لقد توصلنا صبيحة هذا اليوم بالخبر الفاجعة: وفاة الرفيق تيد غرانت، أياما قليلة بعد عيد ميلاده الـ 93. لقد كان الخبر صدمة هائلة لنا جميعا. بالرغم من تقدمه في السن والتدهور الواضح لحالته الصحية خلال المدة الأخيرة، فإننا كبرنا ونحن نعتقد أنه سيظل دائما هنا، الراسخ دائما وسط الاضطرابات والتحولات.
كان يبدو كما لو أن حتى تيد نفسه كان مقتنعا بأنه لن يشيخ أبدا، ولم يكن يهتم بالموت. هذا ما يفسر نفوره الشهير من احتفالات عيد الميلاد. عندما ذهبت لزيارته خلال عيد ميلاده، كان غير مبال تماما بالزينة التي كانت على باب غرفته. لقد كان مهتما فقط بسماع الأخبار السياسية وأخبار النضال الثوري وعمل التيار الماركسي الأممي. لقد كان رجلا عاش فقط من أجل قضية الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية. لقد ظل هكذا حتى النهاية.
بالرغم من أنه عاش أغلب سنوات حياته في بريطانيا، فإن مسقط رأس تيد غرانت هو جنوب إفريقيا، ولم يفقد أبدا لكنته الأصلية. لقد ولد سنة 1913 في جيرمستون، بضواحي جوهانسبورغ. لقد قال لي أنه دخل إلى الحياة السياسية أول مرة بسبب المعاملة التي كان يلقاها العمال السود. لقد اهتم بالماركسية منذ سن مبكرة جدا. قال لي أنه بدأ يقرأ كتاب الرأسمال عندما كان سنه 14 سنة. لقد كان ذلك بداية حياة طويلة من عشق النظرية الماركسية.
بتأثير من الثورة الروسية، تم كسبه إلى الحركة التروتسكية بفضل رالف لي، الذي كان عضوا في الحزب الشيوعي الجنوب إفريقي، والذي طرد منه لتأييده للمعارضة اليسارية. بسبب الظروف الجد صعبة في جنوب إفريقيا، قرر الرفاق الانتقال إلى بريطانيا، حيث كانوا يرون إمكانيات عظمى لبناء الحركة. سنة 1934، انتقل تيد إلى لندن، حيث عاش بقية سنوات حياته.
قبيل اندلاع الحرب العالمية بقليل، تزعم تيد مبادرة بناء رابطة العمال الأممية (WIL)، التي تعتبر المجموعة الأصلية التي ننحدر منها. وقد اندمجت الرابطة لاحقا مع تروتسكيين آخرين لتشكيل الحزب الشيوعي الثوري (RCP). لقد ظل تيد دائما فخورا بالعمل الذي أنجزته رابطة العمال الأممية والحزب الشيوعي الثوري. إن إصدارات تلك المرحلة، بما فيها the Socialist Appeal (النداء الاشتراكي)، تحتوي على ثروة من المواد السياسية القيمة التي من المفيد جدا قراءتها اليوم. بعض هذه المواد يمكن إيجادها في The Unbroken Thread (الخيط المتواصل)، التي هي باقة هامة من كتابات تيد، ونسعى إلى إعادة نشر أغلبيتها على صفحة موقعنا Tedgrant.org.
إغتيال تروتسكي
لقد سددت عملية اغتيال تروتسكي شهر شتنبر 1940، ضربة قاصمة لقوى الأممية الرابعة الشابة والفاقدة للتجربة. لسوء الحظ، لم يكن قادة الأممية الرابعة في حجم المهام التي وضعها التاريخ على كاهلهم. وقد سقطوا، بسبب فقدانهم لقيادة تروتسكي، في سلسلة من الأخطاء الجوهرية. وحدها قيادة الحزب الشيوعي الثوري في بريطانيا من تمكنت من التكيف مع الوضعية العالمية الجديدة بعد 1945.
لقد كان ذلك نتيجة للقدرات النظرية لتيد غرانت. إن كتاباته حول الاقتصاد، الحرب، الثورة في البلدان المستعمرة وخاصة حول الستالينية، كانت ولا تزال، من الأدبيات الأساسية للماركسية الحديثة. على قاعدة تلك الأفكار صار بإمكان قوى الماركسية الحقيقية أن تتجمع وتبنى في ظل ظروف صعبة.
لقد أكد تيد دائما على الدور الحيوي للنظرية الماركسية، التي كان لديه ولع حقيقي اتجاهها. عند كل مرحلة تطور هامة للأحداث، كان دائما يعود إلى الأدبيات الأساسية للماركسية، كتابات ماركس، إنجلز، لينين وتروتسكي، التي كان يعرفها كظاهر يده. لقد شكل هذا أساس كل أعماله والسر في نجاحاته. إن هذا يفسر كيف كان بمقدوره الحفاظ على لحمة مجموعة صغيرة من الرفاق الأوفياء خلال سنوات الازدهار الرأسمالي المظلمة والصعبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حين تقلصت قوى الماركسية الحقة إلى حفنة ضئيلة، وحين كان تيارنا يتشكل من مجرد جيوب معزولة من المؤيدين في ليفربول، لندن وساوث ويلز.
يتطلب الأمر التوفر على شجاعة من نوع خاص لمواصلة السير خلال مرحلة التراجعات العامة والردة، كمرحلة الخمسينات. إلا أن تيد غرانت كان دائما زاخرا بحيوية لا حدود لها. لقد كان لديه إيمان راسخ بمستقبل الاشتراكية ونقل هذا الإيمان إلى كل من التقاه. لقد تمتع أيضا بروح دعابة رائعة، تنتقل إلى كل من حوله كالعدوى. عندما يكون تيد بالجوار، لم يكن يمكن للمرء أن يشعر بالإحباط أو بالقنوط. لكن في آخر المطاف، كانت روح التفاؤل العظيمة تلك مستندة دائما إلى النظرية الماركسية.
وبمساعدة رفاق من قبيل جيمي وآرثر دين، بات وول وغيرهم من المناضلين المخلصين، تمكن تيد ليس فقط من الحفاظ على التيار حيا، بل تقويته أيضا. لقد طور المنظور القائل بأن القوى الماركسية لا يمكنها أن تبنى إلا من خلال عمل منهجي وصبور داخل صفوف المنظمات الجماهيرية للطبقة العاملة. هذه المنظمات كانت تعني، في بريطانيا، النقابات وحزب العمال وخاصة منظمة الشباب الاشتراكي.
تيار المناضل (The Militant)
أول مرة التقيت فيها تيد غرانت كانت سنة 1960، عندما جاء للحديث إلى الشباب الاشتراكي بسوينسي، التي كنت عضوا فيها. لقد أذهلني عمق إلمامه بالماركسية والوضوح الذي كان يشرح به حتى أكثر الأفكار تعقيدا بلغة سهلة. لقد كنا نطور تدريجيا قاعدتنا داخل الشباب الاشتراكي، ليس فقط في ليفربول ولكن أيضا في لندن، تينيسايد وسوينسي وبريتون.
سنة 1964، قررنا إصدار جريدة جديدة تحت اسم Militant. لقد نظمنا اجتماعنا الأول في غرفة صغيرة في بار ببريتون. وأشك أن يكون قد لاحظ وجودنا العديد من الناس آنذاك. لكن في غضون خمسة عشر سنة كان تيار Militant قد صار رقما هاما في الحياة السياسية البريطانية وصار اسما شهيرا. وقد وصفه أحدهم مرة قائلا أنه رابع أقوى حزب سياسي في بريطانيا. وبالرغم من أننا لم نكن نشكل بعد حزبا، فإن هذا الوصف يمتلك جانبا من الصحة. حيث في مرحلة أوجه، كان التيار يضم حوالي 8000 عضو، مقر كبير في لندن وثلاثة أعضاء برلمانيين وعدد من المناضلين المتفرغين أكبر مما كان لدى حزب العمال.
بفضل عمل تيار Militant، لاقت الأفكار الماركسية تأييدا كبيرا داخل صفوف حزب العمال والنقابات. لقد كان هذا دليلا ملموسا على صحة الأفكار والتكتيكات والمنهجيات التي طورها تيد غرانت. صار الجناح اليميني داخل الحزب ومؤيدوه الرأسماليون معزولين. لقد كان في مقدورهم الضحك على تهريج المجموعات العصبوية الموجودة على هامش الحركة العمالية، لكننا كنا مختلفين.
طبعا، شن الجناح اليميني حملة شعواء ضد تيار Militant، توجت بموجة من عمليات الطرد. سنة 1983، طرد تيد من حزب العمال، إلى جانب باقي أعضاء هيئة التحرير. وقال في خطاب جريء موجه لمؤتمر حزب العمال: « سوف نعود!» قال لهم أنه ليس هنالك من طريقة يمكن بها فصل الماركسية عن الحركة العمالية.
لقد كان هذا بالتأكيد هو الموقف الوحيد الصحيح الذي يجب تبنيه. لقد كان تيد غرانت يقول دائما: « ليس هنالك شيء خارج حزب العمال!» لقد اتضحت صحة هذه الكلمات آلاف المرات. إلا أنه لا يزال هنالك بعض الناس الذين لا يتعلمون أبدا. لكن مع الأسف سمح جزء من قيادة التيار لانتصاراتنا هذه أن تلعب بعقولهم. لقد قرروا أن يتبعوا الطريق المألوف لدى جميع العصبويين وقطعوا مع حزب العمال. ولكي يقوموا بهذا، كان عليهم أن يعملوا في البداية على طرد تيد وهؤلاء الذين أيدوه من بيننا. لقد برر هؤلاء المسؤولون عن هذا العمل المجنون الإجرامي، فعلتهم هذه بأن تلك كانت “طريقا مختصرة” للوصول إلى الجماهير، وهو ما رد عليه تيد بروح دعابته المألوفة: « نعم إنها طريق مختصرة نحو الهاوية»، وهكذا كانت.
إنني أتذكر تلك الاجتماعات التي كانت تنظمها مجموعة صغيرة من الرفاق في شقتي ببيرموندسي. كما لو أن ذلك حدث أمس، أتذكر مزاج تيد الجيد. بعد أن طردنا من Militant، علق ساخرا: « حسنا هذا أفضل انشقاق شاركت فيه!» لكن في الحقيقة، وجدنا أنفسنا (ببريطانيا وحدها على الأقل) في موقف صعب جدا. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ساد مزاج من الإحباط صفوف اليسار. تعرضت الماركسية للهجومات من كل الاتجاهات. ما الذي كان علينا فعله في ظل ظروف من ذلك القبيل؟
سيرا على نهج تيد، قررنا أن أول واجباتنا كانت هي الدفاع عن الأفكار الأساسية للحركة. نشرنا كتاب: Reason in Revolt، (الذي لاقى نجاحا عظيما على الصعيد العالمي). ثم بعده كتاب تيد غرانت: Russia – from Revolution to Counterrevolution. تيد وأنا تعاوننا في كتابة العديد من الكتب الأخرى والمنشورات والمقالات، التي أعتبرها نقطة الأوج في التعاون السياسي وعلاقة صداقة حميمية استمرت 46 سنة، حتى صباح اليوم.
ذكريات تيد
يعرف قراء: Socialist Appeal وموقع: Marxist. com، تيد غرانت كمنظر ماركسي من الطراز الرفيع. لكن ماذا عن تيد غرانت الإنسان؟ لقد كان شخصا إنسانيا جدا- على عكس الفكرة الشائعة عن الثوري باعتباره شخصا مرعبا. لقد كان لين العريكة دائما ويمكنه أن يناقش جميع المواضيع مع أي شخص تصادف وجوده إلى جانبه- حيث يشبه شيئا ما سقراط في الأغورا (Agora) بأثينا، لقد كان شعاره بالأحرى هو: « أنا لا أعتبر أي إنسان غريبا علي».
أتذكر أنه عندما كنت بجامعة سوسيكس (Sussex)، تمكنا من كسب طالبين من أعضاء منظمة هيلي. لقد كانا شابين لامعين وكانا يريدان التحدث إلى تيد، فحددت موعدا للقاء. استمر النقاش مدة طويلة، وبدا واضحا أنهما ذهلا. بعدها سألتهما كيف كانت المناقشة، فقالا أنهما دهشا للمدى الموسوعي لمعارفه. عند نقطة معينة سأله أحدهما إذا كان يعرف شيئا عن اسكندنافيا، وهو ما رد عليه قائلا: «ليس كثيرا» عندها بدأ خطبة دامت ساعة من الزمن حول الحياة السياسية والتاريخ والاقتصاد لبلدان النرويج، السويد والدنمارك.
لقد كان لديه مجال واسع من الاهتمامات وكان بمقدوره الحديث عن كرة القدم وسباق الخيل (كان يحب المراهنة بين الحين والآخر) وكذلك الآداب والثقافة بشكل عام. كتابه المفضلون كانوا هم جاك لندن وغلاس وورثي. في أحد المرات قال لي ملاحظة عن إحدى روايات غلاس وورثي: «لقد أظهر البرجوازيين كما هم في الواقع، وهم لم يغفروا له ذلك أبدا». ما أروعه من منظور للنقد الأدبي! إلا أنه، لم نقدر أنا وهو أبدا أن نتفق حول جيمس جويس.
لقد كان تيد دائم الاهتمام بصحته. وكان يقول بنبرة معاتبة:« لم يكن ماركس ولينين يهتمان بنفسيهما»، وكأنه يوبخ مؤسسا الاشتراكية العلمية على إهمالهما. لقد كان أيضا شديد الاهتمام بمأكله. كان، على سبيل المثال، يحب أن يأكل كمية كبيرة من الفواكه عند الإفطار. لم يكن يدخن ولم يبدأ في شرب كأس واحد من النبيذ الأحمر، مع الأكل إلا خلال السنوات الأخيرة لأنه قرأ في مكان ما أنه جيد للصحة. وكانت له، من جهة أخرى، شهية مفتوحة حيث أن أكثر من رفيق وجد نفسه مجبرا على الأكل خارج البيت وبعد العودة إلى البيت بعد واحدة من زيارات تيد الخاطفة. إلا أن وزنه لم يكن يزداد بفضل برنامج صارم من التمارين التي كان يحافظ على القيام بها بطريقة دينية، لمدة ساعة على الأقل، كل ليلة قبل الخلود إلى النوم.
لم يكن تيد يهتم مطلقا بمظهره الخارجي. الاستثناء الوحيد كان عندما زار أخته الكبرى راي في باريس. لقد كانت راي (التي توفيت السنة الماضية فقط)، على عكس أخيها، جد مهتمة بالموضة ولم تكن لتشعر بالسعادة إلا إذا ظهر أخوها أمامها مرتديا هنداما لائقا. لذلك، وقبل بضعة أسابيع من الانطلاق في رحلته إلى باريس، أكثر تيد من الإلحاح على الرفاق لمساعدته في شراء بذلة ملائمة. كان يجب أن تكون بذلة زرقاء – كما شرح- لأن هذا ما تحبه راي. وبعد عدة سنوات من إنجازه هذا، سأل أحدهم راي عن رأيها في بذلة تيد الجديدة، وهو ما ردت عليه قائلة: « أتمنى أن يتكرم أحد ما بأن يقول له أن يتوقف عن شراء هذه البذل الزرقاء القبيحة!»
تيد غرانت الرفيق
لم يكن تيد بالرجل الذي من السهل العمل معه. إذ أن تمكنه العميق من الماركسية وإصراره على تحقيق 100% من الصحة، جعلا منه إنسانا صارما جدا، خاصة عندما كان يتعلق الأمر بالكتابة. كان يمكنه أن يقرأ مسودة ما عشرات المرات، بقلم أحمر في يده، يشطب ويسطر ويخربش في الهامش تعليقات لا يمكن حل رموزها، بينما يقف الكاتب السيئ الحظ مصدوما. لقد كان هذا يزعج بعض الناس، لكنني شخصيا كنت أنظر إليها كتمرين مفيد. فقبل كل شيء، المهم هو الأفكار وليس الأنانية الشخصية لكتاب طموحين. إن هؤلاء الذين يضعون الأفكار فوق كل شيء يتعلمون الكثير.
لقد كانت لتيد شهية غير محدودة للعمل السياسي والنقاش. لكن كان لديه روتينه الخاص ولم يكن يسمح لنفسه بأن يكسره. إنه لم يكن يقرأ الجرائد اليومية بل كان يلتهم كل سطر فيها. كان كل يوم يقرأ الفايننشل تايمز، مورنينغ ستار و(لسبب لم أتمكن أبدا من فهمه) الدايلي إكسبريس. كان يقول: « يجب عليك أن تقرأها جميعها، ابتداء من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، هذا هو التاريخ المعاصر». كان يحب دائما أن يشارك في المظاهرات، يقطع صفوف المتظاهرين جيئة وذهابا، وفي يده Socialist Appeal مرفوعة عاليا بجرأة. عادة ما كان يبيع من الجرائد أكثر من أي مناضل آخر. كان فيه شيء ما يجعلك لا تستطيع أن تقول له لا.
لكن المكان الذي يجد فيه نفسه حقا كان هو الخطابات الجماهيرية. لقد كان عادة يخطب لمدة ساعة -وأحيانا أكثر من ذلك- ويستطيع دائما لفت انتباه المستمعين. خطاباته تظهر تمكنا عميقا من الموضوع، ويسرد عددا وافرا من الوقائع («الوقائع، الأرقام والحجج هي ما تحتاجه» هذا ما كان يقوله عندما كان بصدد تعليم طرق الكتابة والنقاش الجماهيري).
لم يكن يستعمل في خطاباته أيا من تلك العبارات السلبية، الحقيرة الحاقدة التي تميز عادة صراخ العصب. لم يكن يقوم بأية هجومات شخصية، لكنه كان يترك المجال لروحه المرحة، خاصة عندما يكون بصدد الحديث عن البرجوازيين والقادة اليمينيين. أحيانا ينفجر ضاحكا عندما يتحدث عن حماقات هؤلاء السيدات والسادة، لقد كان لذلك أثر العدوى حيث يدفع الجميع إلى الانفجار ضحكا.
لقد كان تيد يهتم على وجه الخصوص بالاقتصاد الماركسي والفلسفة الماركسية. يعتبر منشوره Will There be a Slump? تحفتا حقيقية بينما يشكل مقاله The Marxist Theory of the State واحدا من الأعمال القليلة جدا في الماركسية الحديثة التي يمكن القول عنها أنها أضافت إلى نظرية ماركس وانجلز وطورتها. وفي علاقة مع اهتمامه الشديد بالفلسفة الماركسية، تتبع عن قرب جميع تطورات العلم الحديث. لقد كانت هناك ملاحظة، على وجه الخصوص، صدمتني بقوة. لقد قال أنه في العقل البشري، « صارت المادة أخيرا واعية بنفسها»، سيكون من الصعب تخيل طريقة أجمل من هذه للتعبير عن المادية الفلسفية.
المرحلة الاخيرة
أثناء الفترة التي شهدت انشقاق تيار Militant كان تيد قد صار “رجلا شابا” في الثامنة والسبعين من عمره. إلا أنه واصل العمل كما من قبل. كان يسافر إلى بلدان أخرى ويلقي خطبا تدوم ساعة ونصف. لقد كان يظهر عليه أنه سيستمر هكذا إلى الأبد. أحيانا كان يبدو أنه أقنع نفسه بذلك. لقد كان إنجازا رائعا حقا. لكن الطبيعة تؤكد إن عاجلا أو آجلا هيمنتها.
لقد كان تيد يتحدث في أحد الاجتماعات في لندن، قبل بضعة سنوات، عندما تعرض لنوبة مفاجئة كادت تقضي عليه. بعدها عرفنا أنه تعرض لجلطة خفيفة، لقد تعافى بعدها، لكن الضوء الأحمر كان قد اشتعل. لقد قامت مجموعة من الرفاق الأوفياء بمساعدة تيد بكل ما في مستطاعهم، لكن ظروفه الصحية كانت بدأت تتدهور بشكل واضح. وقد تسارع هذا التدهور بعد إجراءه لعلمية على البروستات. لم يعد قادرا على القيام بالعمل كما في السابق وصار يتحدث نادرا فقط في الاجتماعات.
في أواخر حياته أصبح محتاجا لمتفرغين محترفين في العناية فأدخل دارا للعجزة في الريف قرب رومفورد. كانت لديه كتبه هناك وكان الرفاق يزورنه للتأكد من أنه يتلقى العناية التامة. في هذا السياق، نود على وجه الخصوص شكر الرفاق ستيف وسيوجونس. لقد كان تيد مرتاحا بما فيه الكفاية، بصحة جيدة بالنسبة إلى سنه، لا زال قادرا على السير بدون مساعدة، ولم يكن يشعر بأي ألم، لكنه كان قد صار عاجزا عن العودة إلى النضال مجددا. لقد كان يريد سماع أخبار عمل التيار (الأحاديث التافهة لم تكن تهمه على الإطلاق). أخبرته بالنجاحات التي كان التيار الماركسي الأممي يحققها في فنزويلا، ابتهج وقال: « إذن نحن نقوم بعمل جيد هناك؟»، « نعم تيد نحن نقوم بعمل جيد جدا. وكل شيء بفضلك أنت»
بالرغم من أنه عموما كانت قدرته على التركيز وذاكرته يتدهوران بشكل متزايد، فإنه كان يتحدث بشكل واضح عندما يكون قادرا على المشاركة في النقاشات السياسية. لقد حاولت استثمار تلك الأيام من أجل إجراء بعض الحوارات الصحفية معه حول تاريخ الحركة، والتي نشرناها على صفحات Marxist. com وقد سألته قبل بضعة أسابيع: « لو أنك التقيت مع تشافيز، ماذا كنت ستقول له؟» فأجاب فورا: « سأقول له احسم السلطة»
لقد كان آخر يوم زرناه فيه آنا (Ana) وأنا هو يوم الأحد الماضي يوم عيد ميلاده الثالث والتسعين. لقد بدا عليه أنه أبطأ من العادة ولم يتكلم كثيرا. لكنه كان لا يزال قادرا على مصاحبتنا إلى الباب الرئيسي. منذ ذلك اليوم فصاعدا صرت أحرص على أن أهاتفه كل يوم تقريبا. ويوم أمس مساء اتصل بي مرة أخرى وسألني متى سأزوره، فأجبته أنني سأهاتفه يوم الجمعة صباحا، حيث كنت أتمنى أن أصحب معي منصور أحمد، البرلماني الماركسي من باكستان، لكي يراه. لقد كان مسرورا جدا وعلى هذا الأساس افترقنا.
لم يكن لهذا اللقاء أن يتم مطلقا. إن تيد غرانت لم يعد بيننا. إن هذا الرجل الذي قدم الكثير جدا في الدفاع عن الأفكار الماركسية، والذي قام لوحده تقريبا بإنقاذ تراث التروتسكية من الغرق، قد غادرنا. بالنسبة لهؤلاء من بيننا الذين تعلموا على يد تيد غرانت، الذين عملوا وناضلوا إلى جانبه في بناء الحركة الثورية، والذين ظلوا أوفياء له حتى النهاية، كان لهذا الخبر عليهم وقع الصاعقة.
لقد كان آخر ممثل حي لجيل متميز- جيل من الثوريين العظماء، الذين قاتلوا تحت راية ليون تروتسكي والذين أنقذوا شرف ثورة أكتوبر وحافظوا على تراثها لتمريره، سالما وناصعا، إلى الجيل الجديد. لقد كان تيد غرانت أبرز ممثلي ذلك الجيل. لقد أوصل الراية إلينا أوصل لنا البرنامج والنظرية والمنهجيات والأفكار التي بها فقط يمكن تحقيق الانتصار.
لم يكن تيد غرانت أبدا إنسانا شاعريا. إنه لم يكن ليريدنا أن نضيع وقتنا في البكاء والألم. نحن نتألم لفقدان رجل عظيم وصديق عظيم ورفيق عظيم، لكننا سنخلد ذكراه بالطريقة الوحيدة التي كانت لتسعده: بتطوير العمل من خلال الدفاع الحازم عن الأفكار الماركسية وببناء التيار الماركسي الأممي. سوف نقيم نصبا تذكاريا لتخليد ذكرى الرفيق غرانت-نصب خالد هو المنظمة البروليتارية-. النصب القادر على تغيير العالم.
لم يكن هنالك أحد يشبه تيد غرانت عندما كان حيا ولا أحد يمكنه أن يعوضه بعد أن غادرنا. لكن يوجد في صفوف التيار الماركسي الأممي العديد من الكوادر المحنكة الذين استوعبوا أفكاره ومنهجياته ومستعدين تماما لتطبيقها في الواقع. لا يمكن لأي كان أن يشك في أن التيار الذي خلقه ورباه تيد غرانت، يتطور بثبات ويحقق الإنجاز بعد الآخر على الصعيد العالمي. إن نفوذ ومكانة هذه الأفكار لم تكن في أي وقت مضى عالية كما هي الآن. هذا هو الدليل الأفضل على صحة أفكار تيد غرانت وصحة مقاربته. إنه مبرر عمل حياته، الذي نحن جميعا مدينون له.
آلان وودز
الخميس: 20 يوليوز 2006
عنوان النص بالإنجليزية: