“كما يعود الكلب إلى قيأه، يعود الأحمق إلى حماقته” (الأمثال، 26:11)
بعد نشر مقالي حول العراق: طبول الحرب في واشنطن أو هجمة بوش الأخيرة، تلقيت رسالة من الدكتور كارلوس ألزوغاراي تريتو، Carlos Alzugaray Treto، (رئيس ومنسق قسم الدراسات الدولية والاستراتيجية في المعهد العالي للعلاقات الدولية، وزارة الخارجية) بهافانا، والذي قدم الملاحظات التالية:
«يبدو لي أن المقال جيد جدا. أنا أتفق مع 99% منه. وليس لدي سوى توضيح واحد بخصوص الدوافع وراء الحرب على العراق:
لقد توصلت إلى فرضية أن الطبقة السائدة في الولايات المتحدة بمجملها تعتبر أن الاستخدام الاستعراضي للقوة العسكرية المفرطة يشكل وسيلة فعالة جدا لهيمنتها على العالم. إنها تحاول أن تبرهن لجميع خصومها أنه، كما تقول، “كل أنواع المقاومة عقيمة”. بالرغم من أنه في كل حالة كانت هناك دوافع أخرى فإنها عملت، مرة بعد أخرى، (غراندا 1983، بانما 1989، حرب الخليج 1991، الصومال، كوسوفو 1999، أفغانستان 2001، العراق 2003) دائما على اختيار خصوم ضعفاء ومن السهل هزيمتهم، لكي تقول هكذا لهؤلاء الخصوم وللآخرين وللعالم بأسره: الولايات المتحدة لا تقهر (مثل فيلم رامبو وغيره من أفلام هوليود). هذا هو ما يجعل النزيف الذي تعرفه القوات المسلحة في العراق، والذي شرحته بشكل جيد جدا، خطيرا جدا على نظام الهيمنة. إنه يضرب مصداقية التأثير الاستعراضي لانتصار عسكري ساحق، الذي هو العامل الحاسم للسيطرة، من وجهة نظر الطبقة السائدة في مجملها.
تحياتي من كوبا
كارلوس»
تعليقات الدكتور كارلوس ألزوغاراي تريتو مرحب بها كثيرا ويمكنها أن تساعدنا على تعميق تحليلاتنا للوضع العالمي العام ولدور الولايات المتحدة.
من الصحيح جدا القول أن الإمبريالية الأمريكية، خاصة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وضعت لنفسها هدف السيطرة على العالم بأسره وسحق أي بلد يحاول مقاومتها. شعار الولايات المتحدة هو: “إفعل كما نقول لك، وإلا فإننا سنقصفك“، “إفعل كما نقول لك، وإلا فإننا سنجتاحك“. وصحيح أيضا أن مسألة النفط (التي لها أهمية جلية) لم تكن الاعتبار الأكثر أهمية في قرار الولايات المتحدة اجتياح العراق، بل بالأحرى اعتباراتها الاستراتيجية الأوسع في الشرق الأوسط.
إلا أن الغاية من وراء مقالي كان بالضبط إظهار أن الولايات المتحدة قد أحرقت أصابعها في العراق. وبدل أن تحقق أهدافها الاستراتيجية، السياسية والاقتصادية، عانت الولايات المتحدة من نكسة عظيمة، كما قال الدكتور كارلوس ألزوغاراي تريتو. وبدل أن يستعرضوا قوتهم، عملوا على استعراض حدود قوتهم. وسيكون لهذا عظيم الأثر.
لكن أهم نقطة في مقالي كانت هي الإشارة إلى أنه صار من الأكيد، من وجهة نظر الإمبريالية الأمريكية، أن اجتياح العراق كان خطأ فادحا جدا. إن الفكرة القائلة بأن خطوات الإمبرياليين محسوبة بعناية وموجهة حسب خطة ذكية، هي فكرة خاطئة(وقد سبق لي أحيانا أن تطرقت إلى ذلك). لمسألة القيادة في أي حرب أهمية حاسمة. في السياسة كما في الحرب، يمكن للميزات الشخصية للقادة أن يكون لها تأثير هام.
تدخل مثل هذه العوامل، بالطبع، في إطار المصادفات التاريخية. لا يمكنها أن تؤثر على مصير الصيرورة التاريخية بمجملها. لكن يمكنها بالتأكيد التأثير على الظواهر الخاصة، منتجة لتيارات معقدة، وتبطئ أو تسرع بعض خطوط التطور. لو لم يكن الأمر كذلك لصار التاريخ شأنا بسيطا جدا ولصار من السهل جدا توقع تطوره.
لا تنكر الماركسية دور الفرد في التاريخ، بل تشرح أن ممارسات الرجال والنساء ليست مجرد نتيجة للإرادة الحرة، لكنها محددة بالشروط المادية الملموسة التي تشكلت باستقلال عن إرادتهم ووعيهم. ممارسة قائد ما يحدها بالضرورة السياق المعطى. في ظل شروط موضوعية ملائمة، أخطاء القائد لا تكون لها بالضرورة تأثيرات خطيرة ودائمة. في ظل مثل هذه المرحلة يمكن حتى لقائد متواضع المواهب أن يحقق نتائج باهرة بالرغم من ضعفه. لكن في ظل سياق تاريخي غير ملائم، فإنه حتى قائد متمكن يجد أن الخيارات أمامه محدودة وترتفع بالتالي احتمالات الفشل.
المرحلة التاريخية الحالية هي مرحلة الانحطاط الرأسمالي. وتجد الإمبريالية الأمريكية، دركي العالم الرأسمالي، نفسها محاصرة من جميع الجهات. الحروب تنفجر بشكل متواصل والإرهاب ينتشر كوباء منفلت العقال. صحيح أن الولايات المتحدة تمتلك ثروات اقتصادية وعسكرية هائلة. لكن هذه الثروات، بالرغم من كل شيء، ليست بدون حدود. فالحروب المتواصلة والمصاريف الضخمة التي تتطلبها تستنزف ثروة وقوة الولايات المتحدة. في ظل هذه الظروف، كان قائد ذكي سيستعمل التهديد بالتدخل العسكري لفرض إرادة الولايات المتحدة على البلدان الأخرى. لكن من بين الفرضيات الأساسية للدبلوماسية أن الاستعمال الفعلي للقوة العسكرية يجب أن يكون دائما هو الملجأ الأخير، وليس الخيار الأول. ويعبر شعار المارينز عن هذه الفكرة بشكل جيد: “تكلم بلطف واحمل في يدك عصى كبيرة”.
تصرف بوش وشرذمة المحافظين الجدد بزعامة ديك تشيني، ليس تصرف رجال دولة عاقلين بل تصرف قطاع طرق، فتوات ومغامرين وقحين. إنهم يعتقدون أن قوة الولايات المتحدة تعطيها الحق في أن ترمي بثقلها في كل مكان وتتدخل في شؤون بلدان أخرى. لكن قوة الإمبريالية الأمريكية محدودة. بتدخلهم في العراق وشنهم لحرب على أساس ادعاءات خاطئة تسببوا في تحرك سلسلة أحداث لم يتوقعوها ولا سيطرة لهم عليها.
كما تعتمد الحركة الثورية في اللحظات الحاسمة على مميزات القيادة، فإنه يمكن لنتيجة حرب ما، من قبيل الحرب على العراق، أن تتأثر بشكل حاسم بالقيادة السياسية والعسكرية للبورجوازية. لقد أغرق بوش الولايات المتحدة في مغامرة عسكرية في العراق. والآن ليست المسألة هي هل بل بالأحرى هي متى سوف ينسحبون. صحيح أنه حتى قائد بعيد النظر وذكي كان سيواجه الصعوبات، لكن الإدارة الحالية في واشنطن هي الأكثر غباء وجهلا وقصر نظر منذ عقود. إنهم لا يفهمون أي شيء، لا يتوقعون أي شيء وبالنتيجة انتهوا إلى الباب المسدود. سوف يدفع الإمبرياليون ثمنا غاليا بسبب ضعف مواهب قادتهم!
الولايات المتحدة مرهقة على الصعيد العالمي
تعتبر الولايات المتحدة، بدون شك، القوة الأعظم في التاريخ لكنها الآن صارت مرهقة بشكل كبير بسبب دورها العالمي. الولايات المتحدة، كما سبق لي أن أشرت في مقالي، ورثت دور شرطي العالم عن بريطانيا. لكن بريطانيا كسبت خلال القرن التاسع عشر الكثير من الأموال بنهبها لمستعمراتها. إلا أن ذلك كان خلال مرحلة تاريخية مختلفة، مرحلة نهوض الرأسمالية، عندما كانت البورجوازية لا تزال، بالرغم من طبيعتها الاستغلالية والقمعية الوحشية، قادرة على لعب دور تقدمي نسبيا في تطوير قوى الإنتاج.
أما المرحلة التي نعيش فهي مختلفة كليا. إنها مرحلة الانحطاط الإمبريالي. عجز الرأسمالية عن تطوير قوى الإنتاج، بالطريقة الذي كانت عليه في الماضي، نتاج للتناقض المركزي بين الإمكانات الإنتاجية الهائلة للصناعة، والعلم والتكنولوجيا وبين الحدود الضيقة المفروضة من طرف الملكية الخاصة والدولة الوطنية. يعبر هذا عن نفسه في ظاهرة العولمة، التي هي محاولة لاستغلال السوق العالمية إلى أقصى حد، وهي ما كان ماركس وإنجلز قد توقعاه في صفحات البيان الشيوعي.
إلا أن العولمة لا تعني إلغاء تناقضات الرأسمالية، بل فقط إعادة إنتاجها على صعيد أوسع مما كان عليه في الماضي. لقد سبق للينين أن شرح أن الرأسمالية تعني الحرب ولا يزال كتابه: الإمبريالية أقصى مراحل الرأسمالية، أحدث نص يمكن للمرء أن يقرأه في ظل الأوضاع العالمية الحالية.
بالرغم من العولمة، أو بالأحرى بسببها، لم تتضاءل التوترات بين البلدان بل صارت أكثر حدة إلى درجة غير مسبوقة. أينما نظر المرء يمكنه أن يرى مواجهات وحروبا جديدة. يفرض هذا الوضع ضغطا شديدا على الولايات المتحدة، بالرغم من ثرواتها الهائلة. دعونا ندرس لفترة توزيع القوات الأمريكية على الصعيد العالمي. هو الآن تقريبا ما يلي:
حوالي 150.000 جندي في العراق (والمزيد في الطريق إلى هناك)
18.000 في أفغانستان (وهذا غير كاف للتحكم في الأوضاع)
20.000 في اليابان
19.000 في كوريا الجنوبية
53.000 في أوروبا (يتساءل الروس لماذا؟)
2.000 في البوسنة وكوسوفو (حيث لم تحل أي من المشاكل العالقة)
1.800 في القرن الإفريقي
ودعونا لا ننسى حوالي 700 من جنود المارينز الذين لا يزالون يحتلون جزءا من التراب الكوبي في غوانتانامو.
الحرب في أفغانستان من الصعب الفوز بها أكثر مما هي الحرب في العراق. لا تمارس الولايات المتحدة، بعد سنوات عن إعلان النصر، سوى سيطرة مهزوزة على كابول، حيث دميتها كارازاي لا تزال على قيد الحياة فقط بفضل الحراس الأمريكيين. القوات الأمريكية والبريطانية غارقة في القتال في الجنوب، حيث يخوض طالبان وغيرهم صراعا شرسا ضد قوات الاحتلال.
لم يتمكن الأمريكيون والبريطانيون من إحلال السلام في أفغانستان. يتشكل البرلمان (اللويا جيرغا) من أمراء الحرب وتجار المخدرات وخليط من رجال العصابات وأنصار طالبان. يحرك الإمبرياليون رؤوسهم ويشتكون من أنهم لم يتوقعوا أن تبدي طالبان مقاومة شرسة إلى ذلك الحد. لا نعرف لماذا لم يتوقعوا ذلك، في الوقت الذي يظهر كل تاريخ البلد أن الشعب الأفغاني لا يعامل الغزاة الأجانب بلطف. لقد سبق له أن هزم الجيش البريطاني في القرن التاسع عشر، وأجبر الاتحاد السوفياتي، بالرغم من كل قوته، على الانسحاب. وبيأس قامت الولايات المتحدة بدعوة “حلفائها” في الناتو للمشاركة في الحرب في الجنوب. هؤلاء الأخيرين ردوا بلطف قائلين: “اسبقونا أنتم، أيها السادة!” ونتيجة للتدخل في أفغانستان، تعرضت كل منطقة آسيا الوسطى للاضطراب وصار نظام مشرف في باكستان معلقا بخيط.
الولايات المتحدة متورطة، إضافة إلى الالتزامات العسكرية المعلنة، في عمليات عسكرية أخرى غير معلنة. لقد أعلن مؤخرا أنه للولايات المتحدة حوالي 1800 جندي في القرن الأفريقي، وهم ليسوا هناك من أجل الاستمتاع بالطبيعة. لقد كان المتمردون الإسلاميون في الصومال يكسبون حربا أهلية ضد حكومة أمراء الحرب الرجعية والفاسدة، المدعومة من طرف واشنطن. من الواضح أن الولايات المتحدة هي من يقف وراء دخول الجيش الإثيوبي، الذي تمكن مؤقتا من هزم المتمردين وإعادة تنصيب أمراء الحرب الموالين لأمريكا في مقديشيو. لكن بما أن الصوماليين لن يتحملوا وجود الجنود الإثيوبيين على أرضهم مدة طويلة، فإن الولايات المتحدة ستزيد من تورطها العسكري من أجل الحيلولة دون انتصار المتمردين. كل من يتحكم في القرن الإفريقي يتحكم في مدخل الخليج الفارسي. لقد أقامت الولايات المتحدة قاعدة عسكرية كبيرة في جيبوتي ومن جد المحتمل أن تجد الولايات المتحدة نفسها متورطة في حرب جديدة في القرن الإفريقي.
الهزيمة في العراق
جميع مخططات بوش صارت حطاما بعد أربعة سنوات على غزو العراق. إنه لن يتمكن من هزيمة المتمردين بحوالي 150.000 جندي. مزاج الساكنة معاد في الغالب لقوات الاحتلال. وقد تم تأكيد هذا مؤخرا عبر استطلاع أنجزته BBC وABC. أبان عن انهيار الثقة في المستقبل والمقت الشديد ضد قوات التحالف والغياب التام للثقة في حكومة المالكي.، في الذكرى الرابعة للغزو لا تزال الوقائع سيئة من وجهة نظر البيت الأبيض. وحسب استطلاع للرأي فإن أغلب العراقيين الآن يعتبرون أن أوضاعهم كانت أفضل في ظل صدام حسين. حتى الرجل الذي ظهر على شاشات التلفاز وهو يحطم تمثال صدام قال الآن أنه آسف وأنه يتمنى عودة التمثال -وصدام!
تحاول الولايات المتحدة الآن بيأس خلق جيش عراقي. إنهم يريدون إقامة قاعدة صلبة تمكن الجيش الأمريكي من الانسحاب، مخلفا ورائه حكومة عميلة وجيشا وشرطة قادرين على الحفاظ على الأوضاع تحت السيطرة. لكن كيف يمكنهم ذلك؟ لقد قسموا المجتمع العراقي على أسس دينية وطائفية. في البداية قدموا التنازلات للشيعة مثيرين غضب السنة. والآن يحاولون، تحت ضغط السعودية والخوف من تصاعد نفوذ إيران، تحويل الكفة لصالح السنة ويقدمون الرشاوى لبعض قادة القبائل. الشيء الذي أثار غضب الشيعة.
قبل غزو العراق، سنة 2003، توصل بوش، متبعا نصيحة عصابة المحافظين الجدد، إلى الفكرة النيرة التالية، بما أن الشيعة العراقيين الذين يشكلون الأغلبية كانوا مضطهدين في ظل نظام صدام حسين، فإنهم سيشكلون قاعدة دعم صلبة للأمريكيين. وقد عملت العناصر البعيدة التفكير داخل دوائر المخابرات على تنبيههم إلى الروابط التي تجمع قادة الشيعة العراقيين بإيران. لكن هذه التحذيرات لم تجد آذانا صاغية. الآن، وبشكل مفاجئ، استفاق البيت الأبيض على حقيقة أن إيران، وليس الولايات المتحدة، هي من يتمتع بقاعدة صلبة داخل العراق ولديها نفوذ متزايد على الساكنة الشيعية.
تمارس الإدارة الأمريكية ضغوطا كبيرة على رئيس الوزراء المالكي لإجباره على التعاون مع جيش الولايات المتحدة للقضاء على الميليشيات الشيعية الراديكالية، من قبيل جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر.لكن إذا قام المالكي بذلك فإنه لن يعمل سوى على توقيع شهادة تصفيته، السياسية وربما الجسدية. بالنظر إلى الفوضى الدموية الحالية في العراق، والتي تقع المسؤولية فيها حصريا على عاتق الولايات المتحدة، فإن الجماهير العراقية، لا سواء السنة أو الشيعة، لا يرون أي بديل ما عدا دعم الميليشيات التي توفر لهم على الأقل نوعا من الحماية والتي تكون في الغالب المصدر الوحيد لتزويدهم بالحاجيات الضرورية للحياة. الأمريكيون مكروهون، الحكومة تفقد شعبيتها أكثر فأكثر وينظر إليها كحكومة عميلة. إذا ما قامت بمهاجمة الميليشيات فإنها ستفقد حتى تلك القاعدة الصغيرة للدعم التي لا تزال تمتلكها.
ليس العراق على شفا حرب أهلية. العراق يعيش الحرب الأهلية. وإلا ماذا سيسمي المرء المجازر اليومية والتصفيات الإثنية والطائفية المتواصلة؟ عملية تهجير عدد كبير من السكان العراقيين يمكنها أن تؤدي إلى تقسيم العراق. يمكنها أن تنتهي بتقسيم البلد إلى ثلاثة أقسام، منطقة سنية، منطقة شيعية ومنطقة كردية. حتى بغداد يمكنها أن تقسم إلى مناطق شيعية وأخرى سنية. سيكون هذا السيناريو كابوسا، مثل تقسيم الهند سنة 1947. ولن يمكن تحقيقه إلا بأبشع المجازر وحمامات الدماء.
لقد عمل الأمريكيون بممارساتهم تلك على إدخال الاضطراب إلى كل منطقة الشرق الأوسط. كان الأردن مستقرا نسبيا، لكنه لم يعد كذلك. وإذا ما واصل بوش طريقه فإن نفس الفوضى والصراعات الداخلية التي نراها الآن في العراق ستمتد إلى لبنان وسوريا، من خلال اندلاع المواجهات بين السنة، العلويين، المسيحيين المارونيين، الدروز والشيعة. إذا ما اندلع هذا الجنون الطائفي فإنه لن يكون من السهل احتوائه. ويمكنه أن يمتد ليس فقط إلى الأردن، بل أيضا إلى مصر، السعودية وبلدان شمال إفريقيا. وسيعني المزيد من الاضطرابات والحروب.
بوش يتخبط من جديد
المرونة مسألة ضرورية في جميع الحروب. يجب أن تتغير التكتيكات مع تغير الأوضاع. إن الجنرال الذي لا يكون مرنا والذي يضع خطة للمعركة ويتشبث بها بعناد سوف يقود جيشه بالتأكيد إلى الهزيمة. هذا ما قام به بوش بالضبط في العراق. هناك مقولة قديمة مفادها أن الشعب يحصل على القادة الذين يستحقهم. هذه المقولة خاطئة إذا ما أخذت حرفيا، لكن من الصحيح القول أن الطبقة السائدة في الولايات المتحدة لديها بالتأكيد القادة الذين تستحقهم. لقد كانت البورجوازية الأمريكية في البداية سعيدة ببوش، لكن كل هذا تغير الآن. لقد فقدوا كل ثقتهم فيه. وفوق كل شيء فقدوا كل ثقتهم في قدرته على كسب الحرب في العراق. لهذا السبب عملوا على تشكيل مجموعة دراسة العراق، في محاولة يائسة للضغط عليه من أجل تغيير سياسته. لكن بدون جدوى! فقد عمل بكل بساطة على تجاهل ذلك.
قرر بوش إرسال 21.000 جندي إضافي. لكن هذا ليس “القوة العسكرية التي لا تقهر” إنها مزحة جد سيئة. لن يغير هذا الإجراء أي شيء في الوضع العسكري، لكنه سيؤدي إلى حدوث المزيد من الخسائر في صفوف الأمريكيين. أي شيء قاموا به الآن سيكون خاطئا.
تعلق الإيكونوميست (عدد 13 مارس 2007) بمرارة قائلة:
«لقد تم شرح سياسة السيد بوش الخارجية الجديدة بشكل جيد بالقول أنها ردة فعل على الأوضاع. ما حاول القيام به في الماضي في العراق لم يؤد إلى نتيجة، ومن تم فإنه يحاول شيئا جديدا. وعليه أيضا أن يتعامل مع الكونغرس الديموقراطي الذي يمكنه، إذا ما تم تجاهله، أن يقيد يديه. يريد بعض الديموقراطيين وقف تمويل الحرب. الآخرون يفضلون الجلوس في الخلف وترك السيد بوش يتلقى كل اللوم. أعلن جون مورتا، المقرب من المتكلمة باسم البيت الأبيض، نانسي بيلوسي، بطريقة كاريكاتورية خطة لوضع العديد من القيود على كيفية نشر الجنود بشكل يجعل من غير الممكن كسب الحرب. وقد تبرأ حزبه من مثل هذه التكتيكات، التي قد تثير غضب بعض المصوتين، لكن لا يزال عليه الاتفاق على بديل ما. في هذه الأثناء، لا تزال الأغلبية الديموقراطية (الضئيلة) في مجلس الشيوخ تفكر في إلغاء الترخيص بالقيام بحرب العراق الذي صوتوا عليه سنة 2002. إن الهدف من الحوار مع إيران هو محاولة تخفيف غضب الكونغرس، لكن لا يمكن التعويل على النجاح في ذلك»
وتواصل قائلة:
«يعتقد مايكل روبين، المحلل في معهد American Enterprise Institute، والمفكر المؤيد لسياسة القوة، أن الميل صغير في الجوهر لكنه هام من الناحية الرمزية. يرى خطرين، الأول أنه يمكن للدبلوماسيين الإيرانيين أن يوقعوا اتفاقا قد يعمل طرف آخر من النظام الإيراني على حله، مما سيجعل العمل الدبلوماسي بين البلدين مستحيلا. ثانيا، يعتقد أن إيران تمتلك “ثقة بالغة في النفس بشكل خطير”. يمكن للقادة في طهران الذين يمتلك القليل منهم معرفة بالسياسة الأمريكية أن يسيئوا قراءة الخطابات المعادية للحرب السائدة حاليا في الكونغرس فيعتبروها مؤشرا على أن أمريكا الآن أضعف من الناحية السياسية من أن تحبط آمال إيران الإقليمية. قد يؤدي بهم ذلك إلى القيام بحسابات خاطئة ويؤدي إلى مواجهة عسكرية. وقال: “إن خطر المواجهة مع إيران لم يكن في أي وقت مضى أعلى مما هو عليه الآن”.»
الانشقاق داخل الطبقة السائدة
إدارة بوش مصممة على تصعيد مغامرتها العسكرية في العراق ومد نطاق الفوضى والاضطراب إلى كل منطقة الشرق الأوسط. وهي متورطة، حسب تقارير صدرت مؤخرا، في عمليات سرية، إلى جانب السعودية وإسرائيل، لضرب إيران وسوريا. تخاض هذه الأنشطة في السر ولا تقدم تقارير حولها للكونغرس.
تشبه ممارسات بوش وتشيني بشكل كبير لممارسات مغامر آخر، هو ريتشارد نيكسون، الذي شن حربا سرية في كمبوديا خلف ظهر الكونغرس والشعب الأمريكي. وتعاملهم مع وكلاء مشكوك فيهم، بما فيهم المتطرفون السنة في لبنان الذين يمتلكون علاقات مع القاعدة، يشبه بدوره فضيحة حدثت قبل عقدين حين باعت إدارة ريغان أسلحة لإيران لكي تمول بطريقة غير قانونية قوات الكونترا في نيكاراغوا فيما أصبح يعرف بفضيحة إيران-كونترا. بالرغم من أن البرنامج تعرض للنقد في النهاية، فإنه طبق بشكل ناجح كليا خلف ظهر الكونغرس. لقد كانت الأموال السعودية متورطة في هذه الفضيحة، ومن جد المحتمل أن التاريخ يعيد نفسه الآن. حسب بعض المصادر، استقال نيغروبونتي من منصبه كمدير لوكالة المخابرات المركزية جزئيا بسبب عدم رغبته في تكرار تجربته في إدارة ريغان.
في مقال نشرته The New Yorker مؤخرا (5 مارس)، استشهد بقول مستشار في البنتاغون أن هناك بعض الصعوبات في عد الحسابات الخفية: «هناك العديد، العديد من الأموال السوداء، متفرقة على العديد من الأماكن ومستعملة في كل أرجاء العالم في مهمات متنوعة». وحسب هذه المصادر إن الفوضى التي تعرفها الميزانية في العراق، حيث تظل ملايير الدولارت بدون عد، تجعل مثل هذه المضاربات مسألة ممكنة،.
وكالة المخابرات المركزية متورطة في أنشطة سرية في كل أنحاء العالم وليس فقط في الشرق الأوسط. إنها تقوم بشكل منهجي على ضرب وإسقاط الحكومات التي تعتبرها معاكسة لمصالح الولايات الأمريكية، أي لمصالح الإمبريالية وكبريات الاحتكارات الواقفة خلفها. يتضمن هذا أيضا عمليات الاغتيال السرية التي تحضر ضد رئيس فنزويلا المنتخب ديموقراطيا، هوغو تشافيز، ولضرب الثورة الكوبية تحت غطاء شعار “الديوقراطية” الكاذب.
غالبا ما يسر الطبقة السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية غض النظر عن مثل هذه الممارسات وتركها تسير. لكنها في بعض المناسبات، عندما تذهب إحدى الحكومات بعيدا جدا وتعرض مصالح الإمبريالية الأمريكية للخطر عبر المغامرات الخارجية، فإن الإدارة الأمريكية تتدخل لقص أجنحتها، أو إسقاطها من سدة الحكم، كما حدث مع نيكسون. هناك بعض المؤشرات عن أن الإدارة الأمريكية قد صارت قلقة بخصوص إدارة بوش وبدأت تقوم بإجراءات للحد من الضرر الذي تسببه.
إضافة إلى أثرها على نفسية الجنود في العراق والشعب في الولايات المتحدة، فإنها تشكل أيضا ضغطا رهيبا على ثروات الولايات المتحدة، التي هي ثروات هائلة لكنها ليست غير محدودة. كان المبلغ المتوقع في البداية للحرب على العراق هو 60 مليار دولار، لكنه وصل الآن إلى 350 مليار. تكلف الحرب أمريكا ملياري دولار كل أسبوع، ولا أحد يعرف الكلفة الإجمالية للحرب. بعض التقديرات تحددها في 2 تريليون دولار. سيكون لهذا عواقب وخيمة على الاقتصاد الأمريكي، الذي صار منذ الآن يعاني من التباطؤ ومهدد بالانكماش. في الوقت الذي يعمل فيه الرئيس على إنفاق مبالغ أكبر فأكبر على التسلح والأمن الداخلي، يطالب بالقيام بإقتطاعات كبيرة في النفقات الاجتماعية على الرعاية الصحية والمعاشات. هذه التنويعة الجديدة من سياسة غورين “السلاح قبل الزبدة” تهدد الجمهوريين بالهزيمة في الانتخابات المقبلة.
وهكذا بدأت الأمور تتصاعد في مجلس الشيوخ. نظمت لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ، التي يرأسها السيناتور جاي روكفلر، مؤخرا، جلسة استماع حول أنشطة المخابرات لشعبة الدفاع. قال السيناتور رون ويدن، من أوريغون، العضو الديموقراطي في لجنة المخابرات، لهيرش: «غالبا ما أخلت حكومة بوش بالوفاء بواجباتها القانونية حول ضرورة تمكين لجنة المخابرات من الاطلاع الكامل على المعلومات. لقد كان الجواب دائما هو “ثقوا فينا”. من الصعب علي الثقة في الحكومة».
تعكس هذه الكلمات بشكل أمين موقف شريحة متزايدة من الطبقة السائدة في الولايات المتحدة. هناك الآن انقسام واضح يتصاعد بين صفوف الطبقة السائدة. لقد سبق للينين أن شرح منذ مدة طويلة أن الانقسام داخل صفوف الطبقة السائدة مؤشر عن تطور أزمة ثورية. من الصحيح أن الولايات المتحدة لا تزال بعيدة عن وضع من ذلك القبيل، لكن يمكننا بشكل عام أن نتوقع أن السيرورة تتطور في اتجاه أزمة اجتماعية وسياسية عميقة. الطبقة السائدة تعاني من الانشقاقات وهي في أزمة بخصوص الحرب على العراق وينعكس هذا على المزاج العام السائد في المجتمع.
الحرب وانهيار فقاعة أثمنة العقارات واحتمال حدوث انكماش وتهديد نظام المعاشات والرعاية الصحية للعجائز، كل هذا يخلق مزاجا من عدم الثقة بالمستقبل، بين صفوف الطبقة الوسطى وكذا الطبقة العاملة، لا سابق له في تاريخ الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. المرحلة المقبلة ستكون مرحلة عواصف وتوتر على الصعيد العالمي، ستهز الولايات المتحدة من أساسها. الصدمات ستتتالى الواحدة بعد الأخرى. وفي هذا السياق ستتغير نفسية الجماهير. الأحداث المتفجرة صارت على جدول الأعمال.
عنوان النص بالإنجليزية :
George Bush’s Middle East Adventure: The chickens come home to roost