بعد ثلاثين عاما على إطلاق تلسكوب هابل، ها هو خلفه، تلسكوب جيمس ويب، يدخل الخدمة. توقع علماء الكونيات (Cosmologists) أنصار نظرية الانفجار الأعظم أن يُظهر لهم التلسكوب المجرات الشابة بعد “بداية” الكون بقليل. لكن تلسكوب جيمس ويب، بعد أن أطل في أعماق الكون، أرسل صورا تفند النظرية السائدة في علم الكونيات، وتشير إلى كون سرمدي في الزمان والمكان. هذا ما يوضحه الرفيقان: ديفيد غارسيا كولين وفينسنت أنجيرير الذي نُشر، بالإنجليزية لأول مرة، في العدد 39 من مجلة “الدفاع عن الماركسية”، وتم تعريبه ونشره في العدد 11 من مجلتنا “الحرية والشيوعية”.
الصور التي أرسلها تلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST) أذهلت العالم. هذه هي أدق وأبعد صور للكون حصلت عليها البشرية حتى الآن. وكما قد يتوقع المرء، فقد وصف أحد علماء الفلك اليسوعيين، العاملين في مرصد الفاتيكان، هذه الصور على أنها «تكشف لنا الإبداع الإلهي، ويمكننا من خلالها أن نرى قوته المذهلة وحبه للجمال»[1].
لكن وبعيدا عن تمجيد الإبداع الإلهي، بدأ التلسكوب الآن في إرسال البيانات التي تطرح تحديات خطيرة لأسطورة الخلق الحديثة المسماة: نظرية الانفجار العظيم. فكلما تعمق في الفضاء، يزيد في تفنيد الأحكام المسبقة القديمة حول أصل الكون وتطوره، ويلقي ضوء لامعا على المسائل العلمية والفلسفية العميقة والمهمة.
في دجنبر الماضي، تم وضع التلسكوب في مدار يبعد بـ 1,5 مليون كيلومتر عن كوكبنا، وبعد حوالي ستة أشهر من المعايرة و12 ساعة فقط من التشغيل الكامل، أنتج أكثر الصور إبهارا. فبفضل عينه القوية، التي تبلغ مساحتها 25 مترا مربعا، والقادرة على اكتشاف نطاق واسع من ضوء الأشعة تحت الحمراء، بقوة مائة مرة من سابقه -تلسكوب هابل-، يَعد تلسكوب جيمس ويب بإحداث ثورة في فهمنا للكون ومكاننا فيه.
قامت ناسا، خلال مؤتمر صحفي، بعرض خمس صور مذهلة.
في إحدى تلك الصور نلاحظ سديم كارينا، الذي يقع على بعد 7500 سنة ضوئية من الأرض: كتلة من الغاز والغبار التي هي حضانة لنجوم جديدة. هنا سيتمكن العلماء من أن يدرسوا بدقة سيرورة ولادة النجوم. وكما أوضحت عالمة ناسا، آمبر ستراوغن: «نرى عددا هائلا من النجوم حيث يتم رصد منحدرات كونية وبحر لا نهاية له. تظهر النجوم الصغيرة في سديم كارينا، حيث تشكل الأشعة فوق البنفسجية والرياح النجمية جدرانا ضخمة من الغبار والغاز. يمكننا أن نرى مئات النجوم الجديدة. أمثلة على فقاعات ونفاثات أنشأتها النجوم حديثة الولادة، مع وجود المزيد من المجرات الكامنة في الخلفية».
والصورة المذهلة الأخرى هي صورة “سديم الانفجارات الثمانية”. تظهر نجما في لحظات موته، على بعد حوالي 2500 سنة ضوئية من كوكبنا، محاطا بدائرة عملاقة من الغاز تشبه أميبا (Amoeba) ضخمة مع نجم ساطع يحتضر في وسطها. في “كارينا” يمكن للعلماء دراسة النجوم عند ولادتها، بينما نراها هنا [سديم الانفجارات الثمانية] في سيرورة موتها.
والصورة الأكثر إثارة للدهشة حقا هي تلك التي أخذها التلسكوب لخماسية ستيفان “The Stephan Quintet”، التي تبعد حوالي 300 مليون سنة ضوئية. تم التقاط صورة لخمس مجرات، أربعة منها تدور حول بعضها البعض، وهي أول مجموعة مدمجة من نوعها تمت ملاحظتها على الإطلاق. يبدو أن تلك الرقصة الكونية الهائلة مرتبطة بوجود ثقب أسود، يُصدر غازا بطاقة تعادل نحو 40 مليار ضعف لمعان الشمس. ووفقا لعالمة الفلك في وكالة الفضاء الأوروبية، جيوفانا جياردينو: «لا يمكننا رؤية الثقب الأسود نفسه، لكننا نراه يلتهم المادة الدوامة (The swirling material)». يأمل العلماء أن يتمكنوا، باستخدام هذه البيانات الأخيرة، من الكشف عن نوع التفاعلات التي تحدث بين المجرات، والدور الذي تلعبه مثل هذه الرقصات المضطربة في ولادة الكيانات الكونية.
وعلى بعد 1150 سنة ضوئية فقط من الأرض، نلاحظ كوكبا غازيا عملاقا أطلق عليه اسمWASP-96b ، تبلغ كتلته نصف كتلة المشتري تقريبا لكنه أكبر منه بـ 1,2 مرة، والذي تم العثور داخل غلافه الجوي على دليل على وجود الماء. بخار الماء، الذي هو الشرط المسبق الأساسي لظهور الحياة كما نعرفها، يمكن أن يكون وفيرا في الكون. لقد تم اكتشاف حوالي 5000 كوكب خارجي (كواكب خارج نظامنا الشمسي) منذ عام 1995. وسيساعدنا تلسكوب جيمس ويب على دراستها وتحديد ما إذا كان بعضها يمتلك شروط الحياة.
تُظهر الصور الجديدة التنوع المدهش للمادة في كل اللحظات المذهلة العديدة لتطورها. إنها تكشف عن كون هو مشهد لسيرورات هائلة من الولادة والدمار، وتوترات لا يمكن تصورها تنتج النجوم والمجرات، والتي تنشأ منها ظروف الحياة؛ صور بانورامية مذهلة تظهر التعقيد المتزايد للمادة في تطورها الديالكتيكي.
الانفجار العظيم
ربما كانت الصورة الأكثر روعة وانتشارا هي تلك التي التقطت من مشهد مذهل لمجرات بعيدة تُعرف باسم حقل ويب العميق الأول. ووفقا لبيل نيلسون، مدير وكالة ناسا، يمثل هذا: «جزءا صغيرا من الكون، بحجم حبة رمل على إصبع ذراع ممدودة». يمكن ملاحظة عدد لا يحصى من المجرات من كل الأشكال التي يمكن تخيلها في هذا الجزء المتلاشي من السماء: مجرات ممدودة (Elongated) ، ومجرات مفلطحة (Flattened)، ومجرات دائرية؛ بعضها شديدة اللمعان لدرجة أنها تطغى على جيرانها. وأضاف نيلسون: «إن الكون يغمرنا. نحن غير قادرين على تصوره وتخيل ضخامته. هل الوضع أفضل مع هذه الصور؟ لا توجد صورة يمكن أن تمثله بكل عظمته، إلا أنه ابتداء من هذا الأسبوع صار لدينا أقرب تصور عنه. كنا طوال الأسبوع نبحث بشغف في الصورة الأولى التي التقطها تلسكوب جيمس ويب. كمْ كان كارل ساغان سيبتسم اليوم لو أنه تمكن من رؤية هذه الصورة!»
أبعد هذه المجرات -والتي تظهر كأقواس من الأشعة تحت الحمراء، بسبب ما يسمى بـ “الانزياح الأحمر”، وعدسات الجاذبية التي تشوه شكلها الظاهري- أطلقت ضوأها منذ أكثر من 13 مليار سنة، وفقا للحسابات الأولية، أي بعد بضع مئات ملايين من السنوات فقط عن اللحظة التي يُفترض، وفقا لنظرية الانفجار العظيم، أن الكون بأكمله قد نشأ فيها، قبل 13,8 مليار سنة. إن رصد المزيد والمزيد من المجرات التي تعود إلى أزمنة بالكاد تتجاوز بقليل البداية المفترضة للكون يثير تساؤلات جدية حول مدى صحة نظرية الانفجار العظيم. كيف يمكن تفسير وجود مجرات مشرقة مكتملة التكوين في ما يمكن اعتباره مجرد لحظة بعد نشوء الكون؟ إن ذلك أشبه بمشاهدة شخص يَظهر مكتمل البلوغ مباشرة بعد الولادة. لكن وفقا لأكثر النماذج المقبولة على نطاق واسع عن تشكيل المجرات، تتشكل المجرات العملاقة من سحب صغيرة باهتة تتجمع تدريجيا من خلال الاندماجات الكونية. هذه السيرورة تستغرق مليارات السنين.
في الوقت الذي من المفترض أن يكون الكون فيه ما زال في بدايته، تتوقع تلك النظرية وجود فقط مجرات قزمة، صغيرة وباهتة لدرجة أننا بالكاد نتوقع رؤية أي شيء منها على الإطلاق. أما المجرات العملاقة فتتشكل فقط في وقت لاحق من الاندماجات الكونية. إلا أنه لدينا هنا، في الصور الأولى التي أرسلها تلسكوب جيمس ويب، مجرات عملاقة بالفعل: عملاقة إلى درجة أنه ليس من الممكن أن تكون قد تشكلت ببساطة في الزمن المحدد لها في نظرية الانفجار العظيم.
حتى عمليات الرصد التي سبقت تلك الخاصة بتلسكوب جيمس ويب كانت تصيب بالفعل بعض علماء الفلك بشكوك مقلقة. ففي عام 2016، تم اكتشاف مجرة GN-z11 . تقول النظريات المعتمدة إن ضوأها ينبعث منذ ما قبل 13,4 مليار سنة، أي بعد 400 مليون سنة فقط من الأصل المفترض للكون. إن 400 مليون سنة، من وجهة النظر الفلكية، ليست سوى هنيهة صغيرة. وفي عام 2020، تم اكتشاف أقدم ثقب أسود تم رصده حتى الآن، يبلغ عمره 12,8 مليار سنة. لكن كيف يمكن أن ينشأ الثقب الأسود في وقت كان يُفترض أن المادة منتشرة للغاية بحيث لا تتسبب في انهيار الجاذبية؟ تقول بيكي سميثورست، الباحثة في جامعة أكسفورد والمتخصصة في الثقوب السوداء:
«لنفترض أن النجوم الأولى شكلت ثقوبا سوداء بعد حوالي 200 مليون سنة من الانفجار العظيم. لدينا، بعد أن انهارت تلك النجوم، حوالي ثلاثة عشر مليار سنة ونصف لينمو الثقب الأسود إلى مليارات أضعاف كتلة الشمس. إلا أن هذا وقت قصير جدا للحصول على هذا الحجم الكبير من خلال النمو التدريجي فقط»[2].
ثم، في عام 2021، تم اكتشاف مجرة BRI 1335-0417، وهي مجرة حلزونية عمرها 12,4 مليار سنة، أي قبل حوالي مليار سنة من الوقت الذي يُعتقد أنه من الممكن فيه، وفقا لنظرية الانفجار العظيم، تشكل هذا النوع من المجرات المعقدة. قال عالم الفيزياء في جامعة الباسيفيك[3]، غيليرمو بارو: «لقد اكتشفنا “فيلة الماموث” في الكون في وقت من المفترض فيه ألا تكون موجودة. والآن نحن بحاجة إلى مزيد من البيانات لمعرفة كيف وصلت إلى هناك». يَعد تلسكوب جيمس ويب بإلقاء مزيد من الضوء على هذه الأسئلة. إلا أننا نتوقع أن البيانات الجديدة سوف تؤدي فقط إلى خلق المزيد من المشاكل لمؤيدي نظرية الانفجار العظيم.
ما يزال الوقت مبكرا، ولا بد من إجراء تحليل أكثر صرامة لتأكيد الملاحظات الأولية، لكن البعض يعتقدون بالفعل أن تلسكوب جيمس ويب قد صور أقدم المجرات التي تم اكتشافها حتى الآن: GLASS-z11 وGLASS-z13، اللذان يطلق عليهما اسم Glassy[4]. ووفقا للتحليل الأولي فقد تشكلت هاتان المجرتان بعد 300 مليون سنة فقط من الانفجار العظيم. بالمقارنة معهما، يبلغ عمر كوكبنا 4,5 مليارات سنة، وتستغرق مجرتنا، درب التبانة، 200 مليون سنة لإكمال دورة واحدة فقط! لا تستطع النظرية الكلاسيكية عن تطور المجرات أن تفسر كيف تكونت هذه المجرات في مثل هذا الوقت القصير. وهذه ليست سوى البداية، إذ تدعي دراسات أخرى أنها تعرفت على مجرات أقدم. وعلى حد تعبير صحفي علمي فإنه:
«في الواقع لقد اكتشف علماء الفيزياء الفلكية بالفعل أن الكون المبكر قد يكون أكثر انشغالا مما كانوا يتوقعون. ربما تكون النجوم قد بدأت تتشكل بمعدل أسرع بكثير مما توقعه بعض النماذج. كيف اندمجت المادة وبدأت في تكوين هذه المجرات في وقت مبكر؟ لا نعرف بعد. لكن تلسكوب جيمس ويب، على ما يبدو، يعيد بالفعل كتابة ما اعتقدنا أننا نعرفه عن بداية، حسنا، بداية كل شيء».[5]
وفي إشارة إلى “Glassy”، يتابع المقال نفسه، قائلا: «علماء الفلك منبهرون بإمكانية Glassy، والتي، بالإضافة إلى كونها محطمة محتملة للأرقام القياسية، فهي أيضا أغرب بكثير مما كانوا يتصورون. لطالما اعتقد علماء الفلك أن المجرات لا يمكنها أن تكون كبيرة جدا في وقت مبكر من تاريخ الكون، وأنها ستبدأ في الانتفاخ بالنجوم بعد حوالي 500 مليون سنة من الانفجار العظيم. لكن Glassy شديدة السطوع، مما يشير إلى أنها تحتوي على وفرة من النجوم، والتي يبلغ حجم كتلتها مجتمعة مليار مرة كتلة شمسنا»[6].
ليس وحده حجم هذه المجرات ما يطرح مشكلة للنظرية السائدة. بل وكذلك تكوينها. تشير المواد التي تتكون منها عادة، إلى أنه قد تمت إعادة تدويرها على مدى أجيال عديدة من تكوين النجوم. يقول منظرو الانفجار العظيم إن كل ما كان موجودا بعد الانفجار الأولي الذي أنتج الكون، هو الهيدروجين والهيليوم وكميات ضئيلة من العناصر الثقيلة. لكننا وجدنا بالفعل وفرة مفاجئة من العناصر الثقيلة والغبار، التي نتجت في النجوم السابقة، في تلك المجرات المبكرة. ومرة أخرى، على حد تعبير عالم درس مثل هذه المجرات المبكرة في عام 2020:
«توصلنا، من خلال الدراسات السابقة، إلى أن مثل هذه المجرات الفتية تفتقر إلى الغبار. إلا أننا وجدنا حوالي 20% من المجرات التي تجمعت خلال تلك الحقبة المبكرة هي بالفعل غنية جدا بالغبار وأن جزءا كبيرا من الضوء فوق البنفسجي من النجوم حديثة الولادة مخفي بالفعل بواسطة ذلك الغبار»[7].
إن مسألة تكوين المجرات -التكتلات الهائلة للغازات والغبار والنجوم الدوامة (Swirling)- ليست سوى قمة جبل الجليد. لقد كشف علم الفلك الرصدي عن بنيات كبيرة جدا جدا، مما تسبب في إرباك تام لعلماء الفلك أنصار نظرية الانفجار العظيم. فوفقا للافتراضات التي تشكل جزءا من نظرية الانفجار العظيم، لا يمكن لأي جسم كوني أن يزيد اتساعه عن 250 مليون سنة ضوئية[8]. ومع ذلك فإن علماء الفلك يكتشفون كل عام بنيات عملاقة أكبر فأكبر يبلغ اتساعها ملايير السنين الضوئية.
في عام 2021، اكتشف علماء الفلك بنية أطلق عليها اسم “القوس العملاق”. وعلى الرغم من أنها خافتة جدا، بحيث لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، فإنها تغطي مساحة واسعة من السماء. ومع ذلك، فإن هذه السلسلة الهائلة من المجرات تقع على بعد 09 مليارات سنة ضوئية، ويبلغ طولها 3,3 مليارات سنة ضوئية. ليس هناك شك في أن تلسكوب جيمس ويب سيستمر في اكتشاف بنيات عملاقة الأخرى، وربما بعض البنيات التي تكون أكبر حتى من “القوس العملاق”[9].
حتى الضوء نفسه سيستغرق مليارات السنين لاجتياز مثل هذه البنية. وسيستغرق السقوط الحر للمادة بفعل الجاذبية دهورا.
توجه هذه الاكتشافات ضربات ثقيلة لنظرية الانفجار العظيم. لقد انتهى ذلك الوقت الذي كان في مقدور المدافعين عن النظرية الاستمرار في لي عنق المعطيات، بالطريقة التي فعلوها على مدى عقود ، لفرض الملاحظات لتناسب وجهة نظرهم المسبقة.
يتقدم العلم الحقيقي مع ابتكار نظريات مهمتها شرح ملاحظاتنا. تراكم الملاحظات التي لا يمكن تفسيرها، يتطلب في مرحلة معينة مراجعة النظرية. هناك بالتأكيد مزاج مشوش بين علماء الفلك. مزاج “الذعر! ”[10]. كما يقول أحد العناوين. وقد غردت أليسون كيركباتريك، من جامعة كانساس، قائلة: «أنا في الوقت الحالي، في الساعة الثالثة صباحا، ما أزال ساهرة مستلقية أتساءل عما إذا كان كل ما فعلته خطأ».
ومع ذلك فإن وعي نخب المجتمع العلمي محافظ للغاية. ولذلك فإنهم بدلا من التشكيك في النظرية السائدة – نظرية الانفجار العظيم- تجدهم ينكرون على المجرات سيرورة تطورها. فبالنظر إلى الأدلة على أن المجرات قديمة قدم الكون نفسه تقريبا، يفترض مؤيدو نظرية الانفجار العظيم أن المجرات المبكرة تشكلت أسرع مما كان يُفترض في البداية.
لا يوجد سبب لافتراض أن تاريخ الكون المحلي لم تتخلله فترات من التطور المفاجئ. يزخر الكون بسيرورات ديالكتيكية حادة ومفاجئة. وبالتالي فإن محاولات تعديل المقاربة لزمن ولادة المجرات ليس لها أي علاقة بتفسير ميلاد المجرات، بل كل غايتها إنقاذ نظرية أصبحت موضع تشكيك متزايد في ضوء الاكتشافات الجديدة.
انزياح دوبلر
عانت نظرية الانفجار العظيم من العديد من مثل هذه “التعديلات” في تاريخها. لقد نشأت هذه النظرية الكونية من أكثر الافتراضات عبثية في تاريخ العلم. خلال عشرينيات القرن الماضي، اكتشف عالم الفلك، إدوين هابل، أنه كلما ابتعدت المجرة عنا، كلما بدت أكثر احمرارا. يمكن تفسير هذا الاحمرار بالإشارة إلى ما يُعرف باسم “تأثير دوبلر”، حيث تبدو أطياف ضوء الأجسام التي تبتعد عنا أكثر احمرارا. ومن هنا خلص علماء الفلك إلى أن الكون المرئي يبدو أنه يتوسع. إلا أنه تم تمطيط هذا الاستنتاج إلى أقصى حدوده وأكثرها سخافة: إذا كان كل شيء يتحرك بعيدا عن أي شيء آخر، فلا بد أنه، في وقت ما من تاريخ الكون، كانت كل المادة مركزة في نقطة واحدة (يسميها المدافعون عن نظرية الانفجار العظيم “المتفرد”) ليست أكبر من ذرة هيدروجين واحدة. وفي ذلك الوقت، لم تظهر كل المادة والطاقة فقط، بل من المفترض أن نسيج المكان والزمان ذاته قد ظهر إلى الوجود أيضا.
لكن انزياح دوبلر هو، في أفضل الأحوال، دليل على توسع قطاع من الكون، وليس على بداية وحيدة ومطلقة للزمان والمكان. لدينا هنا مثال مؤسف لحقيقة يتم دفعها إلى حدودها السخيفة والقيام فعليا بقفزة كونية. لا يتعلق الانفجار العظيم بالأدلة العلمية بقدر ما يتعلق بالتفسير الفلسفي للأدلة. إن كون جزء من الكون داخل أفقنا الضيق يبدو أنه يتمدد، لا يسمح لنا بأن نؤكد أن الكون بأسره يفعل ذلك، فبالأحرى أن نستخلص من هذه الحقيقة أن كل هذا ينتج من نقطة متفردة ظهر منها المكان والزمان بشكل غامض.
ينكر البعض أن الانفجار العظيم يعني بداية الزمن. يزعمون أن نظرية الانفجار العظيم تفترض فقط أن الكون كان موجودا في حالة حارة وكثيفة في الماضي. ومع ذلك فإن علماء كونيات معاصرين بارزين يدافعون في الواقع عن بداية الزمن. أوضح ستيفن هوكينغ أن «(الكون) لم يكن موجودا منذ الأزل. بل لقد كان للكون، والزمن نفسه، بداية مع الانفجار العظيم… بداية الزمن الحقيقي، كان يمكن أن تكون حالة مفردة، حيث يمكن أن تنهار قوانين الفيزياء»[11]. لكن بصراحة كل نظريات الانفجار العظيم البديلة التي تحاول تجنب المتفرد (“الارتداد الكبير”، اصطدام الأغشية، إلخ) ليست أقل تخمينا أو عبثية من فكرة المتفرد.
عالم الفلك الذي كان أول من اقترح فرضية الانفجار العظيم في عشرينيات القرن الماضي، جورج لوميتر، لم تكن لديه بالتأكيد مشكلة مع فكرة أن الانزياح الأحمر الكوني يثبت بطريقة ما أن الكون قد نشأ من العدم. فبسبب كونه كاهنا، كان واضحا له كيف يمكن خلق الكون من لا شيء: لقد خلقه الرب. وقد فاز لوميتر بمديح الفاتيكان لإسهامه في تعزيز الإيمان.
ومع ذلك، فقد يبدو من المثير للإعجاب أن هذه النظرية، التي تم اقتراحها لأول مرة في عشرينيات القرن الماضي، قد اجتازت اختبارات علم الفلك الرصدي لمدة قرن كامل. لكن نظرية الانفجار العظيم كما هي اليوم لا تحمل سوى تشابه سطحي مع فرضية لوميتر الأصلية، وذلك على وجه التحديد بسبب فشلها المتكرر في التوافق مع نتائج الرصد. كان “النجاح” الملحوظ الوحيد لنظرية الانفجار العظيم في القرن الماضي هو اكتشاف ما يسمى إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMBR) في عام 1965، إشعاع الجسم الأسود الذي يتخلل الفضاء، ودرجة حرارته 2,7 درجة كلفن.
لكن حتى هذا الاكتشاف لم يتوافق مع التوقعات. إذ إنه إذا كان الكون يتمدد، فإن الضوء الذي يصل إلينا من جزء من السماء ينبعث من مصدر لا يمكنه أبدا أن يكون على اتصال سببي مع المنطقة التي ينبعث منها الضوء في الجزء المقابل له مباشرة من السماء. ومع ذلك فإن لهما، بطريقة ما، نفس درجة الحرارة. ولأخذ هذه الملاحظات، وغيرها من الملاحظات غير المبررة، في الاعتبار، تم اختراع ما يسمى بـ“حقل التضخم” أي فترة تمدد سريع جدا خلال بدايات تشكل الكون. لا توجد آلية معروفة لمثل هذه المرحلة من التوسع العجائبي. لقد تم اختراعه ببساطة لإنقاذ النظرية. إنها واحدة من عدد من النظريات الرياضية البحتة التي لا يوجد دليل مادي عليها، والتي اخترعها علماء الكونيات لإنقاذ النظرية. بينما تضيف نظريات أخرى المادة المظلمة والطاقة المظلمة، التي لم يسبق لعلماء الكونيات أن رأوها مطلقا، لكنهم يزعمون أنها تشكل 95% من الأشياء المشكلة للوجود. والقصة الأحدث عن المجرات وطفولتها المبتورة هي مجرد أحدث إضافة رياضية لنظرية بدأت تنوء تحت وطأة تناقضاتها.
إن فكرة ظهور الزمان والمكان والمادة والطاقة من لا شيء، لا تتوافق إطلاقا مع النظرة المادية للطبيعة.
توضح كل التجربة الإنسانية أنه لا يمكن خلق المادة أو تدميرها. المادة هي سبب نفسها الخاص: تندمج وتتشتت وتعاود الاندماج بشكل سرمدي. إن افتراض أي فعل من أفعال الخلق يطرح السؤال التالي: ما سبب ذلك؟ إذا لم يكن عاملا ماديا (ووفقا لنظرية الانفجار العظيم فإنه لا يمكن أن يكون عاملا ماديا، لأن المادة نفسها إنما ظهرت مع الانفجار العظيم) فلا بد أنه كان خالقا غير مادي: الله.
ربما تم تمطيط تاريخ الخلق من 6000 سنة، إلى 13,8 مليار سنة، لكن هذا لا يقلل من سخافته. كلّا، إننا بصفتنا ماديون نرفض فكرة خلق المادة من العدم. الكون المادي لانهائي ومتطور. من المؤكد أن هذا يطرح مشاكل جديدة: فالكون اللانهائي بالطبع سيحتوي دائما على المزيد مما يجب اكتشافه. وعندما يتم حل المشاكل القديمة، تطرح مشاكل جديدة أعلى. ولكن مثلما ظهرت أسطورة الخلق في سفر التكوين فقط “لتحل” مشكلة من أين أتت الأرض، وهي مشكلة كانت غير قابلة للتفسير حتى تم اكتشاف الأصل السديمي للأرض في القرن الثامن عشر؛ فكذلك يبدو أن فعل الخلق الخاص بنظرية الانفجار العظيم إنما هو فقط “ليحل” مشكلات مثل انزياح دوبلر وإشعاع الخلفية الكونية الميكروي.
نحن لسنا علماء كونيات. نحن لا نتظاهر، بأي حال من الأحوال، بتقديم حلول كاملة لمثل هذه المشاكل. لكننا على ثقة من أن الاكتشافات والملاحظات الجديدة – مثل تلك الخاصة بجيمس ويب- ستؤكد النظرة المادية وتضرب فكرة الخلق.
ثورة كوبرنيكية
عندما نتوقف ونستعرض الوضعية الحالية لعلم الفلك المعاصر، نتذكر الأزمة التي عصفت بعلم الفلك القائل بـ “مركزية الأرض” خلال القرن الخامس عشر. فنظرية مركزية الأرض في الكون، مثلها مثل نظرية الانفجار العظيم اليوم، كانت موجودة منذ وقت طويل -أطول بكثير، في الواقع، من نظرية الانفجار العظيم-! دافع أناكسيماندر عن تلك النظرية في القرن السادس قبل الميلاد. ثم أعطاها أرسطو شكلا أكثر دقة بحلول عام 350 قبل الميلاد، حيث تحدث عن دوران الشمس والقمر والنجوم والكواكب حول الأرض على طول مسارات دائرية. لكن عالم الفلك الإسكندري بطليموس هو الذي أعطى النظرية تعبيرا نهائيا، بل وأنيقا إلى حد ما، بحلول القرن الثاني الميلادي.
في ذلك الكون “البطلمي”، تم تثبيت الشمس والقمر والنجوم في مجالات بلورية تدور حول الأرض. حركة الكواكب تم تلفيقها. ومن أجل شرح حركتها إلى الوراء، تم وضعها على أفلاك سماوية، تسمى أفلاك التدوير، داخل مجالات أخرى، تسمى المؤجِّلات (Deferents). على الرغم من جميع عناصره المختلقة، قام هذا النموذج للكون بعمل جيد للغاية في وصف الملاحظات التي تم إجراؤها حتى تلك الفترة الزمنية. إلا أنه تراكمت ملاحظات جديدة وأكثر دقة مع توالي القرون. تم إجراء أبحاث فلكية ممتازة على أساس علم الكونيات القديم الذي صار متجاوزا الآن، لكن النظرية القديمة كافحت لاحتواء نتائج تلك الأبحاث.
وبدلا من أن يقوم علماء الفلك بالتخلص من النظرية القديمة، ابتكروا مجالات جديدة داخل المجالات القديمة. تمت مضاعفة مجالات التدوير والمؤجلات من أجل جعل الحقائق الجديدة مناسبة للنظرية، مثل “التضخم” و“المادة المظلمة” و“الطاقة المظلمة” في وقتنا الحالي. بحلول القرن الخامس عشر، صارت النظرية القديمة في حالة أزمة وتنتظر رصاصة الرحمة، التي أطلقها كوبرنيك بشكل فعال عام 1543، عندما أصدر وهو على فراش الموت مؤلفه الذي بعنوان: De Revolutionibus Orbium Coelestium (حول دوران الأجرام السماوية).
نفى كوبرنيك أن تكون الأرض نقطة مركزية ثابتة للكون، وقال إنها تتحرك جنبا إلى جنب مع جميع الكواكب الأخرى، على طول مدارات شبه دائرية حول الشمس. كانت تلك ثورة هائلة في علم الفلك، ونقطة البداية الحقيقية للعلم الحديث في أوروبا. لكن نفي النظرية القديمة لا يعني تدميرها الكامل. في الواقع، لم تكن نظرية كوبرنيك مختلفة رياضيا على الإطلاق عن النظرة البطلمية القديمة، كما أظهر ذلك لاحقا عالم الفلك الدنماركي، تايكو براهي، في سياق صراعه ضد الكوبرنيكية. عندما تحل نظرية علمية محل نظرية قديمة، تعمل، في الواقع، دائما على استيعاب ما هو عقلاني في النظرية القديمة، في سيرورة نفي ديالكتيكية، والتي لا تعني أبدا القضاء بشكل كامل على القديم لصالح الجديد.
رفضت النظرة البطلمية القديمة المتحجرة الموت من تلقاء نفسها، وبقي لها العديد من المؤيدين الأقوياء بعد فترة طويلة من وفاة كوبرنيك. كانت قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من النظرة الرسمية للكنيسة عن الكون، حيث توجد الأرض (والإنسان) في مركز خلق الله، تحيط بهما أفلاك سماوية متقنة الصنع. كانت تلك السماوات موطنا لتسلسل هرمي كامل من الملائكة ورؤساء الملائكة، حيث يوجد بالطبع -في الأعلى وراء النجوم- الله نفسه. قاومت المؤسسة القديمة النظرية الجديدة بإرهاب محاكم التفتيش، الشيء الذي أدى إلى إسكات غاليليو وإحراق جيوردانو برونو.
من الغريب أن المؤسسة العلمية اليوم وجدت في الكنيسة الكاثوليكية حليفا قويا في الدفاع عن نظرية الانفجار العظيم. لقد تصالح الأعداء القدامى! لحسن الحظ لم يعد الهراطقة الذين يقفون ضد نظرية الانفجار العظيم يواجهون محاكم التفتيش. لكنهم يواجهون عقبات ربما تكون أكثر قوة. مجال العلوم الأكاديمية سوق كبير للغاية، حيث يتم استثمار مليارات الدولارات في النظريات والمؤسسات. قد تكون نظرية ما متجاوزة، لكنها إذا كانت مرتبطة بملايين الدولارات في شكل استثمارات، فإنه لن يتم إسقاطها بسهولة. عند بزوغ فجر الثورة العلمية، كانت الرأسمالية قوة ثورية. لكنها اليوم تعيق التقدم العلمي. ما تزال نظرية الانفجار العظيم مستمرة اليوم لأنها “أكبر من أن تفشل”.
هناك العديد من العلماء الأكفاء من الناحية العلمية، والذين قدموا كل أنواع الإسهامات المعقدة في مجال نظرية الانفجار العظيم. نحن لا نشكك في قدراتهم، بل نسائل تفسيرهم الفلسفي للأدلة. معظم العلماء لا يمتلكون فلسفة واعية خاصة بهم. وبالتالي فإنهم سوف يميلون حتما إلى تبني شظايا الفلسفات السائدة في المجتمع، والتي تعكس مصالح الطبقة السائدة المنحطة التي تعمل في عهد انحطاطها على إحياء الأفكار الدينية القديمة.
تميل الأوساط الأكاديمية في اتجاه المثالية الفلسفية، بقيادة طبقة سائدة تتمسك بـ “يد الله”، وأرستقراطية أكاديمية تدافع بشدة عن مصالحها ومكانتها وميزانياتها ومنحها الدراسية. والعلوم ليست استثناء. الاستنتاج المنطقي للنظرة المثالية هو خلق العالم، حيث تأتي المادة إلى الوجود من العدم الخالص. وتحت لباس نظرية الانفجار العظيم، شق هذا الرأي طريقه إلى أروقة الأوساط الأكاديمية المحترمة.
لكن هذا مجرد تيار واحد. ففي مقابل ذلك، هناك العديد من العلماء الذين يرغبون في الوقوف ضد تيار المثالية والتصوف في العلوم. والعالِم الجدير بالذكر في هذا السياق هو إريك ليرنر، الذي تم نبذه من قبل المجتمع العلمي لموقفه الشجاع ضد الانفجار العظيم. ونحن نوصي بشدة بقراءة مقالته “The Big Bang didn’t happen” (الانفجار العظيم لم يحدث)، الذي يعلق على نتائج اكتشافات جيمس ويب.
يفهم الماركسيون أن النضال ضد الرأسمالية المحتضرة ليس فقط نضالا سياسيا واقتصاديا، بل إنه أيضا نضال أيديولوجي. وكما أوضح لينين فإنه يجب على الماركسيين في تلك المعركة، أن يتعلموا إيجاد حلفاء بين «صفوف علماء الطبيعة المعاصرين الذين يميلون إلى المادية ولا يخشون الدفاع عنها والوعظ بها ضد الميل الفلسفي المألوف إلى المثالية والشكوكية السائدين فيما يسمى بالمجتمع المتعلم»[12].
[ملاحظة: تمت كتابة هذه المقالة لأول مرة قبل ملاحظة مشاكل المعايرة مع التلسكوب وتصحيحها. لقد أقصت هذه المعايرات بعض المجرات المرشحة ذات الانزياح الأحمر المرتفع، لكن ليس كل تلك الأجسام بأي حال من الأحوال، وهو ما يستمر في إرباك علم الكونيات السائد].ديفيد غارسيا كولين وفينسنت أنجيرير
18 نونبر 2022
مصادر وهوامش:
[1] خدمة الأخبار الكاثوليكية (Catholic News Service)، علق عالم فلك يسوعي على صورة تلسكوب ويب قائلا: “هذا خلق الله يتكشف لنا”. (America: the Jesuit Review, 14 July 2022).
[2] P Barss, The mysterious origins of Universe’s biggest black holes, BBC, 23 August 2021.
[3] Editorial, Hallados los ‘mamuts’ galácticos del universo joven, La Vanguardia, 14 May 2019.
[4] R P Naidu et al., Two Remarkably Luminous Galaxy Candidates at z≈11−13 Revealed by JWST, Cornell University, Preprint, 19 July 2022.
[5] J Ryan, The Webb Space Telescope Might Have Already Smashed Its Own Record, Cnet, July 26 2022.
[6] ibid.
[7] Editorial, Galaxies in the Infant Universe Were Surprisingly Mature, National Radio Astronomy Observatory, 27 October 2020.
[8] J K Yadav; J S Bagla; N Khandai, “Fractal dimension as a measure of the scale of homogeneity”, Monthly Notices of the Royal Astronomical Society, 405 (3), 25 February 2010.
[9] C Wood, Cosmologists Parry Attacks on the Vaunted Cosmological Principle, Quanta Magazine, 13 December 2021.
[10] L Ferreira et al., Panic! At the Disks: First Rest-frame Optical Observations of Galaxy Structure at z>3 with JWST in the SMACS 0723 Field, Cornell University, 19 July 2022.
[11] S Hawking, The Beginning of Time, Lecture, 1996.
[12] V I Lenin, “On the Significance of Militant Materialism”, Lenin Collected Works vol 33, Progress Publishers, 1973, pg 232.
مصدر وعنوان النص الإنجليزي
The James Webb telescope: an eye onto a universe, infinite in time and space