الرئيسية / قضايا نظرية / الإمبريالية / فلسطين/إسرائيل: الرؤية الماركسية لحل القضية الفلسطينية

فلسطين/إسرائيل: الرؤية الماركسية لحل القضية الفلسطينية

يهدد الإجرام الإسرائيلي بإشعال موجة جديدة من العنف على أراضي فلسطين التاريخية. قصف غزة الذي كان يستهدف بشكل أساسي اغتيال قيادات من سرايا القدس -الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي- حصد ما يزيد عن 40 شخصاً منهم عدد من الأطفال، واغتيال إبراهيم النابلسي قائد الجناح المسلح لحركة فتح في مدينة نابلس أدى لإشعال الموقف على الحواجز العسكرية في الضفة الغربية المحتلة، وهو ما حصد بدوره عددًا من الأرواح على يد الآلة الغاشمة للدولة الصهيونية.

مع كل موجة من العنف الصهيوني من الضروري إعادة فتح النقاش حول القضية الفلسطينية، حيث بات من الواضح للجميع دخول النضال الفلسطيني من أجل التحرر في مأزق منذ سنوات طويلة، نتيجة خيانة السلطة الفلسطينية وما يسمى “النظام العربي الرسمي”، وعقم الأساليب الاستبدالية المسلحة، خصوصاً عندما تكون تلك الأساليب بقيادة الإسلاميين، وعجز القوى اليسارية الفلسطينية والإقليمية عن تبني وجهة نظر ماركسية طبقية وأممية صحيحة توفر طريق حقيقي لحل القضية الفلسطينية.

من الضروري بالنسبة للماركسيين أن ينفذوا من خلال موجة الضباب الكثيفة للأحداث لإيجاد حل حقيقي وقابل للتحقيق وجذري لتلك القضية المستمرة منذ عقود.

إن القضية الفلسطينية هي قضية مركزية بالنسبة للماركسيين، نريد أن يتم حلها اليوم قبل الغد، لكننا ندرك أيضاً أنها قضية جدية، مرتبطة بشكل وثيق بسيرورة الصراع الطبقي في المنطقة والعالم، لهذا لا مجال هنا للحلول السهلة والطرق المختصرة كما يتمنى الكثيرون، ومنهم نحن بالطبع لكن الحقيقة والواقع يقولان عكس ذلك، تلك الطرق والحلول التي انزلق ومازال ينزلق إليها الكثيرون تحت ضغط الأحداث، التي يفتن بها ويتذيلها كثير من العصب اليسارية، تلك الأساليب التي أثبت التاريخ أنها لا توفر طرق مختصرة كما ظن مستخدميها، بدليل مرور أكثر من سبعين عاماً والقضية الفلسطينية مازالت في نفس المأزق.

من أجل استراتيجية فلسطينية جديدة

ينطلق الماركسيون من قاعدة مهمة لا استثناء لها: أن تحرر الجماهير هو بفعل الجماهير نفسها. لا يمكن للمجتمع أن يتغير من الأعلى، أو بفعل شجاعة المحاربين الذين يخوضون حرب التحرير بالنيابة عن الجماهير، هذا الطريق لا يفضي إلى شيء. معارضة الماركسيون للأساليب الاستبدالية المسلحة ليست معارضة من باب النزعة السلمية.

كل ما يزيد ثقة الجماهير في نفسها ويرفع من وعيها بمهامها التاريخية نحن نؤيده، وكل ما هو له تأثير معاكس نحن ضده. لذلك نحن نعارض كل الفصائل المسلحة المنعزلة عن الجماهير، لأن ذلك لا يؤدي لإشراك الجماهير في الحراك وإنما يستبدلها بمجموعة المحاربين ويحولها إلى متلقي سلبي ينتظر التحرر من الخارج، ومرة أخري المجتمع لا يتغير من الأعلى أو من الخارج. تلك الفرق المسلحة حتى حسنة النية والطابع والهدف منها إن كتب لها الانتصار سيتحول مقاتلين الأمس إلى دكتاتوريين وبيروقراطيين اليوم، والتاريخ ملئ بأمثلة على ذلك. هذه هي المقاربة الماركسية لمسألة العنف، والتي تنطبق على الحالة الفلسطينية مثل غيرها، مع اختلاف شبه استحالة انتصار الفرق المسلحة المنعزلة عن الجماهير على الدولة الصهيونية في تلك الحالة، ورجعية الفصائل الإسلامية. نحن مع عنف الجماهير ومع تشكيلها لجان للدفاع الذاتي تكون خاضعة للمجالس الشعبية، وسنعمل على إكساب تلك المجالس ومنظماتها وعي طبقي وأممي لكي تستطيع أن تنتصر، لكن هذا لا ينطبق على أيٍ من الفصائل الفلسطينية الحالية، خصوصاً التي يهيمن عليها الاسلاميون.

نشهد منذ سنين على أراضي فلسطين التاريخية صراع الذئاب، صراع تبدأه وتتحمل مسؤوليته دائماً الدولة الصهيونية، ولكن يغذيه أيضاً القوى الإسلامية الرجعية التي بدورها تتغذى على الصراع المسلح، والمستمدة شرعيتها من استمراريته. تلك القوى التي لا تخدم في الواقع إلا اليمين الصهيوني عن طريق تصوير الصراع كصراع ديني، وهو الشيء الذي يجيد اليمين الصهيوني استخدامه جيدًا في تعزيز عقلية القلعة المحاصرة للسيطرة على المجتمع الإسرائيلي، وهذا ما حدث بالضبط بعد انتفاضة 2000-2002 التي طُبعت بالتفجيرات والرصاص العشوائيين حيث شهد المزاج العام للجماهير الإسرائيلية بعدها مد يميني مازال مستمرًا حتى اليوم.

ويخدم اليمين الصهيوني بدوره القوى الإسلامية الرجعية عن طريق توجيه ضربات إليها وتصويرها كأنها المدافع عن الشعب الفلسطيني. رأينا هذا يحدث العام الماضي عن طريق توجيه ضربات لحماس لتحويل مركز الأحداث من القدس ومدن الداخل إلى غزة، وهو ما جلب تأييد وشعبية متزايدة حينها لحركة حماس، ونرى نفس الشيء اليوم عن طريق توجيه ضربات لحركة الجهاد الإسلامي، وهو ما سيزيد من شعبيتها بالتأكيد. مجددًا نرى المعادلة المتحققة في المنطقة منذ عقود تنتصب أمام أعيننا: الرجعية تغذي بعضها وتحتاج بعضها.

تحاجج بعض العصب اليسارية أنه نتيجة العدوان الإسرائيلي المستمر والاحتلال المستمر منذ عام 1948 يجب علينا أن نقدم الدعم الكامل والمطلق لكل دوافع وأشكال العمل الفلسطيني، نحن لا نتفق مع ذلك. نفس المنطق الفاسد القائم على سياسة الهوية، والهوية هنا قومية، المنطق الذي ينطلق من أن كون المرء ينتمي لفئة أو جنس أو قومية أو إثنية مضطهَدة هذا يجعله تقدمي بالضرورة وبشكل مسبق، ويجعل كل أفعاله وأفكاره مبررة وتقدمية هي الأخرى. ليس صحيحاً على الإطلاق أن قومية المضطهَدين تقدمية دائماً، ولنا في التاريخ أمثلة أيضاً على ذلك، دائماً ما كانت تقوم الأنظمة الفاشية أو ذات النزعة الفاشية على خطاب موغل في القومية. وليست تلك هي المقاربة الماركسية للمسألة القومية.

لا شيء يجمع الماركسية مع تلك الطريقة المثالية الذاتية العرجاء في التفكير. ذلك التشوه الفكري الذي جعل من يسمون أنفسهم “يساريين” و”ماركسيين” يتذيلون الجهاديين في أفغانستان بدعوى محاربة الاتحاد السوفيتي ثم الولايات المتحدة، وفي سوريا بدعوى محاربة الجزار بشار الأسد، وجعلهم اليوم يتذيلوهم في فلسطين. والحقيقة أن تلك الطريقة مريحة لهؤلاء لأنها توفر عليهم التفكير والعمل الشاق في الانغراس بين الجماهير.

لكن بالنسبة لنا فالأمر واضح: نحن لا ندعم الحركات الأصولية الدينية في فلسطين المحتلة تحت أي دعوى من الدعاوى، ولا في غيرها، وهذا لا ينقص من عدائنا للدولة الصهيونية ولأنظمة المنطقة قاطبة شيء إطلاقاً. كما قال لينين “إذا كان هناك معركة بين اليمين واليمين سأختار معركتي”، لا يمكن أن نقع في ذلك الفخ. تلك الحركات تتبنى ايديولوجية دينية في غاية الرجعية، وهي أقرب للهمجية، لا تعادي النظام الرأسمالي بالعكس هي جزء منه، وتتلقى دعم الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، إيران وقطر ومصر وسوريا وغيرهم، مرتهنة بهم وتستعملهم تلك الدول كأوراق قوة لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، والنظام المصري على سبيل المثال له باع طويل في ذلك.

للأسف تحت وطأة الأحداث والمرارة والغضب وبسبب إجرام ووحشية الدولة الصهيونية المستمر، مع عدم وجود بديل ماركسي ثوري وسيطرة المنظمات الأصولية الدينية على الساحة الفلسطينية، ينزلق كثير من الشباب المخلص لذلك الطريق، نحن نتفهم ذلك ونحمل الدولة الصهيونية مسؤولية كل الدماء التي سالت ومازالت تسيل وسوف تسيل في السنوات القادمة، لكننا في نفس الوقت نقول للشباب الفلسطيني المخلص والمضحي والذي يضرب دائماً مثال البطولة والكفاح أن هذا الطريق ليس الطريق الصحيح للتحرر.

الطريق الصحيح هو النضال الجماهيري وأساليبه، هو الانغراس في الجماهير والدفع نحو تنظيمها ورفع وعيها بمهامها التاريخية، لا بديل عن ذلك. أحداث الشيخ جراح والمقاومة الجماهيرية لأهالي الحي العام الماضي تبين لنا إمكانات العمل الجماهيري، في غضون أيام امتدت الحركة لتشمل عدد من المدن في الضفة الغربية ومدن داخل الخط الأخضر، خرج مئات الآلاف في العديد من بلدان العالم ضد العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة، وهو ما شكل ضغط على الدولة الصهيونية وحلفائها الامبرياليين، وكان على وشك حتى أن يجد صدى له داخل بعض قطاعات المجتمع الإسرائيلي نفسه بعد الإضراب الذي خاضته الطبقة العاملة الفلسطينية.

لو كان هناك منظمة ماركسية حقيقية على أراضي فلسطين التاريخية لكانت استطاعت استغلال زخم الأحداث وقتها مع الأزمة الحكومية الإسرائيلية لمجرم الحرب بنيامين نتنياهو مع التضامن الإقليمي والعالمي، لكانت استطاعت تقديم خطاب يكشف طبيعة الطبقة السائدة الإسرائيلية ودولتها الصهيونية، لكن للأسف هذا ما كان غائباً، وهذا ما يجب أن نعمل من أجل بنائه بكل قوانا.

حول أسطورة المجتمع المصمت: المجتمع الإسرائيلي

يرى الماركسيون أن كل المجتمعات البشرية منذ ما يسمى “الثورة الزراعية” منقسمة إلى طبقات، وأن العالم اليوم هو عالم رأسمالي يتميز بوجود طبقة سائدة تستأثر بالثروات وطبقة عاملة تنتج تلك الثروات، وهذا ينتج صراع طبقي، قد تتباطأ وتيرته إلى حد الاختفاء تحت السطح أحياناً لكن هذا لا ينفي وجوده وحتمية بروزه على السطح في المستقبل في ظروف معينة، والمجتمعات الاستعمارية، مثل المجتمع الإسرائيلي، ليست استثناء.

إن القول بأن قوانين الصراع الطبقي لا تنطبق على المجتمع الإسرائيلي وكأنه مجتمع فضائي والزعم بأن مصالح الطبقة السائدة والطبقة العاملة الإسرائيلية متطابقة ليس فقط يخرج قائله من باب التحليل المادي الطبقي ويدخله إلى باب الانطباعية والنظريات الأخلاقية والعاطفية، وإنما يضعه في نفس جانب الطبقة السائدة الإسرائيلية ودولتها التي تدعي أنها تمثل مصالح جميع اليهود وأنها تعمل من أجل جميع اليهود، وهذه كذبة يجب أن يعمل الماركسيين على فضحها وتعريتها.

صحيح أن المجتمع الإسرائيلي له خصائصه الخاصة حيث قام على الاحتلال الاستيطاني وقمع الفلسطينيين، لكنه ليس فوق قوانين المجتمع الطبقي والتاريخ، حتى أكثر الثكنات العسكرية حديدية يوجد في داخلها تناقضات طبقية يمكن قسمها على أساسها في ظروف معينة مع ضغط الأحداث. المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع رأسمالي تم بناءه في ظروف شديدة التعقيد والاستثنائية على الحجة الكاذبة المتمحورة حول المصالح الموحدة للشعب اليهودي التي تتجاوز المصالح الطبقية، ومن أجل الحفاظ على هيمنة الرأسمالية الإسرائيلية على المجتمع وكبح تطور الصراع الطبقي فيه يجري تعميم حالة العسكرة الدائمة وخلق حروب دائمة وتغذية عقلية القلعة المحاصرة لخلق حالة اصطفاف دائم داخل المجتمع على أسس قومية ودينية.

إننا نعول على الانقسامات الطبقية داخل المجتمع الإسرائيلي، ونرى أن المصالح الطبقية للطبقة العاملة الإسرائيلية يمكن أن توفر أرضية للنضال المشترك مع الجماهير الفلسطينية، ونعول على كسب الطبقة العاملة الإسرائيلية في يوم من الأيام كطريق وحيد لهزيمة الدولة الصهيونية والطبقة السائدة الإسرائيلية. هل نعول على الطبقة العاملة الإسرائيلية لأننا نراها تقدمية الآن ودائماً وأبدًا؟ لا، هذا ليس حال الطبقة العاملة في إسرائيل، ولا حال الطبقة العاملة في أي مكان آخر، نحن ندرك أن الأيديولوجية الصهيونية مهيمنة بشكل كبير على المجتمع الإسرائيلي، وهذا ليس مفاجئاً بالنسبة لنا، لأننا ندرك أن الأفكار المهيمنة في أي مجتمع هي أفكار الطبقة السائدة. وهذه طبيعة المجتمعات الطبقية، لفترات طويلة قد تبدو الطبقة السائدة وايديولوجيتها راسخة ومسلم بها من قبل أغلبية الجماهير، لكن التناقضات الطبقية تتراكم تحت السطح إلى أن تصل للنقطة الحرجة التي تتعارض فيها مع الوضع الراهن، ونفس السيرورة تنطبق على المجتمع الإسرائيلي حتى وإن كان يبدو اليوم عكس ذلك.

Teachers from schools around the country protest against the state of the education system in the country, in Tel Aviv, May 22, 2022.

المظهر الهادئ نسبياً للمجتمع الإسرائيلي يحمل في طياته كثير من عوامل التناقضات الطبقية والفكرية والانفجارات المستقبلية، صحيح أن الدولة الصهيونية استطاعت أن تتحكم في تلك التناقضات وفي الصراع الطبقي لفترات تاريخية كاملة بمزيج من العسكرة والتنازلات، لكن هذا سوف ينقلب إلى ضده في وقت ما، وتحت وقع الأزمة الحالية للرأسمالية العالمية ستضطر الطبقة السائدة الصهيونية ودولتها لتنظيم هجمات أكثر شراسة على مستويات معيشة الجماهير الإسرائيلية التي بدأت تنخفض في السنوات الماضية اصلا، هنا سوف تبرز التناقضات الطبقية للسطح وتوضع على جدول الأعمال. هذا هو الأساس المادي الذي يجب أن يراهن عليه ويعمل من أجله التيار الماركسي في فلسطين/إسرائيل.

إننا نعول على الطبقة العاملة الإسرائيلية ليس لأنها مستعدة الآن لمهاجمة طبقتها السائدة والدولة الصهيونية، ولكن لأن الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة القادرة على تغيير المجتمع، ولأن تحت ضغط سيرورة التناقضات الطبقية ومع تسارع وتيرة الصراع الطبقي في المنطقة مع تقديم نموذج تعايش مختلف للجميع ستبدأ قطاعات متزايدة من الطبقة العاملة والشباب الإسرائيليين في إدراك الحاجة لخوض صراع طبقي مفتوح ضد طبقتهم السائدة، وهذا ما بدأت شرائح من الشباب الإسرائيلي في إدراكه، وحتى ولو ببطء.

بعض من يسمون أنفسهم “ماركسيين” و”يساريين” رغم إدراكهم لوجود تناقضات داخل المجتمع الاسرائيلي لكنهم يقولون باستحالة استغلال تلك التناقضات، وينظرون للمجتمع الإسرائيلي بوصفه مجتمع جامد لا يؤثر عليه شيء وسيبقى دائماً وأبداً صهيوني الفكر، والحقيقة أن قصيري النفس هؤلاء تجرفهم دائماً الأحداث ويصابون سريعاً بالإحباط لأن الواقع لا يتكيف على مزاجهم، ويلجؤون لكل الحيل التطهرية الأخلاقية التي لا تقدم أي شيء.

نراهم بدلاً من محاولة النظر للواقع وفهمه كما هو يلومون الواقع لأنه لا يسمعهم، وبدلاً من الانغراس فيه نراهم يقولون إن الحل هو النضال من خارج فلسطين/إسرائيل لأن المجتمع الإسرائيلي يميني وصهيوني ولا يسمعنا. نحن لا نشكك في أهمية وضرورة ربط النضال الفلسطيني من أجل التحرر بنضالات جماهير المنطقة، بالعكس نحن نرى أن انتصار ثورة اشتراكية في المنطقة سيكون لها تأثير مهول على المجتمع الإسرائيلي نفسه، ونضع هذا في صلب استراتيجيتنا لحل القضية الفلسطينية كوسيلة أساسية للتأثير في المجتمع الإسرائيلي، ورأينا النذر القليل من ذلك التأثير في الموجة الثورية لعام 2011 التي تأثر بها المجتمع الإسرائيلي وخرجت مظاهرات في شوارع تل أبيب تهتف “مبارك، الأسد، بيبي نتنياهو”، فلنا أن نتخيل حجم تأثير ثورة اشتراكية ناجحة بخطاب أممي وثوري على المجتمع الإسرائيلي.

لكن من أجل أن يفعل ذلك التأثير فعله ويؤدي حقاً بالطبقة العاملة والشباب الإسرائيليين إلى خوض نضال مفتوح لإسقاط الطبقة السائدة والدولة الصهيونية من الضروري وجود منظمة ماركسية منغرسة بين الجماهير الفلسطينية والإسرائيلية، بدونها لن يكون هناك انتصار، وهذا ما لا يفهمه هؤلاء “اليساريون” المتعبون الذين يريدون أن يريحوا ضمائرهم الشخصية بأكثر الطرق سهولة عن طريق التفلت من العمل الجاد والشاق، ولا يشرحون لنا في نفس الوقت كيف ستؤدي نضالات الخارج المضادة للصهيونية -التي ندرك أهميتها- لتغيير المجتمع الإسرائيلي وإيجاد حل للقضية الفلسطينية بدون وجود منظمة ماركسية في الداخل، مرة أخرى المجتمع لا يتغير من الخارج.

يستند هؤلاء على فشل اليسار المعادي للصهيونية في إسرائيل في الادعاء باستحالة النضال من داخل فلسطين/إسرائيل، لكننا إن استخدمنا ذلك المعيار الفاسد يجب أن نحكم على النضال ضد الرأسمالية كلية بالفشل المسبق، خصوصاً في منطقتنا، كما أن تجارب المنظمات الماركسية الحقيقية في المنطقة يجب أن يحبط هؤلاء المتعبين أيضاً. لكن بالنسبة لنا فشل يسار المنطقة، بمن فيهم اليسار الإسرائيلي، في تغيير واقع الحياة لا يشير إلى استحالة تغيير واقع الحياة وإنما يشير إلى أخطاء وفشل ذلك اليسار في فهم مجريات الأحداث والتوجه للجماهير والطبقة العاملة، سواء اليسار الذي اندثر أو الذي يحاول عبثاً عدم الاندثار.

اليسار المعادي للصهيونية في إسرائيل يعاني من ضعف مزمن لأنه يسار إصلاحي لا يتبنى سياسة ثورية تهدف لإسقاط الطبقة السائدة الصهيونية، وإنما طوال فترات تاريخية كاملة دفع ذلك اليسار من أجل مطالب إصلاحية وديمقراطية مجردة مثل “الديمقراطية للجميع”، وهي مطالب مهمة بالطبع يجب النضال من أجلها، لكن يجب أن ترتبط ببرنامج ثوري لتغيير المجتمع. بدون ربط المطالب الديمقراطية ببرنامج يتحدى مصالح الطبقة الرأسمالية الإسرائيلية ودولتها الصهيونية انتهى الحال بذلك اليسار إلى طريق مسدود. لأن محاولة إقناع الطبقة السائدة الإسرائيلية بتلك المطالب ومحاولة خلق رأسمالية أكثر إنسانية هو وهم، الاحتلال والقمع والاضطهاد والحروب والاستغلال ليست نتائج عرضية متعلقة ببعض الأشخاص في السلطة الصهيونية ولكنها تعبير عن مصالح الطبقة السائدة الإسرائيلية.

وما زاد الوضع صعوبة هو الفترات الطويلة من كمون الصراع الطبقي والإصلاحات والامتيازات الاجتماعية التي استطاعت الطبقة السائدة الصهيونية من أن تقدمها في الماضي للطبقة العاملة والجماهير الإسرائيلية (نتيجة الدعم الإمبريالي، وقمع واستغلال الفلسطينيين والتوسع في الاحتلال…الخ) وهو ما شكل كابح لنمو الوعي الطبقي لمدة طويلة.

هذا ليس دليل على استحالة التأثير في المجتمع الإسرائيلي وإنما دليل على خطأ نظرية ذلك اليسار الذي كان من المفترض أن يتبنى سياسة مناضلة تبرز التناقضات الطبقية داخل المجتمع الإسرائيلي وتتحدي الطبقة السائدة ومصالحها ودولتها، وتتبنى خطاب طبقي يعمل على إضعاف تأثير الأيديولوجية الصهيونية على الطبقة العاملة والشباب الإسرائيليين، وربط ذلك بالنضال الفلسطيني من أجل التحرر.

يجب خلق جسر طبقي يربط بين العمال والفقراء الفلسطينيين بالعمال والفقراء الإسرائيليين في نضال مشترك من أجل إسقاط الدولة الصهيونية الرأسمالية. قد يبدو هذا سيناريو مستبعد حالياً نتيجة الأحداث المتسارعة ونيران الحرب التي لا تهدأ، لكن يجب أن تظل تلك هي استراتيجية أي تيار ماركسي حقيقي في فلسطين/إسرائيل.

من أجل فدرالية اشتراكية فلسطينية/إسرائيلية

لا يمكن حل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال دون إسقاط الرأسمالية على أراضي فلسطين التاريخية وفي المنطقة، وهذا يجب أن يكون واضحاً، التوهم بأنه يمكن بطريقة ما اصلاح الدولة الصهيونية وجعلها تتقبل الفلسطينيين، سواء في الداخل أو في الضفة وغزة، أو إن معجزة ما ستحدث في يوم من الأيام ويتم خلق “دولة علمانية ديمقراطية واحدة” دون إسقاط الرأسمالية، هو مثالية تدعو للرثاء، تماماً مثلما تكذب التجربة العملية طوال ما يزيد عن السبعين عاماً الماضية وهم حل الدولتين على أساس الرأسمالية وفي إطار الأمم المتحدة، هذا الوهم الذي خانت ومازالت تخون من أجله السلطة الفلسطينية الجماهير.

لا يمكن إقامة دولة فلسطينية مستقلة بجانب الدولة الصهيونية الإمبريالية، وحتى وإن تم إقامة تلك الدولة الفلسطينية في المستقبل، في ظل الرأسمالية، ستظل تابع للدولة الصهيونية وستظل تتعامل معها كحديقة خلفية لها، تماماً مثلما تتعامل مع السلطة الفلسطينية في رام الله اليوم.

لهذا حل القضية الفلسطينية يجب أن يكون على أنقاض الرأسمالية، ومن أجل هذا يجب تقسيم المجتمع الإسرائيلي على أسس طبقية.

لكن كما يقال الشيطان يكمن في التفاصيل. عقود من الحروب والضغائن القومية ليس من اليسير تجاوزها، ولهذا يجب التأكيد على الطابع الفدرالي للحل الاشتراكي.

نظام فدرالي اشتراكي يتم توفير فيه أكبر قدر ممكن من الحكم الذاتي للفلسطينيين والإسرائيليين، يتمتع فيه الجميع بالحقوق الدينية واللغوية والثقافية، يتم ضمان فيه حرية الحركة والتنقل، يتم العمل على ضمان مستويات معيشة إنسانية ووظائف للجميع ورعاية صحية مجانية عالية الجودة وتعليم مجاني عالي الجودة، يتم إطلاق برنامج للتحديث والتصنيع، خصوصاً في المجتمع الفلسطيني الذي ظل في حالة تخلف صناعي واجتماعي بفعل الدولة الصهيونية، على قاعدة الاقتصاد الاشتراكي المخطط مركزياً وديمقراطياً القائم على الاستغلال والتوزيع العادل للموارد، وبناءً على هذا سيتم توفير الأرضية لعودة الفلسطينيين المهجرين للبلاد إن أرادوا. نظام يعمل على إزالة الفوارق بين الفلسطينيين والإسرائيليين واجتثاث كل الأحقاد القومية والشكوك المتبادلة، ليحل محلهم التضامن بين جميع من يعيش على أراضي فلسطين التاريخية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في ظل فدرالية اشتراكية فلسطينية/إسرائيلية على أراضي فلسطين التاريخية، تكون جزء من فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

هل سيقوم النظام الفدرالي الاشتراكي على حكومتين (فلسطينية وإسرائيلية) تنسقان مع بعضهما البعض أم حكومة مشتركة؟ ليس من السهل تقديم جواب مسبق على ذلك السؤال. قد لا يسمح الواقع بحكومة مشتركة نتيجة ميراث الحرب الطويلة وتترجح كفة حكومتين، الواقع الحالي الآن يقول إن هذا أقصى ما يمكن الوصول له، وقد يفاجئنا المستقبل وتفاجئنا الجماهير وتتوفر الظروف لبناء حكومة مشتركة، وهذا هو الأفضل، لكن الواقع لا يتوافق دائماً مع مخططاتنا. على أي حال يجب مراعاة شيئين مهمين في مسألة تقرير ذلك في المستقبل: أولاً، مصالح الطبقة العاملة العالمية والثورة الاشتراكية، ثانياً، أنه كلما كانت الحدود السياسية والقانونية أقل كلما كان من الأسهل تجاوز الماضي القائم على الهوة بين سكان فلسطين التاريخية، الفلسطينيين والإسرائيليين.

قد يرد علينا “اليساريون” المتعبون بأننا نتوهم وأن هذا مستحيل، ونحن سنرد عليهم بأن اتركونا مع أوهامنا الواقعية وامضوا بعيدًا عنا مع واقعيتكم الواهمة. أننا ندرك أنها ليست بالمهمة اليسيرة، ولكن هذه طبيعة كل المهام التاريخية، إسقاط الرأسمالية العالمية ليست بالمهمة اليسيرة لكننا عازمون على إتمامها. ومهمة إسقاط الرأسمالية الإسرائيلية والدولة الصهيونية وبناء مجتمع جديد على أراضي فلسطين التاريخية، على أنقاض المجازر والاحتلال والحروب، هي من أصعب وأعقد المهام التاريخية في المنطقة، إن لم تكن أصعبها وأعقدها على الإطلاق.

أهمية النظرية الماركسية ليست في إنها تقدم حلول سهلة وآمنة، لكن في إنها صحيحة وتقدم الحل الوحيد للمضي قدماً إلى الأمام لفهم الواقع لتغييره، أما من يبحث عن حلول سهلة فعليه أن يبحث عنها في شيء غير الماركسية.

هذا هو المنظور الماركسي لحل القضية الفلسطينية، الذي هو رهين بشيء واحد: بناء منظمة ماركسية على أراضي فلسطين التاريخية، تكون جزء من تيار ماركسي إقليمي وأممي يرفع راية الأممية الحقة ويحول شعار وصرخة كارل ماركس وفريدريك إنجلز “يا عمال العالم اتحدوا” لسياسة عملية وثورية. هذا ما نناضل من أجله في التيار الماركسي الأممي، وندعو كل من يتوافق معنا للانضمام إلينا من أجل إسقاط الرأسمالية وبناء الاشتراكية في حياتنا، هذا النضال العظيم الذي يتوقف عليه مستقبل البشرية.

عاش نضال الجماهير الفلسطينية من أجل التحرر!

من أجل إسقاط الرأسمالية الإسرائيلية ودولتها الصهيونية!

من أجل فدرالية اشتراكية فلسطينية/إسرائيلية!

من أجل وحدة نضال عمال وشباب المنطقة!

من أجل فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا!