الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / الشرق الأوسط / فلسطين/إسرائيل / هل إسرائيل دولة ديمقراطية؟ حوار مع يوسي شوارتز

هل إسرائيل دولة ديمقراطية؟ حوار مع يوسي شوارتز

إنه من السائد بين فصائل اليسار وصف إسرائيل بدولة غير “ديمقراطية” اما الساسة البرجوازيون من امثال جون كاري – المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة – يعتبرون اسرائيل الدولة الديمقراطية الحقيقية والوحيدة في الشرق الاوسط. لا يساعدنا كلا الرأيين على فهم الطبيعة الحقيقية لإسرائيل. قام برنامج بانوراما الشرق الاوسط في اذاعة راسننس ف م Resonance FM (في لندن) بطرح جملة من الاسئلة تتعلق بالموضوع على يوسي شوارتز في اسرائيل. وقد تم قراءة بعض الردود خلال حلقة 10 أوت 2004 ونقوم الان بنشر الحوار كاملا.


إن حلفاء الامبريالية والذين يساندون الطبقة الحاكمة الاسرائيلية يذهبون الى القول انه بالمقارنة بالأنظمة الديكتاتورية القمعية في الشرق الاوسط فان اسرائيل دولة ديمقراطية تدافع عن نفسها من العمليات الانتحارية والمنظمات الارهابية وخطر تحطيمها بشكل يومي. علاوة على ذلك، وكحليف وفي للولايات المتحدة، تحارب اسرائيل اعداء الحضارة الغربية ضمن “الحرب على الارهاب”.

إن هذا التفكير يتجاهل واقع عقود من الاضطهاد يعاني منه الشعب الفلسطيني ويتجاهل كذلك دور اسرائيل بوصفها قوة امبريالية رئيسية في المنطقة. لذا فان هذه الحجة اليوم لم تعد تخدم الليبراليين بما ان تعاطفهم مع الصهيونية بعد المحرقة وقع تجاوزه برفضهم لجرائم الطبقة الحاكمة الاسرائيلية. يقوم الليبراليون الآن بإدانة الاحتلال اللاقانوني والانتهاكات المتكررة لقرارات الأمم المتحدة التي توجب اسرائيل الانسحاب من المناطق المحتلة. وبرغم ادانة الأمم المتحدة الواضحة لجرائم اسرائيل المتعددة ضد حقوق الانسان ولكن وبسبب الدعم الذي تتلقاه من الولايات المتحدة فان لإسرائيل الحرية في تجاهل تلك القرارات. ينتقد الليبراليون اليساريون الاصلاحيون بشدة القمع المنظم ضد الفلسطينيين وغياب المساواة أمام القانون التي يعاني منها العرب-الفلسطينيون في اسرائيل. ان هذه المظالم حقيقة بشعة.

يذهب الليبراليون الى القول بانه نظرا لانتهاكات حقوق الانسان هذه لا يمكن لإسرائيل ان تكون ديمقراطية “حقيقية” مثل الدول الغربية. هذه حجة ضعيفة. فجرائم الطبقة الحاكمة الاسرائيلية لا تختلف جوهريا عن جرائم الدول الامبريالية “الديمقراطية”. فاذا كان الليبراليون الراديكاليون الذين يشددون على ان اسرائيل ليست ديمقراطية غربية يستعملون نفس المواصفات في تعريفهم للدول الامبريالية “الديمقراطية” نفسها، فعليها يستنتجون ان الديمقراطية في جميع هذه البلدان ما هي الا خيال. ما تقوم به اسرائيل في غزة والضفة الغربية ليس بمختلف عن اعمال الولايات المتحدة في العراق. أيعني هذا أنه لا يوجد شكل من الديمقراطية في الولايات المتحدة؟ كذلك، يجب ان نلفت الانتباه الى حقيقة ان اسرائيل لم تكن الدولة الرأسمالية الوحيدة التي تببت في كارثة اللاجئين في 1947.

فجريمة تقسيم الهند سنة 1947 أدت الى نزاع طائفي ذهب ضحيته أكثر من نصف مليون شخص. وفر أكثر من سبعة ملايين ونصف لاجئ مسلم من الهند الى باكستان في حين غادر عشرة ملايين من الهندوس باكستان الى الهند. وفي 1974 أدى تقسيم قبرص من قبل تركيا واليونان الى كارثة مماثلة.

 أيعني هذا ان الهند واليونان ليستا دولتان ديمقراطيتان؟

إن واقع أن دولا رأسمالية أخرى اقترفت أعمالا وحشية لا يبرر انتهاكات الطبقة الحاكمة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ولكن اذا ما أردنا فض المشاكل التي يخلقها النظام الرسمالي علينا ان نواجه الحقائق – ليس بأفكار غامضة عن ديمقراطية خيالية. إنه المنهج المثالي الذي يخترع نموذجا غامضا عن الديمقراطية المثالية يستعمل كمقياس لتعريف أي دولة من الدول. هذه مقاربة غير علمية لفهم الواقع الاجتماعي.

من أجل الفهم الصحيح لطبيعة الدولة الإسرائيلية علينا أن ننطلق من كون إسرائيل شكل من الديمقراطية البرجوازية يتم فيها انتخاب حكومة ويشارك المواطنون الفلسطينيون في العملية الانتخابية ولهم أحزابهم الخاصة بهم. وحينما نقول أن إسرائيل هي ديمقراطية برجوازية فإننا لا نتجاهل حقيقة أن إسرائيل دولة إمبريالية او أنها في احتلال عسكري مباشر للضفة الغربية وغزة أو ان المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل يتعرضون إلى تمييز منظم. ما علينا إدراكه هو أن هذا وضع الدولة البرجوازية في مرحلة الانحلال الرأسمالي.

ما هي الديمقراطية البرجوازية؟ إنها شكل سياسي لدولة تحكم من أجل مصالح الرأسمالية. في هذا الشكل السياسي يقع انتخاب ممثلين عن البرجوازية في الحكومة عبر الطريقة البرلمانية.

نشأ هذا الشكل من الحكم في فترة قيام البرجوازية بثوراتها والتي قامت بها ضد النظام الإقطاعي وملاك الأرض الملكيين. وأول مثال للتمرد الشعبي ضد الملكية (بضم الميم) كان في انجلترا في سنة 1642 حيث تم إعدام الملك شارل الأول. وخلال القرون اللاحقة نجم عن العمل الثوري والسياسي الذي شمل أوروبا إرساء حكومات ديمقراطية برجوازية.

أما اليوم فإن النوعية التاريخية للبرجوازية مختلف تماما عن ماضيها ذاك. فلم نعد نعيش في زمن صعود الطبقة الرأسمالية حينما كانت بوسعها الادعاء أنها تقف من أجل التقدم الإنساني. فلا تملك الديمقراطية البرجوازية اليوم محتوى ديمقراطيا إذ أن الشركات الاحتكارية الكبرى هي التي تحكم العالم في عصرنا الحديث، وذلك برغم انها غير مدرجة في أي من الدساتير. فلقد حولت هذه الشركات الديمقراطية إلى مهزلة وتستعملها كطريقة لحجب ديكتاتورية راس المال المكشوفة. وتنكشف الأمور بجلاء عندما يدعم السادة “الديمقراطيون” الغربيون الانقلابات العسكرية والدول البوليسية وحتى الفاشية من أجل سحق الحركة العمالية.

نعيش عصر الإمبريالية وكل دولة إمبريالية كبرى تسعى إلى الهيمنة على الاقتصاد العالمي برمته. ولتحقيق ذلك يسيطر الإمبرياليون على البلدان غير النامية ويتنافسون فيما بينهم من أجل المصادر الطبيعية وقوة العمل والأسواق. ويتم ذلك إما عبر إخضاع بوليسي مكشوف أو عن طريق الحكم غير المباشر من طرف سلطة المؤسسات المالية والاحتكارية على الاقتصاد. وأي محاولة من عمال تلك البلدان لتحرير أنفسهم وتحسين ظروف حياتهم ووسائل الإنتاج وإرساء نظام أكثر ديمقراطية يتم مواجهتها بالعنف والتخريب الاقتصادي من طرف الشركات الاحتكارية الكبرى والأليغارشية المحلية. وكل من يتابع الأحداث في فنزويلا بإمكانه ملاحظة ذلك.

و لا تختلف إسرائيل عن أي واحدة من تلك الدول. فهي دولة رأسمالية وإمبريالية تحكمها الشركات الاحتكارية الكبرى.

فالتمييز الذي يعانيه المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل ليس بظاهرة منفردة. لقد مارست الدول الرأسمالية دائما التمييز ضد الأقليات القومية والعرقية ولا سيما خلال النزاعات المسلحة. فهي ليست إلا احدى الوسائل تستعملها البرجوازية للسيطرة على الشعب. ومثال ذلك تهجير وحجز السكان ذوي الأصل الياباني والألماني والإيطالي خلال الحرب العالمية الثانية من قبل الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا.

فأن نعتقد أن إسرائيل ليست بدولة ديمقراطية للتمييز المنظم الذي تمارسه ضد الفلسطينيين، فبنفس المنطق تكون الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وفرنسا (التي تمارس التمييز ضد المواطنين من أصل عربي) ليست دولا ديمقراطية.

إن هذا المفهوم السطحي للديمقراطية مفهوم خطير. لأنه يفيد الطبقة العاملة ان تناضل في ظروف الديمقراطية البرجوازية أكثر من نضالها عندما تكون تحت سطوة شكل عسكري أو فاشي من الحكم. وبالنسبة للذين يدعون إلى النضال الطبقي وهم جالسين على آرائكهم لا يعتبرون الأمر ذا أهمية . أما بالنسبة للنقابيين النشيطين السياسيين في حركة الطبقة العاملة يمثل ذلك مسألة حياة أو موت.

وراء حجة أن إسرائيل ليست ديمقراطية يوجد سب ضمني. إن المعنى الحقيقي لهذه الفكرة هو أن الإسرائيليين ليس لهم الحق في وطن وذلك بسبب الجرائم البشعة للدولة الإسرائيلية والتاريخ الدموي للحركة الصهيونية.

فحوى الحجة هو أن إسرائيل دولة استيطانية – استعمارية تشبه في كثير من النواحي النظام العنصري في جنوب أفريقيا.

إسرائيل دولة عنصرية ظهرت للوجود نتيجة مشروع استعماري قام به تحالف من اليهود الصهاينة الأوروبيين والقوى الإمبريالية الغربية. فقد سعى الصهاينة إلى الحصول على دعم أوروبي للإقامة في فلسطين وبالمقابل تكون الدولة التي تقام هناك قاعدة للإمبريالية الغربية في المنطقة. ولقد ساندت الولايات المتحدة إقامة دولة صهيونية. وفي 1948 اكتسحت القوات العسكرية الإسرائيلية معظم فلسطين (78 في المائة) وأخضع الباقي للاحتلال خلال حرب 1967.

و يذهب هؤلاء إلى القول أنه خلال كل ذلك كانت الطبقة العاملة الإسرائيلية-اليهودية برمتها متعاونة في إنجاز المشروع الصهيوني. فقد كانت النقابة الإسرائيلية الرئيسية الهستدروت – ولا تزال – إحدى قلاع الصهيونية. إذ يتم إقصاء اليد العاملة الفلسطينية من المؤسسات اليهودية إقصاء شديدا. وفي باقي الحالات يضطر العمال الفلسطينيون إلى الانخراط في الهستدروت، ولكن ليس على قدم المساواة مع العمال الإسرائيليين اليهود.

تحصل إسرائيل سنويا على بلايين الدولارات من الولايات المتحدة. وبفضل ذلك أصبحت إسرائيل مقاطعة اقتصادية للإمبريالية في السرق الأوسط. ويبلغ متوسط دخل الإسرائيلي 17.000 دولارا سنويا في حين يبلغ متوسط دخل الفلسطيني في المناطق المحتلة – في أفضل الأحوال – واحد من عشرين من دخل نظيره الإسرائيلي.

تشكل هذه الأفكار حجة الليبيراليين. ونقطة الضعف الكبيرة التي تتضمنها هذه الحجة هي أنها تحجب حقيقة أن عديد الدول أقيمت كمستعمرات استيطانية عن طريق اضطهاد السكان الأصليين. من بين هذه البلدان نجد الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، زيلندا الجديدة وأمم أمريكا الجنوبية. وأغلب هذه الدول هي دول إمبريالية وفي كل منها كانت القيادة الإصلاحية للحركة العمالية شريكة في جريمة الطبقة الرأسمالية، وإن صب اللوم على الطبقة العاملة من أجل جرائم القيادة العمالية الإصلاحية والطبقة الرأسمالية هو سمة مميزة لأخلاقية البرجوازية الصغيرة – لا الماركسية.

علاوة على ذلك فإن الحجة بكاملها تقوم على تزوير لبعض الحقائق وإهمال للبعض الآخر فعلى السبيل المثال، وعلى عكس حجة الليبيراليين، فقد عارض الإمبرياليون البريطانيون إقامة دولة إسرائيل.

فإثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، سارعت كل من بريطانيا وفرنسا إلى ضم مستعمرات جديدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومنذ البداية قام الإمبرياليون البريطانيون بوعد فلسطين لليهود والفلسطينيين على السواء. فقد كانت بريطانيا تتبع مصالحها الخاصة في المنطقة وغير مكترثة بإقامة إسرائيل. ففي سبيل تدعيم موقعها في الشرق الأوسط انتهجت الإمبريالية البريطانية سياسة “فرق تسد” في إيقاع اليهود والعرب ضد بعضهم البعض.

و بحلول سنة 1939 رفض الإمبرياليون البريطانيون بشدة فكرة دولة يهودية مستقلة. وخلال الحرب العالمية الثانية تقدمت الحكومة البريطانية بسياسة “الورقة البيضاء”، متصرفة كما لو كانت فلسطين ملكية بريطانية. وقد قامت الإمبريالية البريطانية بتحديد عدد اليهود المسموح لهم بدخول فلسطين. في تلك الفترة اتخذت هذه الإجراءات صبغة وحشية.

أشهر مثال على ذلك المعاملة البربرية لللاجئين اليهود على متن الباخرة الرومانية ‘ستروما’. فبعد فرار من قضاء مبرم على ّأيدي النازيين، كان على ظهر السفينة ما يناهز عن 800 يهوديا اتجهوا في الأول إلى تركيا ثم إلى فلسطين. لكن في الأخير وبعد ضغط ديبلوماسي من البريطانيين على تركيا رفضت الأخيرة السماح للباخرة بالسير نحو فلسطين. وبعد أكثر من شهرين، تم جر السفينة إلى البحر الأسود. وخلال مدة قصيرة لاحقة غرقت بسبب انفجار لم يعرف مأتاه. ولم يتمكن من النجاة إلا اثنين. وهكذا، وبسبب المشاركة الخسيسة للإمبريالية البريطانية، وقع أعداد لا حصر لهم من اليهود في فخ المناطق الأوروبية التي احتلها النازيون بدون ان يكون لهم أي منفذ للهروب.

و كرد فعل، نظم الصهاينة مجموعات إرهابية لشن حملات دموية ضد البريطانيين والفلسطينيين هدفهم من ذلك إخراج الاثنين من فلسطين وبذلك يمهدون الطريق لإقامة الدولة الصهيونية.

إثر الحرب العالمية الثانية عمل الإمبرياليون البريطانيون على جعل الجامعة العربية (التي تكونت في 1945) تعتقد أن أفق تكوين دولة يهودية في فلسطين قد زال بفضل “الورقة البيضاء” لسنة 1939. ومن ثمة أعلنت الجامعة العربية عن قبولها ﺑ “الورقة البيضاء” آملة في انتهاء محاولات اليهود لبناء دولة في فلسطين.

أفرزت مخلفات المحرقة سيناريوا جديدا تماما. فقد اكتسب المثال الصهيوني دعما. وتزايد باستمرار عدد اليهود القادمين إلى فلسطين. وأولئك الذين وصلوا لم تكن لديهم النية في إبداء أي وفاق حول مسألة بناء إسرائيل.

كانت توصية الأمم المتحدة تنص على تقسيم فلسطين على أن تكون القدس مدينة تحت إدارة أممية. وجد العرب الفلسطينيون، الذين يمثلون 70 في المائة من السكان ويملكون 92 في المائة من الأراضي، أنفسهم لا يسيطرون إلا على 47 في المئة من البلاد! (قرار الأمم المتحدة عدد 181) وبذلك اقترفت جريمة كبيرة ضد الشعب الفلسطيني.

و عندما صوتت لجنة الأمم المتحدة لفلسطين على التقسيم كان هناك 33 صوتا ساندوا القرار وثلاثة عشر صوتوا بلا، في حين احتفظ عشر بأصواتهم. وكانت بريطانيا من بين اللذين امتنعوا عن التصويت! إذن فقد أقيمت إسرائيل برغم تعارض ذلك مع مخططات الإمبريالية البريطانية.

ورفض العرب قرار التقسيم لسنة 1947. وبتشجيع وتسليح من البريطانيين أعدوا للحرب لإزالة الصهاينة ودرء إقامة دولة يهودية في فلسطين.

 و ماذا كان موقف الإمبريالية الأمريكية والاتحاد السوفياتي؟

خلال المراحل الأولى من النزاع عاضدت الولايات المتحدة سياسة بريطانيا. إلا أن الطبقة الحاكمة الأمريكية كانت منقسمة حول المسألة. وفي الأخير، طانت الغلبة للجناح المساند لإسرائيل بدعم الرئيس الأمريكي ترومان تكوين دولة لليهود. وكان الغرض المبيت من المخطط هو إضعاف الإمبريالية البريطانية وتدعيم التأثير الأمريكي في الشرق الأوسط.

و في نهاية الحرب العالمية الثانية وجدت البيروقراطية الستالينية نفسها في نزاع مع حلفائها السابقين في الغرب، واضطروا الى البحث عن مراكز دعم. في نهاية الحرب كان الشرق الأوسط تحت هيمنة الإمبريالية البريطانية والإمبريالية الفرنسية. وفي الوقت الذي عارضت فيه بريطانيا إنشاء إسرائيل اعتقدت البيروقراطية الستالينية أن إنشاء دولة يهودية سيكون ضربة ضد السيطرة البريطانية في المنطقة. وذهب الستالينيون إلى حد مد اليهود في فلسطين بالأسلحة عبر تشيكوسلوفاكيا. وبالتالي قامت دسائس البيروقراطية الستالينية (بقيادة ستالين نفسه) بخيانة الطبيعة الحقيقية للسياسة الأممية، مقادة باعتبارات من أجل السلطة والنفوذ – لا مصالح وحاجات عمال العالم. وهكذا داس الستالينيون حقوق الفلسطينيين من أجل – ما رأوه عندها- إضعاف الإمبريالية البريطانية.

إن الفكرة الخاطئة بأن جميع السكان الإسرائيليين يمثلون وحدة جماهيرية رجعية تهمل حقيقة أنه توجد عدة أمثلة عن النضال المشترك بين العرب واليهود.

فبعد الحرب العالمية الثانية سادت العالم حالة من التخمر الثوري وبصفة خاصة في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. فلم يتمكن الإمبرياليون من النجاح في التدخل عبر العمل العسكري وحده. فقد تطلب وسائل أخرى مكنتهم من تأمين نظامهم. وقد توفرت لهم أدوات تحقيق ذلك في شكل التعاون بين الاشتراكيين-الديمقراطيين الإصلاحيين وتقارب الأحزاب الشيوعية ذات سياسة الوفاق الطبقي، تلك الأحزاب التي كانت قد تخلت عن أي أفق ثوري في سبيل مصالحة الستالينية بالإمبرياليات الغربية. وكانت حرب 1948 في فلسطين إحدى الأدوات التي استعملها الإمبرياليون لفرض نظامهم.

أكثر العلاقات درامية في تاريخ العمل المشترك بين العمال العرب واليهود تعود إلى أفريل 1946. فقد أطلق عمال البريد والهاتف والتلغراف حركة اتخذت بعدا لا سابق له، مؤدية إلى إضراب شامل لموظفي الحكومة من ذوي الياقة الزرقاء والبيضاء. فقد تجاهل ورفض مسؤولو سلك البريد لمدة طويلة مطالب عمال البريد. فأعد سامي طاها من جمعية العمال العرب بفلسطين و وياهزكال ابراموف، كاتب عام الاتحاد الدولي لعمال سكك الحديد والبريد والتلغراف، إضرابا يشارك فيه بصفة خاصة العمال اليهود في البريد والهاتف بتل أبيب. وتحدد تاريخ الإضراب ليوم 9 أفريل 1946. وفي هذه القطاعات كان للنقابين العرب واليهود خبرة سنوات طويلة من العمل المشترك وبالتالي علاقات جيدة فيما بينهم.

و في اليوم المحدد دخل العمال (بمن فيهم 30 أو 40 عربيا موظفون في مكتب بريد تل أبيب) في إضراب. وفي اليوم التالي توقف جميع عمال البريد في فلسطين عن العمل. وخلال المحادثات تحرك مسؤولو البريد بسرعة وتقدموا بقائمة من التنازلات. وأوصى الهستدروت بان يقبل العمال العرض وينهوا الإضراب. وكما حدث في مناسبات مماثلة، خشى الهستدروت أن يضعف الإضراب الحملة الصهيونية لإجبار الحكومة البريطانية على تسليم فلسطين إلى المهاجرين اليهود. ولم تعد قواعد عمال البريد تثق في وعود المسؤولين ولم يكونوا مستعدين للوفاق. فصوتوا بالإجماع ضد عرض الحكومة ولفائدة مواصلة الإضراب. وبسرعة تعالى المد النضالي وفي 14 أفريل التحق العمال العرب واليهود بسكك الحديد بالإضراب وكانوا مصممين على الصمود أمام محاولات الإدارة في السيطرة عليهم. وكانوا كذلك ضد زعمائهم أنفسهم، هؤلاء الذين خذلوهم في احترام حقوقهم وطرح مطالبهم.

و هكذا نجح العمال العرب من اتحاد عمال الحديد العرب والعمال اليهود من الاتحاد الدولي، نجحوا معا في شل حركة سكك الحديد بكامل البلاد. ولم يسبق ان حدث مثل ذلك الإضراب الشامل لعمال سكك الحديد والبريد في فلسطين. والأروع من ذلك هو التحاق موظفي الياقة البيضاء من الدرجات المتوسطة والدنيا في الحكومة بالإضراب.

و بحلول 15 أفريل 1946، وأقل من أسبوع على بداية إضراب عمال بريد تل أبيب، كان قد التحق بالإضراب ما مجموعه حوالي 23 ألف موظفا حكوميا. وبدى لفترة أنه ليس فقط عشرات الآلاف من العمال المستخدمين في القواعد العسكرية البريطانية وإنما كذلك عمال النفط في قرب حيفاء كان من المحتمل أن دخلوا في إضراب. وقد أمل الشيوعيون العرب واليهود ان يحدث ذلك. فقد دعا منشور 14 أفريل المشترك الذي تقدمت به عصبة التحرر الوطني والحزب الشيوعي الفلسطيني، عمال مصافي النفط والقواعد العسكرية والعمال البلديين إلى الالتحاق بالإضراب العام. إضافة إلى ذلك ندد المنشور ﺑ “الحكومة الإمبريالية” لفلسطين لتخصيصها أكثر من خمس الميزانية السنوية إلى الشرطة والسجون و8 في المائة فقط للصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية. إلا أنه قاما الهستدروت وجمعية العمال العرب بكل ما في وسعهم لوقف انتشار الإضراب وذلك عن طريق إبقاء عمال المصافي والقواعد العسكرية في مراكز عملهم. فكالعادة كان مبدأ الهستدروت في العمل هو الهدف الصهيوني. وفي نفس الوقت تلقى سامي طاها مكالمة هاتفية من مقر الجامعة العربية في القاهرة تدعوه لأن لا يذهب بعيدا في تعاونه مع اليهود. وبناء على ذلك قام بمحاولات لإحباط الروح النضالية لدى العمال العرب، بل ومنع عمال النفط من الالتحاق بالإضراب.

و قد عبر النقابيون العرب اليساريون عن غضبهم لما اعتبروه تخريب سامي طاها للإضراب. فقد هاجمت صحيفة “الاتحاد”، جريدة الشيوعيون العرب الذين نظموا عصبة التحرر الوطني في ذلك الوقت، هاجمت بسخرية “النقابيين الشرفاء” لجمعية العمال العرب بفلسطين. لقد دافع هؤلاء “النقابيون الشرفاء” عن فكرة أنه في الوقت الذي يرسل فيه الهستدروت باستمرار ممثليه للتدخل في الإضراب وقيادته، فإن السبيل الوحيد لإجهاض خطط الهستدروت الصهيوني وتحرير إخوانهم العمال العرب من قبضته يكون… بالعودة إلى العمل! وتقدوا بهذا المطلب بحجة أن الإضراب قد تم فرضه على العمال من الخارج عن طريق دسائس الهستدروت ومسؤوليه!

و محذرة من “العناصر الانهزامية والرجعية يهودا وعربا”، أعلنت رابطة التحرر الوطني والحزب الشيوعي الفلسطيني بأن الإضراب يمثل “ضربة ضد سياسة ‘فرق تسد’ الإمبريالية، وصفعة على وجوه أولئك الذين يحملون أفكارا شوفينية ويبثون الانقسام الوطني”. وساندت “ميشمار”، صوت هاشومر هاتزايير، هي الأخرى الإضراب قائلة أن التحرك أثبت قدرة ونجاعة التعاون العربي- اليهودي.

و لكن فشلت هذه التطورات الثورية في المضي قدما. ويعود ذلك إلى خيانة قيادة الهستدروت والجناح اليميني الصهيوني والقوميين العرب والزعماء المحافظين لجمعية العمال العرب بفلسطين وبخاصة الضغط الذي مارسه ستالين وأعوانه. وقد ساعدت أعمالهم الإمبرياليين الذين تمكنوا من تغيير مسار النضال الطبقي وخلق ظروف المآسي الدموية لأواخر 1947 و1948 والتي تعرف بالنكبة.

 ماذا عن فكرة دولة رأسمالية ديمقراطية ولائكية واحدة؟

إن أولئك المنتمين إلى المجموعات اليسارية والذين ينكرون أن تكون إسرائيل شكلا من الديمقراطية الرأسمالية يدافعون عن دولة ديمقراطية لائكية تجمع المسيحيين والمسلمين واليهود على أرض فلسطين التاريخية.

و يقولون لنا ان أفضل حل هو توحيد جميع الفلسطينيين مع اليهود الإسرائيليين الذين يرفضون أن يلعبوا دور المستوطن الاستعماري ضد وجود السكان الأصليين، والذين لا يرغبون في أن يكونوا أسيادا على شعب آخر أو مستفيدين من نظام عنصري. بالنسبة لأغلب الإسرائيليين لا تمثل هذه الفكرة حلا على الإطلاق، وإنما تهديد. فهم يريدون قطعة أرض يشعرون فيها بالأمان. وفي رأيهم، هذا الحل لا يمكن الا أن يفرض عليهم عنوة وهم مستعدون لمقاومته.

و من المفارقة أنه حتى ولو تحقق هذا النداء من أجل دولة ديمقراطية موحدة، فإن الحصيلة بالنسبة للفلسطينيين ستكون الاحتواء داخل الدولة الصهيونية بوصفهم مواطنين من درجة ثانية.

و ماذا عن فكرة دولتين؟

خلال ما يناهز الستون سنة لم ينفك الإصلاحيون عن الحديث عن دوليتين رأسماليتين منفصلتين كحل. وستون سنة هي زمن كاف، إذ لم يتحقق فيها تقدم حقيقي ليثبت أن فكرة دولتين رأسماليتين هي حل غير واقعي.

و حتى لو كان ذلك ممكنا، فإن أفضل ما يمكن أن تمنحه الإمبريالية للفلسطينيين في هذه الحالة سيكون ‘دولة’ شبه مستقلة بدون حدود متماسة وعلى ما يقل عن 22 في المائة من فلسطين. مثل هذه البلاد لن تكون مستقلة تماما بما أن القوة العاملة والاقتصاد سيكونان في قبضة إسرائيل، وستكون منزوعة من السلاح وبدون حدود دولية . إضافة إلى ذلك لن تكون هذه الدولة قادرة على لعب دور نشط في القرارات والتحديات التي تواجه محيط وثروات المنطقة، وستكون فاقدة للسيادة الكاملة على الطاقة والماء والمواصلات والجو والصيد البحري والتجارة.

إن ما يجب التأكيد عليه هنا هو ان دولتين مستقلتين بالكامل على أسس رأسمالية لن تعرفا الوجود. إذ أن الطبقة الحاكمة الإسرائيلية لن تسمح بذلك. إن الحل الوحيد للمشكلة لا يتحقق إلا بالإطاحة بالرأسمالية الإسرائيلية بالتوازي مع الإطاحة أيضا بكافة الأنظمة الديكتاتورية العربية المجاورة. وهذا يعني ضرورة سياسة ثورية توحد الطبقة العاملة اليهودية والعربية ضد عدوهما المشترك.

و من أجل بلوغ ذلك على العمال من الجانبين أن ينتهجا أفقا أمميا. إذ عليهم أن يدركوا أن مشاكلهم لن تحل من داخل الحدود القومية الضيقة . على العمال في إسرائيل وفلسطين أن يركزا نضالهم ضد عدهم المشترك: الرأسماليين وملاك الأرض الذين يهيمنون عليهم. فالعمال اليهود ليسوا أعداء للعمال الفلسطينيين، والعكس صحيح أيضا. فحتى في الوقت الذي يهاجم فيه شارون الفلسطينيين فهو في نفس الوقت يمرر اجراءات اجتماعية واقتصادية مجحفة ضد العمال اليهود. وحدث نفس الشيء خلال الفترة التي تم فيها السماح بوجود سلطة فلسطينية وشاهدنا كيف شرعت النخبة الفلسطينية في إثراء نفسها على حساب العمال الفلسطينيين.

ألا يوجد حل؟

إن الرأسمالية في انحلال، وبالتالي لا يوجد حل في ظل الرأسمالية. وفي عصر الانحلال هذا لا يوجد إلا حل واحد للمسألة القومية، وهو الحل الاشتراكي في شكل ديمقراطية اشتراكية.

يمكننا أن نستخلص من تجارب روسيا بعد 1917 أنه قبل ثورة أكتوبر كانت هناك نزاعات كبيرة بين الأرمن والأذربيجانيين أسفرت عن مجازر في باكو. وعلى أساس سلطة عمالية وقع تكوين جمهوريتين اشتراكيتين ضمن فدرالية اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. فكانت لكل أمة حدودها الخاصة بها وبعد أن تم إزالة تهديد الاضطهاد القومي لم تعد الحدود تمثل مشكلة. وحدث نفس الشيء في يوغوسلافيا ولئن لم يكن هناك نظاما اشتراكيا فعليا. فبعد أن وصل تيتو إلى السلطة، تم تشكيل جمهورية فدرالية مع تحديد مناطق حدودية للصرب والكروات و لمجموعات أخرى. إن الفصل النهائي بين الشعوب هو مستحيل بطبيعة الحال بل وليس مرغوبا فيه من وجهة نظر اشتراكية. اذ ستوجد دائما أقليات، وعلى هذه الأقليات أن تتمتع بنفس الحقوق كبقية الشعوب الأخرى المتواجد في نفس المنطقة الحدودية. ففي يوغوسلافيا السابقة كان للصرب والكروات و السلاف والمقدونيين الخ… مناطق حدودية يعتبرونها ملكا لهم. وعلى أساس تطور اقتصادي بمعدل نمو يبلغ 10 في المائة سنويا، وعلى امتداد فترة تم فيها تحطيم التناحرات القومية. وخلال عقود عاشت الشعوب المختلفة مع بعضها البعض متمتعة بحرية التنقل عبر كامل يوغوسلافيا السابقة. فقد كانت الحدود بين الجمهوريات مفتوحة. و للأسف وبسبب الأزمة الاقتصادية التي جلبها حكم البيروقراطية، عادت الرأسمالية و عادت معها جميع المشاكل القديمة.

و على أساس النظرة الماركسية بالإمكان إقامة فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط تتمتع ضمنها كل أمة بالحكم الذاتي التام بما في ذلك الحق في تقرير المصير. وبذلك يكون بالإمكان ضمان وطن لكلا الشعبين اليهودي والفلسطيني. و في غضون سنوات وبحكم النمو الاقتصادي للفدرالية الاشتراكية الذي يوفر العمل والسكن اللائق والماء الصالح للشراب والرعاية الصحية ومنحة التقاعد للجميع يكون بالإمكان حل المسألة القومية بالتعاون والتعاضد المنسجم بين شعوب الشرق الأوسط.

و تبقى مشكلة اللاجئين الذين لهم الحق في العودة الى أرضهم. إن الحل لا يمنكن أن يكون ببساطة العودة إلى نفس الأرض و البيوت التي ملكوها قبل 1848. فاليوم و لمدة أجيال تسكن إسرائيل أمة أخرى . وفي حدود إسرائيل وفلسطين كدولتين رأسماليتين لا يمكن توفير مساكن وشغل وخدمات اجتماعية للجميع. ومن الثابت أن يخسر البعض. فإن يتم عودة أربعة ملايين فلسطيني إلى أرضهم في هذه الظروف فإنهم سيغمرون اليهود. وستستغل الطبقة الحاكمة الإسرائيلية ذلك لصالحها بأن تثير العداوة بين الشعبين. ولذلك لن يقبل اليهود في إسرائيل بذلك على أساس رأسمالي. وكما وضح لينين فإن المسألة القومية هي بالأساس مسألة خبز. فما إن يقع حل المشاكل الاقتصادية يبدأ النزاع القومي، في مجرى التقدم، في الاضمحلال.

 أليس الأفق الاشتراكي حلما؟ كيف بالإمكان طرح مثل هذا الحل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؟

يقال لنا أن أغلب الناس لا يمكنهم القبول بحلنا ويعتبرونه هذيانا. ولكن الواقع هو أنه لم تعد الرأسمالية شكلا مجتمعيا تقدميا. فالطبقة الحاكمة اليوم عاجزة عن تطوير قوى الإنتاج. وعاجلا أم آجلا، ستجد الطبقة العاملة نفسها – وحتى في إسرائيل- مدفوعة الى النضال كخيار وحيد. وفي خضم هذا النضال سيستخلص العمال الدروس الضرورية من الواقع والحلول المتاحة لمشاكلهم من منظور عمالي طبقي.

القدس، أوت 2004 ترجمة: نضال الدائم

العنوان الأصلي للنص:

Is Israel a Democracy? An Interview with Yossi Schwartz

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *