يوم الاثنين الماضي لم تكن الأشياء تسير على ما يرام بالنسبة لشارون. إذ لم ينجح في إقناع ديوانه بتسريع الانسحاب من غزة رغم انه تمت الموافقة عليه مبدئيا من طرف حكومته مند شهرين، حيث سبق للحكومة أن صرحت بان كل المستوطنين الثمانية الآلاف سوف يغادرون غزة بحلول شهر شتنبر من السنة المقبلة وسوف يتم سحب الجنود مع متم سنة 2005. لقد هلل الرئيس الأمريكي جورج بوش لهذا الإعلان في ابريل الماضي، كما استقبل بحفاوة من طرف العديد من الإسرائيليين في ما يسمى معسكر السلام أما الآن فقد خانه حتى أصدقاؤه المقربون. مما جعله يشعر بالغبن.
و كما لو أن كل هذا لم يكن كفاية لشارون ليجد أن وزير الأمن العمومي تزاخي هانيبي TZACHI HANEGHI سيكون مجبرا على الاستقالة بعد قرار المدعي العام ميناحيم مازوز MENACHEM MAZUZ بفتح تحقيق جنائي ضده بعد إصدار تقرير مفتشي الدولة، الأسبوع الماضي، الذي اتهم الوزير بتجاوزات فادحة وبقيامه بتعيينات سياسية خلال مدة احتلاله لمنصب وزير البيئة 2001-2003. لابد أن شارون يقول لنفسه الآن لماذا على هذا الغبي أن يذهب الآن بالضبط ويجعل نفسه معرضا للاعتقال.
يوم الثلاثاء صباحا قامت قوات إسرائيلية بإطلاق النار على سيارة إسعاف عند نقطة تفتيش عسكرية جنوبي قطاع غزة. مما أدى إلى جرح طبيب وسائقه، حسب ما جاء في تقرير لمصادر طبية وحقوقية. لقد كان يبدو بشكل واضح أن هذا اليوم سوف يكون يوما عسيرا جدا بالنسبة لشارون. لكن الحياة مليئة بالمفاجآت العجيبة والسارة.
إذ في مساء نفس اليوم قتل 16 شخصا من بينهم طفل في الثالثة من عمره وجرح مائة آخرون اثر هجمات انتحارية في حافلتين ببئر السبع جنوب إسرائيل. وقد أذاع التلفزيون الإسرائيلي صورا للحافلتين المحترقتين حيث تبدو النيران تخرج من سقف إحداهما. فيما تظهر جثتان على الأقل مغطاتان بثوب ابيض ممدودتان على الأرض قريبا من مكان الحادث.
لقد تبنت حماس هذا الهجوم الإرهابي الإجرامي الذي استهدف المدنيين. وينحدر منفذا الهجومين الانتحاريين، احمد قواسمة ونسيم جابري من عائلتين شهيرتين من مدينة الخليل.
ويعتبر هذا الهجوم هو الأول من نوعه داخل إسرائيل مند خمسة أشهر.
و قد صرح الناطق باسم حماس أن هجومي بئر السبع جاءا للانتقام لمقتل قادتها، الشيخ احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، اللذان اغتيلا في ربيع هذه السنة. وعلى سؤال لأحد مراسلي قناة الجزيرة للناطق الرسمي باسم حماس في غزة سامي أبو زهري حول لماذا انتظروا كل هذا الوقت للانتقام أجاب قائلا: “لقد كان علينا أن نحضر لهذه العملية بدقة، لهذا انتظرنا”.
لكن هذا المبرر ليس صحيحا. فالسبب الحقيقي اكبر من مجرد إشكالات تقنية كما سوف نشرح لاحقا.
لقد جاء هذا العمل الإجرامي – إجرامي لا سواء من وجهة النظر الإنسانية ولا السياسية – كهدية لشارون. ولابد أن هذا الأخير شعر بان هذا اليوم هو الأسعد بعد العديد من العثرات. إذ تخلص سريعا من جميع مشاكله السابقة وانخرط في الهجوم على الإرهاب.
و مباشرة بعد العملية توعد ارييل شارون بان “الحرب على الإرهاب سوف تتواصل بأشد قوة”. إن هذه العملية مكنت شارون من فرصة القيام بالعمل الذي يتقنه: أي العمليات العسكرية ولفت الانتباه عن المشاكل التي يواجهها.
لقد قرر شارون ووزيره في الدفاع شاؤول موفاز، شن هجوم عسكري في مدينة الخليل بالضفة الغربية. وأعطى الأوامر بان يتم إغلاق الخليل مما سوف يؤدي إلى تقييد حرية الفلسطينيين في الحركة بشكل كبير. ومباشرة بعد الهجوم الانتحاري عملت، فرق من قوات الدفاع الإسرائيلية، على تدمير منزلي منفذي العملية بالضفة الغربية.
قبل حدوث هذه العمليات كان شارون يحاول تمرير مشروع قانون جديد في البرلمان يخص إجلاء بعض المستوطنين من غزة. وبالرغم من المعارضة التي يواجهها داخل حزبه، فان شارون صرح لواضعي القوانين التابعين لحزبه اليميني الليكود يوم الثلاثاء، بان مسودة مشروع قانون سوف تنال قبول البرلمان مع مطلع شهر نونبر. وسوف يتم عرض مشروع القانون الذي يهدف إجلاء كل من المستوطنين والجنود من غزة، على المجلس الوزاري يوم 26 شتنبر. آنذاك سوف يعمل شارون على الحصول على موافقة المجلس على ذلك المشروع بحلول يوم 24 أكتوبر. وأضاف “إنني أتوقع أن يتم تبني القانون من طرف البرلمان يوم 3 نونبر”.
ردا على تعليقات شارون أعلنت السلطة الفلسطينية أنها مستعدة لتحمل مسؤولياتها في تلك المناطق المحتلة التي ستنسحب منها إسرائيل. لقد رحبت السلطة الفلسطينية بمشروع الانسحاب من غزة وصرحت بأنها تؤيد الانسحاب الإسرائيلي من أي جزء من الضفة الغربية وغزة. وطبعا أضاف عريقات: “إننا نؤكد أن الانسحاب المتوقع يشكل خطوة في تطبيق خارطة الطريق وليس بديلا عنها”.
لقد تبنت السلطة الفلسطينية مشروع شارون بالرغم من أن عرفات والمحيطين به يعلمون جيدا جدا أن هذا المشروع يتضمن توسيع الأراضي التي ستراقبها إسرائيل في الضفة الغربية. أما حماس فإنها غير سعيدة، لكن ذلك ليس راجعا لأي نوع من المعارضة الجدية أو المبدئية لمشروع شارون، بل راجع لمسالة أكثر أهمية. إذ أنها وبالرغم من قبولها بان تشكل جزءا من هذه الصفقة، فان شارون رفض السماح لها بان تصبح شريكا.
سبق لنا أن شرحنا في مقالات سابقة، كيف أن السبب الحقيقي الكامن وراء عدم لجوء حماس إلى القيام بعمليات ما، مباشرة بعد قتل قادتها، هو كونها كانت تنتظر أن يتم إشراكها في الحكومة الفلسطينية في غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي.
و هذا ما تم تأكيده يوم 8 غشت عندما أخبرت الصحيفة المصرية الأهرام قراءها بان الحكومة المصرية قد توصلت إلى اتفاق مع حماس يضمن استمرار الوحدة الفلسطينية بعد أي انسحاب إسرائيلي من الأراضي الفلسطينية.
و قالت صحيفة الأهرام الشبه الرسمية أن الاتفاقية تضمنت “تدعيم الوحدة الوطنية الفلسطينية وتدابير مرتبطة بضمان وحدة البيت الفلسطيني خلال مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي”. وأضافت الصحيفة أن هناك معلومات حول التوصل إلى اتفاق مبدئي بين إسرائيل ومصر يقوم بموجبه حراس الحدود المصريين بتعويض قوات الشرطة في حراسة حدود مصر مع غزة.
في قطاع غزة نوه قادة إسلاميون “بالعملية البطولية” عبر منابر المساجد، كما خرج حوالي 20.000 من أنصار حماس إلى الشوارع يغنون ويوزعون الحلوى احتفالا بالانفجارات والخسائر التي سببتها.
لكن رغم ذلك هناك العديد من الفلسطينيين الذين ضجروا من كل هذا التقتيل ضد المواطنين الأبرياء – من الجانب الفلسطيني والإسرائيلي – عبروا عن إدانتهم للعملية.
و قد صدرت إدانات أخرى للعملية لكن بخلفية مختلفة. من بينها تلك التي عبر عنها الوزير الأول الفلسطيني احمد قريع الذي كان في القاهرة للتحضير للقاء كان من المنتظر عقده يوم الأربعاء في رام الله بين وزير الخارجية المصري احمد أبو الغيث والجنرال عمر سليمان وبين رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، لوضع خططهم لفرض “القانون والنظام” بغزة بما يتوافق ومصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل بعد الانسحاب. إلا أن هذا اللقاء قد الغي بسبب حدوث العمل الإرهابي.
لا يحتاج الأمر للكثير من الذكاء لمعرفة أن الأعمال الإرهابية التي حدثت يوم الثلاثاء ( خمسة أشهر بعد أن أدى إرهاب الدولة الإسرائيلي إلى قتل اثنين من قادة حماس) إنما كان هدفه هو بالضبط إلغاء أي اتفاق حول الانسحاب الإسرائيلي من غزة لا يأخذ بالحسبان حركة حماس كشريك في الصفقة. بعبارة أخرى أن قتل 16 مدني إسرائيلي لم يكن أكثر من تكتيك للضغط استعملته حماس لتتمكن من المشاركة في خيانة الفلسطينيين، سكان الضفة الغربية، مقابل تقاسم السلطة في غزة! هذا هو مستوى الحقارة التي وصل إليها هؤلاء!.
إن هذا يزيد من التأكيد على ضرورة وجود قيادة حقيقية للطبقة العاملة، سواء لدى الشعب الإسرائيلي ولدى الشعب الفلسطيني. فطالما ظلت المبادرة بين أيدي الرجعيين من كلا الجانبين، لن يكون هناك أي حل للصراع.
يوسي شوارتز
02 شتنبر 2004
العنوان الاصلي:
The real reason behind the Be’er Sheva suicide attacks in Israel