ننشر فيما يلي مقالة للرفيق خابيير كابريرا، عضو منظمة الصراع الطبقي، الفرع الإسباني للتيار الماركسي الأممي، والتي كتبها بمناسبة الذكرى المائة لمعركة أنوال. والتي سبق أن نشرناها في العدد التاسع من مجلة “الحرية والشيوعية”، المجلة العربية للتيار الماركسي الأممي، في مطلع السنة الجديدة، تقدم المقالة وجهة نظر الطبقة العاملة والماركسيين الإسبان للمعركة وأسبابها ونتائجها، مما يكمل الصورة التي لدينا نحن عمال وماركسيو الأمم المستعمَرة عن نفس الحدث، إذ بينما نتفق على أن المعركة كانت حدثا تاريخيا وتقدميا لأنها كانت انتصارا للطرف المضطهَد، الريف، ضد الطرف المضطهِد، الإمبريالية الإسبانية، فإن ما نعتبره انتصارا عظيما من جانبنا، من الطبيعي أن تنظر إليه الطبقة العاملة الإسبانية على أنه كارثة بسبب ذلك العدد الهائل من القتلى الذين سقطوا من أبناء العمال والفلاحين، الجنود الإسبان، الذين ضحت بهم الطبقة السائدة الإسبانية على مذبح مصالحها في مغامرة إمبريالية هدفها استعباد شعب آخر واستغلاله.
بين شهري يوليوز وغشت 1921، حدث ما عُرف بكارثة أنوال، أي الهزيمة المهينة للجيش الاستعماري الإسباني في المغرب على يد قبائل الريف، التي وحدها وقادها الموظف السابق في الإدارة الاستعمارية، عبد الكريم. لقد هزت العواقب السياسية لتلك الهزيمة الحكم الملكي والنظام ككل، مما أدى إلى تسريع سقوطه.
كانت كارثة أنوال نتيجة لسلسلة من الأخطاء التكتيكية الجسيمة التي كشفت الحالة المزرية للجيش الإسباني في إفريقيا، الذي كان ينخره الفساد والاستبداد وعدم الكفاءة. كما كانت أيضا مثالا عن كيف يمكن لجيش من الفلاحين سيء التسليح لكنه متحمس، أن يهزم قوة استعمارية، وهو ما شكل مصدر إلهام كبير للنضالات ضد الاستعمار في إفريقيا وآسيا خلال العقود التالية.
المغامرة الاستعمارية في المغرب
ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر شنت المَلكية الإسبانية حملة تغلغل استعماري حقيقي في المغرب، وذلك في سياق عملية النهب الإمبريالي التي كانت القوى الأوروبية تنفذها في إفريقيا. خسارة إسبانيا، عام 1898، لما تبقى من إمبراطوريتها [في القارة الأمريكية] كانت السبب في أن صار المغرب الهدف الأساسي للنظام الملكي والرساميل العائدة والطغمة العسكرية التي تم تشكيلها في المستعمرات والتي أصبحت عاطلة عن العمل. حدد مؤتمر الجزيرة الخضراء، عام 1906، مناطق النفوذ الإسباني والفرنسي في المغرب الغارق في الفوضى. ضعف الدولة الإسبانية مقارنة مع بقية القوى الاستعمارية الأوروبية أجبرها على قبول فتات الغنائم الاستعمارية. فشملت الحماية الإسبانية، التي دخلت حيز التنفيذ ابتداء من عام 1912، أقصى شمال المغرب والجنوب، والتي هي المناطق الأقل سكانا والأكثر فقرا والأكثر تخلفا.
كان الشمال هو مسرح الأحداث التي أدت إلى الحرب المغربية وكارثة أنوال، وهو يتكون من منطقتين مختلفتين للغاية. ففي الغرب، منطقة جبالة، حول مدينة تطوان التي صارت عاصمة المحمية، وهي منطقة ناطقة باللغة العربية، وكانت تحت سلطة إقطاعي يدعى الريسوني، الذي تحول من دعم الإسبان إلى مواجهتهم عام 1920. وفي الشرق، منطقة الريف، وهي منطقة ناطقة باللغة الأمازيغية وخالية من أي سلطة مركزية. كان الريف جزءا مما كان يسمى بـ ”بلاد السيبة“ -أي البلد المتمرد على الحكم المركزي- تلك المناطق الجبلية والمتخلفة من المغرب حيث لم يكن للسلطان أي نفوذ فعلي عليها.
كانت منطقة الريف مقسمة بين عدة قبائل والتي غالبا ما كانت تتقاتل في ما بينها. في البداية تحملت العديد من تلك القبائل وجود الإدارة الإسبانية، لكن القبائل الآخرى حاربتها منذ اليوم الأول. ومن بين هذه المجموعة الأخيرة، برزت قبائل بني ورياغل، التي تمتد أراضيها حول خليج الحسيمة، بقيادة عائلة الخطابي. تمكنت قبائل بني ورياغل، مع موحند عبد الكريم الخطابي في دور القائد السياسي، وشقيقه امحمد عبد الكريم في دور القائد العسكري، من توحيد وتعبئة القبائل المختلفة في النضال ضد الحكم الاستعماري الإسباني.
في عام 1908 ، تأسست شركة Compañía de las Minas del Rif، التي كان الكونت رومانونيس يمتلك أغلبية اسهمها، لاستغلال مناجم الحديد في أراضي بني ورياغل. أدت المعارضة المسلحة التي شنها الورياغليون ضد الاستغلال المنجمي الإسباني إلى اندلاع حرب مليلية عام 1909. كانت تعبئة جنود الاحتياط لهذه الحرب هي التي تسببت في اندلاع أعمال الشغب في برشلونة والتي أدت إلى الأسبوع المأساوي في يوليوز 1909. كانت حرب مليلية تحذيرا لما سيحدث بعد سنوات لاحقة، في سياق محاولة النظام الإسباني إخضاع قبائل الريف باستخدام العمال والفلاحين الفقراء وقودا للمدافع من أجل مجد الرأسماليين.
لخص خوان غويتيسولو أسباب فشل المغامرة الاستعمارية الإسبانية في المغرب قائلا:
«كيف سنكون قادرين على استعمار جبال الريف، بينما لم نتمكن حتى من استغلال وإعمار مناطق شاسعة من أراغون وإكستريمادورا وسييرا مورينا؟ […] إنحدارنا الاقتصادي والثقافي لم يسمح لنا بتنفيذ مشروع التحديث الذي نفذته فرنسا وإنجلترا، على الرغم من كل الاعتداءات والجرائم، في البلدان التي استولتا عليها».[1]
كانت الحماية الإسبانية في المغرب مجرد صفقة تجارية مربحة لصالح عدد قليل من الرأسماليين والمسؤولين الفاسدين ومسألة هيبة بالنسبة للنظام الملكي. بينما عواقب هذه المغامرة دفع ثمنها الفلاحون المغاربة، والفلاحون والعمال الإسبان الذين أرسلوا لسحق مقاومتهم وذبحوا في أنوال.
جيش إفريقيا
كانت القوات الإسبانية المتمركزة في المحمية المغربية مكونة من جنود احتياط كانوا يؤدون الخدمة العسكرية لمدة ثلاث سنوات. كانت الطريقة الوحيدة لتقصير مدة الخدمة أو تجنبها هي دفع المال، على الرغم من حقيقة أن قانون التجنيد لعام 1912 ألغى ”الاعفاء مقابل المال“، فإنه قد استمر في العمل تحت الطاولة. كان أبناء العمال والفلاحين الفقراء الذين لا يستطيعون الدفع لتجنب الخدمة العسكرية يرسلون إلى المغرب، بينما يتم اعفاء أبناء الأثرياء. وقد عبر المهندس والصحفي، أرتورو باريا، الذي خدم في الحرب المغربية برتبة رقيب للمهندسين، في سيرته الذاتية، بعنوان: The Forge of a Rebel، عن مشاعر الفلاحين الذين ألقي بهم في أتون الريف، قائلا:
«لماذا علينا محاربة الموروس؟ لماذا علينا أن ”نحضرهم“ إذا كانوا لا يريدون أن يكونوا متحضرين؟ هل نحن من سيحضرهم؟ […] لا توجد مدارس في مدننا، والبيوت مبنية بالطوب، وننام بملابسنا، على سرير من ثلاثة ألواح في الإسطبل، بجوار البغال، لكي نتدفأ. […] نعاني الجوع والبؤس. السيد يسرق منا وإذا اشتكينا فإن الحرس المدني يضربوننا».[2]
وقد استخلص أرتورو باريا بنفسه هذا الاستنتاج التحذيري بعد أن عانى مباشرة من الفوضى التنظيمية التي كان الجيش يعيشها خلال عملياته في المحمية:
«ذهبت وحدات الجيش الإسباني في المغرب إلى المعركة دون أي قيادة. تم إرسال الرجال إلى الجبهة، وترك الأمر لغرائزهم لتحديد أين يتقدمون وخاصة كيفية العودة إلى قواعدهم؛ فكانت الفيالق تضيع في الليل الواحدة تلو الأخرى. عندها فهمت سبب تلك الانسحابات المأساوية في المغرب، حيث بعد كل عملية منتصرة يموت مئات الرجال في كمائن».[3]
تلك الكارثة التنظيمية التي كان يعرفها الجيش الإفريقي كان سببها، قبل كل شيء، هو انتشار الفساد. يقدم باريا العديد من الأمثلة على الممارسات الفاسدة على جميع مستويات الجيش وإدارة المحمية: شراء مواد البناء بأقل من الميزانية المعلنة، تضخيم كشوف الأجور المقدمة للعمال الأهالي، والمتاجرة في السلع الأساسية (الطعام والملابس والأغطية والمصابيح)، وبيع حيوانات سليمة تحت مبرر أنها مريضة… وكانت فوائد النهب توزع باحترام للهرمية. ولد مزيج الفساد وعدم الكفاءة والوحشية تصاعد الاستياء والإحباط بين صفوف قوات الاحتياط والمزيد من السخط والمعارضة للحرب في إسبانيا.
وإدراكا منهما لهذا الوضع، أنشأ الضابطان ميلان أستراي وفرانشيسكو فرانكو فيلق لا ليخيون (La Legión) عام 1920. كانت تلك القوة فيلقا تطوعيا مستوحى من الفيلق الأجنبي الفرنسي، الذي استقطب كلا من المرتزقة الأجانب والمجرمين والمتحللين طبقيا الإسبان. شكل ذلك الفيلق، إلى جانب قوات النظاميين المحليين (Los Regulares)، قوة الصدمة الرئيسية للإمبريالية الإسبانية في المغرب والتي سترتكب أبشع الفظائع ضد السكان والمقاتلين الريفيين.
في حرب الريف تبلورت تلك الفئة من الضباط التي نفذت انقلاب 18 يوليوز ومجازر الحرب الأهلية ومجازر ما بعد الحرب. كانت المحمية في الواقع هي المكان الذي بدأ فيه الانقلاب [الفرانكاوي]، مع تمرد جيش إفريقيا. لقد نفذ الفيلق والقوات النظامية المجزرة تلو الأخرى أثناء تقدمهم عبر شبه الجزيرة [الإسبانية] بأوامر من نفس الضباط وبنفس الأساليب الدموية التي كانت تستخدم سابقا في المغرب.
”هيا أيها الرجال“
كان الاستهتار الغبي الذي أبان عنه الجنرال سيلفستر هو الحادث الذي عبر عن الضرورة. إذ بدخوله أراضي بني ورياغل -ضدا على توجيهات الحكومة وهيئة الأركان العامة- وإطالة خطوط الإمداد بما يتجاوز ما هو ممكن وبناء مراكز تحصين دون أي أثر للمياه، وفر سيلفستر الفرصة للقوات غير النظامية الريفية لتفضح الحالة المزرية للجيش الاستعماري الإسباني. وكما قال السياسي الجمهوري إدواردو أورتيغا فإن:
«إسبانيا، بإدارتها الفاسدة والوقحة، لم توفر لجنودها المواد الضرورية. لقد سمح هذا لبعض سكان الريف، الأكثر بسالة لكن بدون تنظيم عسكري، بأن يهزموا القوات النظامية الأكثر تفوقا على الورق».[4]
كان الملك وبلاطه مصممين على تلقين ”متوحشي“ الريف درسا، متجاوزين الحكومة وسلم القيادة. أرسل ألفونسو الثالث عشر إلى سيلفستر برقية تتضمن الاقتراح التالي: «افعل ما أقول لك. لا تستمع إلى وزير الحرب، إنه أحمق». كما أن هناك أيضا أخبار عن برقية أخرى، لم يتم حفظها، قام فيها الملك بتشجيع سيلفستر بعبارة ”هيا أيها الرجال“ (أو شيء مشابه).[5]
كانت نتيجة ذلك التقدم الغبي هو أن جميع الوحدات الإسبانية تعرضت، الواحدة منها تلو الأخرى، للذبح على يد قوات بني ورياغل. قد لا يكون من الممكن على الاطلاق تحديد العدد الإجمالي للقتلى من الجنود على وجه اليقين، لكن البيانات الأكثر تحفظا الواردة في ”تقرير بيكاسو“ تتحدث عن حوالي 12000، من بينهم مئات الضباط، بمن فيهم الجنرال سيلفستر نفسه، والذي يبدو أنه أقدم عى الانتحار بعد الهزيمة.
أعلن الأخوان الخطابي بعد سنوات على ذلك أنهما حاولا منع إعدامات الوحدات التي استسلمت في جبل العروي وسلوان وأماكن أخرى. ومن المحتمل تماما أن تكون الكراهية المتراكمة عند القبائل الريفية بسبب سنوات القمع، إلى جانب حقيقة أن عبد الكريم كان لم يؤكد سلطته بعد، هو ما أدى إلى تلك المجزرة. وفي المقابل فإن الوحدات التي تم أسرها في الناظور قد تمت معاملتها باحترام. وقد تلقى عبد الكريم مقابل تحرير الضباط الذين أسرهم فدية قدرها ثلاثة ملايين بيسيطا والتي كانت عونا كبيرا لجمهورية الريف المشكلة حديثا. ويبدو أن رد فعل ألفونسو الثالث عشر عند علمه بدفع هذه الفدية كان هو: ”يا لها من فدية باهظة الثمن“.[6]
تقرير بيكاسو وانقلاب بريمو دي ريفيرا
كانت النتيجة السياسية الأولى لكارثة أنوال في إسبانيا هي سقوط حكومة مانويل أليندي سالازار وتعيين حكومة جديدة برئاسة المحافظ المخضرم أنطونيو ماورا. قامت هذه الحكومة، بناء على طلب المندوب السامي الإسباني في المغرب، الجنرال بيرينغير، بتشكيل لجنة تحقيق عُهد بصياغة تقريرها إلى الجنرال خوان بيكاسو، عم بيكاسو الرسام الشهير. منذ البداية حاول بيرينغير والحكومة تقييد نطاق تحقيقات بيكاسو، وصنفوا الاتفاقات والخطط والأحكام الخاصة بالمفوضية العليا على أنها محفوظة. لكن بيكاسو لم يوافق على هذا الأمر وأصر على التحقيق حتى أعلى مستويات القيادة. هذا الإصرار جعل بيكاسو لا يحظى بشعبية كبيرة بين الجنرالات الأفارقة، الذين كانوا يخشون أن ينتهي التحقيق إلى الملك ويفضح فسادهم.
والسبب في أن كارثة أنوال لم تتسبب في اندلاع تمرد ضد النظام الملكي يرجع أساسا إلى أنه عندما بدأ يظهر البعد الحقيقي للكارثة، في وقت مبكر من عام 1922، لم تكن الطبقة العاملة قد تعافت بعد من الهزائم التي عانت منها خلال الفترة السابقة، ولا سيما هزيمة الإضراب العام الثوري لعام 1917 والإضرابات الزراعية في السنوات التالية حتى عام 1921. ولأن الحركة كانت تعاني من التراجع، فإنه على الرغم من أن كارثة أنوال عمقت تشويه سمعة الحكم الملكي والجيش والنظام ككل، فقد اقتصر تأثيرها السياسي الفوري على البرلمان، الذي حصل بالفعل على ملف بيكاسو في عام 1922، بإصرار من اندالسيو برييطو.
تابعت الجماهير أعمال بيكاسو واللجنة البرلمانية بمزيج من الصدمة والتشاؤم. وقد تم التعبير عن هذه الحالة الذهنية في مقاطع كتبها لويس دي تابيا نُشرت في صحيفة La Libertad في 06 شتنبر 1921، تحت عنوان Ni caso، وفيها إشارة إلى المسؤولية المحتملة للملك:
«إذا سمعتم في البرقيات أو الكابلات
أن بيكاسو سيجد المسؤول…
فتجاهلوا ما سمعتم…
كانت الأخطاء صحيحة؛
لكن في مسائل الحرب،
تدفن الأسباب والموتى
في باطن الأرض…
وإذا بحث بيكاسو في القمة،
فسوف يهلك».[7]
ومع تقدم العمل البرلماني، أصبحت مسؤولية الملك في الكارثة أكثر وضوحا. كتب النائب مانويل كورديرو في صحيفة El Socialista في 09 شتنبر 1923، ما يلي:
«لقد أشعل النظام الملكي هذه الحرب من أجل الحفاظ على جيش يتجاوز الحفاظ عليه إمكانياتنا الاقتصادية، ليتمكن في حال جاءت لحظات عصيبة من قلبه ضد الشعب […] والحرب في إفريقيا، التي هي سبب الخراب المادي في إسبانيا، لا يتم الحفاظ عليها إلا من أجل التستر على فشل النظام الملكي وعدم معرفة مكان وضع الفائض من الجنود».
بعد أربعة أيام على ذلك، استولى الحاكم العام لكاتالونيا، الجنرال ميغيل بريمو دي ريفيرا، على السلطة، بموافقة من الملك، وبالتالي حسم مصير ملكية ألفونسو. ومن خلال حله للبرلمان وضع بريمو دي ريفيرا حدا لعمل لجنة المسؤوليات ومنعها من إصدار قرار كان من الواضح أنه سوف يسلط الضوء على مسؤولية ألفونسو الثالث عشر في كارثة أنوال. لقد سمح الديكتاتور بمواصلة تحقيق القضاء العسكري، لكن ليس قبل استبدال جزء كبير من أعضائه بآخرين أكثر ميلا إلى معاملة المتهمين بطريقة ودية. وبالفعل فإنه في يونيو 1924 تمت فقط إقالة الجنرال بيرينغير من الخدمة، قبل أن تصدر الحكومة العفو عنه في الشهر الموالي.
على الرغم من جميع المناورات التي تمت لإخفاء الحقيقة فإنه كان واضحا للجماهير الإسبانية، وقدامى المحاربين والعمال، أن كارثة أنوال، وكل المغامرة الاستعمارية المغربية بأكملها كانت مسؤولية الملك وطغمة الضباط الفاسدين وقطاعات من الرأسماليين المتحلقين حول البلاط. كانت الحرب في المغرب وديكتاتورية بريمو دي ريفيرا نقطة تحول في أزمة نظام الحكم الملكي وعلامة بارزة في الطريق الذي أدى إلى الإعلان الثوري لقيام الجمهورية الثانية.
جمهورية الريف
انتصار أنوال الذي لا جدال فيه سمح لعبد الكريم بتنفيذ المهمة الهائلة المتمثلة في توحيد وتنظيم مختلف قبائل الريف لمواجهة الإمبرياليتين الإسبانية والفرنسية. كانت فرنسا تسيطر على معظم الأراضي المغربية بموافقة العائلة المالكة العلوية. وفي مواجهة هذا الوضع، قرر عبد الكريم عدم التحرك باسم السلطان، بل إنشاء جمهورية مستقلة في المناطق التي انتزعها من الحماية الإسبانية.
وبهذه الطريقة ولدت جمهورية الريف، التي كانت أول محاولة جادة لإنشاء دولة حديثة في المغرب.
تزامن ظهور جمهورية الريف مع صعود تركيا الحديثة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. مهمة التوحيد والتحديث التي شرع فيها عبد الكريم تمتلك أوجه تشابه كبيرة مع تلك التي قام بها الجنرال التركي، ويتفقان مشروعاهما على أنهما تم تنفيذهما في إطار حرب تحرر وطني ضد عدو أجنبي (المستعمرون الإسبان والفرنسيون بالنسبة للريف، والغزاة اليونانيون ودول الوفاق بالنسبة لتركيا). لكن بالطبع كان على عبد الكريم أن يحكم منطقة أكثر تخلفا من الناحية الاقتصادية والثقافية عن المناطق المركزية للإمبراطورية العثمانية المنهارة.
كانت الخطوة الأولى في بناء تلك الدولة هي تشكيل ميليشيا موحدة ومركزية تمكنت، بقيادة امحمد بن عبد الكريم، من توسيع أراضي الجمهورية إلى منطقة جبالة، واستولت على الشاون عام 1924. بحلول ذلك الوقت صارت أراضي المحمية الإسبانية تقتصر على ساحل المحيط الأطلسي والمناطق المحيطة بتطوان وسبتة ومليلية. كان رد الإمبريالية الإسبانية هو القصف المستمر للريف باستخدام الأسلحة الكيميائية، مثل العامل البرتقالي، مما تسبب في العديد من الضحايا المدنيين وخلف عواقب وخيمة على أراضي وسكان الريف.
عبد الكريم، من خلال تجربته السابقة موظفا في إدارة الحماية، كان مدركا تماما للنزيف الذي يسببه التواجد في الريف للدولة الإسبانية، كما كان مدركا للمعارضة التي كانت قائمة بين الطبقة العاملة والمثقفين الإسبان تجاه الحرب في المغرب. كانت السياسة الخارجية لجمهورية الريف تهدف إلى الحصول على تضامن عالمي في الدفاع عن حقها في تقرير المصير، وهو ما حققته من جانب اليسار الإسباني في ذلك الوقت. وهذه القطعة من رسالة من حكومة جمهورية الريف إلى الحكومة الإسبانية دليل على هذا المنحى:
«نحن مندهشون من أنهم يتجاهلون مصالح إسبانيا نفسها من خلال عدم عقد السلام مع الريف، من خلال الاعتراف باستقلاله، وبالتالي تعزيز علاقات حسن الجوار، بدلا من إذلال شعبنا وتجاهل جميع المذاهب الإنسانية وتشريعات القانون الدولي، على النحو الوارد في معاهدة فرساي الموقعة بعد الحرب الكبرى [الحرب العالمية الأولى]».[8]
ومن جانبها ردت الإمبريالية الفرنسية على إنشاء جمهورية الريف من خلال عسكرتها للمناطق الحدودية لمحميتها، والتي سرعان ما تسببت في صراعات مع السكان المحليين، الذين طلبوا مساعدة عبد الكريم. كان رده هو شن هجوم على مدينة فاس، والذي على الرغم من انتصاره في البداية (معركة ورغة)، كان نقطة التحول في الحرب من خلال التسبب في مشاركة أكبر من طرف القوات الفرنسية في الصراع. وأخيرا، في شتنبر 1926، هُزمت جمهورية الريف من خلال العمل الفرنسي-الإسباني المشترك، الذي تحقق في إنزال الحسيمة في الثامن من ذلك الشهر. كان إنزال الحسيمة أكبر عملية برمائية في التاريخ حتى تلك اللحظة، وقد أظهرت أنه لا يمكن للإمبريالية الإسبانية أن تهزم جمهورية الريف إلا بمساعدة فرنسا الأقوى.
لكن وعلى الرغم من هزيمتها في النهاية، فقد بقيت تجربة جمهورية الريف مصدر إلهام للنضالات الثورية المناهضة للإمبريالية خلال العقود التالية، وبقيت رموزها وتقاليدها حية في الذاكرة الجماعية للريفيين على الرغم من قمع النظام المغربي. وخلال انتفاضة الريف عام 2016، عاد علم جمهورية الريف ليرفرف بفخر مرة أخرى على يد جيل جديد استيقظ للكفاح ضد الاضطهاد.
خابيير كابريرا، 22 شتنبر/أيلول 2021
هوامش:
1: Goytisolo, Juan: Alquibla, RTVE, 1993, disponible en RTVE Play
2: Barea, Arturo: La forja de un rebelde. Vol. II: La Ruta. Londres, Arturo Barea y herederos, 1951
3: Ibid.
4: Ortega y Gasset, Eduardo, Annual: relato de un soldado e impresiones de un cronista, 1922.
5: Rubio, Antonio, El desastre de Annual a través de la prensa, Madrid, Libros.com, 2021.
6: https://blogsaverroes.juntadeandalucia.es/aldeacordoba/?tag=desastre-de-annual
7: Alía Miranda, Historia del ejército español y de su intervención política, Madrid, Los libros de la catarata, 2018.
8: Citado por Martín, Miguel: El colonialismo español en Marruecos (1860-1956). Madrid: Club de Amigos de la UNESCO, 2002.
عنوان النص الأصلي:
A cien años del Desastre de Annual: una masacre a mayor gloria de la monarquía y del capital