المثل الشائع الذي يقول: “تحت عباءتي يمكنني أن أقتل حتى الملك”، كل هذا يعفيك من كل احترام والتزام، ويمكنك أن تقول عن هذه القصة ما تريده دون الخوف من التعرض لأي أذى جراء أي سوء تقوله عنها، أو الحصول على أي مكافأة مقابل أي خير قد تقوله عنها.[22]
ودون كيشوت هو أيضا شيوعي بالفطرة. ففي خطاب ألقاه أمام بعض رعاة الماعز المتشككين، تحدث عن عصر ذهبي قديم عندما كانت كل الأشياء مشتركة:
آه، يا له من عصر سعيد، ذلك الذي أطلق عليه أسلافنا الأوائل اسم العصر الذهبي! ليس لأن الذهب، المحبوب جدا في عصرنا الحديدي هذا، كان من السهل الحصول عليه آنذاك، بل لأن هاتين الكلمتين القاتلتين: “مِلكي” و“مِلكك”، كانتا فروقا غير معروفة للناس في تلك الأوقات السعيدة: لأن كل الأشياء كانت مشتركة في ذلك العصر المقدس: لم يكن يتوجب على الرجال، من أجل الحصول على قوتهم، إلا أن يمدوا أيديهم، ويأخذوه من شجرة البلوط السامقة، التي كانت تدعوهم بسخاء إلى قطف الثمار الصحية اللذيذة.[23]
إنه يقارن ذلك العصر الذهبي، عندما كانت كل الأشياء مشتركة، مع العصر الحالي حيث يحدد المال والجشع كل جانب من جوانب الحياة والفكر:
لكن في هذا العصر المنحط، حيث الاحتيال وكثير من العلل تصيب العالم، لا يمكن أن تكون أي فضيلة آمنة، ولا يوجد شرف آمن؛ بينما الرغبات الوحشية، المنتشرة في قلوب الرجال، تفسد أكثر النفوس صرامة وأطهر الخلوات؛ التي، حتى ولو كانت معقدة ومجهولة مثل متاهة كريت، فهي ليست ملاذا للعفة. وهكذا اختفت البراءة البدائية، وانتشر الاضطهاد بشكل يومي، فكانت هناك ضرورة مقاومة تيار العنف: ولهذا السبب تم وضع نظام الفرسان الجوالين، للدفاع عن شرف العذارى، وحماية الأرامل، ومساعدة اليتامى، ومساعدة كل المنكوبين بشكل عام. والآن أنا نفسي أحد هؤلاء الأتباع المخلصين لهذا النظام؛ وعلى الرغم من أن جميع الناس ملزمون، بموجب قانون الطبيعة، بأن يكونوا لطفاء مع الأشخاص الذين ينتمون لهذا النظام، لكن وبما أنكم تعاملتم معي بسخاء، دون حتى أن تعرفوا أي شيء عن هذا الالتزام، فيجب أن أقدم لكم تقديري التام؛ وبالتالي أقدم لكم، في المقابل، جزيل شكري.[24]
لقد كانت ضربة بارعة من جانب سرفانتس أن يمرر ذلك النقد الاجتماعي الجريء على لسان رجل مجنون. كل الثوريين في التاريخ اعتبروا مجانين من طرف معاصريهم. بالنسبة لمعظم الناس، من المنطقي قبول الوضع القائم، وأي شخص لا يقبل بالنظام الحالي فهو غير عقلاني -مجنون- بالتأكيد.
قال هيغل: «كل ما هو واقع هو عقلاني. وكل ما هو عقلاني هو واقع». وهو الموقف الذي تم استخدامه كتبرير مطلق للوضع القائم. لكن إنجلز أوضح أنه بالنسبة لهيغل ليس كل ما هو موجود هو واقع، دون مزيد من التحديد. صفة الواقع، بالنسبة لهيغل، تخص فقط ما هو ضروري: “في سياق تطوره، يثبت الواقع أنه ضرورة”.
وما هو ضروري يثبت نفسه، في آخر المطاف، على أنه عقلاني أيضا.
وغني عن القول إنه بالنسبة للماركسي كل ما هو موجود هو موجود بفعل ضرورة ما. لكن الأشياء تتغير باستمرار وتتطور وتتحول وتولد تناقضات داخلية تؤدي في النهاية إلى تدميرها. لذلك تفقد صفة الضرورة وتدخل في تناقض معها. تبدأ الأرض بالاهتزاز تحت أقدام النظام القائم. وهؤلاء الأشخاص الذين اعتبروا أنفسهم أسمى الواقعيين، يصيرون أسوأ أنواع الطوباويين الرجعيين، في حين أن أولئك الذين كان يُنظر إليهم على أنهم حالمون ومجانين، يتحولون إلى الأشخاص العاقلين الوحيدين في عالم أصيب هو نفسه بالجنون.
خلال الفترة التاريخية التي يدخل فيها نظام اجتماعي اقتصادي متجاوز في حالة انحطاط، تفقد الأيديولوجيا والأخلاق والقيم والدين، التي كانت في السابق هي الإسمنت الذي كان يجمع المجتمع معا، تفقد قوتها الجاذبة. تصير الأفكار والقيم القديمة موضع سخرية. ويصير الأشخاص الذين يتشبثون بها مثيرين للضحك، مثل دون كيشوت نفسه. وتصبح الطبيعة التاريخية النسبية للأخلاق واضحة. ما كان سيئا يصبح جيدا، وما كان جيدا يصبح سيئا.
الانحطاط المخزي الطويل لإسبانيا
اكتشاف أمريكا، الذي شكل في البداية سبب ثراء إسبانيا ورفعتها، صار في وقت لاحق موجها ضدها. تم تحويل طرق التجارة العظيمة من شبه الجزيرة الإيبيرية. هولندا، التي صارت غنية، انفصلت عن إسبانيا. وبعد هولندا، صعدت إنجلترا إلى مستويات عالية فوق أوروبا ولفترة طويلة. وابتداء من النصف الثاني من القرن السادس عشر كانت إسبانيا قد بدأت بالفعل في الانحطاط. ومع تدمير الأسطول العظيم (1588)، اتخذ هذا الانحطاط صبغة رسمية، إذا جاز التعبير. إن الحالة التي أطلق عليها ماركس “الانحطاط المخزي والبطيء” أناخت بثقلها على إسبانيا الإقطاعية البرجوازية.[25]
تحت تألق إنجازات إسبانيا، كانت أسس ذلك الصرح المهيب تنهار بالفعل. كان نسيج المجتمع كله فاسدا. وعلى الرغم من الحالة المالية المزرية لإسبانيا، فقد تقرر تجديد الحرب مع هولندا. ومن أجل تكوين جيش من المرتزقة في إسبانيا وألمانيا، أصدرت الدولة عملات معدنية مزيفة على شكل “بليون” (“vellón”)، وهي الخطوة التي أدت بشكل حتمي إلى انفجار التضخم. أما الانهيار النهائي فقد جاء ببطء وبشكل مخز.
لم يصب الانحطاط قيمة العملة وحدها. فقد كان النظام الملكي فاسدا تماما ولم يكن البلاط سوى بؤرة للفجور والرذيلة. في عهد فيليب الرابع، وصل الانحطاط الأخلاقي للبلاط الإسباني أقصى الدرجات. والملك نفسه، عندما لم يكن مشغولا بالصيد في إيل باردو (El Pardo)، وإيل إيسكوريال (El Escorial) وأرانخويث (Aranjuez)، كان يقضي وقته في العديد من العلاقات الغرامية، وبالتالي كان محاطا بجيش هائل من العشيقات والعشاق والأبناء غير الشرعيين. كان أبا للعديد من الأبناء غير الشرعيين، وأشهرهم دون خوان خوسيه النمساوي، ابن ممثلة كوميدية معروفة باسم لا كالديرونا. في حين أن الملكة، من جانبها، لم تكن تخفي علاقتها بحبيبها كونت فيلامديانا (Villamediana).
كانت إسبانيا، بصفتها القوة الرائدة في الإصلاح المضاد، تنظر إلى الوراء، في محاولة لوقف تيار التاريخ. كانت تنتهج سياسة دون كيشوتية. لكنها، مثلها مثل دون كيشوت، لم تنجح في إيقاف عقارب الساعة، بل فقط حكمت على نفسها بالانحطاط والهزيمة والانحلال على جميع المستويات. لقد كانت إسبانيا بالفعل عملاقا بأقدام من طين، وكانت مغامراتها العسكرية في البلاد المنخفضة بمثابة المسمار الأخير في نعشها. سرعان ما حررت هولندا نفسها من القبضة الخانقة لإسبانيا، التي سرعان ما وجدت نفسها ضحية للعدوان العسكري الأجنبي، وتعرضت للإذلال والسحق على يد بلدان كانت في السابق أقل شأنا منها.
صارت محاكم التفتيش آنذاك قوية للغاية، وترأست عهد الإرهاب، على أساس أساليب التعذيب والحرق المعتادة. في عام 1680، كانت ساحة بلازا مايور مسرحا لاحتفالات فعل الإيمان المرعبة. رائحة اللحم المحترق سممت روح إسبانيا وشوهت عقلها. اخترقت الظلامية أعلى مستويات الدولة. وقد انعكس هذا المزاج السائد في فن تلك الفترة، وهو فن، مع استثناءات قليلة جديرة بالتنويه، كان مشبعا بروح التعصب المتطرف المجنون.
إن الانحطاط الذي شهدته إسبانيا هو دليل يوضح كيف يمكن لمجتمع عاجز عن تطوير قوى الإنتاج أن يقع ضحية لنجاحه الخاص. “الكبرياء يأتي قبل السقوط”، كما يخبرنا المثل. وتلك الغطرسة الإمبراطورية الإسبانية لها نظير حديث في غطرسة الولايات المتحدة الأمريكية اليوم. فمثلما كانت إسبانيا أقوى وأغنى بلد على وجه الأرض في القرن السادس عشر، فإن الولايات المتحدة هي اليوم كذلك. ومثلما كانت إسبانيا معقل الثورة المضادة في العالم آنذاك، كذلك الولايات المتحدة الآن. ومثلما بالغت إسبانيا في مغامراتها العسكرية الأجنبية التي استنزفت قوتها وجففت خزائنها، فإن الولايات المتحدة تتخطى حدودها على الصعيد العالمي.
إن أوجه الشبه واضحة وتمتد إلى مجال الأيديولوجيا والدين. جورج دبليو بوش متعصب ديني ضيق الأفق، مثله تماما مثل فيليب الثاني، وهو مصمم تماما على فرض الهيمنة المطلقة على العالم. هذه التشابهات ليست من قبيل الصدفة. نحن نعيش في فترة تغير تاريخي عظيم، فترة انتقالية مماثلة لتلك التي كانت في القرن السادس عشر. لكن بينما كان العالم في ذلك الوقت يشهد انهيار الإقطاع وحركة لا تقاوم في اتجاه الرأسمالية، فإننا نشهد الآن آلام احتضار الرأسمالية وحركة لا تقاوم بنفس القدر في اتجاه مجتمع جديد نسميه الاشتراكية.
أولئك الذين لديهم الشجاعة ليقولوا الحقيقة يوصفون بالطوباويين والحالمين والمجانين. نحن نشارك هذا الشرف مع دون كيشوت. نجد أنفسنا غير متلائمين مع عالم الرأسمالية مثلنا مثل سلفنا اللامع. لكننا، على عكسه، لا نسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء أو العودة إلى عصر ذهبي لم يكن موجودا من قبل. بل على العكس من ذلك، نحن نرغب بشدة في المضي قدما إلى مرحلة جديدة للتطور البشري أسمى نوعيا.
لسنا بحاجة للأحلام والأوهام، بل نفضل أن نبقي أقدامنا ثابتة على الأرض. وبهذا المعنى نحن نتبع تقليد ذلك البروليتاري الطيب القلب والمنطقي: سانشو بانزا. لكننا نتشارك مع فارس لامانشا كراهية شرسة ضد الظلم بجميع أشكاله. نحن نتشارك معه قدرته على الارتقاء فوق الأخلاق البرجوازية الضيقة الحقيرة، ونتشارك معه في التطلع إلى عالم أفضل من العالم الذي نعيش فيه، والشجاعة للنضال من أجل تغييره.
آلان وودز
19 يوليو/تموز 2005
ترجم عن النص الأصلي:
Don Quixote, and Spain in the age of Cervantes
هوامش:
[1] Marx and Engels, The Communist Manifesto, Chapter 1.
[2] Trotsky, The Spanish Revolution
[3] Marx and Engels, The Communist Manifesto, Chapter 1
[4] The Great Armada: الاسم الذي أطلق على الأسطول الحربي الإسباني في تلك الفترة. المترجم.
[5] K Marx, Capital, Vol. 1, Progress Publishers, 1971, pg 510.
[6] W H Prescott, History of the Reign of Ferdinand and Isabella, George Allen & Unwin, 1962, p. 740
[7] بالإسبانية في النص الأصلي: (El Siglo de Oro) -المترجم-
[8] Marx, Capital, Vol. 1, Chapter 28.
[9] Lafargue, Reminiscences of Marx
[10] K Marx, Capital, Vol. 1, Progress Publishers, 1971, pg 59
[11] Cervantes, Don Quixote, Hogarth Press, 1900, pg 2
[12] ibid., pg 325.
[13] ibid., pg 13.
[14] ibid., pg 41.
[15] ibid., pg 61.
[16] ibid., pg 64.
[17] احتفال فعل الإيمان (“auto da fé”) هو احتفال “التكفير عن الذنوب”، كانت تنظمه محاكم التفتيش في تلك الفترة. -المترجم-
[18] “Con la Iglesia hemos dado, Sancho”،: عبارة مراوغة تعني حرفيا: “لقد وصلنا إلى الكنيسة، يا سانشو”، لكن لديها المعنى الضمني المذكور في المتن.
[19] ibid., pg 29.
[20] ibid., pg 39
[21] ibid., pg 76
[22] Cervantes, Don Quixote, Norton, 1981, pg 9.
[23] Cervantes, Don Quixote, Hogarth Press, 1900, pg 64
[24] ibid., pg 66.
[25] Trotsky, The Spanish Revolution