كومونة باريس (1871)

تمت ترجمة هذا النص عن الترجمة الإنجليزية للمقالة الأصلية التي نشرتها منظمة “الثورة” (الفرع الفرنسي للتيار الماركسي الأممي)، تعرض هذه المقالة فكرة عامة عن كومونة باريس: صعودها البطولي ونهايتها المأساوية والدروس المستخلصة منها للثوريين اليوم. ونعيد نشرها على موقعنا بعد دنشرناها سابقا في العدد الثامن من مجلة “الشيوعية والحرية”، المجلة العربية للتيار الماركسي الأممي.


تمثل أحداث كومونة باريس واحدة من أعظم المحطات في تاريخ الطبقة العاملة الفرنسية، فما بين انتفاضة الثامن عشر من شهر مارس/آذار وأحداث الأسبوع الدامي في أواخر شهر مايو/أيار، تم إدارة السلطة في باريس من قبل قيادة عمالية ديمقراطية، حيث حاولوا إعادة هيكلة المجتمع على أسس جديدة دون أي استغلال أو اضطهاد، وتبقى الدروس التي يمكن الخروج بها من تلك الأحداث وثيقة الصلة بواقعنا الحالي.

قبل 20 عاما عن أحداث الكومونة، كان قد استولى نابليون الثالث على السلطة عن طريق انقلاب عسكري في الثاني من ديسمبر/كانون الأول عام 1851. في البداية بدا أن حكمه راسخاً لا يتزعزع، فقد تم قمع كل المنظمات العمالية، ولكن في السنوات الأخيرة من ستينات القرن التاسع عشر ضعف النظام الإمبراطوري بسبب انكماش معدلات النمو الاقتصادي وتداعيات الحروب (في إيطاليا وشبه جزيرة القرم والمكسيك) ونهوض الحركات العمالية، لم يكن هناك مفر من حرب جديدة -ونصر سريع- ليؤخروا سقوط “نابليون الصغير”، وفي يوليو 1870 أعلن نابليون الحرب على بروسيا البسماركية.

الحرب والثورة

تقود الحرب في الكثير من الأحيان إلى الثورة، ولهذا سبب وجيه: فالحرب تنتزع الناس من روتين حياتهم اليومية وتلقي بهم في ساحة الأحداث التاريخية الكبرى، وتتابع جموع الشعب تصرفات قادة الدولة والقيادات العسكرية والسياسيين باهتمام أكبر من أوقات السلام، ويكون هذا الواقع حقيقيا بشدة خاصة في حالة حدوث هزيمة. على كل حال مُنيت الحملة العسكرية التي أطلقها نابليون الثالث بالفشل الذريع، وفي الثاني من سبتمبر/أيلول، تم أسر الإمبراطور ومعه 75 ألف جندي من قبل جيش بسمارك بالقرب من سيدان، وفي باريس انطلقت احتجاجات هائلة للمطالبة بإنهاء الإمبراطورية وإعلان الجمهورية الديموقراطية.

وتحت ضغط الجماهير في الشوارع، أعلنت قوى المعارضة الجمهورية “المعتدلة” تأسيس الجمهورية في الرابع من سبتمبر/أيلول، وتشكيل حكومة “دفاع وطني”، وأعلن وزير الخارجية والبرجوازي الجمهوري جول فافر بأسلوبه الطنان بأنه لن يتم التنازل عن “أي انش واحد من أرضنا أو أي حجر من قلاعنا” للبروسيين.

طوقت القوات الألمانية باريس بسرعة، ووقعت المدينة تحت الحصار. في البدء، قدمت الطبقة العاملة الباريسية الدعم للحكومة الجديدة تحت شعار “وحدة الصف” في مواجهة العدو الخارجي، ولكن الأحداث اللاحقة عملت على تهشيم تلك الوحدة وألقت الضوء على المصالح الطبقية المتضاربة التي كانت تخفيها.

في الحقيقة، لم تؤمن حكومة الدفاع الوطني تلك بإمكانية الدفاع عن باريس ولم ترغب حتى في ذلك، وبالإضافة للجيش النظامي أعلن الحرس الوطني، وهو مكون من قوات شعبية قوامها 200 ألف مقاتل، عن جهازيته للدفاع عن المدينة. لكن في الحقيقة شكل العمال المسلحين داخل باريس خطرا أكبر بكثير على مصالح الرأسماليين الفرنسيين أكثر من أي تهديد يمثله وجود قوات أجنبية على الأبواب.

الحكومة كانت ترى أنه من الأفضل إعلان الاستسلام المشروط بأقصى سرعة ممكنة لبسمارك، ولكن نظراً للروح النضالية للحرس الوطني لم تستطع الحكومة الإعلان عن نواياها. واعتمد الوزير والقائد العسكري الفرنسي تروشو على الأثار الاقتصادية والاجتماعية للحصار لكسر مقاومة العمال البارسيين، وبينما كان يعلن نفسه بأنه الشخص الأمثل للدفاع عن باريس، بدأ في مفاوضات سرية مع بسمارك وذلك من أجل كسب المزيد من الوقت لصالح الحكومة.

زادت عداوة العمال البارسيين اتجاه الحكومة مع مرور الأسابيع، وانتشرت الشائعات عن المفاوضات مع بسمارك، وأطلق سقوط مدينة متز في الثامن من شهر أكتوبر/تشرين الأول الشرارة لتظاهرات حاشدة جديدة. وفي 31 من شهر أكتوبر/تشرين الأول هاجمت عدة فرق من الحرس الوطني مبنى البلدية واستولت عليه لفترة مؤقتة. لكن في تلك اللحظة لم يكن العمال مستعدين بعد لمهاجمة الحكومة بشكل حازم، وبسبب العزلة، فقد العصيان المسلح زخمه بشكل سريع.

كانت عواقب الحصار على باريس كارثية، وأصبح كسره مهمة ملحة. وبعد فشل عملية الانسحاب لقرية بوزنفال في 19 يناير/كانون الثاني 1871، لم يكن أمام الجنرال تروشو سوى الاستقالة. وحل فينوي محله، وأعلن بشكل فوري بأنه أصبح من المحال هزيمة البروسيين، وأصبح من الواضح للجميع إن الحكومة تريد الاستسلام المشروط، وهذا ما فعلته في 27 يناير/كانون الثاني.

الباريسيون والفلاحون

أعطت أصوات الفلاحين في انتخابات الجمعية الوطنية في شهر فبراير الغالبية العظمى للمرشحين المناصرين للمَلكية والمحافظين، وعينت الجمعية الجديدة ادولف تيير -وهو ذو سياسة رجعية صارمة- رئيسا للحكومة، وأصبح الصراع بين باريس والجمعية “الريفية” أمرا محتوما. لكن ظهور خطر القوى المضادة للثورة أعطى المزيد من الزخم للثورة الباريسية. تضاعفت التظاهرات المسلحة للحرس الوطني مدعومة بشكل كبير من قبل الطبقات الأفقر من السكان، وشجب العمال المسلحون تيير وأنصار المَلكية وأعلنوهم خونة ودعوا إلى “حرب شاملة” للدفاع عن الجمهورية.

استفزت الجمعية الوطنية الباريسيين بشكل مستمر، فقد وضع الحصار الكثير من العمال في صفوف العاطلين. وقد كانت التعويضات التي يتم دفعها للحرس الوطني هو كل ما يحول دون حدوث المجاعة. رغم ذلك فقد امتنعت الحكومة عن دفع المخصصات لأي فرد من الحرس لا يستطيع إثبات عدم مقدرته على العمل، وأمر تيير بضرورة سداد كل الديون والإيجارات المتأخرة خلال 48 ساعة، وقد كان وقع تلك السياسات وغيرها أشد بشكل خاص على الطبقات الأفقر، ولكنها أدت أيضًا إلى تثوير الطبقات الوسطى.

أدى استسلام الحكومة لبسمارك والتهديد بإحياء النظام الملكي إلى تحول في الحرس الوطني. تم انتخاب “اللجنة المركزية للحرس الوطني”، ومثلت تلك اللجنة 215 كتيبة مجهزة بـ 2000 مدفع و450 ألف بندقية، وتم إقرار تشريعات جديدة لضمان “الحق المطلق للحرس الوطني لانتخاب قياداته وعزلهم فور خسارتهم لثقة ناخبيهم”، وقد سبقت تلك اللجنة المركزية في الشكل والهيكل القاعدي على مستوى الكتيبة سوفيتات العمال والجنود التي ظهرت خلال الثورتين الروسيتين في عام 1905 و1917.

حصلت القيادة الجديدة للحرس الوطني على الفرصة لاختبار سلطاتها بشكل فوري. بينما كان الجيش البروسي يستعد للبدء في اقتحام باريس، تجمع عشرات الألاف من سكان باريس المسلحين بنية مهاجمة القوات الغازية، فتدخلت اللجنة المركزية لمنع نشوب معركة لم يكن تم الاستعداد لها بعد، وقد أظهرت قدرة اللجنة على فرض قرارها في تلك المسألة أن سلطتها كان مُعترفا بها من قبل غالبية الحرس الوطني وسكان باريس. تلى ذلك احتلال القوات البروسية لجزء من المدينة لمدة يومين ثم انسحابها.

18 مارس

أعطى تيير وعده “للأعضاء الريفيين” في الجمعية بإعادة إحياء المَلكية. لكن مهمته الملحة كانت هي ضرورة وضع نهاية لحالة “ازدواجية السلطة” الموجودة في باريس. فقد مثلت المدافع الخاصة بالحرس الوطني -خاصة تلك الموضوعة في مرتفعات مونمارتر- تهديدا ضد “النظام” الرأسمالي. في 18 مارس على الساعة الثالثة صباحًا تم تعبئة 20 ألف من الجنود وقوات الدَرك وإرسالهم، تحت قيادة الجنرال ليكومت، للاستيلاء على تلك المدافع، وقد تم تأدية تلك المهمة دون أي صعوبة لكن قيادات الحملة لم تأخذ في اعتبارها جلب الوصلات الضرورية لتعشيق المدافع قبل نقلها، وحتى الساعة 7 صباحًا لم يكن قد وصل الفريق الخاص لنقل المدافع بعد. وقد وصف ليپيليتير في كتابه “تاريخ الكومونة” ما حدث بعد ذلك:

بعدما انطلقت أصوات الإنذار بوقت قصير سمعنا الطبول في شارع كليونكور تدوي بإيقاع السير العسكري. وبسرعة كأنه تغير في مشاهد المسرح: امتلأت كل الشوارع التي تقود إلى التل بحشود صاخبة، كونت النساء أغلبها وكان هناك أطفال أيضًا، ومعهم عدد من أفراد الحرس الوطني مدججين بالسلاح بشكل منعزل، وكانوا كلهم متجهين ناحية شاتو روج.

حاصرت الحشود المتزايدة باستمرار الجنود. وسرعان ما اشتبك سكان الحي وأفراد الحرس الوطني مع رجال ليكومت، وبدأت علامات التضامن بين بعض الجنود والحرس بشكل علني. في محاولة بائسة ليستعيد الجنرال سيطرته ويؤكد سلطته، أمر ليكومت رجاله بإطلاق النار على الحشود، ولكن لم يطلق أحد النار، فتبادل الجنود وأفراد الحرس الوطني هتافات الفرح والعناق. بعدها بقليل ألقي القبض بشكل سريع على ليكومت وكليمنت توماس وتم إعدامهم من قبل الجنود الغاضبين. فقد كان معروفا عن كليمنت توماس قيامه بإطلاق النار على العمال المتمردين في يونيو سنة 1848.

لم يتوقع تيير حدوث انشقاق بين قواته، فأصابه الهلع وهرب من باريس، وأمر الجيش والحكومة بإخلاء باريس والحصون المحيطة بها. كان كل همه إبقاء الجيش بعيدًا عن “العدوى الثورية”، انسحب بعض الجنود -وبعضهم أعلن العصيان بشكل علني، وهتفوا بالشعارات الثورية- بشكل غير منظم إلى فرساي.

ومع انهيار أجهزة الدولة القديمة في باريس، استطاع الحرس الوطني السيطرة على كل المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية في المدينة دون حدوث أي مقاومة تُذكر. لم تلعب اللجنة المركزية أي دور في تلك الأحداث وبالرغم من ذلك اكتشفت اللجنة إنها أصبحت -بالرغم عنها- الحكومة الجديدة الممثلة للنظام الثوري بحكم الأمر الواقع وذلك بفضل القوة المسلحة للحرس الوطني.

تذبذب اللجنة المركزية

رأى غالبية أعضاء اللجنة المركزية أن أول مهمة لهم هي ضرورة التخلص من السلطة، فهم قالوا نحن لا نملك “تفويضا قانونيا” للحكم! وبعد العديد من المناقشات الطويلة، وافقت اللجنة المركزية على مضض على البقاء في مبنى البلدية “لأيام قليلة” يتم خلالها تنظيم الانتخابات المحلية (الخاصة بالكومونة).

مثلت مسألة الجيش، الذي كان مازال في طريقه لفرساي تحت قيادة تيير، بالنسبة للجنة المركزية معضلة يجب النظر إليها بشكل فوري. اقترح اود ودوفال ضرورة زحف الحرس الوطني بشكل فوري اتجاه فرساي، لكسر ما تبقى من القوات تحت إمرة تيير، لكن لم ينصت إليهم أحد. واعتبر أغلب أعضاء اللجنة المركزية أنه من الأفضل “ألا يظهروا كمعتدين”. كانت اللجنة المركزية تتكون في أغلبيتها من رجال شرفاء ولكنهم كانوا معتدلين، معتدلين للغاية.

تم استهلاك طاقة اللجنة المركزية في مفاوضات حول موعد وشروط الانتخابات المحلية، واستقروا أخيرًا على يوم 28 مارس. تيير استخدم هذا الوقت الثمين المهدر لصالحه، فبمساعدة بسمارك تم تعزيز الجيش المقيم في فرساي بالجنود والعتاد من أجل بدء الهجوم على باريس.

وفي عشية الانتخابات، أعلنت اللجنة المركزية للحرس الوطني بيانا استثنائيا يلخص كل قيم التضحية بالذات والنزاهة التي ميزت النظام الجديد:

لقد انتهت مهمتنا، سنتيح المكان في مبنى البلدية الخاص بنا جميعًا لممثليكم المنتخبين الجدد، لممثليكم الدوريين.

وكانت للجنة المركزية توصية واحدة لإعطائها للناخبين:

لا تنسوا حقيقة أن الرجال الذين سيخدمونكم بالشكل الأفضل هم هؤلاء الذين ستختارونهم من بينكم، الذين يعيشون نفس حياتكم ويعانون من نفس مصائبكم، احذروا من الطامحين ومحدثي النعمة […] احذروا من كثيري الكلام قليلي الأفعال […].

برنامج الكومونة

حلت الكومونة المنتخبة جديدًا محل قيادة الحرس الوطني كحكومة رسمية لباريس الثورية، ويمكن توصيف الأغلبية من أعضائها التسعون بكونهم “جمهوريين يساريين”. مثل مناضلو الرابطة الأممية للعمال (تحت قيادة كارل ماركس وآخرون) والبلانيكيين (أناس نشطاء لكنهم مشوشون من الناحية السياسية) معا ربع الأعضاء المنتخبين من الكومونة، أما القليل من الأعضاء المحسوبين على الجناح اليميني فقد استقالوا من مناصبهم تحت مزاعم مختلفة.

تحت إدارة الكومونة تم نزع كل الامتيازات الخاصة بالمناصب العليا لمسؤولي الدولة. بشكل خاص تم وضع تشريعات للحد من رواتبهم بحيث لا تزيد عن رواتب العمال المهرة، وكان من الممكن أيضا عزلهم في أي وقت.

تم تجميد تحصيل الإيجارات ووضعت المصانع المهجورة تحت سيطرة العمال، واُتخذت الإجراءات الضرورية للحد من ساعات العمل الليلية وضمان توفير الإعاشة الضرورية للفقراء والمرضى. أعلنت الكومونة بوضوح عن رغبتها في “القضاء على المنافسة الفوضوية والمخربة بين العمال والتي تفيد فقط الرأسماليين”. وتم فتح صفوف الحرس الوطني لكل الرجال الملائمين للخدمة العسكرية وتم تنظيمه على أسس ديمقراطية صارمة، وتم إعلان الجيوش النظامية “المنفصلة عن الشعب” مؤسسات غير شرعية.

فُصلت الكنيسة عن الدولة وأصبح الدين “مسألة شخصية “. تمت مصادرة المنازل والمباني العامة من أجل إسكان المشردين، وتم توفير التعليم العمومي لجميع الناس وفُتحت لهم أيضا الأماكن الخاصة بالثقافة والعلم. أصبح ينظر إلى العمال الأجانب بصفتهم حلفاء في النضال من أجل “الجمهورية العالمية”. عقدت الاجتماعات ليلا ونهارا، ناقش فيها الآلاف من الرجال والنساء العاديين كيفية إدارة وتنظيم الجوانب المختلفة للحياة الاجتماعية من أجل “المصلحة العامة”. من الواضح إن السمات الرئيسية للمجتمع الجديد قيد التشكل في باريس تقوم على المبادئ الاشتراكية.

الهزيمة

يصح القول بأن الكومونيين قد ارتكبوا العديد من الأخطاء. لامهم كل من ماركس وانجلز -وهما محقان في ذلك- على عدم الاستيلاء على بنك فرنسا، الذي استمر في توفير الملايين من الفرنكات لتيير، والتي استخدمها جيدا في تسليح وإعادة تنظيم صفوف قواته.

ارتكبت الكومونة خطأ فادحا آخر فهي قللت من أهمية الخطر القادم من فرساي بشكل كبير. فهي لم تكتفي فقط بعدم محاولة الهجوم على فرساي -على الأقل حتى الأسبوع الأول من شهر ابريل- لكنها لم تجهز بشكل جدي الدفاعات اللازمة ضد أي هجوم محتمل. وفي الثاني من أبريل تمت مهاجمة فصيل من قوات الكومونة وهو متجه إلى كوربفوا وتم إجباره على التراجع إلى باريس، وأعدمت قوات تيير الأسرى. في اليوم التالي وتحت الضغط من الحرس الوطني أطلقت الكومونة هجومها على فرساي، ولكن رغم حماسة كتائب الكومونة، حكمت قلة الخبرة العسكرية والاستعداد السياسي على الحملة المتأخرة بالفشل، فقد اعتقد قادة الكومونة بأن الجيش الخاص بفرساي سينضم للكومونة بمجرد مشاهدته للحرس الوطني كما حدث في 18 مارس، ولكن هذا لم يحدث.

تسببت تلك النكسة في اجتياح الروح الانهزامية عموم باريس. فقد حل الشعور بالهزيمة الحتمية محل التفاؤل الحماسي للأسابيع الأولى من عمر الكومونة، وبرزت الانقسامات الموجودة في كافة مستويات القيادة العسكرية. وفي 21 مايو دخل جيش فيرساي باريس، وفي تلك اللحظة الهامة افتقدت الكومونة أي خطة استراتيجية جدية. بكل بساطة اختفت وتخلت عن كل مسؤولياتها لصالح لجنة الأمن العام عديمة الجدوى.

تمركزت قوات الحرس الوطني “في ثكناتها” دون وجود أي قيادة مركزية. ساهم هذا القرار في منع تركيز جهود قوات الكومونة لصد هجوم قوات فرساي. قاتلت الكومونيون بشجاعة كبيرة، ولكن تدريجيا تم دفعهم للجزء الشرقي من المدينة وفي النهاية هُزموا في 28 من مايو. تم إطلاق النار على أخر المقاومين من الكومونة في الدائرة العشرين في باريس على حائط الكومونة، والذي يمكن مشاهدته حتى الآن في مقبرة بير لاشيز. قتلت قوات تيير ما لا يقل عن 30 ألف من الرجال والنساء والأطفال فيما عُرف “بالأسبوع الدامي”، وقتلوا ما يعادل 20 ألف ضحية في الأسابيع التالية.

الدولة العمالية

مثلت كومونة باريس أول حكومة عمالية في التاريخ. في كتابه “الحرب الأهلية في فرنسا” قال ماركس إن أحداث الكومونة أثبتت الآتي: “لا يجب أن يكتفي العمال بالاستيلاء على أجهزة الدولة القائمة وإدارتها كما هي، فالشرط الأول للحفاظ على السلطة السياسية هو تحطيم أداة السلطة الطبقية”. حاول عمال الكومونة بناء الدولة الجديدة -الدولة العمالية- على أنقاض الدولة الرأسمالية في باريس، وأثناء قيامهم بذلك وضعوا السمات الأساسية للدولة العمالية: لا توجد بيروقراطية، لا يوجد جيش نظامي منفصل عن الشعب، لا توجد امتيازات للمسؤولين، حق عزل وانتخاب المسؤولين، وغيرها.

لم يملك عمال الكومونة الوقت لتعزيز سلطتهم، وساهمت عزلتهم -في فرنسا الريفية بشكل كبير في ذلك الوقت- في تلك النهاية المحتومة. ولكن اليوم، على العكس من ذلك، فإن أغلبية المجتمع من العمال المأجورين. الأسس الاقتصادية للثورة الاشتراكية أكثر نضجا مما كانت عليه في القرن التاسع عشر. هذه هي المهمة التي تركت لنا، أن نخلق المجتمع الاشتراكي الديمقراطي الحر الذي ناضل وقُتل من أجله عمال الكومونة.

13 مارس/آذار 2021

ترجم عن النص الأصلي:

The Paris Commune (1871)