كتب الرفيق آلان وودز هذا المقال في مطلع العام الحالي، يقدم فيه منظورات حول العالم الجديد. كنا قد نشرنا هذا المقال الهام في العدد التاسع من مجلتنا “الحرية والشيوعية”، المجلة العربية للتيار الماركسي الأممي.
مع مطلع عام 2022، شكلت عبارة ”سنة سعيدة“ كلمة فارغة لأغلبية الشعب، وذلك لأن أغلبية الشعب ليسوا سعداء على الإطلاق. خلال الأوقات العصيبة، في الماضي، كان الشعب يبحث عن العزاء في الدين. لكن في الوقت الحاضر، تقف الكنائس فارغة. وبدلا من ذلك صار الناس يميلون إلى اللجوء إلى حاناتهم المحلية، أو ربما دور السينما، والتي أصبحت شيئا يشبه أفيون الشعوب في عصرنا. لكن وبالنظر إلى أن العديد منها صارت مغلقة، فلم يعد للكثير من الناس مكان آخر يلتمسون فيه الراحة غير جهاز التلفزيون الخاص بهم.
في هذا الوقت من العام، تبهر شركات التلفزيون في جميع أنحاء العالم مشاهديها بمعاملة خاصة وهي التكرار اللامتناهي لأفلام هوليوود القديمة.
ونسبة كبيرة من هذه الأفلام القديمة لها طابع ديني صريح. إذ في مواجهة الانخفاض المقلق لمن يرتادون دور العبادة، من الواضح أن السلطات قد قررت تطعيم احتفالات نهاية العام ببعض العناصر الروحية من خلال جلب الله إلى منازلنا بواسطة المعجزة الحديثة التي هي جهاز التلفزيون.
هذه المعجزة أكبر بكثير من أي شيء يمكن للمرء أن يقرأه في الكتاب المقدس، الذي يخبرنا أن الله كائن غامض وغير مرئي، رغم أنه، في بعض الأحيان، وفقط في بعض الأحيان، يجعل نفسه متاحا لبعض الأفراد المختارين، وإن بشكل غير مباشر (عادة ما يكون منطوقا).
والآن، وبفضل سحرة هوليوود، تمكن ملايين الأشخاص من مشاهدة الله، الذي من الواضح أنه يشبه تشارلتون هيستون، الممثل المعروف للأدوار الدينية، والجمهوري اليميني، والرئيس السابق للجمعية الوطنية الأمريكية للبنادق.
إلا أنه أيا كان ذلك الإله الذي يؤمن به السيد هيستون، فهو بالتأكيد ليس إله السلام. فيوم 20 ماي 2000، خلال المؤتمر 129 للجمعية الوطنية الأمريكية للبنادق، حمل الممثل بندقية فلينتلوك، التي تعود إلى حقبة الحرب الثورية، وأعلن أنه إذا أرادت الحكومة مصادرتها منه، فسيكون عليها أن تنتزعها من ”يديه الباردتين الميتتين“.
وعندما ذهب، يوم 05 أبريل 2008، لمقابلة خالقه، في سن 84 عاما، كانت يداه دافئتان بما يكفي ليس فقط لحمل بندقية قديمة، بل أيضا بثروة محترمة تبلغ 40 مليون دولار.
ورأى الله أنه من المربح جدا بيع أسلحة الدمار، وأن ذلك خير.
وقال الله: ”السلام على الأرض، جيد للرجال“.
– لكن ليس كثيرا، لأنه سيء لقطاع الأعمال…
خطر الروبوت المجنون
ومن أجل إسعادنا بعد هذا الطوفان المروع من التدين، سارع أقطاب التليفزيون إلى معالجتنا بسلسلة لا حصر لها من أفلام الكوارث، حيث يتعرض العالم لخطر الدمار بطريقة مروعة أو بأخرى. ومن بين الموضوعات المتكررة في تلك الأفلام هو أن العالم سيتعرض قريبا لسيطرة الروبوتات.
لقد حلت الفكرة القائلة بأن الذكاء الاصطناعي يمثل تهديدا للبشر، وأن الآلات ”الذكية“ ستحل محل الرجال والنساء، محل تلك الموضوعات الأكثر سذاجة التي تجعل من الغول ومصاصي الدماء ووحوش فرانكنشتاين موضوعا لأفلام الرعب. لكن هذا ليس مجرد خيال -ناتج عن مخاوف النفسية البشرية- بل له قاعدة مادية حقيقية للغاية.
لا يُنظر إلى التقدم المذهل في العلم والتكنولوجيا عل أنه نعمة، بل على أنه نقمة. كان من المفترض منطقيا أن تؤدي هذه التطورات إلى تقليص يوم العمل، وبالتالي خلق مستقبل يتم فيه استبدال العبودية بمزيد من الحرية، مما يتيح التنمية الكاملة لإمكانيات الناس.
لكن الواقع مختلف جدا.
لقد أوضح كارل ماركس منذ مدة طويلة أن إدخال آلة جديدة، في ظل الرأسمالية، يؤدي لا محالة إلى زيادة البطالة، وساعات عمل أطول لمن ما تزال لديهم وظائف. سيواجه ملايين العمال فقدان وظائفهم نتيجة الأتمتة والتكنولوجيا الجديدة التي ستجعلهم فائضين عن الحاجة.
تكمن المشكلة في أن قوى غير مرئية ولا يمكن السيطرة عليها قد سيطرت بالفعل على حياتنا ومصائرنا التي تواجه الآن تهديدا وجوديا، أخطر بكثير مما تعكسه أفلام المدمر والفك وفرانكنشتاين. وهذه القوى الخفية هي اليد الخفية للسوق.
في عالم المدمر (Terminator) المخيف، سيطرت ”الأشياء“ (الآلات، الروبوتات) على العالم وصارت تستعبد الناس. لكن هذا الكابوس الخيالي قد صار، في واقع الأمر، حقيقة بالفعل. في أيامنا هذه يتم اختزال الناس إلى مستوى الأشياء، بينما تسموا الأشياء (وخاصة المال) فوق مستوى البشر، وتصبح مطلقة القوة تهيمن على حياتنا وتحدد مصائرنا. في عالم الانحطاط الرأسمالي، ازداد الاغتراب إلى درجة لم يسبق لها مثيل في التاريخ.
يدرك معظم الناس الآن أن عالمنا قد صار في الواقع يواجه خطر الدمار، لكن ليس من قبل أمثال المدمر (بأجزائه الثلاثة) أو بسبب سفن الفضاء الشريرة التي ترسلها قوى خبيثة من كوكب زوغ، بل بفعل خطر أقرب بكثير إلى أبوابنا.
الغيوم الداكنة تخيم على البشرية. وعوض التطلع إلى المستقبل بتفاؤل، يسيطر على الناس رعب متزايد من مستقبل العالم.
إن الخوف غير العقلاني من عالم تهيمن عليه كيانات غير إنسانية تستعبد الجنس البشري هو خوف في غير محله، لأن هذه الصور المزعجة هي في الحقيقة انعكاس صحيح للعالم الذي نعيش فيه بالفعل.
في الواقع ، نحن نعيش بالفعل في عالم المدمر. هذا المخلوق المرعب ليس سوى انعكاس مشوه في أذهاننا للواقع الذي يحيط بنا: عالم غريب وغير عقلاني لا يستطيع الناس فهمه.
في مثل هذا العالم، يتراجع التفكير العقلاني ويصبح العقل غير معقول. وكما قال لينين ذات مرة، فإن الذي يقف على حافة هاوية لا يمكنه أن يفكر بعقلانية. في مثل هذا العالم من الأفضل عدم التفكير على الإطلاق. ويعكس إفلاس الفلسفة البرجوازية الحديثة هذه الفكرة بشكل واضح، مثلما هو الحال في التفاهات الفارغة لما بعد الحداثة.
وبدلا من مواجهة المشاكل الحقيقية، نحن مدعوون للذهاب إلى السينما والقلق بشأن أن تأكلنا بعض أسماك القرش المسكينة التي ضلت طريقها ووصلت بالخطأ إلى الشاطئ حيث يسبح البشر. أو بشأن روبوتات مجنونة تستولي على السلطة، أو قوى غير مرئية تتحكم في حياتنا.
الفك، أو احذروا من أسماك القرش على الأرض
من الأشكال الشائعة لأفلام الكارثة، هناك الأفلام عن الحيوانات المتوحشة التي تجد متعة كبيرة (ومصدرا غنيا جدا بالبروتين) في التهام البشر الذين لا حول لهم ولا قوة.
ومن الأمثلة على ذلك سلسلة الأفلام الشهيرة الفك (Jaws)، والتي تلعب دور البطولة فيها سمكة قرش ذات حجم هائل ومستوى غير عادي من الذكاء، ترعب البشر المسالمين الذين يرغبون فقط في قضاء عطلة صيفية ممتعة على شاطئ جزيرة أميتي، قبالة سواحل نيو إنغلاند.
وفي النهاية، بعد العديد من المغامرات المرعبة، يتم التغلب أخيرا على الوحش الشرير. يشعر راكبو الأمواج بالسعادة، ويسعد أكثر وكلاء الأسفار وأصحاب الفنادق والعمدة. كل شيء بخير إذا انتهى بخير…
باستثناء سمكة القرش بالطبع، والتي باعتبارها الشرير في الفيلم تلقى فقط ما تستحقه، أليس كذلك؟ أم هو كذلك؟ أعتقد أن الشاعر كوليردج هو الذي قال إن الأدب هو ”التعليق الطوعي للكفر“[1]. ويصدق هذا بشكل أكيد على أفلام هوليود. نحن مدعوون لترك حسنا النقدي أمام شباك التذاكر، وغالبا ما ينقلب تفكيرنا المنطقي رأسا على عقب.
دعونا نأخذ مثال فيلم الفك (Jaws). هل تعلمون كم عدد البشر الذين تهاجمهم أسماك القرش كل عام؟ تشير المصادر الرسمية إلى حدوث حوالي 441 هجوم مميت لأسماك القرش بين عامي 1958 و2019، وهو الرقم الذي قد يبدو كبيرا، لكنه لا يشكل في المتوسط سوى حوالي سبع حالات وفاة سنويا.
لكن كم عدد أسماك القرش التي قتلها البشر؟ اتضح أن البشر يقتلون ما يصل إلى 100 مليون سمكة قرش كل عام. وهذا يعني أنه يتم قتل 11.416 سمكة قرش في جميع أنحاء العالم كل ساعة. أي حوالي سمكتين إلى ثلاثة أسماك قرش في الثانية. وتستخدم جميع بلدان الصيد الرئيسية ممارسات صيد مدمرة مسؤولة إلى حد كبير عن انخفاض أعداد أسماك القرش في العالم بنسبة 70% على مدار الخمسين عاما الماضية.
إن النظام الرأسمالي يدمر كوكبنا بشكل منهجي، ويسمم الهواء الذي نتنفسه، والطعام الذي نأكله، والماء الذي نشربه. السباق المجنون وراء الأرباح من قبل الشركات العملاقة هو الذي يقضي على الغابات المطيرة في الأمازون، ويلوث المحيطات بالبلاستيك والمواد الكيميائية الضارة الأخرى. إنه يهدد أنواعا كاملة بالانقراض، ليس فقط أسماك القرش بل الجنس البشري نفسه.
الطاعون
قبل أسابيع قليلة على أعياد الميلاد، كانت الطبقة السائدة مبتهجة. كانت الصحف مليئة بالأخبار السارة. لقد انتصر العلم على فيروس كوفيد 19 الشرير. لقد عاد الجميع إلى طبيعته! يعيش اللقاح!
يذكرنا هذا بالشعار الشهير في فيلم الفك (الجزء الثاني):
فقط عندما كنت تعتقد أنه من الآمن العودة إلى الماء…
وكما قال برتولد بريخت ذات مرة: «ذلك الذي يضحك لم يسمع بعد الأخبار السيئة». لم يكد الحبر يجف على الصفحات الأولى للصحف حتى توجب عليهم تغيير العناوين الرئيسية. والآن يتوقع المحللون وفاة ملايين البشر الآخرين بسبب كوفيد 19 في عام 2022.
ظهرت المشكلة عندما برز متحور آخر مثير للقلق، أوميكرون، لأول مرة في جنوب إفريقيا. وفي غضون أسبوعين فقط انتشر المرض إلى جميع بلدان العالم تقريبا، وسرعان ما أصبح المتغير السائد في عدة بلدان، بما في ذلك بريطانيا والدنمارك والنرويج وأجزاء كثيرة من إفريقيا جنوب الصحراء.
لا يوجد شك في أن أوميكرون سيحل قريبا محل دلتا الذي يعتبر المتغير الذي يسبب حاليا معظم الحالات على مستوى العالم. وقد وجدت الدراسة الأولى المستندة إلى بيانات انتشار أوميكرون في بريطانيا أن كل إصابة تميل إلى إنتاج ثلاث إصابات أخرى على الأقل.
يشبه هذا السرعة التي انتشر بها كوفيد في أوروبا خلال الموجة الأولى للجائحة، في أوائل عام 2020، قبل توفر اللقاحات أو فرض الإجراءات المضادة. كان الرد الرسمي للعديد من الحكومات هو الادعاء بأنه على الرغم من انتشار السلالة الجديدة بسرعة مقلقة، فإنها أقل ضراوة من دلتا وأقل احتمالا للتسبب في مرض خطير أو الوفاة، خاصة إذا تم تطعيم الناس.
لكن ومهما كان الأمر، فإن هذا السيناريو الجديد له عواقب وخيمة على العالم بأسره في عام 2022. أخبار التفشي الجديد تسببت على الفور في حدوث انخفاضات حادة في أسواق الأسهم. لقد قلب كل الحسابات المتفائلة السابقة وأدخل مستوى جديدا من عدم اليقين ستكون له تداعيات سلبية، مما يعيق الاستثمار والنمو.
وحتى بدون هذا التطور الجديد، كانت آفاق عام 2022 قاتمة، مع انخفاض مستويات المعيشة وزيادة المصاعب بالنسبة لملايين البشر. والآن سيكون المنظور أسوء بكثير بالنسبة للأغلبية، في حين أن القطط السمينة تزداد سمنة طوال الوقت، وتصبح الهوة بين الأغنياء والفقراء هاوية لا يمكن رأبها. هذه وصفة كاملة لتفجر الصراع الطبقي في كل مكان.
لقد أدت الجائحة العالمية إلى فضح خطوط الصدع العميقة الموجودة في المجتمع. لقد فضحت بقسوة جميع عيوب الرأسمالية، العاجزة بنيويا عن خوض معركة جادة ضد الطاعون الذي يدمر حياة الملايين من الفقراء.
يكرر العلماء التأكيد على أن الطريقة الوحيدة لهزم الجائحة هي ضمان تلقيح كل رجل وكل امرأة وكل طفل على هذا الكوكب. لكن لماذا لم يتم ذلك؟
طالما سُمح للفيروس بالوجود في الأحياء الفقيرة في الهند، أو في قرى إفريقيا، فسيستمر في تطوير طفرات جديدة وأكثر خطورة من أي وقت مضى، والتي ستنتشر بسرعة في جميع البلدان، كما توضح ذلك حالة أوميكرون.
لقد أوجدت الإنجازات العظيمة للعلم والتكنولوجيا الحديثين الأساس المادي لبناء عالم جديد: عالم سيكون فيه الفقر والجوع والبطالة مجرد كوابيس من الماضي. إنها تقدم منظورا لتطور لامحدود للبشرية.
لطالما أكد الماركسيون بأن العائقين الأساسيين أمام التقدم البشري هما، من ناحية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (بمعنى الإنتاج من أجل الربح الخاص، وليس لتلبية احتياجات البشرية)؛ ومن ناحية أخرى ذلك الإرث الوحشي من بقايا البربرية، أي الدولة القومية.
إن ضرورة خطة إنتاج اشتراكية وتخطيط أممي صارت أكثر ملحاحية، وذلك لسبب بسيط هو أن الفيروسات لا تعترف بالحدود الوطنية. فإذا لم تتم إزالة هذه العقبات بالوسائل الثورية، وإلى أن تتم إزالتها، لا يمكن إيجاد حل للمشاكل الأكثر إلحاحا لكوكبنا.
الحل في أيدينا.
الفضاء، الحدود الجديدة
يوم عيد الميلاد ظهر دليل آخر على الإمكانات الهائلة للعلوم والتكنولوجيا، وذلك عندما غادر تلسكوب جيمس ويب الأرض في مهمته لاستكشاف المناطق النائية في الكون.
تلسكوب ويب هو خليفة تلسكوب هابل. لكنه أقوى بكثير من سابقه، أقوى 100 مرة على وجه الدقة. وهذا مهم لأسباب عديدة، لكن ربما يكون الأهم من ذلك كله هو حقيقة أن التلسكوب الجديد سيكون قادرا على اختراق أبعد مناطق الكون المعروف، وبالتالي القدرة على النظر إلى ماض بعيد جدا.
هذا يعني أنه سيكون قادرا على نقل صور للفترة التي يُقال إن النجوم الأولى قد أنهت فيها الظلام الذي، وفقا للنظريات السائدة، غلف الكون بعد فترة وجيزة من الانفجار العظيم، الذي من المفترض أن يكون قد حدث قبل 13,8 مليار سنة.
تم طرح النموذج الكوني الأكثر قبولا على نطاق واسع، والذي يسمى النموذج التضخمي، لأول مرة في أواخر السبعينيات من أجل تفسير التناقضات الموجودة في النظريات السابقة. وهو يؤكد أن الكون قد ولد في انفجار هائل للمادة والطاقة ملأ الكون بأسره في جزيء صغير من الثانية.
يقول عالم الفيزياء الفلكية بجامعة هارفارد، روبرت ب. كيرشنر: «لقد كانت لفكرة التضخم تأثير هائل. ولم يتم العثور على أي ملاحظة تثبت أنها خاطئة». لكنه يضيف: «هذا لا يعني، بالطبع، أنها صحيحة».[2]
في الواقع ما تزال هناك العديد من المشاكل الجدية التي تواجه هذه النظرية، ليس أقلها حقيقة أنها تتعارض مع أحد أكثر قوانين الفيزياء أساسية: أي أن المادة لا يمكن إنشاؤها أو تدميرها.
إن القانون القديم: ex nihilo nihil fit (لا شيء يأتي من العدم) يمثل حجر عثرة خطير أمام أولئك الذين يؤكدون أنه قبل الانفجار العظيم لم يكن هناك أي شيء، لا طاقة ولا مكان ولا زمن. لكن من أجل حدوث مثل ذلك الشيء، ستكون هناك حاجة إلى كميات لا يمكن تصورها من الطاقة. والسؤال هو من أين أتت كل تلك الطاقة؟
لا يمكن أن يكون هناك سوى تفسير واحد فقط، وهو تفسير سيأخذنا بعيدا عن عالم العلم إلى العالم الغامض للدين. ولن يكون أكثر ولا أقل من نسخة حديثة من أسطورة الخلق، كما عبرت عنها الكلمات الأولى من سفر التكوين:
في البدء خلق الله السماء والأرض.
ليس من قبيل المصادفة أن الكنيسة قبلت بنظرية الانفجار العظيم، ولا في أن النسخة الأصلية لها كانت من اخترع القس الكاثوليكي الروماني جورج لوميتر. إلا أنه لدينا الآن أخيرا إمكانية الحصول على دليل واضح لا يمكن دحضه عن مدى صحة النظرية الحالية، والذي هو الدليل الوحيد المهم حقا: دليل الملاحظة الفعلية. ولا شك أن رجال الفاتيكان سيراقبون النتائج باهتمام، كما سيفعل الماركسيون، لكن من وجهة نظر معاكسة.
من المستحيل تحديد ما ستكشفه تلك الملاحظات. من الممكن جدا أن يكون هناك نوع من الانفجار، أو، في الحقيقة، العديد من الانفجارات. لكن ما لن يروه هو بداية الزمن والمكان والمادة، والتي ليس لها بداية ولا نهاية. وما سوف يرونه، بدلا من ذلك، هو كون من النجوم والمجرات، يمتد إلى ما لا نهاية.
هذا ما أؤمن به بعمق بصفتي ماديا. لكن من يدري؟ قد أكون مخطئا. ربما سيرون فعل الخلق كما هو موصوف في سفر التكوين. ومع قليل من الحظ، قد يتمكنون حتى من إلقاء نظرة خاطفة على الإله الخالق نفسه، وهو يعمل بجد لخلق كل شيء من لا شيء في لحظة.
عندها سأضطر إلى القيام بتنبؤ آخر، وهو أن ذلك الكائن الأسمى سيكون بلحية بيضاء متدفقة ويشبه بشكل مذهل تشارلتون هيستون. ولن نواجه أي مشكلة على الإطلاق في التواصل معه، لأنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وبلكنة أمريكية.
كيف لي أن أعرف ذلك؟
الجواب سهل جدا!
لقد رأيته في الأفلام.
لندن 02 يناير 2022
حاشية
وأخيرا: ها هي بعض الأفكار للعام الجديد:
لو كانت أسماك القرش بشرا، بقلم برتولد بريخت
سألت الابنة الصغيرة لمالك العقار السيد ك، قائلة: «لو كانت أسماك القرش بشرا، هل كانت ستكون ألطف مع الأسماك الصغيرة؟».
أجاب:
بالتأكيد، لو كانت أسماك القرش بشرا، لكانت ستبني صناديق ضخمة في المحيط للأسماك الصغيرة، مع جميع أنواع الطعام بداخلها، طعام نباتي وحيواني. ستحرص على أن تحتوي الصناديق دائما على مياه عذبة، وستتخذ عموما جميع التدابير الصحية اللازمة. فإذا ما أصابت إحدى السمكات الصغيرة زعنفتها، على سبيل المثال، ستقوم أسماك القرش بعلاجها، على الفور، حتى لا تموت وتفقدها أسماك القرش قبل الأوان. ولكي لا تصاب الأسماك الصغيرة بالحزن، ستقام احتفالات مائية كبيرة من وقت لآخر، لأن مذاق الأسماك السعيدة ألذ من مذاق الأسماك الحزينة.
بطبيعة الحال، ستكون هناك أيضا مدارس في تلك الصناديق الضخمة. وفي تلك المدارس، ستتعلم الأسماك الصغيرة كيف تسبح نحو فكي القرش. ستحتاج، على سبيل المثال، إلى معرفة الجغرافيا حتى تتمكن من إيجاد أسماك القرش الكبيرة، التي ترقد بكسل في مكان ما. ستكون المادة الرئيسية، بالطبع، هي التربية الأخلاقية للأسماك الصغيرة. سيتم تعليمها أن أفضل وأجمل شيء في العالم هو إذا ضحت الأسماك الصغيرة بنفسها بسعادة، وأن عليها جميعا أن تصدق أسماك القرش، خاصة عندما تقول لها هذه الأخير إنها تصنع لها مستقبلا جميلا. سيتم تعليم الأسماك الصغيرة أن هذا المستقبل غير ممكن إلا إذا تعلمت الطاعة. يتوجب على الأسماك الصغيرة أن تحذر، على وجه الخصوص، من جميع التيارات المادية والفردانية والماركسية، وإذا اتضح أن إحداها تتبنى مثل تلك النزعات، فسيتعين على الأسماك الأخرى إبلاغ أسماك القرش بذلك على الفور.
لو كانت أسماك القرش بشرا، لكانت بالطبع ستشن حروبا ضد بعضها البعض، من أجل غزو الصناديق الأخرى والأسماك الصغيرة الأخرى. ستشن أسماك القرش الحروب بأسماكها الصغيرة. وسوف تعلم أسماكها الصغيرة أن هناك فرقا هائلا بينها وبين الأسماك الصغيرة التي تنتمي إلى أسماك القرش الأخرى. سيعلنون أن الأسماك الصغيرة معروفة جيدا بأنها غبية، لكنها صامتة بلغات مختلفة تماما، وبالتالي لا يمكن لأحدها أن يفهم الآخر. وستحصل كل سمكة صغيرة تمكنت في الحرب من قتل سمكتين صغيرتين أخريين، من أسماك العدو، الصامتة بلغتها الخاصة، على ميدالية صغيرة مصنوعة من الأعشاب البحرية وستمنح لقب بطل.
لو كانت أسماك القرش بشرا، لكان بالطبع هناك فن أيضا. ستكون هناك صور جميلة، يتم فيها تصوير أسنان أسماك القرش بألوان رائعة وتصوير فكها كحدائق للمتعة الخالصة، حيث يمكن للمرء أن يتجول بسعادة. ستُظهر مسارح قاع البحر الأسماك الصغيرة وهي تندفع بحماس بطولي إلى فكي أسماك القرش، وستكون الموسيقى جميلة جدا لدرجة أنه بتأثير نغماتها، ستتدفق الأسماك الصغيرة، تقودها الأوركسترا، إلى فك أسماك القرش حالمة ومخدرة بأفكار لطيفة.
لو كانت أسماك القرش بشرا، فسيكون هناك أيضا دين، من شأنه أن يعلم الأسماك الصغيرة أنها لا تبدأ حقا في العيش بشكل صحيح إلا بعد أن تصير في معدة أسماك القرش.
وعلاوة على ذلك، لو كانت أسماك القرش بشرا، فلن تبقى الأسماك الصغيرة متساوية، كما هو الحال الآن. ستُمنح للبعض مناصب مهمة وتوضع فوق الأخريات. بل وسوف يسمح لتلك الأكبر بقليل بتناول الأسماك الأصغر. وسيكون ذلك ملائما تماما لأسماك القرش، لأنها هي نفسها ستحصل غالبا على النصيب الأكبر. وستعمل الأسماك الصغيرة الأكبر، التي تشغل مناصبها، على ضمان النظام بين الأسماك الصغيرة، فتصبح أساتذة وضباطا ومهندسين لبناء صناديق الأسماك، إلخ.
وباختصار، سيبدأ البحر في التحضر لو كانت أسماك القرش بشرا.[3]
آلان وودز، 04 يناير/ كانون الثاني 2022
هوامش:
1: ”التعليق الطوعي للكفر“ مصطلح استعمله الشاعر الانكليزي صموئيل تايلور كوليردج وقصد به تجنب المرء، بشكل متعمد، للتفكير النقدي في موضوع ما (عمل أدبي، مسرحي، الخ)، من أجل تصديقه لتحقيق المتعة. المترجم.
2: National Geographic News, 25 April 2002
3: Excerpts from Stories of Mr Keuner
ترجم عن النص الأصلي: