يشكل مسلسل “تروتسكي”، الذي تبثه قناة نتفليكس¹، والذي أنتجه التلفزيون الحكومي الروسي، تشويها فضيعا لحياة تروتسكي ولثورة أكتوبر في نفس الآن. وفي هذا المقال يرد آلان وودز وجوش هوليرود على هذه الصورة المهينة لتروتسكي ولإرث البلاشفة.
إشارة من آلان وودز: ما هي أسوء طريقة لتخليد الثورة الروسية!
«إذا قلت كذبة كبيرة بما فيه الكفاية ثم كررتها مرارا فسيتم تصديقها» – جوزيف غوبلز (وزير الدعاية في حكومة هتلر)
في 07 نوفمبر 2017، تحدثت في لقاء نظم بمتحف تروتسكي في مدينة مكسيكو بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية لثورة أكتوبر، إلى جانب صديقي ورفيقي إستيبان فولكوف، حفيد الثوري الروسي العظيم ليون تروتسكي. وكان على المنصة أيضا السفير الروسي في المكسيك آنذاك، إدوارد مالايان. وخلال خطابي، أشرت إلى أنه كان من المفارقة أن يتم الاحتفال بثورة أكتوبر في كل بلدان العالم، باستثناء روسيا.
أحيانا يكون الصمت أكثر بلاغة من الكلمات. وحقيقة أن الذكرى المئوية لثورة أكتوبر قد مرت وسط صمت تام من جانب وسائل الإعلام الرسمية في فدرالية روسيا توضح لنا كل ما نحتاج إلى معرفته بخصوص موقف الطغمة الحاكمة حاليا في الكرملين تجاه أعظم حدث في التاريخ. إن هؤلاء الناس مخلوقات الثورة المضادة الرأسمالية وهم ينظرون إلى ماضي روسيا الثوري بكراهية وحقد واضحين، وهو ما يعكس في نهاية المطاف خوفهم العميق.
وردا على ملاحظاتي، صرح السفير بأن بلده لم تنس الثورة الروسية، وأنه “لا يوجد أحد في روسيا لا يعرف أن تروتسكي كان ثوريا عظيما”. ولدعم قوله أوضح أن التلفزيون الروسي بصدد إعداد سلسلة حول تروتسكي.
ليس لدي أي سبب للشك في حسن نية السفير. بل لقد فاجأتني نزاهته وعلاقته الجيدة مع متحف تروتسكي ومع إستيبان فولكوف. لكن من الواضح كذلك أنه، مثله مثل الغالبية العظمى من مواطني فدرالية روسيا، لا يمتلك سوى معرفة بسيطة بأفكار تروتسكي والدور الذي لعبه. بل حتى ما قاله عن لينين والحزب البلشفي لم يكن دقيقا جدا. لكن لكي نكون منصفين علينا أن نقول بأن الرجل لم يكن مؤرخا بل هو دبلوماسي محترف.
قبل ذلك ببضعة أشهر كان إستيبان فولكوف قد تلقى طلبا من شركة روسية لتصوير فيلم داخل متحف تروتسكي، الذي هو في الأصل المنزل الذي عاش فيه تروتسكي والمكان الذي قتل فيه على يد عميل ستاليني في 20 غشت 1940.
وصف المخرجون هدفهم على النحو التالي (أقتبس من المراسلات): “فيلم وثائقي حول مائة عام عن ثورة أكتوبر وأثرها على المستوى العالمي”.
كان من المفترض أن يكون البرنامج “جزءا من النقاش الدائر حول تأثير ثورة أكتوبر في أمريكا اللاتينية”، لكن لم يرد أي ذكر للطبيعة الحقيقية للمسلسل التلفزيوني المزمع إصداره عن تروتسكي.
طلب إستيبان نسخة من سيناريو البرنامج، الذي تم إرساله إليه باللغة الروسية. لقد نسي حفيد تروتسكي اللغة الروسية منذ زمن بعيد، بحيث لم يعد يستطيع لا التحدث ولا القراءة بها، لكن وبمساعدة خدمة الترجمة في محرك غوغل، سرعان ما أصبح واضحا له ماذا كانت نية المؤلفين. لم تكن لديه، في تلك المرحلة، أي فكرة عن أن هذا النص كان يمثل الخطوة الأولى في إطلاق أكبر حملة افتراء لتشويه ذكرى جده. لكنه عرف بالفعل ما يكفي لكي يقرر رفض إعطاء الإذن بالتصوير داخل المتحف.
في 03 فبراير 2017، كتب إلى السفير:
إلى السفير إدوارد مالايان
«السيد السفير،
أنا بحاجة إلى التشاور معك، لقد تلقيت طلبين للتصوير، لكني لست متأكدا من جدية ما يقترحونه، [لكن] التزامي الأخلاقي هو الحفاظ على الحقيقة التاريخية.
أبعث إليكم بالنص المقترح الذي أرسلوه لي، والذي لا علاقة له بالحقيقة التاريخية.
مع تحياتي.
إستيبان فولكوف»
الجبهة الشعبية لمزيفي التاريخ
المسلسل المصغر Trotsky، الذي أخرجه ألكساندر كوت وكونستانتين ستاتسكي، ظهر لأول مرة على القناة التليفزيونية الشعبية الأولى في فدرالية روسيا، في نوفمبر 2017. هذه القناة المملوكة للدولة تتبع بشكل كامل خط الكرملين. ليس هناك أي شك على الإطلاق في أن قرار شن الحملة ضد تروتسكي قد تم بموافقة كاملة من فلاديمير بوتين وبمبادرة شخصية منه على الأرجح.
لا يخفى بوتين كراهيته للينين والبلاشفة، الذين اتهمهم بوضع “قنبلة موقوتة” في أساسات الدولة الروسية. لكنه مضطر إلى توخي الحذر في هجماته على لينين، الذي يحظى باحترام ملايين الناس في روسيا. وقد اضطر، على مضض، إلى نفي أي نية لدى الحكومة في إخراج جثة لينين من قبر الساحة الحمراء، محذرا من “أي خطوات من شأنها أن تقسم المجتمع”.
لكن عندما يتعلق الأمر بتروتسكي، لا يجد سيد الكرملين نفس تلك القيود، وبالتالي يصير بإمكانه أن ينفث بحرية كل كراهيته وحقده ضد الثورة. ولتنفيذ هذه المهمة المشؤومة لا توجد حدود للافتراءات أو الأكاذيب. لكن الأمر الواضح هو أن الهدف الحقيقي ليس تروتسكي فحسب، بل لينين والحزب البلشفي وثورة أكتوبر نفسها.
ومن خلال سيطرته الاحتكارية على التلفزيون الحكومي، تمكن بوتين من إيصال هذه السموم إلى منازل ملايين المواطنين الروس، الذين ظلوا لعقود من الزمن يتغذون على نفس الحساء من الأكاذيب حول دور تروتسكي، بحيث لم تعد لديهم أي وسيلة للتحقق من الوقائع بأنفسهم. ويعتمد المزيفون بشدة على هذا الواقع، إذ يمكنهم بثقة تامة تكرار أكثر الأكاذيب فظاعة، وهم يعلمون أنه إذا رميت ما يكفي من القذارة فلا بد أن بعضها سيلتصق. وما لدينا هنا قذارة تكفي لملء العديد من الشاحنات الكبيرة.
بالرغم من الحملة الصاخبة لوسائل الإعلام في الغرب حول “التدخل” الروسي في كل شيء يحدث، بدءا من انتخاب دونالد ترامب إلى سوء الأحوال الجوية وانتشار موجة البرد. و “نشر أخبار كاذبة” لتضليل الرأي العام. لكن الآن، وكما لو بفعل السحر، تلاشت جميع الشكوك المتعلقة بمصداقية الأفكار التي ينشرها الإعلام الروسي وبدأت Netflix تشيد بسلسلة تروتسكي، التي أوحى بها الكرملين. / صورة: fair use
كان هذا سيئا بما فيه الكفاية، لكن الأمور أصبحت أكثر خطورة بالفعل عندما أعلنت شركة الترفيه الأمريكية العملاقة Netflix أنها قررت بث المسلسل عالميا وبلغات مختلفة. يبدو هذا غريبا جدا. فمنذ مدة انخرطت وسائل الإعلام في الغرب في حملة صاخبة تسعى لإلقاء اللوم على روسيا في كل شيء يحدث، بدءا من انتخاب دونالد ترامب إلى سوء الأحوال الجوية وانتشار موجة البرد. يتهمون الدولة الروسية بالتدخل في شؤونهم الداخلية (كما لو أنهم لا يتدخلون في شؤون الآخرين).
ويتهمون روسيا، على وجه الخصوص، بـ “نشر أخبار كاذبة” لتضليل الرأي العام. لكن الآن، وكما لو بفعل السحر، تلاشت جميع الشكوك المتعلقة بمصداقية الأفكار التي ينشرها الإعلام الروسي مثلما تتلاشى فقاعات الصابون في الهواء. وبدأت Netflix تشيد بسلسلة تروتسكي، التي أوحى بها الكرملين، كما لو أنها المن وقد نزل من السماء.
يبدو أن هذه ليست أخبارا مزيفة، بل هي، على العكس من ذلك، نظرة جديدة رائعة داخل عقل ذلك الثوري المتوحش. وفي الوقت الذي بدأت فيه الأفكار الاشتراكية (وحتى الماركسية) تحقق عودة غير مرحب بها إلى الحياة السياسة الأمريكية، فإن هذه السلسلة تمثل في الحقيقة وسيلة جاءت في الوقت المناسب للتذكير بشرور الاشتراكية والشيوعية. ليس هناك في الواقع وقت أفضل من هذا!
قبل بضعة أيام أرسل لنا إستيبان الرسالة الإلكترونية التالية:
«عزيزي آلان وآنا:
لقد كان كافيا بالنسبة لي أن اشاهد الحلقة الأولى من تلك الصورة الكاريكاتورية المبتذلة عن تروتسكي، والتي ابتكرها ألكساندر كوت وكونستانتين ستاتسكي، لكي أكون رأيا واضحا عن هذه السلسلة البائسة.
يمكنني أن أقسم على حقيقة أن هذه الصورة هي أبعد ما يكون عن حقيقة جدي. إنني أتذكره جيدا انسانا يتمتع بذكاء استثنائي، انسانا اتسمت حياته بأكملها بالتفاني التام والمطلق لقضية النضال من أجل الاشتراكية. وهو النضال الذي حدد بشكل كامل شخصيته.
وفي حياته الشخصية كان كريما ومراعيا، ومستعدا دائما ليشرح للرفاق بصبر ويكونهم سياسيا، وكانت روحه تشع بالحيوية والتفاؤل، وبروح مرحة، لقد كان يخلق جوا مرحا ودافئا في بيئته. كان يشتغل بنشاط لا ينضب، ولم يضيع ولو دقيقة من حياته.
لكن أكثر ما أثار إعجابي هو اقتناعه المطلق والثابت بالنصر الحتمي للاشتراكية وبمستقبل البشرية.
أما بالنسبة للحلقة الأخيرة، التي تتناول اغتيال جدي، يقف كوت وستاتسكي باعتبارهما أكبر مزيفين للحقيقة التاريخية في تاريخ السينما. كما تظهر نتفليكس انعداما تاما للمسؤولية بنشرها لتاريخ مزيف على نطاق واسع.
لقد أثبتت الحكومة المكسيكية منذ زمن بعيد وبطريقة دقيقة لا يمكن دحضها الزيف التام للرواية المقدمة في المسلسل، عندما قامت بعد أيام من الجريمة بإعادة تمثيل عملية الاغتيال في حديقة منزل ليون تروتسكي. جلس محقق الشرطة المكسيكية، خيسوس فاسكيز، على كرسي بينما قام القاتل رامون ميركادر (“جاكسون”) بإعادة تمثيل الجريمة، إذ وقف وفي يده اليمنى صحيفة مطوية وأظهر كيف ضرب ليون تروتسكي على رأسه من الخلف. لذلك لا يمكن أن يكون هناك أي شك حول وقائع القضية.
من أين حصل كوت وستاتسكي على قصة المعركة المزعومة التي تدعي أنه كان هناك صراع بين تروتسكي وجاكسون، الذي زعما أنه قتل تروتسكي “دفاعا عن النفس”؟ لقد كانت تلك قصة اختلقها ستالين، الذي أراد إخفاء حقائق ذلك الاغتيال الغادر باستخدام افتراء بشع آخر. قام من خلال عملائه باختلاق أحداث صراع بين تروتسكي وبين رجل من المفترض أنه مناصر تروتسكي فقد الثقة في معلمه.
تم تكليف كونستانتين أومانسكي، الذي كان آنذاك سفير الاتحاد السوفياتي في المكسيك، باستعمال مبالغ غير محدودة من المال لرشوة الحكومة المكسيكية من أجل جعلها تقبل بهذه الرواية. لكن من الواضح أنه لم يحقق هدفه، فتم عزل أومانسكي من منصبه في المكسيك وأُرسل سفيرا إلى جمهورية كوستاريكا، لكنه لم يصل إليها أبدا. ففي فجر يوم 25 يناير 1945، انفجرت الطائرة التي كان يستقلها مع أسرته عند إقلاعها في مطار مدينة مكسيكو العسكري. هذه هي الأساليب التي يكافئ بها ستالين الفاشلين.
يمكن لهذه الحقائق القليلة (وهناك الكثير غيرها) أن تفضح أكاذيب تلك السلسلة السخيفة والبغيضة، والتي تتجاهل بشكل منهجي الحقائق لتزود العالم بصورة مشوهة بشكل إجرامي عن حياة ثوري عظيم.
لا يكتفي كوت وستاتسكي بإعادة إحياء أكاذيب ستالين المفضوحة منذ فترة طويلة فحسب، بل يعملان أيضا على إضافة أكاذيب جديدة، حيث قاما برمي أكثر الافتراءات السخيفة وغير المعقولة في هذا الشراب المسموم. لا يمكن وصف النتيجة النهائية إلا بكونها تحفة حقيقية لفن التزوير التاريخي في عالم السينما.
تحية طيبة.
إستيبان فولكوف- برونشتاين،
متحف تروتسكي،
مدينة مكسيكو، 05 مارس 2019».
إن التيار الماركسي الأممي يدعم بشكل مطلق حملة الدفاع عن شرف تروتسكي ونزاهته الثورية، وهي المهمة التي كرس لها إستيبان فولكوف كل حياته. وإليه نهدي ردنا على المزيفين والمفترين. وعلى حد تعبير الرجل الذي قاد، إلى جانب لينين، العمال إلى النصر سنة 1917، نقول: “قاطرة التاريخ هي الحقيقة وليس الأكاذيب”.
آلان وودز، 10 مارس 2019.
كيف اغتال بوتين ونتفليكس تروتسكي
جميع الطبقات السائدة تخاف من الثورة. بل حتى ذكريات الثورات التي حدثت منذ فترة طويلة تملأها برعب كبير. وقد بقي المؤرخون البرجوازيون الفرنسيون الرجعيون يلعنون ذكرى روبسبير ومارات بعد مرور ما يقرب من قرنين ونصف على اقتحام الباستيل. قال المؤرخ الاسكتلندي الشهير، توماس كارلايل، إنه كان عليه قبل أن يبدأ في الكتابة عن ثوري القرن السابع عشر العظيم، أوليفر كرومويل، أن يعمل أولا على سحب جثته من تحت كومة من الكلاب الميتة. وعندما عاد العاهل الإنجليزي تشارلز الثاني من منفاه الفرنسي، أمر بإخراج جثة أوليفر كرومويل وإعادة شنقها. وهو نفس ما تقوم به الأوليغارشية الروسية وأقلامها المأجورة.
يكون الخوف من الثورة أكبر بين صفوف فئة حديثي النعمة، مثل تلك التي راكمت ثروات فاحشة من خلال تقطيع جثة الثورة الروسية. يتناسب خوفهم بشكل كامل مع شدة كراهيتهم لثورة أكتوبر وقادتها. الخوف والكراهية، ولا شيء غيرهما، هو الشعور الذي يحرك الصورة الشريرة والحاقدة التي أعطيت لليون تروتسكي في هذه السلسلة.
لقد وحدت ثورة أكتوبر كل ما كان تقدميا وصادقا ونظيفا في المجتمع الروسي. وضعت حدا لنظام متعفن وفاسد ومتحلل، وفتحت الطريق أمام عالم جديد وأفضل. كان التجسيد الحقيقي للنظام القديم هو راسبوتين، ذلك الراهب السكير الفاسد الذي كان يتحكم في القيصر وأسرته. والقيصر نيكولا، الذي جعلت منه الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الآن قديسا، كان معروفا عند معاصريه باسم نيكولا الدموي، بطل جماعة المئات السود الفاشية التي تخصصت في تعذيب اليهود وقتلهم.
هناك ملصق ثوري شهير بعنوان: “الرفيق لينين ينظف العالم من القذارة”. ملصق يصور زعيم الثورة الروسية المسلح بمكنسة كبيرة وهو يكنس العالم من الكهنة والرأسماليين والملوك. هذا وصف دقيق لما حققته الثورة الروسية منذ أكثر من مائة عام. لقد جلبت ثورة أكتوبر لشعب روسيا التقدم والتصنيع والتعليم والعلوم والثقافة والأمل في مستقبل أفضل. لكن مع عودة الرأسمالية تحول كل ذلك إلى نقيضه.
انحطاط تاريخي
في كتابه الرائع “الثورة المغدورة”، الذي كتبه في عام 1936، تنبأ تروتسكي، بطريقة مذهلة بما الذي ستعنيه عودة الرأسمالية بالنسبة للاتحاد السوفياتي، حيث قال:
«إن انهيار النظام السوفياتي سيؤدي حتما إلى انهيار الاقتصاد المخطط، وبالتالي إلغاء الملكية العامة… سقوط الديكتاتورية البيروقراطية الحالية، إذا لم يتم استبدالها بنظام اشتراكي جديد، سيعني العودة إلى العلاقات الرأسمالية مع ما سيرتبط بها من تدهور كارثي للصناعة والثقافة». (ليون تروتسكي، الثورة المغدورة)
وقد تعرف الشعب الروسي، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، على كل مباهج الرأسمالية: الاستغلال الوحشي والسرقة والاحتيال واسع النطاق، وتصاعد الجريمة والمافيا، وإدمان المخدرات والدين والإيمان بالخرافات. كانت هذه بمثابة عودة إلى تلك الأيام الخوالي، أيام نظام راسبوتين الفاسد لكن بشكل أكثر بشاعة.
بين عشية وضحاها نهبت حفنة من الأوليغارشيين الطفيليين الجشعين كامل الثروة التي خلقتها على مدى عقود مجهودات الطبقة العاملة السوفيتاية. وبدلا من الديمقراطية وجد شعب روسيا نفسه في قبضة عصابة مستبدة. وفي قمة هرم الفساد الواسع هذا يقف القيصر الجديد، فلاديمير بوتين، الذي يجمع في شخصيته كل السمات الخبيثة والبغيضة للردة الرأسمالية الرجعية.
كان فلاديمير بوتين في السابق عميلا لجهاز المخابرات السوفياتي (KGB)، أي البوليس السري الممقوت للنظام الستاليني القديم. لقد خدم بإخلاص مصالح البيروقراطية الستالينية، قبل سقوط الاتحاد السوفياتي وتغنى بمدح ما كان يطلق عليه “الاشتراكية” السوفياتية. وكان يشارك، في كل يوم 07 نوفمبر، في احتفالات ثورة أكتوبر، أي الثورة التي خانتها البيروقراطية الستالينية التي كان يخدم مصالحها بإخلاص.
لكن السيد بوتين، في الوقت الحاضر، مثله مثل كل أصدقائه، صار يغني نشيدا مختلفا. إنه يقذف القاذورات على ذكرى ثورة أكتوبر وذكرى قائديها لينين وتروتسكي. هذا ليس صدفة. فبوتين الذي ينحدر من أصول متواضعة تمكن من مراكمة الثروات من خلال المشاركة في نهب الدولة السوفياتية. وهو الآن يدافع عن مصالح ذلك الجيش الضخم من اللصوص والمحتالين والنصابين الذين يشكلون الأوليغارشية الروسية.
ومثله مثل أي عراب مافيا تقليدي، يقوم بوتين بحماية عملائه ضد غضب الجماهير المحرومة. إنه يدافع عن حقهم في الاحتفاظ بمليارات الدولارات التي سرقوها من الشعب تحت شعار “الخصخصة”. وفي مقابل خدماته تلك تمت مكافأته بإطلاق يده للنهب مما جعله أحد أغنى أغنياء العالم. لقد صار العبد سيدا. وفي الوقت الذي يحمي فيه مصالح الأوليغارشيين، يضع حذائه المصقول جيدا على أعناقهم، ويتخلص من أولئك الذين لا يخدمون مصالحه عن طريق التوقيف والسجن.
لقد امتلك بوتين السلطة الكاملة على الدولة. وصار يعتبر نفسه تجسيدا لروسيا. وذلك بمباركة الكنيسة الأرثوذكسية، التي يشكل أساقفتها كلابه الأوفياء، ويلعبون له دور الشرطة الروحية إلى جانب جهاز الشرطة الذي يبقي الجماهير تحت السيطرة بالبنادق والهراوات. إنه باختصار القيصر الجديد.
لكن وعلى الرغم من المظهر الخارجي الذي يشير إلى القوة المطلقة، فإن القيصر الجديد لا ينام بسهولة في الليل. إنه، مثله في ذلك مثل بقية الأوليغارشيين الذين يمثلهم، غير مطمئن على ثروته وسلطته. يشعر هؤلاء المغتصبون ومحدثو النعمة أن قبضتهم على ثرواتهم غير قوية. الشعب الروسي لديه ذاكرة قوية، وهناك شبح يطارد الكرملين: شبح عام 1917.
“المال لا رائحة له” أراد الإمبراطور الروماني فيسباسيان جمع الأموال من خلال فرض ضريبة على المراحيض العامة، لكن ابنه تيتوس، الذي لا بد أنه كان يعاني من بعض الحياء، أو كانت له على الأقل حاسة شم قوية، احتج على الاقتراح. وللرد عليه رمى له والده عملة فضية مع عبارة: Non olet – “لا رائحة لها”.
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي انطلقت موجة تسونامي حقيقية من الكتب والمقالات والأفلام الوثائقية التلفزيونية التي تتنافس مع بعضها البعض في الذي سيتمكن من أن ينتج أكثر الأكاذيب وقاحة، وتوجيه أحقر الشتائم ضد ثورة أكتوبر وضد البلاشفة. لقد أصبح الآن عدد كبير من الكتاب والمؤرخين، الذين لم يمض وقت طويل على الفترة التي كانوا فيها يحملون بطاقات ما كان يسمى بالحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، من أشرس المدافعين عن اقتصاد السوق الرأسمالية. إن نفس الأشخاص الذين قضوا كل حياتهم يكتبون كلمات المدح الأكثر نفاقا تجاه الحزب وقادته، قد صاروا الآن يكتبون العديد من الكتب التي تدين الثورة الروسية والاشتراكية وجميع منجزاتها.
من الصعب معرفة ما هو الأسوأ والأكثر كلبية ونفاقا، هل ما كتبوه آنذاك أو ما يكتبونه الآن. لكن الشيء الأكثر وضوحا هو أن العديد من هؤلاء الذين يسمون مفكرين وأكاديميين محترمين يتمتعون بضمائر شديدة المرونة ومبادئ يمكن التخلص منها بسهولة. يعتبر الكثير من هؤلاء أن رفاهيتهم ووظائفهم وامتيازاتهم الشخصية أكثر أهمية بكثير من أي معتقدات سياسية نادوا بها. وهم أيضا مقتنعون تماما بأن المال لا رائحة له.
قد يتصور المرء أنه لا يمكن لهذا السيل من القذارة أن يزداد سوءا. لكنه سيكون مخطئا. وتمثل السلسلة الجديدة عن حياة تروتسكي، التي تم إنتاجها أصلا للتلفزيون الروسي، نقطة جديدة في هذا المستنقع المتعفن المليء بالأكاذيب والتشويهات.
حياة تروتسكي وإنجازاته
يحتاج الأمر منا مع الأسف إنتاج مسلسل كامل للرد على جميع الأكاذيب التي تم تقديمها في هذه السلسلة على أنها “دراما تاريخية”. لن يكون من قبيل المبالغة أن نقول إن كل دقيقة، من تلك الدقائق 400 التي تشكلها، تحتوي على كذبة واحدة على الأقل وأحيانا كذبتان، لذلك سيتعين علينا أن نقتصر على دحض أكثر الافتراءات وقاحة وبشاعة. يكفي أن نقول إن الشيء الحقيقي الوحيد في هذه السلسلة هو أسماء الشخصيات. أما ما عدا ذلك فهو مجرد خيال، بل خيال مريض.
لقد كان ليون تروتسكي ماركسيا عظيما وأحد الشخصيات البارزة في القرن العشرين. عندما كان شابا، لعب دورا قياديا في الثورة الروسية عام 1905، وعندما كان في السادسة والعشرين من عمره صار رئيسا لسوفييت بيترسبورغ. وقد تمكن من خلال تحليله الماركسي لتلك الحركة العظيمة، أن يستخلص نظريته عن الثورة الدائمة، التي أثبتت صحتها بشكل كبير في محك الممارسة العملية في أكتوبر 1917.
وإلى جانب لينين قاد ثورة أكتوبر. كان الحزب البلشفي في ذلك الوقت معروفا باسم حزب لينين وتروتسكي. تعرضت روسيا السوفياتية، خلال الحرب الأهلية، عندما كان تروتسكي مفوضا لشؤون الحرب (وهو المنصب الذي شغله حتى عام 1925) لغزو 21 جيشا أجنبيا. ومن الصفر تمكن من بناء الجيش الأحمر الجديد الذي دافع عن الجمهورية السوفياتية ضد الثورة المضادة الدامية.
لعب تروتسكي دورا قياديا في بناء الأممية الشيوعية، حيث قام في المؤتمرات الخمسة الأولى بكتابة بياناتها والعديد من أهم توصياتها السياسة. لقد كان نشيطا في فترة إعادة البناء الاقتصادي حيث قام بإعادة تنظيم خطوط السكك الحديدية المدمرة. وكان أول من دعا إلى تطبيق المخططات الخماسية (التي رفضها ستالين في البداية).
بعد وفاة لينين، أثبت تروتسكي أنه الوحيد القادر على فهم أسباب انحطاط الاتحاد السوفياتي وطبيعة الستالينية. لقد قاد نضال المعارضة اليسارية ودافع عن مبادئ ثورة أكتوبر ضد الثورة المضادة الستالينية. وفي النهاية قدم حياته في النضال من أجل الحفاظ على أفكار وراية البلشفية للجيل القادم.
يمكن لشخص مثل هذا ولحياة مثل تلك أن توفر مادة كافية لإخراج العديد من الأفلام والمسلسلات، لكننا لا نجد في ذلك المسلسل سوى الأكاذيب عن الرجل وأفكاره والأحداث التي ساهم في صنعها. وعوض أن يقوم المسلسل بإعطاء أي سرد حقيقي عن حياة تروتسكي وأفكاره، قام بمجرد تكرار كل الافتراءات القديمة التي وجهت ضد البلاشفة، مثل أسطورة “الذهب الألماني”، التي تم تفنيدها مرات لا تحصى. ليست هناك ولو كلمة واحدة جديدة في هذا الهجوم الجديد ذو الميزانية المرتفعة.
يعتبر المسلسل نموذجا للابتذال بكل المعايير. فمرارا وتكرارا يعرض المؤلفون جهلهم الكامل بالتاريخ. ولتوضيح ذلك سنقتصر على اثنين من أكثر الأمثلة الصارخة. ففيما يتعلق بمفاوضات السلام في بريست- ليتوفسك، يقولون لنا إنه بعد أيام من المفاوضات حدث تمرد في ميناء كييل الألماني، مما أشعل الثورة الألمانية. في الواقع اندلعت الثورة الألمانية في نوفمبر 1918، أي بعد عام تقريبا من بريست ليتوفسك.
والأفضل من ذلك هو ذلك المشهد حيث يقوم رئيس الوفد الألماني، هوفمان، بإخبار تروتسكي المرهق “بفشل محاولة لإشعال ثورة في ألمانيا”، الشيء الذي يضطر معه هذا الأخير لقبول جميع مطالب القيصر الألماني. وحدهم مؤلفو هذا المسلسل من يمكنهم أن يفسروا كيف يمكن للجنرال هوفمان أن يعلن فشل ثورة لم تحدث بعد. كما أن التصريح بأن الثورة الألمانية قد فشلت إنما يقلب الحقيقة رأسا على عقب. فالثورة الألمانية المنتصرة عام 1918، لم تتمكن من إسقاط القيصر فحسب، بل إنها أنهت الحرب العالمية الأولى. لكن لماذا نسمح للحقائق بأن تفسد قصة جيدة؟
وفي حلقة أخرى، قيل لنا إن الانتفاضة ضد البلاشفة في كرونشتادت حدثت في مارس 1918 بسبب ممارسات تروتسكي. وقد اندهشنا حينئذ عندما أخبرنا بحار ثوري أن البلاشفة قد اغتصبوا السلطة “لمدة ثلاث سنوات ونصف”. لكن بإجراء عملية حسابية بسيطة سنجد أن البلاشفة قد وصلوا إلى السلطة منذ عام 1915!
لم تحدث ثورة كرونشتادت ضد البلاشفة في عام 1918، بل في مارس 1921. ولم يشعلها البحارة الثوريون الذين ساعدوا البلاشفة على الاستيلاء على السلطة في 1917- 1918، والذين كانوا ينحدرون بشكل رئيسي من الطبقة العاملة، بل أشعلتها فئات متخلفة من الفلاحين الأوكرانيين أساسا، والذين حرضتهم القوى الرجعية ضد البلاشفة. لكن من الواضح أن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها لصانعي هذا المسلسل أن يربطوا بين تروتسكي والبحارة الحمر عام 1917، وبين تمرد كرونشتادت هو تقديم تاريخ التمرد بأكثر من ثلاث سنوات.
معاداة النساء ومعاداة السامية
يعرض المؤلفون موقفا منحطا تجاه النساء. ويمكن رؤية نظرتهم الدونية تجاه النساء في كل حلقة من الحلقات الثمان. تم تقديم جميع النساء اللائي ظهرن في المسلسل إما كعاجزات أو كخادمات خانعات أو كمواضيع جنسية أو مزيج من كل ذلك.
تم تصوير ناتاليا سيدوفا، رفيقة تروتسكي وشريكة معظم محطات حياته، أولا على أنها انسانة برجوازية غير مهتمة بالسياسة، ثم ربة منزل بائسة، وكائن سلبي في جميع الأوقات، وليس كمناضلة ثورية أبدا. ويؤكد هذا الموقف البشع تجاه النساء من خلال لقطات العري غير المبررة والمشاهد الجنسية المقحمة التي يتم رميها بانتظام في وجه المشاهد.
كانت لاريسا ريزنر مناضلة ثورية عظيمة وإحدى الكوادر البلشفية البارزة. لقد لعبت دوراً هاماً في الثورة وفي صفوف الجيش الأحمر، حيث قاتلت في منطقة الفولغا خلال الحرب الأهلية. لقد شاركت أيضًا في الثورة الألمانية. لكننا إذا صدقنا هذه السلسلة، فإن تلك الكاتبة والمناضلة الثورية قد أمضت الجزء الأكبر من الحرب الأهلية الروسية وهي عارية. وفي وقت لاحق تحصل فريدا كاهلو على نفس المعاملة، حيث تم التغاضي عن كل منجزات حياتها الطويلة لصالح البورنوغرافيا.
والتعبير الأكثر وضوحا عن هذا التحامل وضع على لسان تروتسكي، الذي زعم هؤلاء المؤلفين أنه قال لسيدوفا: «لدى الجماهير نفسية مشابهة لنفسية الأنثى(؟). أنتن سلبيات بطبيعتكن(!). تنتظرن ما يقدمه لكن الرجل. نفسية الشعب مشابهة لذلك… فعندما يرون رجلا قويا وواثقا، يخضعون له في الحال».
من الواضح أنه لا توجد أي علاقة بين هذا الهراء القبيح وبين أفكار ليون تروتسكي.
لا تخبرنا كل هذه المزاعم شيئا على الإطلاق عن البلاشفة، ولا النساء الثوريات على وجه الخصوص. لكنها تقول لنا الكثير عن سيكولوجية الأوليغارشية الطفيلية وتلك الشرذمة المنحطة من المثقفين العاهرين الموجودين في خدمتها الذين يسيطرون على الشعب الروسي اليوم. من الطبيعي أنه بالنسبة لهؤلاء السادة الذين يمكنهم إصدار قوانين تسمح للأزواج بضرب زوجاتهم (أي نفس القوانين القيصرية التي ألغاها البلاشفة فور حسمهم للسلطة)، تعتبر فكرة أنه يمكن للمرأة أن يكون لها فكرها السياسي المستقل مسألة غير مفهومة.
وعند مشاهدتنا لفيلم بوتين عن تروتسكي، نجد أنفسنا أيضا في وسط عالم معاداة السامية. لم يكن تروتسكي يشير إلى أصوله اليهودية. وعندما كان يسأل عن جنسيته، كان معروفا عنه أنه يجيب: “اشتراكي”. لكن أصوله مهمة للغاية بالنسبة لصانعي هذا المسلسل. ففي كل حلقة يتم تذكير تروتسكي بانتظام بيهوديته، إما في صورة دعاية معادية للسامية، أو من خلال تحذير صريح بأن الشعب الروسي “المؤمن” لن “يسمح بأن يصير يهودي زعيما له”.
وإلى جانب هذا، هناك محاولة ثابتة وصريحة لتصوير تروتسكي على أنه “وحش”، و”شيطان”، وبأنه كائن “غير بشري”، وما إلى ذلك. لا يحتاج الأمر إلى خبير لرؤية التشابه بين هذه الصورة وبين الدعاية المعادية للسامية التي كان الجيش الأبيض ينشرها والتي ازداد نشاطها خلال الحرب الاهلية. وفي العديد من المشاهد تتحول النجمة الحمراء السوفياتية الشهيرة، إلى شيء يشبه إلى حد بعيد نجمة داود. لقد كان المئات السود الفاشيين يصورون ثورة أكتوبر بأنها “مؤامرة يهودية-بلشفية”. وها هي حيوانات بوتين الأليفة تعزف على نفس الوتر.
والأسوأ من ذلك هو أن مروجي هذه الأحكام المسبقة المقيتة يسعون إلى إلصاق تهمة معادتهم للسامية للبلاشفة وللعمال الثوريين، حيث يتم تمرير تقريبا كل موقف معاد للسامية في المسلسل على لسان بلشفي أو عامل ثوري. الاستنتاج الواضح الذي يتم استخلاصه هو أن البلاشفة حركوا أكثر فئات المجتمع تخلفا وتحاملا ضد اليهود وذلك من أجل الوصول إلى السلطة. هذه كذبة شنيعة ومناقضة تماما للوقائع.
لقد حارب البلاشفة دائما معاداة السامية سواء قبل الاستيلاء على السلطة أو بعده. في الواقع أنشأ البلاشفة مجموعات مسلحة للدفاع عن اليهود ضد المذابح المعادية للسامية، التي كان يقوم بها المئات السود الفاشيون والجيش الأبيض الرجعي، الذين كانوا يهتفون بشعار: “اهزموا اليهود وأنقذوا روسيا!”. لقد كانت علاقة القيصر وثيقة بالمجموعات المعادية للسامية إلى درجة أن جريدة برافدا نشرت كعنوان لصفحتها الأولى عبارة: “أن تكون معاديا لليهود يعني أنك مع القيصر!”.
لقد ناضل الحزب البلشفي باستمرار للقضاء على آفة معاداة السامية، التي كان لها تاريخ طويل ودموي في عهد القياصرة. لم يعد هذا السم الرجعي إلى الظهور مجددا إلا في ظل الثورة المضادة الستالينية عندما بدأت البيروقراطية تستند إلى الفئات الأكثر تخلفا. وقد فضل المسلسل بالطبع أن يصمت عن هذه الحقيقة، وذلك ربما لسبب بسيط هو أنه حتى في ظل الستالينية، لم تصل معاداة السامية إلى الوحشية الصريحة التي وصلتها في روسيا بوتين.
احتقار الجماهير
هذه السلسلة ليست مجرد تشهير ضد ليون تروتسكي والبلاشفة، بل هي هجوم مهين على الجماهير الروسية ككل، ولا سيما العمال الذين أطاحوا بالوحش القيصري الذي حكم لقرون طويلة وصنعوا أول دولة عمالية في التاريخ (إذا ما استثنينا تجربة كومونة باريس البطولية لكن القصيرة الأمد).
لقد عبر مؤلفو هذه السلسلة عن احتقارهم التام ليس للنساء فقط بل للطبقة العاملة أيضا. فكلاهما يظهران على شكل عناصر سلبية وجاهلة وغبية، لا تصلح إلا للخضوع والاضطهاد. لم يظهر العمال في أي حلقة إلا بكونهم حشودا من المجرمين، الذين كل ما يريدونه من الثورة هو تنظيم المذابح والنهب.
يشكل خطر “الجماهير الجاهلة” شبحا يخيم على كل حلقات المسلسل. إن ما يعكسه هذا هو الرعب الكبير الذي كان حكام روسيا قبل عام 1917 يشعرون به من الجماهير، والذي ما زال يستحوذ عليهم حتى اليوم. وقد جعلوا حارس السجن، الذي أخذ تروتسكي منه اسمه المستعار، يعبر عن ذلك قائلا: “لا يصلح الروس إلا للإخضاع، وذلك من أجل مصلحتهم”.
بل حتى والد تروتسكي تم تجنيده في هذا الجوقة المعادية للطبقة العاملة. حيث أن الممثل الذي يلعب دوره قال: “لا يمكنك أن تتخيل قبح الوحش الذي تعمل على إطلاق سراحه… إنه الجحيم بعينه! إنه الشيطان نفسه!”. لا حاجة للقول هنا إن هذه الكلمات لم ُتقل أبدا، لكنها تعكس بدقة الموقف الحقيقي للعصابة الحاكمة اليوم في روسيا تجاه جماهير الشعب الروسي.
تصور السلسلة العلاقة بين الجماهير وبين القادة الثوريين، وكأنها علاقة بين قطيع من الوحوش يخدعها ويحرضها عدد قليل من المثقفين المتآمرين. وهو ما يذكرنا برد فعل الشرطة السرية القيصرية، التي كلما كانت تواجه تمردا ثوريا، لم يكن باستطاعتها التفكير في أي تفسير آخر سوى “المحرضين الثوريين”.
لقد شوهت السلسلة موقف كل من تروتسكي ولينين تجاه الجماهير ودورها في الثورة. قال مخرجو السلسلة على لسان لينين: “أريد أن أغير العالم. ما علاقة الشعب بذلك؟ الشعب مجرد أداة”. كان مالكو العبيد في روما القديمة يعتبرون العبيد مجرد Instrumentum vocale (أدوات تتكلم)، وهي النظرة التي ما تزال الطبقة السائدة تنظر بها إلى العمال حيث تعتبرهم مجرد أدوات إنتاج فائض القيمة، وهذا هو الحال في روسيا اليوم.
إن المعنى الحقيقي للثورة الروسية هي أن الطبقة العاملة صارت واعية بقوتها باعتبارها القوة المحركة للتقدم الاجتماعي. لقد تحركت “الأدوات” للاستيلاء على السلطة من خلال السوفييتات، لكن ذلك لم يكن ممكنا إلا بفضل وجود الحزب البلشفي تحت قيادة لينين وتروتسكي. وهو الشيء الذي لم تغفره لهم الطبقة السائدة أبدا.
كتب تروتسكي في كتابه “تاريخ الثورة الروسية”: «إن تاريخ الثورة بالنسبة لنا هو أولا وقبل كل شيء تاريخ دخول الجماهير إلى عالم امتلاكهم لمصيرهم». وقد كان واضحا أيضا حول دور الحزب في الثورة، إذ قال: «لكي تكون البروليتاريا قادرة على حسم السلطة بحزم وثبات، تحتاج إلى حزب يتجاوز بكثير الأحزاب الأخرى في وضوح فكره وتصميمه الثوري» (دفاعا عن أكتوبر). هذه العناصر هي التي تحدد في نهاية المطاف مسار الثورات، وليس “الرجل القوي الواثق” الذي يتحدث عنه المؤرخون البرجوازيون.
إذا كان كل ما هو مطلوب لتحقيق الثورة هو “إطلاق العنان” للجماهير من خلال الدعوات إلى حمل السلاح، فلماذا لم يأخذ الثوار السلطة في فبراير 1917، أو حتى في 1914؟ الحقيقة هي أن قوتهم لا تأتي من قدرتهم على “إطلاق العنان” للجماهير، بل من قدرتهم على كسب ثقة قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة والجنود. يتطلب ذلك وجود حزب من العمال الماركسيين المتفانين، “زهرة الطبقة التقدمية”، والذين بدونهم كان الدور القيادي الذي لعبه لينين وتروتسكي في الثورة سيكون مستحيلا، وهي الحقيقة التي فهمها وشرحها تروتسكي مرات عديدة.
ثورة أكتوبر
يمكن اتهام مؤلفي هذه “التحفة السينمائية” بأشياء كثيرة، لكن من المستحيل اتهامهم بالإبداع الفني. إنهم لم يبدعوا حتى في تزويرهم للحقائق، إذ اكتفوا بمجرد تكرار الافتراءات القديمة الذي تم فضحها منذ زمن بعيد. لذلك فليس من المستغرب أن يكتشفوا في سلة المهملات ذلك الاتهام القديم بأن ثورة أكتوبر كانت مجرد “انقلاب”.
يقولون لنا إن تروتسكي رتب عملية الاستيلاء على السلطة بأكملها بمفرده، مما أثار دهشة بقية البلاشفة، بمن فيهم لينين، الذي بدا وكأنه فقد الذاكرة ونسي حقيقة أنه كان يصر على دعوة الحزب إلى حسم السلطة منذ شتنبر. كم يحب هؤلاء الناس اللعب بالتواريخ! حتى أنهم أخروا انعقاد المؤتمر الثاني لسوفييتات عموم روسيا يوما كاملا، ومحوا كل النقاشات وعمليات التصويت. لماذا؟ لمجرد إعطاء الانطباع (الخاطئ) بأن المؤتمر كان بمثابة تظاهرة للنصر بعد نجاح التمرد.
إن الادعاء بأن ثورة أكتوبر كان انقلابا، لا يصمد أمام أدنى تحليل نقدي. السؤال الذي يجب أن يطرح هو بما أن تروتسكي كان قادرا بمفرده على أن يقرر الاستيلاء على السلطة عن طريق مؤامرة في أكتوبر 1917، فلماذا لم يفعل ذلك في شهر ماي أو يونيو أو أي شهر آخر أو سنة أخرى؟ إضافة إلى ذلك فإننا نود أن نتعلم تلك الطريقة السحرية التي يمكن بواسطتها لأقلية صغيرة من المتآمرين – أو حتى، كما هو الحال هنا، فرد واحد- الاستيلاء على السلطة في بلد يقطنه 150 مليون نسمة. وبذلك سيمكننا ربما حسم السلطة يوم الاثنين المقبل على الساعة التاسعة صباحا. هذا الادعاء غبي لدرجة أن طفلا في السادسة من عمره يمكنه أن يعرف كذبه. ومع ذلك فإن نقاد البلشفية “المثقفين” يفتقرون حتى إلى هذا المستوى من الفهم.
لكن أعداء ثورة أكتوبر لديهم مشكلة صغيرة هنا. إن التمرد الفعلي الذي شهدته بتروغراد كان عمليا تمردا غير دموي. والسبب في ذلك هو أنه بعد أشهر من العمل الثوري الصبور، نجح البلاشفة في كسب الأغلبية الساحقة داخل السوفييتات في جميع أنحاء روسيا. لم يحدث ذلك في الخفاء، بل بشكل علني أمام أعين جماهير العمال في المصانع والجنود في الخنادق. لقد تم تسليح عشرات الآلاف من العمال وتنظيمهم في الحرس الأحمر. وكان التحريض الدؤوب الذي قام به تروتسكي عاملا رئيسيا في إبعاد حاميات عسكرية بأكملها بعيدًا عن الحكومة المؤقتة إلى جانب سوفييت بتروغراد.
إن ما حدث في أكتوبر 1917 لم يكن انقلابا، بل كان أعظم ثورة شعبية في التاريخ. فخلال تسعة أشهر فقط، تعلمت الجماهير من التجربة أن حزب لينين وتروتسكي هو الحزب الوحيد الذي يقدم السبيل لإنجاز الثورة حتى النهاية. وبطبيعة الحال فإن الفكرة القائلة بأنه على العمال رجالا ونساء أن يسلحوا أنفسهم وينظموا أنفسهم من أجل الإطاحة بالدولة التي فقدت بالفعل كل شرعية، هي فكرة غير مفهومة لمؤلفي مسلسل “تروتسكي” وجميع أعداء الاشتراكية الآخرين. لكن هذا بالضبط هو ما حدث في 25 أكتوبر 1917، كتتويج لسيرورة بدأت في فبراير.
إن الحركة الجماهيرية للعمال والجنود، تحت قيادة الحزب البلشفي، شكلت العنصر الرئيسي في ثورة أكتوبر. لكن المسلسل لا يظهر أي شيء من هذا. وهكذا تم تحويل الثورة بأكملها إلى نوع من السيرك أو الميلودراما يجسدها مجموعة من الأشرار. وعوض التفسير التاريخي حصلنا على فنون المؤامرة السوداء. وبدلا من الأشخاص الحقيقيين، حصلنا على دمى تقوم بحركاتها المتشنجة بسبب الخيوط التي يحركها متآمرون بلا ضمير. وبدلا من الأبطال الثوريين لدينا شياطين سخيفة من ورق. لكن السيرك والشياطين المصنوعة من الورق هي للترفيه عن الأطفال وليس لها أي علاقة بالحقيقة التاريخية.
تروتسكي والجيش الأحمر
يود مخرجو مسلسل “تروتسكي” أن يجعلونا نعتقد أن تروتسكي قد فاز في الحرب الأهلية باستخدام العنف والقمع “بمستويات رهيبة”. تتكرر صورة قطاره المدرع الهائل، الذي يصدر الدخان الأسود الكثيف، في كثير من اللقطات طوال حلقات المسلسل التي يتعرض خلالها المشاهد لعدد من الصور المرعبة الخيالية لقسوة تروتسكي. في إحدى الحلقات نرى تروتسكي بأسلوب جنرال روماني يصدر أمرا بقتل فيالق من الجنود الفارين من الجبهة؛ وفي مكان آخر نشاهد قواته تسحق قرية بأكملها حتى يتمكنوا من الاستيلاء على خشب الفلاحين لاستعماله كوقود. تستخدم هذه الافتراءات الخبيثة وغيرها للترويج للصورة الشيطانية عن الثوريين، والتي كانت بمثابة عملة رائجة عند القوى الرجعية منذ ما قبل الثورة الروسية بفترة طويلة.
لقد استقبلت الدولة العمالية، التي نشأت في أكتوبر 1917، بجبهة موحدة من القوى الرجعية، التي ضمت كل قوى الثورة المضادة في روسيا إلى جانب 21 جيشا أجنبيا. الجيش الروسي القديم، الذي كان قد تفكك حتى قبل أكتوبر، لم يعد موجودا. ومع ذلك، ففي غضون عام واحد، تمكن تروتسكي من بناء جيش جديد من الصفر تقريبا وتحويله إلى قوة قتالية قادرة على تحقيق انتصارات مذهلة ضد عدو قوي ومموّل بشكل جيد. وكما قال لينين ذات مرة لمكسيم غوركي: «أرني رجلا آخر كان بإمكانه إنشاء جيش نموذجي خلال عام واحد وكسب احترام المتخصصين العسكريين أيضا».
من البديهي أن جميع الحروب تنطوي على العنف. يصدق هذا الأمر بشكل أكبر على حالة الحرب الأهلية، التي تواجه فيها أقلية صغيرة من المستغِلين تمرد الجماهير المستغَلة. تتميز تلك الحروب بعنف شديد. والحرب الأهلية الروسية لم تكن استثناء. لكن القمع وحده لم يكن كافيا لتحقيق النصر خلال الحرب الأهلية. لو كان الأمر كذلك لكان الجيش الأبيض قد فاز بها 10 مرات. فقد كانت عمليات الإعدام الجماعي والمذابح الدموية المعادية للسامية والاضطهاد الوحشي للأقليات القومية، جميعها جرائم ارتكبها الجيش الأبيض دفاعا عن “الحضارة”.
لقد كان تعطش البيض للدماء معروفا حتى لحلفائهم:
«أبلغ السفير الأمريكي في اليابان، رولاند موريس، أن جميع أنحاء سيبيريا التي كانت تحت حكم كولتشاك، شهدت “عربدة من الاعتقالات دون تهم؛ وعمليات الإعدام دون حتى التظاهر بالمحاكمة؛ ومصادرة الممتلكات دون شرعية. لقد استولى الذعر والخوف على الجميع. كان الناس يدعمون بعضهم البعض ويعيشون في رعب دائم من أن يلصق بهم جاسوس ما أو عدو ما تهمة ‘البلشفية’ مما يؤدي بهم إلى الإعدام الفوري”. ومن بين القتلى كان هناك أعضاء سابقون في الجمعية التأسيسية، وعمال السكك الحديدية الذين أضربوا من أجل رفع الأجور. وفي ايكاترينبرغ، حيث أعدم البلاشفة القيصر نيكولا الثاني وعائلته، سمح كولتشاك للقوزاق بقتل ما لا يقل عن ألفي يهودي، وهي جزء من موجة أكبر من المذابح».²
ماذا كان مصير روسيا سيكون لو نجح البيض في خنق الثورة؟ لم يطرح مؤلفو مسلسل “تروتسكي” هذا السؤال مطلقا، فبالأحرى أن يعملوا على الإجابة عليه. لكن من المؤكد أنها لم تكن لتعيش في ظل ديمقراطية ليبرالية محبة للسلام، بل على العكس تماما! كان من الممكن أن نشهد قيام نظام فاشي روسي، كان سيكون نظاما مرعبا، في ظل ظروف روسيا المتخلفة في ذلك الوقت، وكان سيصبح وحشا أكثر شراسة من نظام موسوليني.
لقد فاز تروتسكي والجيش الأحمر في الحرب ليس لأنهما كانا أكثر عنفا من المعسكر الآخر، بل بفضل الأفكار والدعاية الثورية. لقد قاتلوا بالبنادق والحراب، لكنهم قاتلوا أيضا بالأفكار. في القرى قدم البلاشفة الأرض للفلاحين، على عكس البيض الذين كانوا يمثلون كبار الملاك أولا وقبل كل شيء. باختصار لقد أوصل الجيش الأحمر الصراع الطبقي حتى نهايته المنطقية. لقد قام الجيش الأحمر بالدعاية والتحريض حتى بين صفوف العدو، حيث قام بتوزيع منشورات باللغة الإنجليزية ولغات أجنبية أخرى، مما أسفر عن اندلاع حركات التمرد في كل الجيوش الغازية الأجنبية، الشيء الذي أجبر قادتها على سحبها.
كانت هناك على مر التاريخ العديد من الأمثلة على ثورات العبيد، والتي تم إخمادها دائما بأكبر قدر من الوحشية. فبعد هزيمة سبارتاكوس، قام الرومان بصلب الآلاف من العبيد على طول طريق فيا أبيا (Via Appia). يعتبر هذا النوع من العنف مقبولا لدى الطبقة السائدة والمدافعين عنها. لكن في الثورة الروسية كان العبيد هم من قاموا بتسليح أنفسهم وقاتلوا وانتصروا بعد تضحيات هائلة. لهذا السبب لا يمكن للطبقة السائدة أن تغفر للبلاشفة. وهذا هو السبب في أن الطبقة السائدة تشيطن الجيش الأحمر أكثر من أي جيش آخر في التاريخ. وهذا هو السبب في أن تروتسكي، الذي هو من بنى الجيش الأحمر وقاده إلى النصر، يتعرض للهجوم بشكل خاص من قبل بوتين والأوليغارشية، الذين هم استمرارية لقطاع الطرق البيض المعادين للثورة.
تروتسكي يلتقي بشبح فرويد
شخصية تروتسكي كما تم تقديمها في هذه السلسلة عبارة عن كليشيهات مملة لـ “ثوري” متعصب متعطش للسلطة ومختل عقليا. ولتقديم نوع من التبرير “العلمي” لهذه الاتهامات، كان من الضروري استدعاء شاهد موثوق به. ومن سيكون الأفضل لإصدار شهادة الجنون الإجرامي لتروتسكي من مؤسس التحليل النفسي، سيجموند فرويد؟ ففي أحد المشاهد، يقول شبح فرويد (نعم، لقد بعثوا الرجل المسكين من قبره للإدلاء بشهادته) لتروتسكي إنه أسوء بكثير من قاتل متسلسل أو “متعصب ديني”.
يضرب هذا المشهد الغبي بكل مقاييس النزاهة الفكرية. من الصعب أن نقول من هو الأسوأ حظا هنا، هل هو تروتسكي أم فرويد المسكين الذي لا يُسمح له بأن يرقد في سلام بل يتم إخراجه من نعشه ليصبح مجرد مهرج.
في الواقع ليس فرويد هو الذي كان مهرجا، إذ مهما قيل عنه، فقد كان باحثا دقيقا في النفس البشرية. كلا، إن المهرجين الحقيقيين هم هؤلاء الذين وضعوا ذلك الهراء في فم رجل ميت منذ فترة طويلة وبالتالي لم يعد في مقدوره الدفاع عن نفسه. لكن بما أنه لا سيجموند فرويد ولا شبحه سبق لهما أن التقيا بتروتسكي، فإنهما لم يكونا في وضع يسمح لهما بالإدلاء بأي تصريحات تتعلق بحالته العقلية، سواء كانت جيدة أو سيئة أو غير ذلك.
الواقع هو أن تروتسكي كان المنظر الماركسي الوحيد ربما الذي أبدى اهتماما بنظريات فرويد وكتب عنها. وفي مقال مثير للاهتمام قارن بين فرويد وبين العالم النفسي الروسي الكبير بافلوف. قال في ذلك المقال إن بافلوف يشبه رجلا ينظر من الأعلى إلى قاع بئر عميق، بينما ينظر فرويد صعودا من أعماق بئر الوعي الإنساني. إنها فكرة مثيرة للاهتمام. أما بالنسبة لهؤلاء الذين استحضروا شبح فرويد لأغراضهم الخاصة، فهم لا ينظرون إلى البئر لا من أعلى ولا من أسفل، بل هم مجرد غارقين في حفرة عميقة من الجهل والغباء.
من بين العناصر المشينة بشكل خاص في كل هذا، نجد المحاولة الكلبية لاستخدام أبناء تروتسكي لتحطيم صورة والدهم. ففي جميع الحلقات يتم تصوير تروتسكي على أنه زوج مهمل وأب سيء، حتى أنه لم يشعر بأي شيء عند وفاة أبناءه الأربعة، بل لقد اتهم حتى بأنه مسؤول عن موتهم.
ما هي الحقائق؟ لقد كان ستالين وحشا لا يكتفي بقتل خصومه وأعدائه فقط، بل يعمل بشكل منهجي على قتل زوجاتهم وأطفالهم وأقاربهم وأصدقائهم. لقد تعرض البلاشفة القدامى للتعذيب الهمجي لإجبارهم على الاعتراف بجرائم بشعة لم يرتكبوها مطلقا. كان يجعلهم يشوهون سمعتهم ثم يقتلهم. لكن رجلا واحدا نجا منه، وكان ذلك الرجل هو ليون تروتسكي، والذي كان ستالين يخافه أكثر مما يخاف الآخرين، وبالتالي كان مصمما على إسكاته.
وفي سعيه لإرواء ذلك التعطش للانتقام وبسبب خوفه الشديد من تروتسكي وأفكاره، تعقب بلا رحمة أي شخص كانت له أي صلة معه وعذبه وأباده. وقد عمل على تصفية أبناء تروتسكي واحدا تلو الآخر. فقتل ليون سيدوف في مستشفى بباريس حيث كان يتعافى من عملية جراحية.
ألقي القبض على زوجة تروتسكي الأولى، ألكسندرا سوكولوفسكايا، التي عرفته على الأفكار الماركسية وشاركته حياته في المنفى الأول في سيبيريا، وتم إرسالها إلى معسكر اعتقال حيث ماتت. توفيت ابنتها الأولى بسبب مرض السل في سنوات العشرينات. أما البنت الثانية، زينايدا (والدة إستيبان فولكوف)، فقد دفعها ستالين إلى الانتحار.
ولعل الحالة الأكثر مأساوية كانت هي حالة نجل تروتسكي الأصغر، سيرجي، الذي لم يكن ناشطا سياسيا، وبالتالي بقي في الاتحاد السوفيتي عندما تم نفي والده. قام ستالين بالقبض عليه وحاول حمله على التنديد بأبيه، لكنه رفض فأُرسله إلى معسكر اعتقال، حيث تم إعدامه رميا بالرصاص.
إن الادعاء بأن تروتسكي وزوجته كانا غير مباليين بمصير أبنائهما هو الافتراء الأكثر وحشية وإثارة للاشمئزاز من بين جميع الافتراءات التي تملأ كل فصل من فصول هذا العمل الفظيع. لقد تحطم تروتسكي عند سماعه لذلك الخبر لدرجة أنه فكر فعلا في الانتحار، على أمل أن يطلق ستالين ابنه. لكنه كان يعلم أن ذلك مستحيل. إذ أنه بمجرد سقوط سيرجي في مخالب الوحش كان مصيره قد تحدد.
اتهامات باطلة
ليست هذه هي المحاولة الوحيدة التي بذلت لإلقاء جرائم ستالين البشعة على أكتاف تروتسكي. وربما الأسوأ من ذلك هو الادعاء بأن تروتسكي كان قد عزز سلطته من خلال “عمليات إعدام جماعية للشيوعيين البارزين”.
يشير ما يسمى “الإرهاب الأحمر” إلى التدابير التي اتخذها البلاشفة ردا على عمليات اغتيال قادة بلاشفة بارزين ومحاولة قتل لينين من قبل الإرهابيين. كانت تلك الإجراءات ذات طبيعة دفاعية واستهدفت حصريا أعداء الثورة في خضم حرب أهلية دموية. إن محاولة ربط هذه الأحداث بالمحاكمات الصورية التي نظمها ستالين والإعدامات الجماعية التي قام بها، هي جريمة مقيتة.
تهدف هذه الكذبة الوقحة إلى تغطية عمليات التطهير الدامية التي قام بها ستالين في ثلاثينيات القرن الماضي. في تلك العمليات تم إرسال آلاف الشيوعيين المخلصين إلى حتفهم بسبب دفاعهم عن الأفكار والتقاليد الحقيقية للبلشفية. لقد كانوا، كما أشار تروتسكي في ذلك الوقت، ضحايا حرب أهلية من جانب واحد ضد الحزب البلشفي شنتها البيروقراطية الستالينية التي وصلت إلى السلطة على جثة حزب لينين.
يرغب مؤلفو هذا الافتراء في إظهار أن الستالينية والبلشفية شيء واحد، لأن كلاهما استخدما أساليب عنيفة. وللرد على هذا الافتراء لا يحتاج المرء إلا أن يطرح السؤال التالي: إذا كان نظام ستالين الشمولي مجرد استمرار للنظام البلشفي، فلماذا كان من الضروري على ستالين أن يبيد كل القادة البلاشفة الذين شاركوا في ثورة عام 1917؟ والحقيقة الواضحة هي أن البلشفية والستالينية ليسا شيئا واحدا، بل شيئان نقيضان ينفي كل منهما الآخر.
ستالين، الذي هو صنيعة الثورة المضادة، أقام نظاما للرعب، ليس ضد المعادين للثورة بل ضد الشيوعيين والعمال، الذين تم إيداع الملايين منهم في سجون الشرطة السرية (GPU) أو الغولاغ، حيث قضوا نحبهم. لم يتوقف المجرم عند أي حد في سعيه للقضاء على آخر أثر لثورة أكتوبر. لقد أراد طمس ذكرى الثورة. وكان تروتسكي هو الرجل الذي قاوم بشجاعة للدفاع عن راية البلشفية النظيفة. لهذا السبب كان على ستالين اغتياله بأي ثمن.
يشير عميل المخابرات السوفياتية السابق، فلاديمير بوتين، بإصبع الاتهام إلى لينين وتروتسكي، لكنه ليست لديه تحفظات على استخدامه هو للعنف ضد خصومه السياسيين. يعتمد نظامه على عنف الدولة المنظم. الفرق الوحيد هو أن الدولة التي يرأسها لم تعد دولة بيروقراطية ستالينية فاسدة، بل دولة أوليغارشية من أصحاب الأبناك والرأسماليين أكثر فسادا وانحطاطا. وتقوم هذه الدولة على الأكاذيب والاحتيال والتزوير أكثر مما كانت عليه دولة ستالين.
الاغتيال
بعد أن زيفا ببشاعة حياة ليون تروتسكي، استمر كوت وستاتسكي في تزوير أكثر فظاعة لحادثة اغتياله. ففي النهاية تم تقديم قاتل تروتسكي، فرانك جاكسون (الستاليني الكاتالوني الذي كان اسمه الحقيقي رامون ميركادر) في أفضل صورة، كصحفي نزيه متعاطف مع الشيوعية يدخل في علاقة وثيقة مع تروتسكي، من أجل كتابة سيرة له.
هذا غير صحيح من البداية إلى النهاية. لقد كان ميركادر عميلا ستالينيا قام بإغواء مناضلة تروتسكية أمريكية شابة واستخدمها من أجل اختراق عائلة تروتسكي بغرض ارتكاب جريمة القتل بدم بارد. ولتحقيق هذه الغاية قام بإغراق الحراس بالهدايا وعرض عليهم كل أنواع الخدمات، مثل استخدام سيارته لنقل ألفريد ومارغريت روزمر إلى فيراكروز وما إلى ذلك. بهذه الطريقة اكتسب تدريجيا ثقة الحراس، بينما استمر يتظاهر طوال الوقت بعدم الاهتمام بالسياسة.
إن القول بأن جاكسون (ميركادر) كان على علاقة وثيقة بتروتسكي ادعاء كاذب تماما. لم تكن هناك أي علاقة من هذا النوع. لم تكن بينهما تلك المناقشات الوهمية التي تظهر في المسلسل. في الواقع كان تروتسكي يعتبره شخصا حسن النية لكنه جاهل سياسيا. وقد وافق على مضض فقط على قراءة مقال سلمه له، لمجاملته على الخدمات التي كان يقدمها لأصدقائه وعائلته. وكان قد بدأ يشعر بالقلق من الرجل وأخبر زوجته ناتاليا سيدوفا بأنه لن يقابله مرة أخرى. كان ذلك يوم الاغتيال، في 20 غشت 1940.
بسبب إهمال الحراس، الذين كانوا مناضلين تروتسكيين شباب وعديمي الخبرة (وليس الشرطة المكسيكية كما يزعم المسلسل)، تمكن ميركادر في ذلك اليوم المشؤوم من دخول المنزل وبقي وحده مع تروتسكي. إذا أردنا أن نصدق رواية كوت وستاتسكي سيكون ذلك القاتل اللطيف قد أحس فجأة (ولأسباب غامضة) بتأنيب الضمير فقرر أن يكون رحيما وأراد أن يغادر منزل تروتسكي.
عند تلك اللحظة تعرض لهجوم غاضب من قبل تروتسكي، الذي بدأ يضربه مرارا وتكرارا على رأسه بعصاه. فقام ميركادر، الذي كان في حالة دفاع شرعي عن النفس، بأخذ فأس تصادف وجوده بشكل غامض معلقا على الحائط، وضرب تروتسكي به وقتله. وكما هي العادة في هذا المسلسل السخيف، تقف الحقيقة على رأسها، فصار الضحية هو المعتدي، بينما صار القاتل ضحية بريئة!
ما حدث بالفعل هو أنه بعد أن تمكن القاتل من الوصول إلى تروتسكي بذريعة تصحيح مقال كتبه، وقف وراء ضحيته الأعزل، الذي كان يقرأ المقال الذي قدمه له. وعندما كان تروتسكي مشتتا بشكل كاف، ضربه ميركادر على رأسه بكل قوته باستخدام فأس صغير لكسر الجليد.
وقائع القضية واضحة وضوح الشمس. وكما أوضح إستيبان فولكوف (انظر الرسالة أعلاه)، أجرت الشرطة المكسيكية تحقيقا شاملا في ذلك الوقت، بما في ذلك إعادة تمثيل الجريمة بأدق تفاصيلها بحضور القاتل. لم يكن ميركادر يتصرف دفاعا عن النفس، بل إنه ارتكب بدم بارد جريمة قتل خطط لها قبل أشهر.
لم يكن سلاح الجريمة معلقا على الحائط، بل كان يحمله تحت معطفه (وقد كان يحمل معه أيضا سكينا ومسدسا). كان هناك بالفعل صراع، لكنه حدث بعد الضربة القاتلة وليس قبلها.
سواء كان ذلك بسبب العصبية أو أي سبب آخر، لم ينجح القاتل في تحقيق هدفه، إذ لم يمت تروتسكي على الفور. لقد قاتل بشجاعة، على الرغم من إصابته الرهيبة، في حين كان يستدعي الحراس لمساعدته. لقد احتفظ بوعيه لفترة كافية لكي يتعرف على مهاجمه ويأمر بعدم قتله، لكي يتحدث.
بعد يوم واحد، مات الماركسي وقائد الثورة الروسية العظيم. ومع مقتل تروتسكي، أكمل ستالين حملته لإبادة جميع قادة الحزب البلشفي. لقد أنجز دوره كحفار لقبر الثورة، كما توقع تروتسكي. وبهذا اكتمل اغتصاب البيروقراطية للسلطة من يد الطبقة العاملة الروسية. وبدت قوة البيروقراطية الستالينية بدون حدود.
لكن التاريخ انتقم من الستالينيين. لقد قوضت البيروقراطية الاقتصاد المخطط من خلال الفوضى والفساد وسوء الإدارة. وفي النهاية، قامت بتدمير الاتحاد السوفيتي وأعدت الطريق لعودة الرأسمالية وتصفية جميع مكاسب ثورة أكتوبر.
في الوقت الحاضر تحول أحفاد البيروقراطيين الستالينيين القدامى إلى رجال أعمال رأسماليين. يرتدون بذلات أنيقة، وتتزين زوجاتهم بالجواهر، ويعيشون في قصور ويتجولون في سيارات فارهة وطائرات خاصة. لقد اغتنت هذه العصابة من الأثرياء حديثي النعمة على حساب الطبقة العاملة الروسية. إنهم يرغبون بشدة في تصفية جميع ذكريات ثورة أكتوبر. وليست الأكاذيب المشينة الموجهة ضد تروتسكي سوى جزء من جبل الجليد الهائل من الأكاذيب والافتراءات التي تم اختلاقها لتحقيق هذه الغاية.
لكن أزمة الرأسمالية تدفع بجيل جديد من العمال إلى النهوض. وصار من الممكن الشعور بالهزات الأولى للثورة في جميع أنحاء العالم. لقد كرس ليون تروتسكي، ذلك المناضل الثوري وقائد ثورة أكتوبر وشهيد الطبقة العاملة العظيم، حياته كلها لقضية الطبقة العاملة، للنضال من أجل الاشتراكية، من أجل عالم جديد وأفضل.
إننا ندير ظهورنا باحتقار لافتراءات أعدائنا. إنهم يمثلون نظاما اجتماعيا مريضا ومنحطا محكوم عليه بالزوال. لدينا إيمان في المستقبل ومنظورنا هو نفس المنظور الذي ألهم ليف دافيدوفيتش تروتسكي لكتابة رسالته الأخيرة إلى العالم:
«إن الحياة جميلة. فلتعمل الأجيال القادمة على تطهيرها من كل شر وكل اضطهاد وكل عنف ولتستمتع بها على أكمل وجه». ليون تروتسكي، مدينة مكسيكو، 27 فبراير 1940.
آلان وودز وجوش هوليرود
14 مارس 2019
هوامش:
1: نتفليكس (Netflix) شركة ترفيه أمريكية تبث أفلاما ومسلسلات على الإنترنيت، تأسست سنة 1997.
2: Kuzmarov and John Marciano: The Russians Are Coming, Again: The First Cold War as Tragedy, the Second as Farce
عنوان النص بالإنجليزية:
Lies, damned lies and Netflix: the character assassination of Leon Trotsky