من النادر أن نرى مثل هذا الفرق الكبير بين أهمية حدث ما وبين الحملة الإعلامية التي تصاحبه. إذ بفوزها بالانتخابات التشريعية الفلسطينية، أثارت حماس موجة من ردود الفعل الدبلوماسية، والكثير من افتتاحيات الصحف والبرامج الوثائقية. هذا مع أن المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي حصلت حماس فيه على76 مقعد من أصل 132، هو مجلس بدون سلطة فعلية، تماما كالسلطة الفلسطينية.
في الأصل، كانت حماس مجرد جمعية إسلامية للأعمال الخيرية. ويعود الفضل في تطورها إلى الطبقة السائدة الإسرائيلية وحماتها الامبرياليين، الذين كانوا ينظرون إليها كوسيلة للحد من نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات اليسارية في الأراضي المحتلة. لم تضع السلطات العسكرية الإسرائيلية مطلقا أي حواجز أمام معاملاتها المالية وأنشطتها الاجتماعية. وقد تحولت المنظمة إلى حزب سياسي سنة 1987، عشية الانتفاضة الأولى، التي لم يكن لا لفتح ولا لحماس دور في إشعال فتيلها.
بالرغم من “منجزاتها الاجتماعية” وديماغوجيتها المعادية للامبريالية، فإن حماس حزب رجعي. نجد مثيلا له في إيران، والأسر المالكة في الخليج الفارسي. حيث تعتبر هذه الأنظمة من بين الأنظمة الأكثر رجعية على وجه الأرض، وهم في أغلبهم حلفاء مخلصون للامبرياليين الغربيين.
يرجع انتصار حماس إلى إفلاس فتح، التي أثار فسادها وعجزها، غضب جماهير الشعب الفلسطيني. لقد عبرت الانتخابات عن رفض الفلسطينيين لاثنتي عشرة سنة من ما يسمى مسلسل السلام، والتي لم تتوقف خلالها شروط عيشهم عن التدهور، كما استمرت عمليات مصادرة الأراضي وما يرافقها من مضايقات وإذلال.
لقد بدأ، منذ الآن، اليمين الإسرائيلي ومعه أهم القوى الامبريالية في التبرم من نتائج الانتخابات العامة ! وبدأ الضغط على حماس من أجل إجبارها على الاعتراف بإسرائيل، ويتم التهديد بوقف الإعانات المالية، التي بدونها لا تستطيع الأراضي الفلسطينية العيش. ردود الفعل هذه تتعارض بشكل قوي مع المديح الذي وجه لرئيس الوزراء شارون، بعد دخوله للمستشفى، والتبجيل الذي لاقاه قراره بالانسحاب من قطاع غزة.
الانسحاب من غزة
لم يكن الانسحاب من قطاع غزة نتيجة للعمليات الانتحارية، التي تخدم مصلحة اليمين الإسرائيلي، ولا نتيجة لسياسة حماس أو فتح. وهو أيضا أبعد ما يكون عن الدليل على حسن الإرادة لدى الحكومة الإسرائيلية. إن هذه الأخيرة تريد أن تعطي الانطباع بكونها تقدم التنازلات للفلسطينيين، في الوقت الذي لا تقدم فيه أي شيء في الواقع. السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة لا تزال محكمة. فالقطاع محاط بسور لا يمكن عبوره. وحدودها البحرية والجوية، المقفلة هي الأخرى بإحكام، لا تزال تحت السيطرة الإسرائيلية. لا توجد أي بنية تحتية اقتصادية تسمح بإقامة تنمية مستديمة لهذه الأراضي التي تعيش على مختلف الإعانات، خاصة منها الأوروبية. تصيب البطالة 70 % من الساكنة التي يعيش ثلثاها تحت عتبة الفقر. وأخيرا، تعتبر غزة هدفا دائما لعمليات القصف والاغتيالات “المنتقاة” من طرف القوات المسلحة الإسرائيلية. غزة هي البانتوستان الأول في فلسطين، منطقة كل مهمتها هي إبقاء الساكنة تحت المراقبة. إن الانسحاب من قطاع غزة يهدف، قبل كل شيء، إلى ستر السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
غزة ليست، في الواقع، إلا الخطوة الأولى، من مخطط يهدف – بواسطة “جدار الفصل” الشهير- إلى عزل الشعب الفلسطيني في غيتوهات اقتصادية غير قادرة على البقاء ومعزولة عن بعضها البعض. الهدف النهائي هو ضم أفضل جزء من الضفة الغربية والاحتفاظ بالسيطرة على باقي الأراضي الفلسطينية، كل ذلك مع تحميل الأعباء الاقتصادية على كاهل الأوروبيين والدول العربية.
منظورات
إذا كان للأسوار وأبراج المراقبة نوع من الفعالية ضد عمليات التسلل، فإنها عاجزة أمام صواريخ القسام، التي تطلق من حين لآخر على المدن الإسرائيلية. إن هذه الغيتوهات الفلسطينية ستبقى مصدر عدم الاستقرار في المنطقة ولن تضمن أبدا السلام لإسرائيل. المشروع السياسي لكاديما، الحزب الذي أسسه شارون، ليس إلا هروبا إلى الأمام لن يوقف الإرهاب الفلسطيني، ولا نضالات الجماهير. وهو أيضا يسير إلى الإفلاس، مثله مثل سياسة الجمود التي يدافع عنها الليكود. كما أن برنامج حماس لا يقدم، من جهته، أي منظور جدي لتحسين شروط عيش الفلسطينيين، فبالأحرى وضع حد للاحتلال. إن شعار “تدمير إسرائيل” هو كلام فارغ ورجعي بالكامل ومرفوض من طرف 84% من الفلسطينيين حسب استطلاع رأي أجري مؤخرا. وفي المقابل فإن أغلبية الإسرائيليين لا يؤيدون تعنت وشوفينية كل من كاديما والليكود.
يحاول اليمين الإسرائيلي تحويل حماس إلى فزاعة يستعملها على أمل تأجيل رد فعل العمال الإسرائيليين ضد سياسته الداخلية الكارثية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
المستقبل القريب للشعب الفلسطيني سوف يتحدد، في جزء منه، خلال الانتخابات الإسرائيلية القادمة. ولكنه يتحدد أيضا خارج الحدود الإسرائيلية والفلسطينية. الأنظمة العربية الرئيسية غير مبالية بمصير الفلسطينيين، بل متواطئة. الطبقات السائدة في هذه البلدان تستفيد من الحماية التي توفرها لهم القوى الامبريالية الكبرى. حتى هذه اللحظة، وحدها حركة الجماهير – الانتفاضة- من تمكنت من إحداث تغيير ولو مؤقت في مجرى الأحداث. إن الاقتصاد الفلسطيني مندمج بشكل كبير مع الاقتصاد الإسرائيلي.
فدرالية لدولتين متساويتين، كيفما كان شكلها، هي المنظور الجدي الوحيد الذي يملكه الإسرائيليون والفلسطينيون. لكن هذا مستحيل مطلقا على قاعدة رأسمالية. الطريقة الوحيدة لتحقيق هذا المنظور، ستكون هي تحقيق الاشتراكية في الشرق الأوسط. ووحدهم عمال الشرق الأوسط، عندما سيحسمون السلطة، سوف يخلصون هذه المنطقة من الهيمنة التي تمارسها عليها القوى الامبريالية الكبرى، مع كل الخسائر البشرية والاقتصادية التي تسببها.
يزيد مالك
الأربعاء: 15 مارس 2006
العنوان الأصلي للنص :