الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / شمال إفريقيا / المغرب / دروس مصر 2013 وتونس 2021: حول بعض القضايا السياسية

دروس مصر 2013 وتونس 2021: حول بعض القضايا السياسية

توصلنا بهذا المقال من رفيق مغربي يوقع مقالاته باسم “مغربي حر” نشره السنة السابقة، ونعيد نشره على موقعنا تزامنا مع الذكرى الأولى لإقالة الحكومة وتجميد البرلمان التونسي، وكذلك لتزامنه مع إجراء استفتاء على دستور قيس سعيد الذي تعرض لمقاطعة جماهيرية، ونحن إذ ننشر هذا المقال ندعو جميع المناضلين الاشتراكيين إلى اعتبار موقعنا منبرا لهم لنقاش مختلف قضايا الثورة في منطقتنا والعالم.


بعد أسابيع من الجنائز والحزن على ضحايا الأزمة الصحية الناتجة عن الفساد والفوضى السياسية استيقظت تونس يوم 25 يوليو 2021 على خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي أعلن إقالة الحكومة وتجميد أعمال البرلمان ورفع الحصانة على أعضائه لمدة 30 يوما قابلة للتمديد كما أعلن في سابقة لم تعرفها حتى الانقلابات العسكرية عزمه على جمع كل السلط وحصرها بين يديه خلال الفترة المؤقتة (التي قد تدوم طويلا).

و بينما انقسمت أغلب ردود الأفعال على إجراءات قيس سعيد بين من أيّدها ومن اعتبرها انقلابا دستوريا وشبهها بما حدث في مصر سنة 2013 فإن ما سنتطرق له في هذا المقال هو علاقة أحداث مصر2013 وتونس2021 ببعض القضايا السياسية التي يعتبر إدراكها ضرورة لا غنى عنها من أجل ممارسة صحيحة في التفاعل مع الأحداث التي قد يحملها المستقبل القريب كما سنحاول تحديد أوجه التشابه والاختلاف بين مصر2013 وتونس2021.

إن أحداثا كالتي حدثت في مصر2013 وتونس2021 (والتي يمكن أن تحدث حتى في لبنان) ليست حديثة، والتاريخ مليء بالأحداث المشابهة لها، لكن المثير هو أن بعضها يحظى بالدعم الشعبي (مصر وتونس) بينما يُحبط بعضها الآخر بفضل التضحية الجماهيرية مثلما حدث في فنزويلا سنة 2002 وفي تركيا سنة 2016 مثلا مما يسلط الضوء على مسألة الشرعية التي تعتبر ركنا أساسيا في القضايا السياسية.

وفي الواقع فإن الديكتاتورية بجميع أشكالها، منذ ولادتها في الجمهورية الرومانية، لا تظهر في أغلب الأحيان إلا كتعبير عن الأزمات الاجتماعية والسياسية التي لا يمكن حلها في المجتمع الطبقي بدون إجراءات استثنائية، وفي الفكر السياسي آنذاك كانت تُفْصل بشكل صحيح عن نظام الطغاة، أما في العصر الحديث فيعود الفضل الكبير لماركس وغرامشي لتقديمهما أهم مساهمة في الفكر السياسي والاجتماعي، بتوضيحهما الشروط الموضوعية لبروز وانتصار القيصرية والبونابرتية كشكلين للديكتاتورية في الصراعات الاجتماعية والسياسية، كما بيّنا العديد من سماتهما، فبخلاف التفسيرات السطحية التي تنسب كل شيء للطموح والمميزات الشخصية، وضح غرامشي في تلخيص للطرح الماركسي أن  «القيصرية تمثل وضعا تتعادل فيه القوى المتعارضة بصورة لا مخرج فيها من الصراع المستمر إلا بالفناء المتبادل فعندما تناضل القوة التقدمية (أ) ضد القوة الرجعية (ب) قد لا تنتصر (أ) على (ب) أو (ب) على (أ) بالضرورة فلا تنتصر لا (أ) ولا (ب) وإنما تستنزف الواحدة الأخرى فتتدخل القوة الثالثة (ج) من الخارج مخضعة ما تبقى من (أ) و(ب)…» (غرامشي – القيصرية) كما أشار في نفس المقال لأنه  «إذا كانت القيصرية تعبر دائما عن حل {تحكيمي} تتعهد به شخصية كبيرة لوضع تاريخي سياسي يتصف بميزان قوى ينذر بكارثة فإن دلالتها التاريخية متباينة فتمة قيصرية تقدمية وقيصرية رجعية».

ونلاحظ أن في مصر2013 وتونس2021 تنعكس وتتجسد هذه الشروط بوضوح، رغم اختلاف درجة الحدة في البلدين (وهو شيء ليس ثانويا)، كما تشير رسائل قيس سعيّد للتجار والصناعيين لإمكانية تطور الوضع، تحت تأثير الأزمة وضغط الجماهير، لبونابرتية تقمع الرأسماليين لحماية الرأسمالية (أو لثورة تونسية ثانية).

لكن المثير للاشمئزاز في ما حدث في تونس هو التأييد شبه المطلق من طرف بعض من يسمون “بالتقدميين العرب” لإجراءات قيس سعيد، في تكرار للأخطاء القاتلة التي حدثت في مصر سنة 2013، حين تحالف بعض الناصريين والإصلاحيين مع العسكر والفلول لإسقاط الإخوان الرجعيين، وفي الواقع فمثل هذه الممارسات الخاطئة ليست عرضية، بل تنبع من أن بعض السياسيين العرب الفاشلين (في كسب الجماهير) يعانون من خمول وكسل خطير، فبدل القيام بالعمل الضروري الطويل والشاق يختارون الطرق المختصرة ويبحثون عن قيصرهم وبونابرتهم، لكنهم لا يجدون سوى السيسي وقيس سعيد وأمثالهم من الذين لا يتأخرون في خنق هؤلاء بمجرد الانتهاء من سحق الرجعيين. هذا فضلا عن أنهم لا يقومون بأي دور تقدمي، لأن الأنظمة البوليسية لا تستطيع القيام بتصفية حقيقية للرجعية.

وقد قدم الثوري المبدع غرامشي مساهمة عظيمة بتسليطه الضوء على العلاقة بين “الإقناع والإكراه” وأهميتهما في القضايا السياسية، لكن ربما تكمن مأساة المشهد السياسي في أن بعض من يسمون بالتقدميين في منطقتنا لم يستوعبوا هذه المسألة رغم أن التجارب القديمة والحديثة وضحتها جيدا، ففي حربهم الصحيحة ضد الرجعية يرتكب هؤلاء خطأَ كارثيا بطلبهم الحماية من البوليس والعسكر، لأنهم بالإضافة لتعزيز شرعية الرجعيين، يظهرون ليس فقط كسياسيين جبناء وعاجزين، بل وأيضا كجاهلين بأبجديات السياسة التي تركز على عامل الإقناع الذي لن نبالغ إن اعتبرناه أهم عنصر في بنية الشرعية الحقيقية ويتجلى هذا بقوة في الانقلابات التي تحظى بدعم الجماهير ونقيضتها التي تواجه فيها الجماهير الدبابات بالأصدر العارية وكذلك في حرب العصابات التي يعد الدعم الشعبي وقودها الحقيقي الذي يستحيل استمرار سيرها بدونه.

إن قضية العلمانية التي لا يمكن تصور الديموقراطية بدونها ليست ثانوية بالنسبة للاشتراكيين لكن بخلاف المتبرجزين لا نتصور إمكانية تحققها دون الاشتراكية كما لا نتصور إمكانية انتصارها وسحق الرجعية دون الموازنة الصحيحة بين “الإقناع والإكراه” على عكس هؤلاء الذين يدافعون عنها ضمن استمرار الرأسمالية (التي لا تعني إلا استمرار البؤس والتقشف بالنسبة للأغلبية) أو يتصورون إمكانية فرضها بالوسائل القسرية دون وجود أدنى حد من التوافق أما هؤلاء السياسيين الذين يتوهمون تحقيقها عن طريق أتاتورك عربي ويدعمون العسكر والبوليس ضد الرجعيين الظلاميين يقدمون أفضل خدمة للرجعية إذ أنهم يساعدونها على تضميد جروحها وتجبير كسورها فيعيقون عملية تصفيتها ودفنها الأبدي.

وفي ظل وجود خطر اجتياح الفاشية الظلامية لمنطقتنا يجب التعامل بحذر شديد (لا يخلوا من الجرأة) ويُفَضّل عدم خوض حرب الحركة (الهجوم المباشر) قبل التمهيد لها بحرب مواقع (دفاع وهجمات خاطفة) تضمن نصرنا في الحرب المصيرية ضد الرجعية كما لا يجب التغافل وإهمال الدور الكبير الذي يلعبه الإقناع في السياسة وفي هذا الصدد من المهم تذكر دروس الثورة الروسية ففي يوليو جادل لينين ضد البلاشفة الذين أرادوا الاستيلاء على السلطة فوضح لهم استحالة الاحتفاظ بها بسبب غياب الدعم الجماهيري الكافي كما أكد حتى في أعماله النظرية على أهمية الإقناع وقال:  «لا يمكن الانتصار بقوى الطليعة وحدها والزج بالطليعة وحدها في معركة حاسمة قبل أن تكون الطبقة كلها والجماهير الواسعة قد اتخذت إما موقف التأييد المباشر للطليعة وإما على أقل تقدير موقف حياد يتسم بالنية الطيبة تجاهها بحيث تكون غير قادرة أبدا على تأييد عدو الطليعة لا يكون حماقة وحسب بل جريمة أيضا» (لينين – مرض “اليسارية” الطفولي في الشيوعية) وأشار في نفس الكتيب لضرورة الإقناع في الإجراءات القسرية وقال:  «لأن القضية ليست في كون البرلمانات موجودة من أمد بعيد أو قريب بل في مقدار استعداد الجماهير الغفيرة الكادحة (استعدادا فكريا وسياسيا وعمليا) لقبول النظام السوفييتي وحل (أو السماح بحل) البرلمان البرجوازي الديموقراطي».

وما طرحه لينين أكدته أحداث مصر2013 وأحداث تونس2021 (وكذلك أحداث أخرى) فقبل سجن مرسي وفض اعتصام رابعة بالعنف الدموي كان السيسي قد تأكد من حصوله على دعم الجماهير عندما طلب منهم التفويض والتظاهر لتأكيد التأييد وكذلك قيس سعيد لم يكن ليتجرأ على القيام بانقلاب القصر لولا تأكده من كره الجماهير(والساسة) لحزب الغنوشي والمظاهرات التي سبقت 25 يوليو والتي تلتها وضحت جيدا رأي الشارع التونسي كما تؤكد إجراءات الدعاية والتشهير التي غالبا ما تسبق القمع وتمهد له نفس الشيء.

و في الواقع فإن التحذير الشديد من خطر سيطرة الفاشية الظلامية ليس خاطئا بل صحيح وضروري لكن الذعر اللاعقلاني ليس مُبرَّرا ويصبح ضارا جدا عندما يدفع للتحالف مع العسكر والبوليس وما ينبغي إدراكه والاستفادة منه هو أنه بعد الثورات التي اندلعت في منطقتنا بالإضافة لكون الإسلامويين قد حصلوا على دعم الإمبرياليتين لضمان استمرار النظام القديم بوجوه جديدة (تحظى بالثقة) فقد كانوا مشروعا نجح في كسب تأييد حقيقي (وإن لم يكن بالقوة التي يُصوَّر بها) فكان وصولهم للسلطة تعبيرا عن حصاد لما زرعوه منذ نهاية السبعينات لكن ما لا يجوز التغاضي عنه أيضا هو أنهم بسبب تعارض مشروعهم الرأسمالي المتطرف مع التطلعات الحقيقية للجماهير بددوا الرصيد الذي جمعوه خلال سنوات في شهور وسنوات قصيرة فصاروا ممقوتين من طرف الجماهير وخلال حكمهم في مصر مثلا لم تخلوا شوارع المدن من الاحتجاجات الشعبية ضد حزبهم ويفرض انهيار المشروع الرجعي للإسلامويين وانتفاض الجماهير ضده بسبب سياسته الاقتصادية أن يراجع بعض التقدميين تصورهم عن البديل الذي تحتاجه بلدان المنطقة لأن مأساة هؤلاء تكمن في أنهم يساندون المشروع البرجوازي رغم أنهم ليسوا برجوازيين فيضعون أنفسهم خارج الكتلة التاريخية الضرورية لنجاح المشروع التقدمي بسبب العمى السياسي لا بسبب المصالح الطبقية أما الغايات التقدمية التي يناضلون لأجلها ويتوهمون ترادفها مع الرأسمالية فما لا يدركونه هو تناقضها التام معها في بلداننا بالخصوص إذ أن الثورة في منطقتنا التي عانت من الاستعمار الذي أعاق تطورها لا يمكن أن تحقق تلك الغايات إلا في ظل الاشتراكية لأنها من ناحية تعتبر الطريق الوحيد للتطور الاقتصادي الضروري للنهضة الاجتماعية الحقيقية ومن ناحية أخرى تعتبر الضامن الوحيد الانتصار واستقرار المشروع التقدمي في بلداننا.

كما لا يجب على هؤلاء الأصدقاء التغاضي عن أن البرجوازية صارت من ألد أعداء القيم الحداثية التقدمية فرمت عقلانية فولتير ومساواة روسو وصارت تقدس بربرية نيتشه الذي تحَصَّر على أفول العبودية ولا يجوز أبدا التغاضي عن أنه لا يمكن انتظار المساهمة في التنمية من أنصار الربح السريع والتقشف والعمالة الرخيصة أما المغامرين من أنصار الاستعمار الجديد الذين يرغبون في أن يصبحوا الوكلاء المحليين الجدد والذين يُجَمِّلون الوجه البشع للإمبريالية فنبشرهم أن نهايتهم لن تختلف عن نهاية مرسي (والنهاية الحتمية للسيسي) حتى إن تمكنوا من تحقيق نصر مؤقت لأن مصالح الشعوب تتناقض جذريا مع مشروع الرأسمالية التي لا يمكنها أن تكون في بلداننا إلا تبعية وبعد مرور 10 سنوات على ثورات الربيع العربي يمكننا أن نؤكد أن أهم درس للتقدميين هو إدراك أن في منطقتنا المنهكة إما الاشتراكية أو الهمجية“.

أما الآن بعد أن تطرقنا إيجاز لبعض القضايا السياسية التي ترتبط بأحداث مصر 2013 وتونس 2021 وكذلك بالمشهد السياسي في المنطقة فسوف نحاول أن نوضح أوجه التشابه والاختلاف بين 30يونيو 2013 و25 يوليو2021 ودورها في تحديد تطور الأوضاع في تونس.

وبخلاف هؤلاء العجزة البيروقراطيين الذين لم يرو في الربيع سوى فوز الرجعيين في الانتخابات أو الليبراليين الذين لم يرو في أحداث 30 يونيو 2013 و25 يوليو 2021 سوى الانقلاب عن لسلطة التي يعتبرونها شرعية أعتقد أن تلك الأحداث بينت انطلاقا مما تتشابه فيه أنه لا الإسلامويين استطاعوا السيطرة ولا البرلمانية استطاعت تلبية طموح الجماهير ففي مصر شاهدنا أكبير تنظيم جماهيري يعجز عن الاستقرار خلال وجوده في السلطة ويتم إسقاطه وقمعه بدعم جماهيري كبير وفي تونس بعد 10 سنوات من حكم حزب الغنوشي تخبرنا مظاهرات يناير وحرق مقرات الحزب والمظاهرات المؤيدة لقيس سعيد ببلاغة عن رأي الجماهير التونسية في الإسلامويين.

لكن بعيدا عن التشفي أو التفاؤل اللاعقلاني يجب أن ننتبه لأن إسقاط الرجعيين وازدراء البرلمانية ودعم البونابرتية يشير بوضوح لمستقبل “التقدميين” الذين لا يرون بديلا عن الرأسمالية ويقول لهم ببلاغة “لن يكون مصيركم مختلفا عن مرسي والغنوشي وستطردكم البطون الجائعة إما بقواها أو بدعم سيسي أو قيس سعيد جديد” كما أن دعم الجماهير وبعض السياسيين التونسيين لقيس سعيد بعد دروس 30 يونيو 2013 يوضح أن التجارب المأساوية يمكن أن تتكرر وفي غياب العامل الذاتي قد لا يمكن تفاديها وإن كان بإمكاننا تفهم شعور الجماهير التونسية العادية وحتى خطأ القوى التقدمية المصرية فموقف بعض التقدميين التونسيين في 25 يوليو 2021 لا يمكن قبوله بعد أحداث 30 يونيو 2013 خصوصا في ظل أن قيس سعيد كان واضحا جدا في خطابه وإجراءاته فبخلاف السيسي الذي طمأن الشارع المصري بالكذب حول نوايا المؤسسة العسكرية وبتعيين مناضلين لهم سِجل نظيف ككمال أبو عيطة في الحكومة التي تلت إسقاط مرسي يعكس بوضوح تام تعيين وزير الداخلية قبل تشكيل الحكومة أولويات الرئيس قيس سعيد كما يشير تهديده لمن اعتبرهم “يتطاولون على رئيس الدولة” لنواياه الحقيقية التي لا يمكن إخفائها وراء العبارات الشعبوية.

كما تُظهر لنا أحداث 25 يوليو أن الغنوشي بخلاف بعض الساسة البيروقراطيين استفاد من درس مصر 2013 فتجنب الدخول في مواجهة مفتوحة مع الدولة في ظل غياب الدعم الجماهيري لحزبه الذي فقد الشرعية الحقيقية وصار ممقوتا بعد 10 سنوات من الخيانة والإجرام في حق الشعب التونسي ولعل زعيم حزب النهضة يراهن أيضا على عامل الوقت لترتيب صفوف الحزب والاستفادة من الاحتمال الكبير لفشل الرئيس الشعبوي وعجزه عن حل المشاكل التي كانت سببا في سخط الشعب على حزبه وقد وجه تحذيرات لأوروبا من أزمة المهاجرين في محاولة للتخويف باحتمال العنف والإرهاب لكنه في نفس الوقت حاول الحفاظ على بعض الخيوط مع النظام إد دعا للمفاوضات و”الحوار الوطني” مع الإشارة لاستعداده لتقديم التنازلات في محاولة منه للحصول على صفقة ملائمة وربما في استذكار للاقتراح الذي كان قد طرحه السيسي على مرسي وحزبه قبل إسقاطه (وفي الواقع حتى بعدها قبل فض اعتصام رابعة).

و يشير سلوك زعيم حزب النهضة لأن الرجعية مثل أي فيروس آخر قادرة على تطوير ذاتها في ظل عدم تصفيتها التامة ولهذا سيكون من الخاطئ أن نعتقد أنها ستكرر نفس الأخطاء إن أتيحت لها الفرصة مرة أخرى وبالرغم من أنه سيكون من الصعب عليها إعادة جمع الرصيد الذي اكتسبته سابقا إلا أن التغاضي عن أن في مجتمعاتنا لم تتشكل بعد مناعة قوية تجعل شعوبنا محمية وقادرة على تحديد الأشكال الجديدة التي قد يتخفى فيها فيروس الرجعية الظلامية سيكون تغليبا خاطئا للعاطفة على العقل كما أن الرهان على استمرار ضعف الإسلامويين لوقت طويل في أحداث استثنائية كالتي تعيشها منطقتنا (والعالم) سيكون تفاؤلا ساذجا لأن في السياسة يستقوي كل طرف بضعف نقيضه وتُوَسع كل مجموعة سياسية رقعتها أساسا بفضل الأخطاء التي يرتكبها أعدائها وتُقلِّص رقعتهم ولا أعتقد أن أي ثوري سيختلف معي في أن القوى السياسية السائدة حاليا لن تضمن سوى تكرار الأخطاء القاتلة.

الآن بعد أحداث 25 يوليو يميل البعض لاعتبار أن مستقبل تونس هو عودة الدولة البوليسية وأن الأحداث القادمة في تونس لن تختلف كثيرا عن الأحداث التي تلت 30 يونيو في مصر لكنني أعتقد أن العامل الذي له وزن ثقيل في تحديد مستقبل تونس بعد 25 يوليو هو المزاج العام في المجتمع وفي هذه النقطة تختلف تونس2021 عن مصر 2013 اختلافا كبيرا فبينما كانت فئات كبيرة من الشعب المصري متعبة في 30 يونيو بسبب المعركة الطويلة التي خاضتها وكان الميل للاستقرار والتخلص من كابوس الإرهاب والحرب الأهلية عاملا مهما في دعمها للسيسي دعما شبه مطلق في السنة الأولى على الأقل لدينا في تونس الآن جماهير متعطشة للعدالة الاجتماعية لا لاستقرار البؤس الذي تعاني منه ويمكن أن نقول بل ثقة أنها بكامل قواها وحماسها الذي تحتاجه معركتها التي ستندلع عاجلا أم آجلا بعد أن يزيل الواقع المُحبِط نشوة الإجماع الوطني حول الرئيس ذو “الأيادي النظيفة”.

كما يجب أن ننتبه جيدا لأن الأوضاع في تونس ومحيطها حاليا تختلف جذريا عن تلك التي رسخ فيها بن علي الديكتاتورية البوليسية والشارع التونسي بعيد كل البعد عن قبول التدابير التي تحملها جزء من الشعب المصري في السنوات الأولى بعد 30 يونيو تحت ضغط الإرهاب الرجعي كما أنه من الضروري أن لا نتغاضى عن “تمرد” جزء مهم من المصريين العاديين ضد السيسي قبل مرور 10 سنوات على حكمه وتظاهرهم واحتجاجهم الصريح ضد من دعموه بقوة سابقا في سنتين متتاليتين (2019 – 2020) رغم القمع الشديد الذي يسود في مصر السيساوية فبيّن الشارع المصري أن روح الربيع لا تموت بقتل قادته ولا تُسجن مع كوادره في الزنازين بل تظل حرة تتجول في الحارات لتُحرض على الحرية وتستمر حية في عقول قادة وكوادر ومناضلين جدد استعدوا للتضحية بأجسادهم ليبعثوا الربيع من جديد وليحققوا أهدافه في معركة التحرر القادمة.

و يثبت الحراك الثوري الذي حدث سنة 2019 في العراق والجزائر ولبنان والمظاهرات التي حدثت في تونس في بداية هذه السنة أن الربيع هو روح العصر التي لن تزول مادامت ظروف وجودها قائمة فرغم إخفاقات المعركة الأولى (2011) ورغم أنهار الدماء التي سالت في سوريا وليبيا واليمن لازالت الجماهير تقاتل من أجل تحقيق أهداف الربيع.

إن أحداث تونس 2021 أكدت الدروس التي قدمتها مصر والسودان وكل ثورات الربيع فوضحت استحالة حل الأزمة في بلداننا على أساس الرأسمالية وبينتْ أن الأمراض التي تعاني منها القوى السياسية السائدة عضوية وليست عرضية فأكدت إفلاسها وعجزها عن تحمل مهامها أو الاستفادة من الأخطاء لتفادي تكرارها وأشارت الأحداث أكثر من مرة لأن خوفها وحذرها الصحيح من خطر الرجعية يدفعها دوما للقيام بما يساهم فقط في تأجيل ذلك الخطر لا القضاء عليه في ظل إصلاحيتها وعجزها عن إدراك أن الأزمة تحتاج بديلا اقتصاديا واجتماعيا جذريا لن يوجد أي استقرار سياسي واجتماعي بدونه.

وبالنسبة لنا كمغاربة فمن الضروري جدا الاستفادة من كل الدروس التي تقدمها الأحداث السياسية في بلدان المنطقة (والعالم) فبعد 22 سنة من الحكم بدد محمد السادس الرصيد الكبير الذي امتلكه خلال السنوات الأولى التي جلس فيها على العرش وإن تمكن في سنة 2011 من تجاوز الأزمة التي هددت عرشه بفضل عدة عوامل أعتقد أن أهمها هو الدعم الذي كان لايزال يحظى به من طرف الفئات المتخلفة من الجماهير فالأزمة التالية التي تهدده قد لا يفلت منها إلا بفضل الأخطاء القاتلة التي سترتكبها حتما القوى السياسية السائدة حاليا إذ أن قيادة هؤلاء لن تضمن تجنب تكرار مأساة فرانكوية أو “ثورة ملك وشعب” جديدة بل لا مبالغة في قول أن أمثال هؤلاء لن يتسببوا سوى في تلك المآسي وبعيدا عن أي تشاؤم أعتقد أن لا أمل في انتصار ثورة تقدمية في المغرب إلا أن استطاعت بعض التيارات الثورية وبعض المناضلين الثوريين تطوير ذواتهم ليصبحوا قوة قادرة على التأثير الفعال على الأحداث أي أن من الضروري جدا العمل للموازنة بين الكيف والكم فسكب نصف كوب من الماء في كيلوغرام من الدقيق يختلف كثيرا عن سكب نصف لتر ومن يحظى بدعم وتعاطف الملايين ليس كمن يجهلونه ويعادون بعض أفكاره بسبب أفكارهم الخاطئة حولها ولهذا أعتقد بضرورة تخلي بعض الرفاق والأصدقاء عن الرهان الخاطئ على العفوية وعن الانطواءات النقابية والعمل ليصبح اليسار قوة جماهيرية حقيقية لأن كل الأحداث أكدت بوضوح قول لينين بحتمية اتجاه العفوية نحو البرجوازية.

أما بالنسبة للإصلاحيين النزيهين (وهم ليسوا أقلية) الذين يضعون نفسهم خارج الكتلة التاريخية ويعادون القوى الثورية بسبب الجبن وضيق الأفق السياسي لا بسبب المصالح الطبقية فأعتقد أنهم يعرفون جيدا أن فشل الثورة يعني الخراب لا السلام (ولهذا يميل بعضهم للحذر من القفز للمجهول) لكن ما لا يدركونه رغم وضوحه الآن هو أن السؤال في المغرب حاليا ليس حول إمكانية حدوث الثورة بل يتعلق بنوعية وهوية الثورة القادمة في القريب العاجل في البلد الذي سيصرخ فيه شعب طال صمته لعقود والذي تحيط به أخطار كبيرة تفرض وعيا ومجهودا جبارا من طرف الثوريين وجميع الشرفاء والتقدميين.

مغربي حر
03/08/2021