هذا المقال في الأصل خطاب ألقاه الرفيق آلان ووز، محرر موقع marxist.com، خلال الجامعة الماركسية الأممية، التي تم تنظيمها مؤخرا ولاقت نجاحا عظيما. ونشرناه في العدد العاشر من مجلتنا “الحرية والشيوعية”.
يتسم الوضع العالمي بالحروب والفوضى والأزمات على جميع المستويات، وهو ما يدفع البعض إلى استخلاص أكثر الاستنتاجات تشاؤما. إن ما نراه في الواقع هو نظام قديم يحتضر ونظام جديد يكافح من أجل أن يولد. نرى ذلك في الانفجارات الثورية في سريلانكا وأماكن أخرى. لكن ما ينقص هو قيادة ثورية واضحة لقيادة الطبقة العاملة نحو النصر والإطاحة بهذا النظام الرأسمالي المتحلل.
عندما نأتي إلى تحليل الوضع الحالي، يبدو أولا أنه شبكة معقدة من السيرورات المتناقضة. ومن الناحية الظاهرية تبدو التيارات الرئيسية وكأنها تتحرك في عكس الاتجاه الثوري تماما.
سوف تستخلص العقول الانطباعية أكثر الاستنتاجات تشاؤما. لكن هذا سيكون خطأ جوهريا. فعند تحليلنا للأحداث، يجب علينا ألا نؤسس تحليلنا على المظاهر، بل يجب أن نتوغل بشكل أعمق لفهم السيرورات العميقة.
إن منظري رأس المال غير قادرين على فهم السيرورات الحقيقية التي تحدث في المجتمع، لأنهم تجريبيون ميؤوس منهم لا يرون سوى سطح الأحداث.
إنهم لا يتوقفون عن الحديث عن ”الحقائق“، لكنهم غير قادرين على رؤية السيرورات الأعمق التي تنضج بهدوء تحت السطح. إنهم، بالمعنى الحرفي للكلمة، يرون الشجرة وعاجزون عن رؤية الغابة.
التفكير الديالكيتكي بالنسبة لهم كتاب مغلق. لكنهم في بعض الأحيان -في أحيان قليلة جدا- يتوصلون إلى بعض الأفكار الصحيحة. وفي هذا السياق اسمحوا لي أن أقتبس من الفاينانشيال تايمز، عدد 28 يونيو:
«تخلق هذه الحقبة الجديدة من تاريخ العالم تحديات هائلة. إنه من الممكن -وربما من المحتمل أيضا- أن ينهار النظام العالمي».
إذا اكتفينا بالنظر إلى السطح فقط، فإن هذا التنبؤ يبدو غير محتمل. لكننا إذا بحثنا أعمق، فإنه يصير صحيحا تماما. وهذه هي مهمتنا بالتحديد: التعمق أكثر باستخدام المنهج الديالكتيكي العلمي.
أحد القوانين الأساسية للديالكتيك هو تحول الكم إلى كيف، حيث أن سلسلة من التغييرات الصغيرة، التي تبدو غير مهمة، تصل في النهاية إلى نقطة حرجة فتحدث قفزة نوعية. عند نقطة معينة، تتغير الأشياء إلى نقيضها.
صحيح أن الظروف الموضوعية تختلف من بلد إلى آخر. يمكن للأحداث أن تتحرك بوتيرة أسرع أو بوتيرة أبطأ. لكن الأحداث في كل مكان تتحرك في نفس الاتجاه: نحو مزيد من الاضطرابات وتكثيف هائل للتناقضات على جميع المستويات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
والأهم من ذلك هو أن هناك تغييرات مهمة تحدث في سيكولوجية الجماهير وتمهد الطريق لاندلاع انفجارات اجتماعية وسياسية كبيرة.
وشيء واحد مؤكد تماما: الوضع بأسره يحبل بتغيرات حادة ومفاجئة. لقد رأينا هذا في بداية العام في كازاخستان، ونراه الآن، مرة أخرى، في الإكوادور وسريلانكا.
هذه ليست أحداث معزولة. إنها تشبه ومضات البرق التي تعلن قدوم العاصفة.
الحرب في أوكرانيا
يجب علينا أن نحافظ، في جميع الأوقات، على فهم صحيح للسيرورات العميقة. وهذا ضروري قبل كل شيء عندما نتعامل مع مسألة الحرب.
إن العنصر المهيمن في الوضع العالمي في الوقت الحاضر هو الحرب في أوكرانيا. وهناك قول مأثور مفاده أنه إذا لعبت بالنار، فمن المحتمل أن تحرق أصابعك.
يبدو أن البرجوازية ومنظريها قد نسوا هذه النصيحة الممتازة. وهم الآن يتعلمون هذا الدرس بالطريقة الصعبة.
ما هو الموقف الذي يجب على الماركسيين أن يتخذوه تجاه الحرب؟ في المقام الأول لا يمكن أن يكون لدينا موقف عاطفي أو أخلاقي تجاهها، كما يفعل دعاة السلام عندما يشتكون من أن الحروب قاسية للغاية، وأن الناس يقتلون، وما إلى ذلك.
هذه حقائق لا يمكن إنكارها. لكن سواء أحب المرء ذلك أم لا، فإنه لا يمكن إنكار أن الحروب هي حقيقة من حقائق الحياة، وأنها تحدث على فترات منتظمة في تاريخ البشرية، وتعبر عن حقيقة أن بعض التناقضات قد وصلت إلى نقطة حرجة بحيث لم يعد من الممكن حلها بالطرق ”العادية“، بل فقط بقوة السلاح.
وهذا صحيح بالنسبة للحرب بين الطبقات كما هو الحال بالنسبة للحرب بين الأمم. وباقتباس الكلمات الرائعة والعميقة لكلاوزفيتز نقول إن: الحرب ليست سوى استمرار للسياسة بوسائل أخرى.
أجل إن الحروب دموية ووحشية. لكنها حتمية في بعض الأحيان. كما أنها تساهم في تسريع السيرورات، بحيث تدفع جميع التناقضات إلى نقطة حرجة. والوضع الحالي ليس استثناء. فقد أدى الصراع في أوكرانيا إلى كشف كل التيارات الحالية بشكل حاد.
وكما يمكن للمرء أن يتوقع فقد تبنى الاشتراكيون الديمقراطيون على الفور قضية أوكرانيا، أي قضية الناتو والإمبريالية الأمريكية. وهو الشيء الذي لن يفاجئ أحدا.
إن الإصلاحيين اليمينيين هم مجرد عملاء للطبقة الحاكمة بين صفوف الحركة العمالية. إنهم يمثلون بأمانة مصالح أصحاب الأبناك والرأسماليين، سواء في زمن السلم أو في زمن الحرب.
لكن ماذا يمكن أن نقول عن ”اليسار“؟ إن الإصلاحيين اليساريين وعلى الرغم من أنهم قد يتحدثون بكلمات ”يسارية“، فإنه ليس لديهم موقف مستقل عن الإصلاحيين اليمينيين. وهذا لأنهم، في التحليل الأخير، قبلوا بدورهم بالنظام الرأسمالي، ولا يختلفون إلا بكونهم يعتقدون بغباء أنه يمكن جعله يخدم مصالح الطبقة العاملة.
إنهم يؤمنون بالمصالحة بين الطبقات وليس الصراع الطبقي. وبالتالي فإنهم يدافعون أيضا عن الوحدة مع اليمينيين عملاء رأس المال. وهذا صحيح بشكل خاص في سياق الحرب.
كالعادة انجرف الإصلاحيون اليساريون المفلسون خلف اليمين. لقد وقعوا في شباك الدعاية المنافقة للإمبرياليين، ووقفوا يذرفون دموع التماسيح على الأوكرانيين المساكين.
إنهم لا يدركون الحقيقة الواضحة بأن الأوكرانيين في هذه الحرب هم مجرد بيادق في أيدي الإمبريالية الأمريكية، وبيادق رجعية في حالة الحديث عن حكومة كييف.
في ألمانيا، أكثر المؤيدين للحرب سعارا هم حزب الخضر، شركاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي في التحالف الحكومي، والذين كانوا في الثمانينيات قد ارتبطوا بقوة بحركة السلام.
والآن صار دعاة السلام البورجوازيون الصغار هؤلاء، أكثر دعاة الحرب تشددا وقد قفزوا على الفور إلى معسكر الرجعية الإمبريالية.
أوه أجل، الأشياء تتغير إلى نقيضها!
كما أن العديد من العصب التروتسكية المزعومة قد استسلمت لضغوط الإمبريالية والدعاية الهستيرية لوسائل الإعلام.
يقال لنا إن بوتين عدونا. أجل، بوتين هو عدونا. لكن مهمة تصفية الحسابات مع بوتين تقع على عاتق الطبقة العاملة الروسية، وعلى عاتقها وحدها فقط.
إن مهمتنا هي النضال ضد برجوازيتـ”نا“ وضد طبقتـ”نا“ الإمبريالية السائدة، لا أن ندفع -بشكل مباشر أو غير مباشر- إلى التحالف معهم، على أساس أنه يجب علينا محاربة بوتين الشرير.
مهما كان بوتين شريرا، فإن السادة في واشنطن ولندن هم أكثر منه شرا بألف مرة وأكثر رجعية. وأيديهم ملطخة بدماء أكثر بكثير.
أجل بالتأكيد! الحرب مفيدة جدا في كشف كل التناقضات والفضح القاسي لكل نقاط ضعف أولئك الذين يدعون زورا الدفاع عن أفكار لينين وتروتسكي.
يمكننا أن نفخر بحقيقة أن التيار الماركسي الأممي قد حافظ على توازنه ووقف بحزم ضد وابل الدعاية الحربية الهستيرية. لقد حافظنا على موقف طبقي ثابت. لا يوجد في صفوفنا أي مكان على الإطلاق للعناصر الضعيفة التي تنحني تحت الضغط في زمن الحرب.
يجب علينا دائما أن ندافع بحزم عن السياسة الطبقية وأن نتمسك بالمبدأ اللينيني الأساسي القائل بأن: العدو الحقيقي موجود في الداخل! هذه هي النقطة الأساسية، ويجب ألا تغيب عن بالنا ولو لثانية واحدة.
النفاق الإمبريالي
إنه لأمر مضحك أن نلاحظ أنه على الرغم من أن الجميع يعرف أن الناتو خاضع بالكامل لسيطرة الإمبريالية الأمريكية، فإن الناطق باسمه لم يكن أبدا شخصا أمريكيا.
دائما ما يكون رجلا إسكندنافيا لطيفا، لأن الجميع يعلمون أن الإسكندنافيين شعب لطيف ومسالم يكره الحرب أو العنف من أي نوع.
ينس ستولتنبرغ، النرويجي ذو الوجه الجامد، والذي يتظاهر بأنه الأمين العام لتلك المنظمة، بالكاد تمكن من إخفاء سعادته عندما أعلن أن السويد وفنلندا ستنضمان الآن إلى الناتو، بعد أن سحبت تركيا اعتراضاتها.
لكنه لم يذكر سبب سحب تركيا لاعتراضاتها.
لقد كان ذلك، في الواقع، نتيجة صفقة دنيئة مع أردوغان.
كان أردوغان قد وجه لحلف الناتو إنذارا نهائيا مفاده: ارموا الكورد إلى الذئاب، وإلا انسوا انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو.
وقد صرح مكتب الرئيس أردوغان إنه ”حصل على ما يريد“.
بعد أيام قليلة، قصفت المدفعية التركية منتجعا سياحيا في شمال العراق، غالبا ما يستخدمه الكورد للهروب من الحر في الصيف. وقد أدى ذلك الهجوم غير المبرر على هدف مدني إلى مقتل رجال ونساء وأطفال أبرياء.
والآن تصوروا لو كانت تلك تصرفات قام بها الروس في أوكرانيا، كنا سنسمع الصراخ: جزارين! وحوش! قتلة النساء والأطفال! فظاعة! إبادة جماعية! جريمة حرب! وما إلى ذلك.
لكن أين هي صرخات الإدانة من جانب السويد وفنلندا أو واشنطن ولندن؟ لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق. ولا كلمة إدانة واحدة. مجرد صمت مطبق: صمت التواطؤ الكلبي الوقح مع قاتل بدم بارد.
إن هذا العمل، في حد ذاته، يفضح الكلبية الكاملة والنفاق المطلق لكل من القوى الإمبريالية الرئيسية والبرجوازية الاسكندنافية البغيضة التي تختبئ وراء واجهة ”الديمقراطية“ و”الحياد“ و”المسالمة“ لتغطية جرائمها.
بخصوص الحرب
من المستحيل، بالطبع، أن نكون دقيقين بشأن توقيت الأحداث. هناك العديد من المتغيرات في هذه المعادلة. لقد وصف نابليون الحرب بأنها المعادلة الأكثر تعقيدا على الإطلاق.
من المؤكد أن بوتين قد ارتكب خطأ، في بداية الحرب، باعتقاده بأنه سيستولي على كييف في فترة زمنية قصيرة جدا. أنا بدوري اعتقدت نفس الشيء، ولم أكن الوحيد.
كان لدى وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون نفس المنظور بالضبط، وهو ما أظهروه عندما عرضوا على زيلينسكي طائرة مروحية لنقله خارج البلاد.
لكن الأمور سارت بشكل مختلف. الجيش الأوكراني -المسلح والمدرب من قبل الناتو- أثبت أنه أقوى مما كان عليه في الماضي. كان على الروس التخلي عن أهدافهم الأصلية والعمل على أساس خطة أكثر واقعية، وهي الاستيلاء على دونباس.
وهذا ما قاموا به حيث بدأوا يتقدمون ببطء لكن بثبات، ويستولون على النقاط الاستراتيجية واحدة تلو الأخرى وتسببوا في خسائر فادحة للغاية للأوكرانيين، والتي لا يمكنهم تحملها طويلا.
كشف تقرير حديث صادر عن مسؤولي استخبارات، أوكرانيين وغربيين، أن الأوكرانيين يواجهون صعوبات كبيرة. تعاني القوات الأوكرانية من خسائر فادحة، حيث تتفوق عليهم المدفعية الروسية بمعدل 20 إلى 01، و40 إلى 01 فيما يخص الذخيرة.
يُقتل الآن، وفقا لمصادر أوكرانية، حوالي 200 جندي أوكراني كل يوم، مقابل 100 في أواخر الشهر الماضي. وهذا يعني أنه يتم إخراج ما يصل إلى 1000 أوكراني من القتال كل يوم، إذا حسبنا الجرحى.
هذا موقف لا يمكن تحمله طويلا، لا سيما وأن الخسائر تصيب أساسا جنودا مدربين ومتمرسين في المعارك، والذين يتم استبدالهم بمجندين غير مدربين وذوي تسليح هزيل.
ووفقا للتقرير فإن الوضع المتدهور في دونباس له ”تأثير محبط بشكل خطير على القوات الأوكرانية“. لأول مرة منذ بدء الحرب، بدأ هناك قلق الآن بشأن الهروب من الخدمة العسكرية، وبدأ الجنود الأوكرانيون يرفضون الانصياع لأوامر الذهاب إلى المعارك.
وفي غضون ذلك قام الروس بتكييف تكتيكاتهم بطرق سمحت لهم بالاستفادة الكاملة من قوتهم النارية، من خلال البقاء على مسافة من المواقع الأوكرانية، وقصفها بلا هوادة، ثم الاستيلاء على الأراضي بمجرد إجبار الأوكرانيين على التراجع.
المزيد من الأسلحة، من فضلكم!
ويذكر نفس التقرير الاستخباراتي أن:
«الوضع التكتيكي على الجبهة الشرقية هو ما يلي… صار الجانب الأوكراني يفتقر بالكامل تقريبا لمخزون الصواريخ التي مكنت من ردع الهجمات الروسية بشكل فعال خلال الأشهر الأولى من الحرب على مسافات طويلة [37 إلى 50 ميلا] .
واليوم، أقصى مدى لإطلاق النار للقوات المسلحة الأوكرانية هو [15,5 ميلا]».
يصرخ زيلينسكي بأعلى صوته مطالبا بالمزيد من الأسلحة والأموال.
يصر وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، على أن الأسلحة الأمريكية ستغير مسار الحرب. وهو يدعي أنها ستسمح لأوكرانيا باستعادة الأراضي التي تحتلها روسيا، بما في ذلك ليس فقط دونباس بل والقرم أيضا.
وقال ريزنيكوف إن مسؤولي الدفاع الغربيين أخبروه أن دعمهم العسكري لأوكرانيا ”لن يتوقف أبدا“.
سوف نرى مدى صحة ذلك!
لقد قدمت الولايات المتحدة مليارات الدولارات لمساعدة أوكرانيا. لكن هذا يمثل نزيفا خطيرا للموارد حتى بالنسبة لأغنى بلد على وجه الأرض. وكل تلك الأحاديث الكثيرة عن توريد أسلحة جديدة لا يقابله أي فعل. لم يعد في إمكان هؤلاء السادة في كييف إخفاء إحباطهم وخيبة أملهم.
يشكو المسؤولون الأوكرانيون من أنهم بحاجة إلى المزيد لوقف التقدم الروسي، ناهيك عن استعادة الأراضي المفقودة، وأن الأمر سيستغرق وقتا لنشر أنظمة جديدة، مثل 12 راجمة صواريخ، من نوع M142 HIMARS، الأمريكية الصنع، على خط المواجهة، بينما يواصل الكرملين هجومه الشرس في دونباس.
قال مسؤول أوكراني: «نحن، بالطبع، ممتنون جدا لحلفائنا على دعمهم. إن الأسلحة الجديدة مرحب بها، لكن الحكومات الغربية عندما تعلن أنها ترسل مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا، يتعين عليها ربما أن توضح للجمهور الكميات المعنية».
أنظمة الأسلحة الغربية الموعودة بدأت تصل، لكن ببطء شديد وبكميات غير كافية لمنع المكاسب الروسية الحثيثة في منطقة دونباس الشرقية بأوكرانيا.
بداية ظهور التصدعات
كييف تخسر قوتها من وجهة النظر العسكرية. وفي غضون ذلك فإن الولايات المتحدة وحلفاؤها، لا يستطيعون حتى الاتفاق على الأهداف الحقيقية للحرب. لقد حدد مقال حديث للرئيس بايدن الهدف الرئيسي لأمريكا على أنه الحفاظ على أوكرانيا حرة ومستقلة. لكن هذا الهدف لا يشاركه معه الحليفان الأوروبيان الرئيسيان: فرنسا وألمانيا.
أولئك الذين يقلقون أكثر من الحرب بين روسيا والغرب لا يتحدثون سوى عن عدم انتصار موسكو. إنهم يخشون من أن الضغط من أجل تحقيق نصر صريح لأوكرانيا قد يؤدي إلى صراع مباشر بين روسيا والغرب، أو استخدام الأسلحة النووية الروسية.
وتنتمي فرنسا وألمانيا إلى هذا المعسكر. كثيرا ما قال المستشار الألماني، أولاف شولتز، إن روسيا يجب ألا تفوز – لكنه لم يقل أبدا إنه على أوكرانيا أن تحقق النصر. بينما تقف الولايات المتحدة، بشكل حاسم، في مكان ما في الوسط، وتحاول موازنة ردها على كلا التهديدين، لأنها توفر الجزء الأكبر من المساعدات العسكرية لأوكرانيا.
قرر الأمريكيون عدم إرسال مدفعية يمكنها الضرب داخل روسيا لأن ذلك قد يبدو مثل هجوم أمريكي مباشر. (وفي غضون ذلك يستمر تأخر تسليم الأسلحة الثقيلة من جانب ألمانيا).
لقد بدأت التصدعات تنفتح سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية، أو بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
وفي غضون ذلك يتفق الجميع، بمن فيهم شولز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، (علنا على الأقل) على أنه لن يتم فرض أي اتفاق سلام على أوكرانيا.
لكن القلق الأوكراني هو أنهم سيضطرون، بحكم الأمر الواقع، إلى التنازل عن الأراضي لأنهم لن يحصلوا على أسلحة قوية بما يكفي لمنع روسيا من التقدم في ساحة المعركة.
وحتى عندما أعلنت إدارة بايدن عن مزيد من المساعدات لأوكرانيا، فقد كانت هناك شكوك في البيت الأبيض حول آفاق الحرب.
وفقا لشبكة CNN: «بدأ مستشارو بايدن في النقاش داخليا حول كيف وما إذا كان ينبغي على زيلينسكي تعديل تعريفه لـ”انتصار“ أوكرانيا، والتكيف مع احتمال تقلص مساحة بلاده بشكل لا رجعة فيه».
أزمة اقتصادية
وهذه ليست نهاية مشاكل كييف. إذ وفقا لصحيفة فاينانشل تايمز فإن: «الأزمة المالية في أوكرانيا تزداد سوءا بسبب انهيار النشاط الاقتصادي. لقد استنزف البنك المركزي 9,3% من احتياطياته من العملات الأجنبية في يونيو وحده».
يقول المستشار الاقتصادي لزيلينسكي، أوليغ أوستينكو، «إن البلاد تحتاج الآن إلى تسعة مليارات دولار شهريا من الغرب لسد العجز في ميزانيتها. وقد طالبت في السابق بمبلغ يتراوح بين 5 مليارات و6 مليارات دولار».
وأضاف: «بدون الدعم المالي من حلفائنا، لن يكون من الصعب [فقط] القيام بذلك، بل سيكون أقرب إلى المستحيل».
كما أفادت صحيفة فاينانشل تايمز أن «الولايات المتحدة قد سلمت أكثر من أربعة مليارات دولار من المساعدات الاقتصادية إلى كييف وتتوقع أن توزع 6,2 مليار دولار أخرى بحلول شتنبر». لكن عندما سينفد هذا، ليس من الواضح على الإطلاق أن هذا الكرم سيتكرر. كما أن البرجوازية الأوروبية أقل حماسا بشأن التبرع بالمال لملء الثقب الأسود.
تدّعي كييف أنها تحتاج إلى خمسة مليارات دولار شهريا كمساعدات لمنع تخلف أوكرانيا عن سداد استحقاق الدين الخارجي البالغ 900 مليون يورو في شتنبر المقبل. لكن هذا يبدو الآن أمرا حتميا.
تعهد الاتحاد الأوروبي في أبريل الماضي بتقديم تسعة مليارات يورو، على الرغم من وجود خلاف داخل التكتل بشأن ما إذا كان ينبغي تقديم الأموال كمنح أو كقروض.
لكن حتى الآن لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من الوفاء سوى بمليار يورو فقط من تعهده، ولا يبدو أنه في عجلة من أمره لإرسال الباقي. هذا ليس مستغربا، فألمانيا، القوة الاقتصادية الرئيسية داخل الاتحاد الأوروبي، تعارض ذلك.
لا يتوقف زيلينسكي عن المطالبة بالمزيد من الأسلحة والمزيد من الأموال. لا شك أن الأسلحة الغربية -وخاصة أنظمة صواريخ HIMARS- لها بعض التأثير. ويقال إنها تمكنت من نسف بعض مستودعات الأسلحة الروسية وساعدت في هجوم أوكراني على خيرسون من خلال تفجير الجسور.
قد يكون الأمر كذلك. لكن يبقى من الضروري التأكد إلى أي مدى يتم تضخيم هذه الادعاءات من أجل الدعاية. وعلى أي حال فإنه من الواضح أن الاندفاع الأوكراني على خيرسون مجرد خدعة لإبعاد القوات الروسية عن الجبهة الرئيسية في دونباس. ومن غير المرجح أن ينجحوا في هذا.
قد يتسبب وصول عدد من الأسلحة الجديدة من البنتاغون في بعض الصداع غير المرغوب فيه للروس. لكن ذلك لا يمكنه تغيير الحقيقة الراسخة المتمثلة في تفوق روسيا الساحق في القوة النارية، أو منعها من الاستمرار في التقدم، ببطء لكن بلا هوادة، نحو السيطرة على منطقة دونباس المهمة.
القلق في الولايات المتحدة
هناك دلائل بالفعل على أن الكونغرس الأمريكي ربما يبدي شهية ضعيفة في دعم أوكرانيا، بعد شهور من الإنفاق العسكري السخي. وقد صار عدد غير قليل من الناس في واشنطن متشككين بالفعل في المسألة برمتها. وبدأ التعبير عن الشكوك يتم علانية على مستوى عال.
في مقال نُشر في 13 يونيو بعنوان: ”مع استمرار ذهاب المليارات إلى أوكرانيا، مسؤولون يحذرون من احتمالية حدوث احتيال وتبذير“، قالت صحيفة وول ستريت جورنال:
«رغم أنه لم تظهر أي حالات فساد، فإن مسؤولين حاليين وسابقين يقولون إنها على الأرجح مسألة وقت فقط».
والرأي العام ينقلب ضد الحرب، مثلما ينقلب ضد إدارة بايدن بشكل عام. وقد أظهر استطلاع جديد للرأي أن المزيد من الأمريكيين يعتقدون أن:
- العقوبات تضر بالولايات المتحدة أكثر من روسيا (56% مقابل 42%)
- من ”المقبول للولايات المتحدة أن تترك أوكرانيا تخسر أمام روسيا“ (45% مقابل 40%)
- وسيكون ”إخراج بايدن من البيت الأبيض أفضل من إخراج بوتين من الكرملين“ (56% مقابل 43%).
في الواقع حوالي ثلث الأمريكيين فقط هم من يدعمون سياسة بايدن اتجاه أوكرانيا.
بالإضافة إلى ذلك، وجد استطلاع حديث أن 58% من الناخبين لا يوافقون على أداء بايدن، و39% يوافقون عليه.
هل العقوبات مجدية؟
لقد مرت الآن أربعة أشهر منذ أن شن الغرب حربه الاقتصادية على روسيا، لكنها لا تسير وفق الخطة. في الواقع، وفقا لرويترز، «ربما تحصل روسيا الآن على عائدات من الوقود الأحفوري أكثر مما كانت تحصل عليه قبل وقت قصير من غزوها لأوكرانيا [لأن]… زيادات الأسعار العالمية تعوض تأثير الجهود الغربية لتقييد مبيعاتها».
وعلى أي حال فإن العقوبات الغربية لم تنجح في منع روسيا من بيع النفط والغاز. لنذكر مثالا واحدا فقط: تلقت إيطاليا في شهر ماي الماضي حوالي 400 ألف برميل من النفط الروسي يوميا. وهذا يساوي أربعة أضعاف مستوى ما قبل الغزو.
وحسب رويترز فإنه: «في الوقت نفسه، تمكنت روسيا من بيع المزيد من الشحنات إلى مشترين آخرين، بما في ذلك كبار مستهلكي الطاقة، ولا سيما الصين والهند، من خلال عرضها بأسعار منخفضة مقارنة مع النفط من مصادر أخرى. […] زادت مشتريات الهند من النفط الروسي بأكثر من الضعف في ماي مقارنة بالشهر السابق لتصل إلى مستوى قياسي فوق 840 ألف برميل نفط يوميا». ومن المرجح أن ترتفع أكثر.
كتبت صحيفة إيكونوميك تايمز أنه في هذه الأثناء، «فرضت روسيا قيودا على تصدير الغازات (الهيليوم والنيون وما إلى ذلك) اللازمة لإنتاج الرقائق الدقيقة، مما قد يؤثر سلبا على الشركات في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكوريا الجنوبية وهولندا وغيرها من البلدان».
ويوضح المقال أن: «الأسواق العالمية تعتمد بشكل كبير على الإمدادات الروسية -فهي توفر ما يصل إلى 30% من النيون»، وبدون غازات النيون والأرغون والهيليوم الروسية، «سيكون من الصعب على بعض البلدان إنتاج الإلكترونيات»، مما يعني أن روسيا ستكون قادرة على تصدير هذه الغازات مقابل استيراد أشباه الموصلات.
الولايات المتحدة والصين
كان التأثير المهم للغاية للحرب هو دفع الصين إلى تحالف أوثق مع روسيا. في الماضي، كان من الممكن أن تؤدي التوترات بين الولايات المتحدة والصين إلى اندلاع مواجهة بالفعل. إلا أن هذا مستبعد بفعل توازن القوى الفعلية. لكن التوترات بين الولايات المتحدة والصين من المتوقع أن تزداد بشكل مستمر.
الآن، تمتلك الصين، التي هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ما يقرب من نصف العجز التجاري الصافي لأمريكا. كان ترامب قد فرض رسوما عقابية على البضائع الصينية، لكن اتضح أن ذلك الإجراء يأتي بنتائج عكسية. والآن يريد بايدن إزالتها. لكن الديمقراطيين والجمهوريين ما زالوا يرون أن الصين هي العدو الرئيسي.
وإجمالا، وفقا لصحيفة هارفارد بيزنيس ريفيو:
«قامت الدولة الصينية والشركات التابعة لها بتقديم حوالي 1,5 تريليون دولار في شكل قروض مباشرة وائتمانات تجارية لأكثر من 150 بلدا حول العالم.
وقد حول هذا الصين إلى أكبر مقرض رسمي في العالم -متجاوزة المقرضين الرسميين التقليديين مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وكل الحكومات المقرضة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مجتمعة… وساعدت معظم القروض الصينية في تمويل الاستثمارات واسعة النطاق في البنية التحتية والطاقة والتعدين».
تتجلى القوة الصاعدة للصين في محاولة تعزيز مكانتها باعتبارها القوة المهيمنة في آسيا. حذرت واشنطن من أن الولايات المتحدة ستكون مستعدة لإرسال قواتها إلى تايوان لمنع استيلاء الصين عليها -وهو بيان ستراه بكين على أنه استفزاز، لأنها تعتبر تايوان جزءا من الصين.
الآن وبينما اهتمام أمريكا مركز على روسيا، تتزايد المخاوف من أن الصين قد تميل إلى اتخاذ خطوة تجاه تايوان. وقد أثار ذلك رد فعل عصبي في واشنطن، وهو ما انعكس في قمة الناتو في مدريد.
كان العنصر الأكثر أهمية هو الموقف المعلن تجاه الصين. إذ وضع الناتو الصين لأول مرة على قائمة أولوياته الاستراتيجية، قائلا إن طموحات بكين و”سياساتها العدوانية“ تتحدى ”مصالح وأمن وقيم الكتلة الغربية“.
وقال الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، للصحفيين: «الصين تبني قواتها العسكرية بشكل كبير، بما في ذلك الأسلحة النووية، وتتنمر على جيرانها، وتهدد تايوان… وتفرض الرقابة على مواطنيها وتسيطر عليهم من خلال التكنولوجيا المتقدمة، وتنشر الأكاذيب والمعلومات المضللة الروسية».
لكنه سارع إلى إضافة أن: «الصين ليست خصمنا… لكن يجب أن نكون واضحين بشأن التحديات الخطيرة التي تمثلها».
الوحدة الوطنية تنقلب إلى نقيضها
مع تعمق الأزمة، ستتحول المسألة الأوكرانية من كونها عاملا لتعزيز الوحدة الوطنية، إلى قضية سياسية خلافية، وستؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية، سواء داخل مختلف البلدان أو فيما بينها.
الدعم الأولي الذي لاقته المسألة الأوكرانية، والذي عزز حملة الوحدة الوطنية، سوف يتحول حتما إلى نقيضه.
لا يرغب الإمبرياليون في الظهور علنا وهم يضغطون على زيلينسكي لعقد صفقة مع موسكو. لكنه يمكننا أن نتأكد من أنه تجري، خلف الكواليس، مفاوضات محمومة.
عاجلا أم آجلا، ستحقق روسيا السيطرة الكاملة على دونباس. وعند تلك النقطة يمكن لبوتين أن يعلن النصر ويؤيد توقيع السلام بشروط مواتية لموسكو. تتعرض البرجوازية الأوروبية للضغوط بفعل نقص إمدادات الطاقة الروسية، وسوف يدفعون كييف إلى التوصل إلى اتفاق.
لكن كييف رفضت بالفعل فكرة خطة سلام محتملة بوساطة فرنسية وألمانية. أثار ذلك الاقتراح توتر الأعصاب في كييف. وقد حذر متحدث باسم الحكومة [الأوكرانية] من أي تنازلات، وأضاف: ”سيقولون إنه يتعين علينا وقف الحرب التي تسبب مشاكل غذائية واقتصادية“.
هذا بالضبط هو ما سيقولونه. وهم يقولون ذلك بالفعل في الكواليس. وفي النهاية ذلك هو ما سيحدث.
فقط انظروا إلى الحقائق: يمكن للأمريكيين أن يتحدثوا بجدية عن مقاطعة النفط والغاز الروسيين، إذ أن لديهم إمداداتهم الخاصة، بينما أوروبا ليست كذلك.
تعتمد ألمانيا بشكل كبير على الغاز الروسي. لذلك قرر الروس أن يضغطوا عليها قليلا لكي يظهروا من هو السيد: ذلك الرجل في الكرملين يضحك كثيرا على ألمانيا، في حين تتلوى الحكومة [الألمانية] مثل سمكة عالقة في خطاف.
إذا قطع الروس إمدادات الغاز عن ألمانيا هذا الشتاء، ستكون النتيجة كارثة اقتصادية. قد يؤدي التوقف المفاجئ لإمدادات الغاز من روسيا إلى تراجع الاقتصاد الألماني بنسبة 12,5%.
ستتأثر 5,6 مليون وظيفة في جميع أنحاء ألمانيا. وإذا تم إغلاق الأفران لأي فترة زمنية، في العديد من القطاعات، مثل الصلب، لكن أيضا صناعة الزجاج المهمة، ستتعرض المنشآت لأضرار بالغة وستستغرق إعادة تشغيلها شهورا.
هذا يعني خسائر بقيمة 193 مليار يورو في ستة أشهر فقط. لا عجب في أن الألمان يريدون عقد صفقة! والعواقب الاجتماعية والسياسية لعدم الحصول على صفقة ستكون هائلة، وذلك ليس لألمانيا وحدها.
وعلى حد تعبير شولتز: «إن ارتفاع أسعار الطاقة يهدد الأمن والاستقرار في العديد من البلدان».
ما العمل؟
لقد أشرنا إلى أن هذه حرب رجعية من كلا الجانبين. لا يمكننا دعم أي منهما، كما لا يمكن أن يكون لنا أي تأثير يذكر على مجرى الأحداث.
مهمتنا، باستخدام شعار لينين، هي أن نشرح بصبر للعمال والشباب الأكثر تقدما، ونفضح بلا رحمة الدعاية الكاذبة التي يطلقها دعاة الحرب، ونهاجم الطبقة السائدة الخاصة بنا ونندد بها.
ليس من الممكن أن نتكهن بالنتيجة الدقيقة للحرب. هناك سيناريوهات مختلفة ممكنة. لكن النتيجة ستكون حتما هي المزيد من الاضطرابات وأزمة متفاقمة. إذا خسرت روسيا، فهذا سيعني انهيار بوتين وبداية ثورة في روسيا. لكن إذا انتصرت روسيا فسيكون ذلك بمثابة ضربة قوية للإمبريالية واليمين في الغرب.
كلا النتيجتين سيكون لهما عواقب ثورية.
الاقتصاد العالمي
العناوين الرئيسية للصحف ترسم صورة قاتمة. وتجد عصبية البرجوازية تعبيرها في تقلبات أسواق الأسهم العالمية.
الاضطرابات في السياسة العالمية مصحوبة باضطراب الأسواق. أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى انخفاض أسعار الأسهم الأمريكية. انخفض مؤشر S&P 500 بمقدار الخُمس منذ بداية العام. لم يتم تسجيل مثل هذه النتيجة السيئة منذ عام 1962. التقلبات الشديدة التي تعرفها أسواق المال تظهر على وجه التحديد أن الوضع أصبح خارج نطاق السيطرة بالنسبة للبنوك المركزية، والنتيجة الأكثر احتمالا ستكون ركودا عالميا.
سجل التضخم في الولايات المتحدة رقما قياسيا خلال 40 عاما وما يزال يرتفع بعناد. كما ارتفع التضخم في منطقة اليورو إلى أكثر من 08%، وكان معظم ذلك مدفوعا بارتفاع أسعار الغاز. والاقتصاد البريطاني يتجه بالفعل نحو الركود قبل نهاية العام.
تواجه البلدان الأوروبية الأخرى نفس المشاكل، إن لم تكن أسوء، لأن معظمها يعتمد على الغاز الروسي أكثر من المملكة المتحدة. ونتيجة لذلك ستغلق المصانع أبوابها، وستفلس الشركات وستتوقف الاستثمارات وسترتفع البطالة بشكل حاد.
مستويات الدين العام والخاص بالنسبة إلى الناتج الإجمالي العالمي هي اليوم أعلى بكثير مما كانت عليه في الماضي، حيث ارتفعت من 200% في عام 1999 إلى 350% اليوم. وسيؤدي مزيج من السياسة النقدية المتشددة وارتفاع أسعار الفائدة إلى دفع الأسر المثقلة بالديون، والشركات والمؤسسات المالية والحكومات، إلى الإفلاس والتخلف عن السداد.
نورييل روبيني، الاقتصادي البرجوازي المعروف، لخص الوضع بشكل رائع، حين قال:
«ستكون المساحة المتاحة للتوسع المالي بدورها أكثر محدودية هذه المرة. لقد تم استخدام معظم الذخيرة المالية، وأصبحت الديون العامة غير مستدامة…»
وأضاف: «ستزداد الأمور سوءا قبل أن تتحسن».
”العالم الثالث“
لقد تسببت الحرب في أوكرانيا في حدوث صدمات اقتصادية ليس فقط في أوروبا، بل أيضا في البلدان الفقيرة في الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية. إن المنظور بالنسبة لهذه البلدان هو كابوس.
خلال الأشهر الخمسة الماضية ارتفعت أسعار المحاصيل الغذائية الرئيسية في الأسواق العالمية بنحو 40%. ونتيجة لذلك «يعاني 44 مليون شخص في 38 بلدا من مستويات حرجة من الجوع»، وفقا لتقرير للأمم المتحدة. وفي مواجهة الاختيار بين إطعام سكانها أو الدفع لدائنيها الدوليين، ستختار الحكومات الخيار الأول.
خوفا من العواقب الاجتماعية والسياسية لنقص الغذاء، اضطر الإمبرياليون إلى التدخل، والتوسط في صفقة هشة، من خلال الأمم المتحدة وتركيا، للسماح بتصدير الحبوب الأوكرانية والروسية. سيوفر هذا بعض المساعدة لأوكرانيا، لكنه أكثر فائدة لروسيا.
علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كانت هذه الصفقة ستنجح، وإذا نجحت فإلى متى. لكن وعلى أي حال، فإن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية المتعلقة بنقص الغذاء وارتفاع الأسعار قد بدأت بالفعل في إثارة تطورات ثورية.
سيريلانكا
لقد خلقت الأزمة الاقتصادية اضطرابات اجتماعية وسياسية هائلة في سيريلانكا. يوضح لنا هذا مدى السرعة التي يمكن أن يتطور بها الوضع الثوري.
نجحت الحركة الجماهيرية بالفعل في إجبار الرئيس غوتابايا راجاباكسا على الرحيل، والفرار إلى سنغافورة. لكن عندما علمت الجماهير بمؤامرة تنصيب رئيس الوزراء رانيل ويكرمسينغه كرئيس بالوكالة، أثار ذلك تمردا جديدا.
أعلن القائم بأعمال الرئيس حالة الطوارئ وأمر الجيش بقمع الشعب. تعرض المحتجون لوابل من الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه. لكن لا شيء يمكنه أن يوقف ذلك التسونامي البشري.
إذا كنتم ترغبون في رؤية شكل الثورة، فما عليكم سوى إلقاء نظرة على تلك الانتفاضة الرائعة في سيريلانكا. هنا نرى القوة الكامنة الهائلة للجماهير. إذا كان هناك من يشك في قدرة الجماهير على القيام بالثورة، فإن ذلك كان إجابة مدوية.
تستحق الأحداث في سيريلانكا الفحص الدقيق. إن ما تظهره هو أنه عندما تتخلص الجماهير من خوفها، لا يعود في إمكان أي قدر من القمع أن يوقفها.
نزلت الجماهير إلى الشوارع، من دون قيادة أو تنظيم أو برنامج واضح، وتمكنت من الإطاحة بالحكومة. لكن سيريلانكا تظهر لنا أيضا شيئا آخر.
إنها تظهر لنا أنه بدون قيادة صحيحة، لا يمكن للثورة أن تنجح. لقد كانت السلطة في أيدي الجماهير، لكنها تسربت من بين أصابعها.
الفشل في الإطاحة بالحكومة سمح لرانيل ويكرمسينغه بالمناورة في البرلمان لاستعادة زمام المبادرة وقمع الاحتجاجات في محاولة لاستعادة النظام.
كانت السلطة ملقاة في الشوارع، في انتظار من يأخذها. كان يكفي لقادة الاحتجاجات أن يقولوا: ”لدينا السلطة الآن. نحن الحكومة“. لكن هذه الكلمات لم تقل قط.
لقد غادرت الجماهير القصر الرئاسي بهدوء، وسمح للسلطة القديمة بالعودة. أعيدت ثمار النصر إلى نفس المضطهِدين القدامى ونفس الدجالين البرلمانيين. هذه حقيقة غير مستساغة، لكن هذه هي الحقيقة.
ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن الثورة قد انتهت. الاضطرابات في سيريلانكا لم تنته بعد. والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي دفعت الجماهير إلى التحرك لم تتم إزالتها.
ستعاود الثورة الظهور على مستوى أعلى. لكنها ستواجه فترة أكثر صعوبة وأكثر ألما، مع المزيد من التضحيات.
”سلسلة من حالات التخلف عن السداد“
كانت سريلانكا أول بلد منذ بداية الحرب في أوكرانيا يتخلف عن سداد ديونه، لكن من غير المرجح أن يكون الأخير. تحذر بلومبرغ من أن «سلسلة تاريخية من حالات التخلف عن السداد قادمة للأسواق الصاعدة».
أكثر من 19 بلدا، يبلغ عدد سكانها أكثر من 900 مليون نسمة، لديها مستويات ديون تعني أن هناك إمكانية حقيقية للتخلف عن السداد. تشمل قائمة البلدان السلفادور وغانا وتونس ومصر وباكستان والأرجنتين وأوكرانيا. ويبلغ مجموع ديونها 237 مليار دولار.
باكستان حالة متطرفة. فوفقا لتقرير لمايكل روبين، من مجلة ناشيونال إنترست، التي تتخذ من واشنطن مقرا لها، فإنه:
«بينما تعتمد العديد من البلدان على القمح الأوكراني أو الروسي، أو واردات الطاقة الأجنبية، فإن باكستان تحتاج كليهما. كانت باكستان، بين يوليوز 2020 ويناير 2021، على سبيل المثال، ثالث أكبر مستهلك لصادرات القمح الأوكراني بعد إندونيسيا ومصر».
ويتابع التقرير: «لقد أثر الارتفاع الحاد في أسعار النفط على باكستان بشدة، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة وارداتها بأكثر من 85%، إلى ما يقرب من 05 مليارات دولار، وذلك فقط بين عامي 2020 و2021. واقترب العجز من 50 مليار دولار، بزيادة 57% عن العام السابق».
هذا وضع كارثي. وقد أدى إلى حدوث انقسام علني في صفوف الطبقة السائدة وسقوط حكومة عمران خان. إن الموقف اليائس الذي تعيشه الجماهير يمهد الطريق لحدوث انفجار اجتماعي على غرار ما رأيناه في سيريلانكا. هذه وصفة ملائمة لاندلاع الصراع الطبقي، بل وانفجار ثوري على غرار ما حدث عام 1969.
يعطينا هذا صورة دقيقة للغاية عما سيحدث في جميع البلدان الواحد منها تلو الآخر. سنرى اشتدادا هائلا للحرب الطبقية ووضعا حابلا بالإمكانيات الثورية.
هذا، وهذا وحده، هو أهم شيء في المنظور الماركسي.
الولايات المتحدة الأمريكية
تؤثر الأزمة على جميع البلدان، من أفقرها إلى أغناها. يبلغ معدل التضخم في الولايات المتحدة الآن حوالي 09%. وهذه أعلى نسبة منذ 40 عاما. هناك تيار خفي قوي من السخط. حاول بايدن استخدام أوكرانيا كأداة إلهاء، لكنه فشل. والآن 85% من الأمريكيين يقولون إن البلاد تسير في المسار الخطأ.
المشكلة هي عدم وجود نقطة مرجعية متماسكة. وبالنظر إلى هذا الغياب، فإن النقطة الوحيدة من هذا القبيل هي دونالد ترامب. تقدم صحيفة فاينانشيال تايمز صورة قاتمة عن الوضع، حيث تقول: «يواجه الديموقراطيون هزيمة فادحة محتملة في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر من هذا العام، والتي سوف تحضر لمباراة عودة محبطة للغاية، في عام 2024، بين بايدن وترامب».
لكن تجربة إدارة ترامب في ظل ظروف الأزمة الرأسمالية سوف تقضي عليه إلى الأبد. ستعمل على تعميق جميع التناقضات، كما رأينا بالفعل عندما أدى قرار المحكمة العليا، في قضية رو ضد وايد، إلى فرض الحظر على الحق في الإجهاض في العديد من الولايات، وهدد بفرض حظر كامل على الحق في الإجهاض.
لقد أثار مشهد هيئة غير منتخبة من القضاة الرجعيين وهم يقررون مصير ملايين النساء، موجة من الاحتجاجات والمظاهرات في الشوارع. هذا مجرد مثال آخر على حقيقة أنه لا يوجد نقص في المواد القابلة للاشتعال داخل المجتمع الأمريكي، والتي لا تنتظر سوى شرارة لإشعال الحريق.
بدأت الطبقة العاملة في الاستيقاظ بعد فترة خمول نسبي. سيتعين عليها أن تعيد تعلم العديد من الدروس، بما في ذلك الدروس الأولية مثل الحاجة إلى التنظيم في نقابات. قال ماركس إن الطبقة العاملة بدون تنظيم ما هي إلا مادة خام للاستغلال.
وهذا بالضبط هو الوضع الذي يجد الجيل الجديد من العمال الشباب أنفسهم فيه، نتيجة لفشل قادة النقابات في التنظيم. يجدون أنفسهم يعملون في مصانع الكدح الحديثة التي تسمى مراكز الاتصال، أو في أمازون، حيث يتعرضون لاستغلال وحشي لساعات طويلة مقابل أجور هزيلة.
وبالتالي فإن الخطوة الأخيرة لتنظيم عمال أمازون وستاربكس في النقابات هي خطوة كبيرة إلى الأمام. تشهد الولايات المتحدة موجة من الإضرابات، مما يشير إلى بداية انتعاش على الجبهة الصناعية. وهناك بداية تغيير داخل النقابات أيضا: بين سائقي الشاحنات وعمال مصانع السيارات.
بدأ كل هذا يقلق منظري رأس المال. بدأ السؤال يطرح علانية: هل يمكن أن تكون هناك حرب أهلية جديدة في الولايات المتحدة؟ في الواقع، لقد تم تأليف العديد من الكتب حول هذا الموضوع، مثل كتاب: ”كيف تبدأ الحروب الأهلية: وكيف نوقفها“، بقلم باربرا والتر.
أظهر استطلاع حديث أجرته جامعة شيكاغو أن 28% من الأمريكيين يقولون إن لديهم ثقة قليلة في حكومتهم لدرجة أنه ”قد يكون من الضروري قريبا حمل السلاح“ ضد الحكومة.
37% من مالكي الأسلحة مستعدون للتمرد، ويقول الغالبية إن النظام ”فاسد ومزور“ ضدهم. يظهر هذا الشعورَ المتناميَ بالنفور بين الناس العاديين تجاه الوضع القائم وكراهيتهم وعدم ثقتهم في المؤسسة الرسمية، سواء في ظل الحزب الديمقراطي أو الجمهوري.
سيكون من قبيل العبث الحديث عن أن الوضع سينتهي بحرب أهلية في أي وقت قريب، سيكون ذلك انعكاسا لدماغ محموم بدافع الذعر، وليس نتاجا لتحليل عقلاني.
لكن من الممكن القول بأنه يتم الآن زرع بذور حرب أهلية مستقبلية. سيكون من الأصح القول إن بذور انفجار اجتماعي عظيم تُزرع اليوم وسوف تؤتي حتما ثمارها في مرحلة معينة.
يتم تهيئة الظروف لظهور جيل جديد كامل من المناضلين الثوريين. وأتوقع أن بعض الثوار الأكثر تصميما سيأتون من بين صفوف مؤيدي ترامب المحبطين.
الاستقطاب
إن السمة الرئيسية للوضع الحالي هي الاستقطاب الشديد بين الأغنياء والفقراء، بشكل غير مسبوق في التاريخ.
هناك قوى طرد نابذة تدفع نحو تمزق الإجماع الحالي وتهدد نسيج الحياة الاجتماعية. لكن هناك أيضا قوى جبارة تسير في الاتجاه المعاكس.
يعمل ذلك التيار المعروف باسم الوسط السياسي كنوع من الغراء الذي يرتق النسيج معا. لكن هذا الوسط يتعرض الآن لضغوط لم يسبق لها مثيل. وأكثر ما تخشاه الطبقة السائدة هو أن ينتهي هذا الصراع الهائل إلى تدمير الوسط.
وهناك مؤشرات واضحة تبين أن هذه السيرورة المدمرة قد بدأت بالفعل في الولايات المتحدة. كما نرى نفس السيرورة بالضبط في أوروبا.
إيطاليا
إن آخر ما تحتاجه أوروبا، أمام كل هذه المشاكل، هو الاضطرابات السياسية والشقاق. لكن هذه هي الصورة التي نراها في كل مكان. كنا نقول إن اليونان كانت الحلقة الأضعف في سلسلة الرأسمالية الأوروبية، لكن هذا الشرف محجوز الآن لإيطاليا.
يمثل الدين العام لليونان اليوم 186% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه بالضبط هي نفس الأزمة التي كانت من قبل، باستثناء أن البنك المركزي الأوروبي لم يعد قادرا الآن على طباعة النقود للهروب منها، مع ارتفاع التضخم.
لكن إيطاليا ليست اليونان. تشكل الأزمة في إيطاليا تهديدا مميتا لأحد أكبر اقتصادات منطقة اليورو.
يبلغ الدين العام لإيطاليا الآن حوالي 150% من ناتجها المحلي الإجمالي. وهذا وضع غير مستدام. لكن من أجل تقليصه، سيكون من الضروري إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق العام. تحتاج البرجوازية الإيطالية إلى حكومة قوية لشن الهجوم على الطبقة العاملة. لكن من المستحيل تشكيل حكومة ائتلافية مستقرة.
إن سقوط حكومة دراغي في إيطاليا هو مؤشر آخر على غياب الاستقرار السياسي. من شأن الانهيار المالي في إيطاليا أن يشكل تهديدا خطيرا لمنطقة اليورو في وقت يزيد فيه ارتفاع أسعار الفائدة من صعوبة تمويل الديون.
فرنسا
تجري سيرورات مماثلة في فرنسا. فإيمانويل ماكرون، الذي يعتبر تجسيدا ”للوسط“، يفقد سيطرته على السلطة. لقد وجه له الفرنسيون ضربة موجعة، وحرموه من الأغلبية في الانتخابات التشريعية.
وبعد أقل من شهرين على إعادة انتخابه رئيسا، فقد السيطرة على الجمعية الوطنية. لقد دعا الناخبين إلى تمكينه من أغلبية صلبة. لكن ائتلافه الوسطي عانى من هزيمة هائلة في انتخابات تركت السياسة الفرنسية في حالة استقطاب حاد.
حقق حزب الجبهة الوطنية، بزعامة مارين لوبان، توسعا على حساب الوسط. لكن كانت الكتلة اليسارية (الاتحاد الشعبي الاجتماعي والبيئي الجديد)، بقيادة جان لوك ميلينشون، والتي تضم ما تبقى من الحزب الاشتراكي والشيوعي والخضر، هي التي حققت أكبر المكاسب. ويبقى علينا أن نرى ما الذي سيفعله بانتصاره ذاك. لكن الشيء الواضح هو أن الوسط السياسي في فرنسا ينهار أمام أعيننا.
حكومة ماكرون ضعيفة، وستواجه ضغطا هائلا سواء من اليسار أو اليمين. ستكون حكومة أزمة منذ البداية. لقد كانت الحقيقة الأكثر أهمية هي ارتفاع مستوى الامتناع عن التصويت: 53% خلال الجولة الأولى و56% خلال الجولة الثانية. وهذا مؤشر واضح على انهيار الدعم للأحزاب القائمة، والنفور الشديد تجاه الوضع القائم.
قال ماركس إن فرنسا هي البلد الذي يصل فيه الصراع الطبقي دائما حتى النهاية. إن المسرح مهيأ لانفجار الصراع الطبقي في فرنسا، حيث يتمتع العمال بتقاليد عريقة في النزول إلى الشوارع.
الوضع الحالي غير مسبوق. يتحدث البعض عن إعادة إحياء حركة السترات الصفراء. لكن مع هذا الغضب الهائل الذي يتراكم، والكراهية تجاه ماكرون، يصير حدوث نسخة جديدة من ثورة 1968 ممكنا تماما.
أحد الاختلافات الكبيرة مع عام 1968 هو الانهيار الكامل للحزب الشيوعي. لم يعد الستالينيون يمتلكون ولو قسطا ضئيلا من ذلك النفوذ الذي كانوا يتمتعون به في الماضي. وبالتالي فإنهم لن يتمكنوا من كبح جماح الحركة بمجرد أن تبدأ.
ومثلما حدث عام 1968، فإن الحركة يمكنها أن تندلع دون أي تحذير. يجب أن نكون مستعدين.
بريطانيا
تفكك حكومة بوريس جونسون ليس سوى جزء من هذا الواقع؛ مجرد انعكاس لأزمة الرأسمالية البريطانية المتفاقمة. بريطانيا التي كانت في يوم من الأيام أكثر بلدان أوروبا استقرارا، قد أصبحت ربما البلد الأكثر اضطرابا. لقد أصبح الوضع متشنجا بشكل متزايد، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
هناك سيرورة تجذر واضحة، ليس فقط بين الشباب الذين يبقون مجال عملنا الرئيسي. سوف تؤدي الهجمات الحتمية إلى إعادة تنشيط النضالات على الجبهة الصناعية.
في بريطانيا، حيث كان مستوى الإضرابات منخفضا جدا، صار لدينا الآن أول إضراب وطني للسكك الحديدية منذ 30 عاما، شارك فيه 40.000 من عمال السكك الحديدية. ويهدد عمال قطاع التعليم، وغيرهم من موظفي القطاع العام من ذوي الأجور المنخفضة، بأن يحذوا حذوهم.
وإلى جانب عمال السكك الحديدية، رأينا تحركات نحو خوض الإضراب بين صفوف سائقي الحافلات وعمال النظافة وعمال المطارات وعمال البناء وعمال البريد. موظفو القطاع العام والتعليم والأساتذة الجامعيون وحتى المحامون بدأوا في التحرك.
أصبحت الطبقة السائدة البريطانية قلقة من أن مزيج الأجور المنخفضة والتضخم سيؤدي إلى انفجار الإضرابات، لا سيما في القطاع العام، وتستعد لمعركة مع عمال السكك الحديدية، الذين يمتلكون تقاليد نقابية كفاحية.
تم التعبير عن مخاوف البرجوازية في مقال نشر مؤخرا في الفاينانشل تايمز في 18 يونيو:
قال أحد الوزراء إن الحكومة تسير ”على حبل مشدود“ للإبقاء على الأجور منخفضة وتجنب دوامة تضخم في الأجور دون التسبب في دفع مختلف القطاعات إلى الإضراب:
وقال: «إذا قمنا بهذا بشكل خاطئ، سنخاطر بمواجهة إضراب عام من شأنه أن يخلق مزيدا من الاضطرابات التي تهدد بتوقف الاقتصاد بأكمله».
سيفتح هذا إمكانيات كبيرة لعمل التيار الماركسي داخل النقابات العمالية.
وفي ألمانيا أيضا هناك منظور لانتعاش النضالات على الجبهة الصناعية.
من المقرر عقد ثلاث جولات تفاوض جماعية كبرى خلال الأشهر الستة المقبلة -في قطاع الصناعات المعدنية والكهربائية، وقطاع الصناعة الكيميائية والقطاع العام- ستؤثر على ما مجموعه حوالي سبعة ملايين عامل.
يثير ارتفاع تكاليف المعيشة وخطر الانهيار الاجتماعي شبح احتجاجات جماهيرية واسعة النطاق في الشوارع.
روسيا
لقد قلت مرات عديدة عن روسيا إنه لو كان الحزب الشيوعي الروسي حزبا شيوعيا حقيقيا، لما كانت هناك مشكلة. وهذا صحيح. لكن الحزب الشيوعي، بزعامة زيوغانوف، يلعب دورا مشابها لدور الاشتراكيين الديمقراطيين الإصلاحيين في الغرب: دور المعارضة الموالية لجلالة الملك. إنه الدعامة الرئيسية التي تسند بقاء بوتين في السلطة.
خلال المرحلة الأولى من الحرب، كانت هناك العديد من الاحتجاجات المناهضة للحرب. لكن نقطة الضعف الرئيسية للحركة المناهضة للحرب في روسيا هي أنها خاضعة لسيطرة الليبراليين البرجوازيين.
قد لا يحب العمال الروس بوتين، لكنهم يكرهون الإمبريالية الأمريكية وحلف الناتو، الذي يعتبرونه بحق تهديدا. لقد ألقى العمال نظرة واحدة على العناصر البرجوازية الموالية للغرب في تلك المظاهرات، وسرعان ما ابتعدوا باشمئزاز.
لا يمكن للحركة المناهضة للحرب أن تنجح في كسب ثقة الطبقة العاملة الروسية ما لم تنفصل عن الليبراليين.
لقد وقف رفاقنا بحزم ضد الموقف الشوفيني لقيادة الحزب الشيوعي الروسي. لكن يجب علينا أيضا أن نأخذ في الاعتبار الحالة المزاجية للطبقة العاملة، والتي هي في هذا الوقت مساندة بشكل أساسي للحرب. إن جوهر التكتيكات هو استعمال المطالب الانتقالية المناسبة التي يمكن أن تجد لها صدى عند الطبقة العاملة في وقت معين.
لا يوجد حتى الآن وضع ثوري في روسيا، لكن هذا يمكن أن يتغير. يجب علينا أن نتجنب استخدام الشعارات التي لا تلقى آذانا صاغية وتعزلنا عن العمال الروس. سيكون من الخطأ الفادح الخلط بين موقف العمال وبين الشوفينية القومية الرجعية لبوتين وقادة الحزب الشيوعي الروسي.
أشار لينين في عام 1917 إلى أن الجماهير قد تبنت ما أسماه ”النزعة الدفاعية النزيهة“، ويجب على البلاشفة أن يأخذوا هذه الحقيقة بعين الاعتبار:
«شعار ”تسقط الحرب!“ صحيح بالطبع. لكنه لا يأخذ في الاعتبار الطبيعة الخاصة لمهام اللحظة الحالية وضرورة الاقتراب من الجماهير الواسعة بطريقة مختلفة. إنه يذكرني بشعار ”يسقط القيصر! “الذي توجه به المحرض عديم الخبرة في ”الأيام الخوالي“ ببساطة وبشكل مباشر نحو الريف، وتعرض للضرب الموجع. الجماهير المؤمنة بالنزعة الدفاعية الثورية أناس نزيهون، ليس بالمعنى الشخصي، بل بالمعنى الطبقي، أي أنهم ينتمون إلى طبقات (العمال والفلاحون الفقراء) ليس لها في الواقع أي شيء تكسبه من عمليات الضم واستعباد الشعوب الأخرى. لا يشبه هذا البرجوازيين والسادة والسيدات ”المثقفين“، الذين يعرفون جيدا أنه من المستحيل التخلي عن عمليات الضم دون التخلي عن حكم رأس المال، والذين يخدعون بكلبية الشعب بعبارات جميلة، وبوعود غير محدودة، وضمانات لا نهاية لها».
(لينين: الدفاع الثوري وأهميته الطبقية، من كراس ”مهام البروليتاريا في ثورتنا“)
يرى العمال الحرب على أنها حرب دفاعية ضد الأعمال العدوانية لحلف الناتو والإمبريالية الأمريكية. لذلك سيكونون مستعدين لتحمل بوتين وتحمل النتائج السلبية للحرب لبعض الوقت.
لكن صبر الجماهير له حدود معينة. فعند لحظة معينة، خاصة إذا استمرت الحرب لفترة طويلة جدا، سيتحول ذلك المزاج إلى نقيضه، مما سيخلق جمهورا أكثر تقبلا للشعارات المناهضة للحكومة والشعارات الثورية.
أمريكا اللاتينية
تواجه أمريكا اللاتينية ككل أزمة اقتصادية واجتماعية كبرى. لقد ارتفعت نسبة الذين يعيشون في فقر مدقع من 11,4% من السكان إلى ما يقرب من 15%! وسينضم 7,8 مليون شخص آخرين إلى صفوف الذين يعانون مما وصفته، لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي (CEPAL) بأنه: ”انعدام الأمن الغذائي“، ليصل إجمالي عددهم إلى 86,4 مليون شخص.
سيؤدي هذا إلى تفاقم كل التوترات الاجتماعية في جميع البلدان الواحد منها تلو الآخر. ونرى هذا الاتجاه بالفعل في كولومبيا والإكوادور.
يمثل انتصار غوستافو بيترو في كولومبيا نقطة تحول مهمة، مع تداعيات كبيرة على بقية أمريكا اللاتينية. لقد فاز بيترو لأن الناخبين في المدن الكبرى صوتوا ضد الفساد والفقر واللامساواة والعنف، ومن أجل التغيير.
لكن ما هو نوع التغيير الذي يمكن توقعه من بيترو هو أمر آخر مختلف. في الواقع لقد ناقشت معه منذ بضع سنوات، في كاراكاس، وقد ترك لدي انطباعا سيئا للغاية. لقد أكد شكوكي في أن المقاتلين السابقين [في صفوف المغاوير] يتحولون دائما إلى أسوء الإصلاحيين.
من المعبر أن الولايات المتحدة قد رحبت بفوزه. تعتبره إدارة بايدن أفضل أداة لإبقاء الجماهير تحت السيطرة، لأن عقودا من القمع قد استنفدت هذا الخيار.
سيتعين على الجماهير أن تمر عبر مدرسة بيترو وستكون مدرسة صعبة للغاية. لكن صبر الجماهير ليس بلا حدود. عندما ستتضح أوجه قصور بيترو، سيصير الطريق مهيئا لفترة جديدة من الحركات الثورية الهائلة على مستوى أعلى.
ثم لدينا حركة كبيرة في شوارع الإكوادور، والآن هناك مؤشرات على حركة مماثلة بدأت في بيرو. ويسعدني أن أبلغكم أن رفاقنا الأوائل في ذلك البلد قد شاركوا بنشاط في الحركة.
لقد أثار الإضراب الوطني مسألة من يحكم المجتمع. لكن هذا السؤال لم يتم حله. يمكن لهذا المأزق أن يسبب التعب والخمول ويؤدي إلى الهزيمة. وهذه هي المشكلة المركزية.
لقد تعرضت الطبقة العاملة، خلال فترة طويلة، لأعباء لا تطاق، كانت تلك كافية لإثارة سلسلة من الانفجارات الثورية. ونحن الآن نرى في كل البلدان، الواحد منها تلو الآخر، وجود غليان عظيم. وبعبارة أخرى إن الظروف الموضوعية جاهزة للثورة.
لكن العامل الأساسي -العامل الذاتي- لا يتوافق مع الظروف الموضوعية على الإطلاق.
إفلاس ”اليسار“
إن التفسير الحقيقي لهذا التأخر هو الغياب الكامل للقيادة، والإفلاس المطلق لقادة المنظمات العمالية. وعلى وجه الخصوص، من يسمون بـ ”اليسار“، الذين أظهروا في كل مكان أنهم مفلسون.
يسخر اليساريون من الماركسيين الذين يعتبرونهم طوباويين ميؤوس منهم. في الواقع، لقد تخلوا منذ فترة طويلة عن أي فكرة لتغيير المجتمع وصنعوا سلامهم مع النظام الرأسمالي.
إنهم، لسبب ما، يعتبرون أنفسهم واقعيين عظماء. لكن واقعيتهم هي واقعية ذلك الذي يرغب في إقناع النمر بأن يكتفي بأكل السلطة بدلا من اللحم البشري. أي أنهم، بعبارة أخرى، هم أسوء أنواع الطوباويين.
بعد أن فقدوا كل الثقة في قدرة الطبقة العاملة على تغيير المجتمع، صاروا يعملون باستمرار ككابح للحركة، ويفعلون كل ما في وسعهم لإعاقتها، ويبحثون عن حلول وسط مع العدو الطبقي.
لكن الضعف يستدعي الاعتداء. فمقابل كل خطوة يقوم بها الإصلاحيون إلى الوراء، ستطالبهم الطبقة السائدة بعشرات الخطوات الأخرى.
ستخضع الأحزاب والقادة القدامى للاختبار، وسيتم التخلص منهم واحدا تلو الآخر، مما سيمهد الطريق لصعود معارضة ماركسية حقيقية. لذلك فإن أزمة الرأسمالية تعني أيضا أزمة الإصلاحية.
سوف تظهر منظورات الماركسيين على أنها صحيحة. هذه هي قوتنا الرئيسية: ليست الأعداد ولا المال ولا جهاز قوي، بل قوة الأفكار. وهذا شيء لن يفهمه الإصلاحيون الأغبياء.
في عام 1938، قال تروتسكي إنه يمكن اختزال الأزمة العالمية في شيء واحد: أزمة قيادة الطبقة العاملة. وما يزال هذا صحيحا حتى اليوم. لقد رأينا الدور الحاسم للقيادة في سيريلانكا. وستتكرر المأساة نفسها مرارا وتكرارا، إلى أن تتسلح الطبقة العاملة بالبرنامج الوحيد الذي يضمن نجاحها النهائي.
لن تتمكن الطبقة العاملة من الانتصار إلا عندما تكون مسلحة ببرنامج اشتراكي ثوري. والتيار الماركسي الأممي هو الذي يدافع عن هذا البرنامج اليوم.
”سماء اقتصادية مظلمة“
حذرت الإيكونوميست من «الأجواء الاقتصادية المظلمة، والتهديد القادم بشتاء قارس من السخط… انظروا في أي اتجاه تقريبا وسترون أسبابا للقلق بشأن التهديدات المروعة التي تواجه الاقتصاد العالمي.»
نظرة الاقتصاديين البرجوازيين متشائمة.
نظامهم بأكمله ينهار أمام أعينهم. ومع ذلك فقد خلقت الطبقة العاملة، من خلال عملها، ثروة هائلة، يمكن، إذا تم استخدامها بشكل صحيح، أن تحل جميع مشاكل البشرية.
قد يبدو الناتج العالمي الإجمالي البالغ 94 تريليون دولار رقما ضخما بالنسبة لنا اليوم، لكن هذا المبلغ سيبدو متواضعا للغاية في المستقبل. في عام 1970، كان الناتج العالمي الإجمالي يبلغ 03 تريليونات دولار فقط، أو أقل بثلاثين مرة مما هو عليه اليوم.
ومن المتوقع خلال الثلاثين عاما القادمة، أن يتضاعف الاقتصاد العالمي مرة أخرى. بحلول عام 2050 ، قد يقترب الناتج العالمي الإجمالي من 180 تريليون دولار. هذا على أساس رأسمالي. أما في ظل الاقتصاد الاشتراكي المخطط، فسيكون النمو أكبر بكثير.
ما الذي تعنيه هذه الأرقام؟ إنها تعني أنه لا يوجد أي شيء طوباوي على الإطلاق فيما يتعلق بالمنظور الاشتراكي. في الواقع، إن الأساس المادي لعالم اشتراكي موجود بالفعل. لدينا بين أيدينا كل ما هو ضروري لبناء جنة على الأرض.
لكن الشرط المسبق هو الإطاحة بالنظام الرأسمالي. يمكن أن تسنح لنا فرص عظيمة بسرعة أكبر بكثير مما نتخيل. لكن يجب أن نكون مستعدين! ويجب أن يبدأ هذا الاستعداد منذ الآن، ويمكن تلخيص الاستعداد في كلمة واحدة وهي: النمو.
لدينا أفضل الأفكار، لكن هذا وحده لا يكفي. علينا أن نعمل حتى تصبح هذه الأفكار مناضلين، بحيث يصبح الكيف كما، ويتحول الكم إلى كيف. ليس الأمر نفسه أن ندخل الوضع الجديد بمنظمة من مائة مناضل، وأن ندخلها بمنظمة من ألف مناضل.
يجب ألا نسمح لهذا التفصيل أو ذاك أن يصرف انتباهنا عن هذا الهدف، بل يجب أن نركز كل طاقاتنا على الهدف الرئيسي، وهو بناء الأممية الثورية.
هذا هو التحدي الذي نواجهه. إنه سباق مع الزمن. يجب ألا نسمح لأي شيء بأن يقف في طريقنا.
آلان وودز
السبت 23 يوليو/تموز 2022