بدأت أصوات طبول الحرب تتردد مرة أخرى في دواليب السلطة في واشنطن. وبالرغم من كل الإنكار الرسمي، فإن هناك مؤشرات واضحة على أن الطغمة السائدة في البيت الأبيض تفكر بجدية في شن ضربات جوية ضد إيران.
لم نعتقد أبدا، في موقعنا هذا، أن تقوم الولايات المتحدة بغزو إيران. فإذا ما قامت بذلك فإنها ستواجه شعبا هائجا سيقاتل حتى الموت لطردها. إضافة إلى ذلك، تمتلك إيران جيشا قويا سيكون قادرا على النيل من القوات الأمريكية وتلقينها درسا دمويا. لقد اشترت طهران مؤخرا صواريخ ستكون قادرة على ضرب البوارج الأمريكية في البحر المتوسط. أي هجوم على إيران سيكون حابلا بنتائج غير متوقعة.
إذن من المستبعد أن يتم شن حرب برية ضد إيران. لكن الضربات الجوية مسألة أخرى. إذ أن كلا من واشنطن وتل أبيب قلقتان من فكرة امتلاك إيران للأسلحة النووية، والعربية السعودية أكثر قلقا منهما. جورج بوش والطغمة اليمينية، التي تقدم له النصائح، بدءوا يوصون علانية بالقيام بـ “الضربة الجوية الأولى” ضد تجهيزات إيرانية يزعمون أنها تصنع أسلحة نووية. ومن جد المحتمل أن يقوموا في مرحلة معينة بتنفيذ هذه التهديدات، إما بشكل مباشر أو باستعمال القوة الجوية الإسرائيلية، إذا هم تمكنوا من الإفلات من العقاب بفعلتهم.
السبب الحقيقي وراء هذا السعار الجديد هو حقيقة كونهم بدءوا يخسرون الحرب في العراق. يحاول بوش أن يلقي باللائمة على الدعم الإيراني للمتمردين بخصوص جميع المشاكل التي يواجهها. لكن هذا بعيد جدا عن الحقيقة. فلا سواء تدخلت إيران أم لم تتدخل، فإن المتمردين مصممين على مواصلة تكبيد القوات الأمريكية الخسائر.
ومن جهته يلعب أحمدي نجاد لعبة خطرة. إنه يستغل الشعور الطبيعي المعادي للإمبريالية السائد بين الجماهير الإيرانية لمحاولة دعم نظام الملالي الذي صار، بعد حوالي ثلاثين سنة في الحكم، نظاما لا شعبيا إلى حد بعيد. من أجل جمع الدعم، يحاول الاعتماد على شعور العداء لأمريكا والعداء لإسرائيل. كان عقد مؤتمر يزعم البرهنة على أن المحرقة مجرد كذبة، استفزازا مباشرا لإسرائيل، التي تبحث الطبقة السائدة فيها عن مبرر لمعاقبة إيران واستعادة شيء من الهيبة التي فقدتها عندما تلقت درسا دمويا على يد حزب الله في لبنان.
إلا أن موقف أحمدي نجاد ليس قويا كما قد يبدو. فالانتخابات الأخيرة أبانت سقوط معدل الدعم لهذه الحكومة المتطرفة وارتفاع الدعم “للإصلاحيين”. إنه يتعرض للضغط من طرف رجال الدين الذين يخشون تفاقم الأوضاع. يحاولون دفعه إلى تبني موقف أكثر “اعتدالا” وإبعاده عن الحافة. وتظهر ممارساته وتصريحاته الأخيرة أنه قد بدأ يستسلم لهذه الضغوط.
إذا ما تدهورت الأوضاع وقامت إسرائيل بقصف إيران، فإن ذلك سوف يؤدي إلى انفجار الغضب في كل منطقة الشرق الأوسط وخارجها. إلا أنه من غير الواضح إذا ما كان الإسرائيليون أنفسهم مستعدين للقيام بالمهمة القذرة لصالح واشنطن (بالرغم من أن صقور الصهاينة سيحبون القيام بذلك). إنهم يوجدون في وضع صعب بعد تعرضهم للهزيمة في لبنان السنة الماضية. ومن تم فإنه من الممكن ألا يجد بوش أي بديل ما عدا إنجاز المهمة بنفسه.
لقد ألقى بتصريحات متناقضة، إذ أكد تارة على أنه لا يملك أية نية في مهاجمة إيران، وتارة أخرى يلقي خطابات نارية حول كيف سيقوم بوقف كل من إيران وسوريا. إن هذا يعكس الضغوط المختلفة التي يتعرض لها في الولايات المتحدة. تبقى الحقيقة هي أنه بدأ يرسل إلى منطقة الخليج بالمعدات العسكرية الضرورية التي تسمح بالقيام بضربة جوية ضد إيران. هذا الواقع وحده يساوي أكثر من مائة إنكار لفظي يقوله بوش. لكن إذا ما قام بقصف إيران، فإن النتائج سوف تكون هائلة.
الهزيمة في العراق
يجب علينا أن نتذكر أن الجيش الأمريكي لم يتمكن من غزو العراق إلا عندما كان هذا الأخير قد صار منهكا ومدمرا بسنوات من الحصار وبجيش ضعيف. من وجهة النظر العسكرية الصرفة، لم يكن مشكوكا أبدا في نتيجة الغزو الأمريكي للعراق. لقد اجتاحت قوات التحالف بغداد بسهولة نسبية. لكن رغم ذلك، تحول ما كان يبدو انتصارا سهلا نسبيا إلى كابوس بالنسبة للولايات المتحدة. إذ وبـ 150,000 جندي مدجج بأحدث وأعقد الأسلحة ومدعومين بأقمار التجسس، عجزت القوات الأمريكية تماما عن تحقيق هدفها. فالعراق اليوم يعيش في فوضى شاملة.
خسائر الولايات المتحدة عالية إلى حد هائل وهي تواصل الارتفاع بشكل متواصل. لقد فقد الأمريكيون حتى الآن أكثر من 3,000 قتيل إضافة إلى آلاف الجرحى. أما فيما يخص حجم الخسائر العراقية فلا أحد يعرف حقيقة الأوضاع، لكن بعض التقديرات حددتها في أكثر من نصف مليون. ويطلق على هذا، بلغة البنتاغون، “خسائر ثانوية”.
إن الهدف من وراء هذه الحرب، مثلها مثل جميع الحروب الإمبريالية، هو بكل بساطة: النهب. طالما تحدثت الطغمة اليمينية المحيطة بجورج بوش عن “إدخال الديموقراطية إلى الشرق الأوسط”، وهو ما لم يعد يثير سوى ابتسامات السخرية في كواليس الكونغرس. في الواقع، يختفي خلف القناع المبتسم “للديموقراطية الأمريكية” (ولا زال) جشع كبريات الاحتكارات، وبارونات النفط (الذين يمتلكون علاقات وثيقة بجورج بوش وعائلته، وكذا بكونداليزا رايس) وكبريات شركات البناء من قبيل هاليبيرتون Halliburton (التي تمتلك علاقات وثيقة بديك تشيني).
سارع جورج وولكر بوش، ذلك الرجل القادم من تكساس، فورا إلى إحاطة نفسه بأشخاص على صورته: رجعيون متطرفون من قبيل دونالد رامسفيلد وديك تشيني. لديهم شرذمة من المستشارين، اليمينيين الدينيين المتعصبين والمتحمسين لنظام السوق الحرة، من قبيل جون بولتون وبول وولفويتز. وقد كوفئ هذا الأخير الآن على الخدمات التي قدمها بتعيينه رئيسا للبنك العالمي، حيث نال شهرة عالمية بظهوره في مسجد تركي بجوارب مثقوبة.
لكن مشكلة الجمهوريين، رغم كل شيء، ليست في الثقوب الموجودة في جواربهم بل الثقوب الموجودة في عقولهم. فمنذ البداية كانت لهذه الشرذمة الصغيرة من المتعصبين الدينيين اليمينيين سيطرة مطلقة على تفكير الرئيس (إذا كان من الممكن للمرء أن يستعمل مصطلح تفكير لوصف تلك الأنشطة التي تدور في جمجمة جورج وولكر بوش).
رجل بدون أي مستوى تعليمي يذكر، قدراته العقلية لا تصل أبعد من حدود مزرعته في تكساس ومعرفته عن الأدب العالمي لا تتجاوز الكتاب الأول من سفر التكوين، والمستعد للإنصات لأناشيد الموت التي تغنيها هذه العصابة من الدجالين والمخادعين، خاصة عندما يذكرون الكلمة السحرية: نفط.
من المعروف أن هذه العصابة كانت قد حضرت خطة لمهاجمة العراق قبل الحادي عشر من شتنبر بوقت طويل. ليس لذلك أية علاقة مع القاعدة (التي كانت غير موجودة آنذاك في العراق) أو أسلحة الدمار الشامل (التي لم تكن موجودة)، وطبعا لم يكن نتاجا لأي رغبة في مساعدة الشعب العراقي على تشييد الديموقراطية. خلف كل العبارات الجميلة، سوف نجد المصالح الأنانية لكبريات الاحتكارات، الطامعة في وضع يدها على نفط العراق.
وبما أنه في السياسة، بالرغم من كل شيء، لا يدفع الجشع إلى الأرباح إلى إثارة الكثير من الحماس لدى الجماهير، أو إلى استنهاض الروح القتالية الضرورية بينها للحصول على الدعم للحرب، أو على الأقل القبول السلبي بها، فإن هناك حاجة إلى فبركة مبررات أخرى. بالنسبة للطغمة الحاكمة في واشنطن، جاءت أحداث الحادي عشر من شتنبر كهبة من السماء. إذ تمكنوا، بين عشية وضحاها، من الحصول على المبرر الضروري لتطبيق المخططات التي رسموها في الكواليس خلف ظهر الشعب الأمريكي.
طموحات بوش الشخصية
الدوافع الرئيسية للغزو الهمجي للعراق كانت اقتصادية وسياسية: الرغبة في الاستيلاء على احتياطات النفط العراقي الهائلة ونهبها، والتصميم على سحق نظام لم يكن مستعدا للتوافق مع أهداف الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط ذو الأهمية الاستراتيجية الحيوية. إلا أنه كان هناك بالنسبة لجورج وولكر بوش، بدون شك، دافع إضافي، ذو طبيعة شخصية.
قاد جورج بوش الأب حرب الخليج الأولى، التي نجحت في تحقيق هدفها المباشر (إخراج العراق من الكويت) لكن ليس في تحقيق هدفها الحقيقي: إسقاط صدام حسين. آنذاك فكر منظرو الرأسمال في واشنطن في إمكانية اجتياح العراق واستبعدوها. رأوا أن المخاطر جسيمة ومن ثم توقف الجيش الأمريكي على مشارف العراق. أطلوا على الهاوية وتراجعوا إلى الوراء. وقد اعتبر حواريو اليمين الجمهوري هذا التراجع تعبيرا عن ضعف غير مقبول، قريب من الخيانة العظمى.
والآن لديهم مريد مطيع في البيت الأبيض وليسو مستعدين لإضاعة الفرصة. إنهم يهمسون في أذن جورج الصاغية: “لا تكن ضعيفا كأبيك”، “يمكنك أن تنجح في ما فشل فيه هو. يمكنك تحقيق ذلك. أمريكا عظيمة! إن الله إلى جانبنا. فلننطلق!” وجورج ينصت. يشعل في صدره عطش لا ينطفئ لتحقيق الأمجاد، لتحقيق شيء عظيم لأمريكا. بحق السماء! “للدخول إلى كتب التاريخ!”. وبالنظر إلى النتائج الأخيرة التي حققها، ليس لدينا أي شك في أنه سيحقق رغبته، بالرغم من أن ذلك لن يكون على الشكل الذي أراد.
جورج بوش من حيث ميزاته الشخصية إنسان جبان وتافه. لقد هرب من الخدمة العسكرية خلال حرب فيتنام. لكنه وكجميع الجبناء والتافهين، يحب تقمص صورة رجل قوي. وهذا هو سبب التمثيلية الغبية عندما يظهر مرتديا الزي العسكري (رغم كونه هارب من الجيش) والسترة الواقية من الرصاص(بالرغم من عدم وجود أي أسلحة في الجوار) على متن بارجة أمريكية (ألم يجدوا أي مكان مناسب فوق الأرض؟) لإخبار البحارة الفرحين أن: “المهمة منتهية”.
أربعة سنوات فقط بعد ذلك، تبين أن هذه المهمة أبعد ما تكون عن الانتهاء. بل على العكس، انتهت المهمة بهزيمة فادحة وبوش يزحف من أجل إنقاذ شيء ما من الغرق، بينما يصرح على الملأ أن النصر لا يزال ممكنا (من المشكوك فيه أن يكون حتى هو يصدق هذا).
الطبقة السائدة في أمريكا يستبد بها القلق
لا يمكن حتى لأغنى بلد في العالم أن يتحمل مثل هذا النزيف الهائل من الدماء والعرق والأموال. بعد مرور أربعة سنوات على بدأ عملية الغزو، قتل أكثر من 3000 جندي أمريكي وأنفق أكثر من 300 مليار دولار. وتبين انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة بوضوح أن أغلب الأمريكيين فقدوا الأمل ويريدون مغادرة العراق. لكن جورج وولكر بوش يفكر بطريقة أخرى. إنه لا يزال راسخ القناعة بأن “النصر” على مرمى حجر، وأن الشرق الأوسط لا يزال ينتظر، بفارغ الصبر، مزايا الديموقراطية الأمريكية.
لقد بدأت الطبقة السائدة في الولايات المتحدة الآن تصير قلقة. وقد عملت، في محاولة لإدخال شيء من التفكير العقلاني في هذه السيرورة، على تشكيل لجنة خاصة حول العراق: مجموعة دراسة العراق (the Iraq Study Group) يشترك في رئاستها وزير الدولة السابق جيمس بيكر. إنها لجنة مشكلة من كلا الحزبين ويترأسها رجل دولة مخضرم، يمثل الإدارة الأمريكية بشكل أفضل من الساكن الحالي للبيت الأبيض.
على الأقل تعطي المقترحات، التي تنصح بها مجموعة الدراسة، بعض العقلانية، من وجهة نظر الإمبريالية الأمريكية. تقول: “يجب علينا أن نتقبل الوقائع: لقد خسرنا الحرب في العراق. من العقيم مواصلة مواجهة لا يمكن كسبها. فلنعمل على وقف خسائرنا وننسحب في أقرب وقت ممكن. بالطبع لا يمكننا أن نقوم بذلك فورا، لأنه سيعني حدوث فوضى. يجب علينا أن نبني حكومة عراقية مستقرة، ودولة وجيشا. مما يعني أنه يجب علينا تشكيل حكومة ائتلافية. ليس هذا ممكنا إلا إذا حصلنا على المساعدة من سوريا وإيران أيضا. ومن تم يتوجب علينا أن نبدأ في بناء الجسور مع هاتين الدولتين”.
نعم لقد كانت هذه نصيحة جيدة جدا من وجهة نظر الإمبريالية الأمريكية. لكن ما هو رد فعل جورج بوش؟ لقد تجاهل استراتيجية “الانسحاب الممنهج” التي نصحت به مجموعة الدراسة، وطرح بدل ذلك نظرية “الموجة (surge) التي هي فكرة اقترحها معهد American Enterprise Institute،ا(AEI)، الذي هو مؤسسة يمينية، ومدعوم بقوة من طرف جاك كين، الجنرال المتقاعد ونائب رئيس الأركان السابق.
كان الجنرال كين هو القوة المحركة وراء تقرير معهد AEI المسمى “اختيار النصر: خطة للنجاح في العراق”، الذي كتبه الأكاديمي العسكري فريدريك كاغان، ونشر يوم 5 يناير. يدعو هذا التقرير إلى إرسال موجة أكبر من حوالي 35,000 جندي. كتب السيد كاغان قائلا: إن الأمن هو الشرط المسبق للحل السياسي، وليس هناك أي طريق آخر. لن يتمكن الأمريكيون من القضاء على الميليشيات إلا بإعطاء حماية ذات مصداقية. لكن في الواقع، لا يمكن ضمان أي أمن ولو بثلاثة أضعاف العدد الحالي. ولا يغفل هؤلاء اليمينيون المعتوهون سوى تفصيل صغير هو أن الجيش الأمريكي قد تمطط أصلا بأكثر مما في طاقته.
في خطاب متلفز موجه إلى الأمريكيين، يوم 10 يناير، أعلن الرئيس أنه سيبعث بأكثر من 20,000 جندي إلى العراق، أغلبهم لمساعدة القوات العراقية في حملتهم الجديدة لتأمين بغداد. وسيخصص حوالي 4000 جندي آخرون للإقليم الغربي المضطرب، الأنبار. سيتم “إدماجهم” داخل التشكيلات العراقية من أجل انتزاع الأحياء السكنية من أيدي الجماعات المسلحة. وسيتم دعم هذا المجهود العسكري الجديد بإجراءات اقتصادية وسياسية وديبلوماسية. سوف يعطى للقادة والضباط الأمريكيين سلطات أكبر في إنفاق الأموال، سيتم تعيين “منسق إعادة الإعمار” في بغداد، وسيفرض على رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، أن يتحول إلى مجرد واجهة سياسية.
بعبارة أخرى، بصق بوش في وجه بيكر ومجموعة الدراسة. ضرب عرض الحائط بدعوات الحزبين للوصول إلى اتفاق مع إيران وسوريا. وبدل ذلك اتهم هذين البلدين بكونهما سبب العنف في العراق. لقد أيد إرسال بوارج عسكرية إضافية وبطاريات مضادة للصواريخ إلى الشرق الأوسط. كان هذا تحذيرا بكونه ليس فقط ينوي تصعيد التدخل الأمريكي في العراق، بل أيضا يعطي لنفسه إمكانية توجيه ضربة عسكرية ضد إيران.
برنامج طهران النووي
المبرر الذي أعطي هو الاشتباه في تطوير إيران لأسلحة نووية. من الواضح جدا أن الإيرانيين يحاولون فعلا تطوير تكنولوجيا نووية. تدعي طهران أن ذلك من أجل استخدامات سلمية. يمكن أن يكون ذلك صحيحا، لكن من الصعب أن نفهم لماذا يحتاج بلد يمتلك احتياطات هائلة من النفط والغاز إلى تطوير الطاقة النووية. إذا كان الأمر يتعلق بتطوير بدائل لمصادر الطاقة، فإن إيران تمتلك الكثير من أشعة الشمس لإنتاج الطاقة الشمسية. ومن ثم فلا بد أن لامتلاك الطاقة النووية علاقة بالأهداف العسكرية.
يعتبر هذا سببا في إثارة المزيد من الغضب في واشنطن، باريس، لندن وتل أبيب. وهي جميعها بلدان تمتلك الأسلحة النووية. ومن تم فإنه لا يمكن أن تكون لأهدافهم أية دوافع أخلاقية أو سلمية. إنهم لا يعارضون الأسلحة النووية من حيث المبدأ. كلا، إنهم يعارضون فقط أن يمتلك شعب آخر مثل تلك الأشياء. إن كرههم لامتلاك البلدان الأخرى للأسلحة النووية قوي إلى درجة دفعت جورج بوش وكلبه الساكن برقم 10 شارع Downing Street (ذلك المتدين المتعصب والشديد الدفاع عن أسلحة بريطانيا النووية) إلى غزو العراق، التي من المفترض أنها دولة ذات سيادة، لكونهم “اشتبهوا” (أو قيل أنهم اشتبهوا) أنه يخبئ “أسلحة الدمار الشامل”. كلنا نعرف الآن أن ذلك كان مجرد كذبة. لم يكن العراق يمتلك أي سلاح من ذلك النوع. ربما لو أنه كان يمتلك تلك الأسلحة، لعمل المعتدون، الذين حولوا البلد إلى أشلاء وأغرقوه في الفوضى، على التفكير مرتين قبل أن يغزوه. بالتأكيد فالأمريكيون لم يحاولوا غزو كوريا الشمالية، التي تتحدى بوضوح واشنطن وتتفاخر علانية بترسانتها النووية. تكتفي واشنطن بترديد التهديدات ولا تقوم بأي شيء. الإمبريالية الأمريكية لا تهاجم إلا الضعفاء، لكنها تتلافى مهاجمة أي بلد يعطي الدليل على قدرته ورغبته في الدفاع عن نفسه.
لم تضيع طهران دروس هذه التجارب كلها. إذا كان صدام حسين قد تعرض للهزيمة، ولو جزئيا على الأقل، فذلك لأنه لم يكن يمتلك أسلحة الدمار الشامل المرهوبة، ومن تم فإنه من الحكمة التوفر على بعض منها في أقرب وقت ممكن. يمكن أن يكون هذا أمرا مؤسفا جدا من وجهة النظر الأخلاقية، لكنه منطقي جدا من وجهة النظر العسكرية. مع الأسف، تبين تجربة العراق الأخيرة أن العالم لا يسير وفق الضوابط الأخلاقية، وأن الأسلحة تلعب دورا محددا في تسيير العالم.
أغلبية العراقيين يريدون خروج القوات الأمريكية
الحقيقة الواضحة هي أن الأمريكيين قد تعرضوا للهزيمة في العراق، ليس بسبب التدخل الأجنبي، لا سواء السوري أو الإيراني أو غيره، بل بسبب أن الأغلبية الساحقة من العراقيين ترفض وجودهم هناك. تتبين هذه الحقيقة من خلال جميع استطلاعات الرأي وفي جميع الحوارات التي تجرى مع الجماهير في شوارع بغداد والبصرة. الجواب يكون دائما نفسه، لا سواء تعلق الأمر بالشيعة أو السنة: “نريد خروج الغزاة”.
إلا أن جورج بوش قرر، ببصيرته الثاقبة، أن المسؤولية الحقيقية في التمرد تقع على عاتق دمشق وطهران. وقد وعد “بإيقاف تدخل إيران وسوريا وتدمير شبكاتهم”، لكنه لم يقل أي شيء عن التدخل الفاضح الذي تقوم به أمريكا في شؤون العراق الداخلية. لم يشر إلى واقع أن العراق، بعد أربعة سنوات من الانتهاك الوحشي للسيادة الوطنية، من طرف الولايات المتحدة وحلفائها، لا يزال بلدا محتلا لا يملك أية سلطة، عاجزا عن ممارسة حقه في تقرير مصيره. تقع مسؤولية هذه المأساة، ليس على كاهل سوريا وإيران، بل على كاهل الولايات المتحدة وبريطانيا وباقي من يطلق عليهم “قوات التحالف”، أي الشركاء في الجريمة.
بشكل لا يصدق، يبدو أن بوش، وبدل أن يتعلم من تجاربه، يحضر لتكرار غلطته على صعيد أكبر. إنه يعمل على استفزاز إيران بشكل متواصل، ويبحث عن مبرر للقيام بخطوات عسكرية ما. وهكذا هاجمت القوات الأمريكية، يوم 11 يناير، مكتب قنصلية إيراني شمال العراق. ومؤخرا زعم أن أكثر من مائة عامل لدى الأمريكان قتلو في العراق بأسلحة مصنعة في إيران وأنه يمتلك “أدلة” عن ذلك. تذكرنا هذه التصريحات بقوة بتلك الادعاءات بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل التي استعملت لتحضير الرأي العام العالمي لضرب على العراق.
خلال الخطاب الذي ألقاه شهر يناير، اعترف السيد بوش بأنه ارتكب “أخطاء” (لم يحددها)، لكنه واصل قائلا بأنه من المحتمل أن يموت المزيد من الأمريكيين، وأخبر مستمعيه ألا ينتظروا “تنظيم حفلة انسحاب على سطح بارجة حربية”. قال بأن الحرب تشكل جزءا من “الإيديولوجية الحاسمة للصراع في وقتنا الحالي”. الهزيمة ستجر الكارثة: ستجر سقوط الحكومة العراقية، “احتداد عمليات الاغتيالات إلى درجات لا يمكن تصورها”، تقوية الإسلام الراديكالي عبر كل الشرق الأوسط، الخطر على الحكومات المعتدلة، خلق جنة آمنة للإرهابيين وإيران مصممة على صنع القنبلة النووية.
بعد أن عمل هكذا على تهدئة أعصاب الأمريكيين، انتقل إلى طرح الحل الذي يقترحه بطريقة احتفالية: لقد قرر مضاعفة المجهود الحربي بإرسال أكثر من 20,000 جندي إضافي إلى العراق.
ذكريات ريشارد نيكسون
تذكرنا هذه الممارسات بشكل كبير بممارسات ريشارد نيكسون خلال السنوات الأخيرة لولايته. عندما كان قد صار من الواضح لمنظري الرأسمال أن الحرب في فيتنام قد أصبحت قضية خاسرة، وكان من الضروري إيجاد استراتيجية للانسحاب، قرر نيكسون بعناد مواصلة الحرب بل ومدها إلى كمبوديا، حيث كانت القوات الأمريكية متورطة في حرب سرية ضد المغاوير “الشيوعيين”.
أدى ذلك إلى اندلاع الاحتجاجات في الولايات المتحدة وموجة تجذر عامة ذات إمكانات ثورية، خاصة بين الشباب. كان التمرد هو المزاج السائد بين الجنود الأمريكيين في فيتنام، مع تسجيل عدة حالات من عصيان الأوامر بل وحتى اغتيال الضباط. حتى أن أحد الجنرالات الأمريكيين قارن المزاج السائد بين الجنود آنذاك بالمزاج الذي ساد بين حامية بيتروغراد سنة 1917.
في مواجهة هذه الوضعية، قررت الطبقة السائدة الأمريكية التخلص من نيكسون، الذي اعتبروه إنسانا غير سوي وخارجا عن السيطرة. وتمتلك الإدارة الأمريكية الطرق والوسائل التي تمكنها من تحقيق ذلك دون الاضطرار إلى اللجوء إلى الانتخابات. لقد فبركوا له فضيحة –فضيحة ووترجيت السيئة الذكر- شكلت في الواقع انقلابا من داخل القصر.
لم يكن لذلك أية علاقة بتلك الأمور التافهة، إلى حد ما، التي أثيرت خلال محاكمة ووترجيت، التي لم تتعلق سوى بنوع من تلك الجرائم التي تحدث كل الوقت خلف كواليس المسرح السياسي الأمريكي. لقد تم خلع نيكسون لأسباب أكثر أهمية: خلع لأنه كان مغامرا تجاوز حدوده وخرج عن سيطرة الإدارة، أي سيطرة جهاز مالكي كبريات المؤسسات البنكية والاحتكارات الذين يحكمون أمريكا في الواقع.
مثله مثل نيكسون، وجد السيد بوش نفسه الآن وحيدا تقريبا. قاعدة الدعم الوحيدة التي يمتلكها تتمثل في شرذمة المتعصبين اليمينيين في البيت الأبيض. من الواضح أنهم هم من أقنعوه بتجاهل نصيحة مجموعة دراسة العراق (أي الوقوف ضد الإدارة). كانوا هم من أشاروا عليه بالوقوف ضد أي اتفاق مع سوريا وإيران. جون بولتون، الذي يعتبر المتحدث الأعلى صوتا بين صفوف تلك العصابة من اليمينيين، يطالب الآن بحمية بالقيام بخطوات ضد إيران. أي أنهم، بعبارة أخرى، يدفعون الولايات المتحدة نحو الهاوية.
يسبب هذا التصرف الغير عقلاني الآن الحذر داخل الدوائر العسكرية. لقد رفض الجنرال جون أبي زيد، رئيس القيادة المركزية التي تسهر على حسن سير الاستراتيجية الأمريكية في العراق وأفغانستان، بشدة فكرة الرفع من عدد القوات. قبل ثلاثة أشهر فقط قال، خلال إحدى جلسات الاستماع في مجلس الشيوخ، أن الرفع من عدد القوات بـ 20,000 سيكون له “تأثير مؤقت” فقط على الحالة الأمنية. لكنه سيؤجل اليوم الذي ستأخذ فيه القوات العراقية السيطرة، وإذا ما طالت المدة فإنه سيضع ضغوطا غير محتملة على القوات البرية الأمريكية التي هي أصلا قد وصلت أبعد من قدرتها على التحمل.
في الماضي، كان جورج وولكر بوش يقول أنه سيحترم رأي قادته العسكريين، لكنه الآن لم يأخذ برأيهم. وعوض ذلك عمل على إقالة الجنرال أبي زيد وغير الوجوه البارزة في فريقه في العراق. الجنرال جون كاسي، قائد العمليات بالعراق، تمت “ترقيته” ليصبح قائد أركان الجيش. وأرسل زلماي خليل زاد، الذي كان سفيرا في العراق، إلى الأمم المتحدة.
كسب القلوب والعقول… بأفواه المدافع!
توجد بغداد، المدينة العراقية الأكثر كثافة سكانية، بساكنتها البالغ عددهم 6 ملايين نسمة من مختلف الطوائف، في قبضة حرب أهلية طائفية دموية تودي يوميا بحياة عشرات أو مئات الأبرياء. لقد كانت الإمبريالية الأمريكية هي من خلقت الشروط لهذه المذبحة، عندما اعتمدت على الساكنة الشيعية ضد نظام صدام حسين الذي كان يعتمد على السنة. لقد خلقت مسخا يشبه فرانك انشتاين خرج الآن عن السيطرة، بالضبط كما سبق لها أن عملت مع بن لادن وطالبان.
حاول الأمريكيون مواصلة ما يسمى استراتيجية “بقعة الزيت”، المتمثلة في خلق مناطق استقرار، يمكنها أن تتسع مع الوقت. يمكن للقوات الأمريكية أن تحقق بعض النجاح في بعض المناطق القروية حيث يمكنها أن تراقب بعض الطرق الرئيسية والحصول على دعم زعماء القبائل عبر تقديم الرشاوى لهم. لكن هذه السياسة محكوم عليها بالفشل في شوارع بغداد الخلفية الكثيفة السكان وأسواقها. لقد صاحبت عملية الصيف الماضي العسكرية، الأمريكية-العراقية المشتركة، المسماة “معا إلى الأمام”، أسوء حلقة من القتل عرفتها المدينة على الإطلاق.
يطمئننا منظرو عملية الزيادة في عدد الجنود، من قبيل الجنرال كين، “أن الأمور ستكون مختلفة بشكل كلي هذه المرة”. كم مرة سمعنا مثل هذه التعابير من قبل؟ إنها نفسية مقامر خسر كل سنتيم يملكه لكنه لا يزال يعتقد أنه سيسترجع كل ما خسره ويحقق ثروة من خلال محاولة يائسة أخيرة.
مقترحات الجنرال كين تفترض الرفع من عدد القوات الأمريكية بشكل كبير، بإضافة خمسة ألوية في بغداد إلى الأربعة الموجودة حاليا هناك، و18 ألوية عسكرية وبوليسية عراقية (أصغر). وقال أن هذا سيمكن الأمريكيين ليس فقط من تطهير الأحياء السكنية من المتمردين، بل أيضا البقاء والتأكد من أن التطور الاقتصادي سيتحقق فورا. سيستعيد العراقيون أمنهم بفضل تواجد عدد أكبر من الجنود الأجانب المستعدين لكسر أبوابهم على الساعة الثالثة صباحا، إضافة إلى مباركة عدد لا يحصى من المستشارين وموقعي العقود المربحة من عند Halliburton and co.
الإضافة الحقيقية التي أتى بها هذا المذهب الجديد هي أن الجنود الأمريكيين لن يتورطوا كما في السابق في عمليات مكافحة التمرد. ستصبح مهمتهم هي القيام بـ “العمل الاجتماعي المسلح”. وهكذا، بعد أن يتم نسف باب بيتك في ساعات الصباح الأولى، واعتقال جميع الذكور القادرين على حمل السلاح، وترويع كل النساء والأطفال، سيبرزون بطاقات تعريف تؤكد تماما أن ما حدث للتو لم يكن عملية قمع عنيفة بل “عملا اجتماعيا مسلحا” حقيقيا. كان هذا سيوفر مادة جيدة لإنتاج فيلم من طرف Marx brothers، لو لم يكن الموضوع جديا.
يقول الجنرال كين، أن أولوية الجنود ستكون هي كسب دعم وثقة المدنيين، والحصول على المعلومات اللازمة للتعرف على العدو. دقيقة من فضلكم! ألم يسبق لنا أن سمعنا نفس الشيء من قبل؟ نعم لقد سبق لنا ذلك! إن هؤلاء الذين يمتلكون ذاكرة قوية بما يكفي سيتذكرون أن الهدف المعلن للقوات الأمريكية المحتلة لفيتنام كان هو “كسب قلوب وعقول” الفيتناميين وهكذا ضرب قاعدة الدعم التي يتمتع بها المتمردون. لقد نفذت هذه الرغبة بطرق إقناع لطيفة من قبيل إجبار تجمعات سكنية بأسرها، بقوة السلاح، على دخول معسكرات اعتقال أطلق عليها “قرى مسلحة”، أدت إلى خلق نوع من الشعور الطيب اتجاه الأمريكيين الذي قاد إلى ارتفاع هائل في عدد المتطوعين المنخرطين في صفوف المغاوير. ليس لدينا أي شك في أنه سيكون لخطة الجنرال كين “العمل الاجتماعي المسلح”، نفس الأثر في العراق.
على كل حال، الفكرة في مجملها غير عقلانية. الحقيقة هي أن الأمريكيين يفتقدون العدد الكافي والعراقيون يفتقدون القدرة الضرورية، لحماية أي منطقة فبالأحرى إعادة إعمارها. وتعلق صحيفة الأيكونوميست (13 يناير 2007) قائلة:
«يقول المنشور أن مكافحة الشغب تتطلب “مصادر ضخمة” من اليد العاملة والقدرة على التحمل في أمريكا. بعد عقود من إزالتهم لفكرة “الحروب الصغيرة” من كتبهم بعد صدمة فيتنام، عاد الضباط الأمريكيون يتعلمون الدروس بالطريقة الأصعب.
توجد فكرة كسب الأغلبية المترددة “الصامتة” في قلب مذهب مكافحة الشغب. لكن بعد الكثير من القتلى وتحطم الآمال، من الممكن ألا يتبقى هناك الكثير من المترددين في بغداد. لا يمكن الثقة في عمليات استطلاع الرأي العراقية، لكنها تظهر ميلا نحو تصاعد الدعم لعمليات القتل ضد الأمريكيين. وجدت دراسة نظمت شهر شتنبر أن 61% من العراقيين، بما فيهم أغلبية الشيعة وكل السنة تقريبا، يستحسنون الهجمات على قوات الائتلاف.
الزيادة في القوات الأمريكية قد تؤدي أو لا تؤدي إلى تحقيق المزيد من الأمن. لكنها ستقدم المزيد من الأهداف لضربات المتمردين، وستزيد من مشاعر كره العديد من العراقيين ضد الاحتلال. سيقتل المزيد من الأبرياء، لا سواء نتيجة الخطأ أو الإهمال أو نتيجة ما هو أسوء. يعتقد أحد الجنرالات البريطانيين ذوي الخبرة في العراق أنه لا يوجد أي عدد إضافي من الجنود الأمريكيين يمكنه حل المشكل. “يمكن أن يتحقق بعض الهدوء عندما تكون عربات الهامر تتجول خلال النهار، لكن الميليشيات ستعود في الليل لتقوم بالتقتيل والإرهاب”.»
يمتلك الجيش الأمريكي منشورا لمكافحة الإرهاب ينصح بتطبيق استراتيجية تقوم على تخصيص ما بين 20 و25 عضو من قوى الأمن لكل 1000 مدني: أي نفس المعدل الذي استعمل عندما دخلت قوات الناتو إلى كوسوفو سنة 1999. يعني هذا في بلد من حجم العراق ما بين 535,000 و670,000 جندي وشرطي. لقد اجتاحت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة العراق بأقل من 200,000 رجل وامرأة. واليوم ليس هناك سوى 150,000 من الجنود الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم من القوات.
تواصل الإيكونوميست قائلة:
«ولو بحساب قوات الأمن العراقية، يبقى العدد الإجمالي أقل من 473,000 هذا إضافة إلى ضعفهم. العديد من أعضاء قوات الأمن العراقية يتغيبون بشكل روتيني والجيش غير قادر على إنجاز مهامه إلا جزئيا، وقوات الشرطة فاسدة في الغالب ومخترقة من طرف الميليشيا.»
من أجل تحقيق أي تقدم، سيحتاج بوش إلى قوات احتلال من نصف مليون جندي، مستعدين لارتكاب أي عمل إجرامي ضد الساكنة. لكنه لا يمتلك مثل هذه الوسيلة. بل على العكس، إن الجيش الأمريكي منهك بشك جدي. لقد ورثت أمريكا الدور الذي كانت بريطانيا تلعبه خلال القرن التاسع عشر، أي دور شرطي العالم. لكن ذلك كان خلال مرحلة ازدهار الرأسمالية، وكسبت بريطانيا أرباحا هائلة من استغلال مستعمراتها في إفريقيا وآسيا. لكن الأشياء اختلفت الآن.
مرحلة الانحطاط الإمبريالي
نحن نعيش مرحلة الانحطاط الإمبريالي. يظهر هذا من خلال الفوضى العامة والاضطراب على الصعيد العالمي. حرب تتلو الأخرى والإرهاب ينتشر كوباء منفلت العقال. هذه تمظهرات للمرض البنيوي للنظام الرأسمالي على الصعيد العالمي. وبدل أن تستفيد الولايات المتحدة من تفوقها الاقتصادي والعسكري، الذي يجعل قوة الإمبراطورية الرومانية تبدو كمجرد لعب أطفال، فإنها تجد أن دورها العالمي قد صار عائقا غير محتمل.
إضافة إلى النزيف الهائل للثروات، هناك مسألة التأثير السياسي في الداخل والتأثير على معنويات قواتها المسلحة. وتقرع صحيفة الإيكونوميست جرس الإنذار قائلة:
«لقد نكث البنتاغون بالآجال المحددة لتغيير القوات في أفغانستان والعراق: العودة إلى الوطن لمدة سنتين مقابل كل سنة خدمة في الخارج بالنسبة للجنود المحترفين وستة سنوات بالنسبة للجنود الاحتياطيين الذين يشكلون تقريبا نصف القوات المسلحة العاملة في العراق. تضيع التجهيزات في المعركة أو تستهلك بسرعة أكبر مما كان متوقعا. إن التوفر على جيش أكبر سيساعد، لكن هناك حاجة إلى سنوات من أجل تجنيد وتدريب وحدات مقاتلة جديدة.
لا أحد يعرف كم من الضغط يمكن للقوات أن تتحمله. القادة قلقون من أي مؤشر عن انحطاط المعنويات، من قبيل الإشاعات حول ارتفاع معدلات الطلاق عند الجنود. لقد وجد استطلاع للرأي قامت به MilitaryTimes الشهر الماضي، تراجع التأييد للحرب. فقط 41% من المستجوبين وافقوا على قرار الذهاب إلى العراق، مقارنة مع 56% السنة الماضية. خلال يونيو الماضي، كان الملازم أول إيرن واتادا، أول ضابط يرفض الخدمة في العراق. قال أن الحرب “ليست خاطئة من الناحية الأخلاقية فقط، بل تشكل خرقا رهيبا للقانون الأمريكي”.»
بالرغم من الضغوطات على القوات الأمريكية المذكورة أعلاه، قرر بوش إنهاك الجيش أكثر فأكثر. سيتم تنفيذ خطة “الموجة” عبر إطالة مدة خدمة القوات العراقية، تسريع عملية نشر القوات المرتقب وصولها أواخر هذه السنة، وطلب مجموعة جديدة من الجنود الاحتياطيين لسنة 2008. يؤكد الجنرال كين أنه يمكن “لموجته” أن تستمر سنتين. إنها استراتيجية جد خطيرة، ويمكن أن تكون لها عواقب غير متوقعة. لم تصل الوضعية بعد إلى الحدود التي كانت عليها خلال حرب فيتنام لكنها تسير في هذا الاتجاه.
وتستخلص الإيكونوميست قائلة: «الخطر هو، كما في الماضي، أن ينتظر المتمردون ذهاب الأمريكيين، أو أن ينقلوا عمليات القتل إلى المناطق حيث يوجد عدد أقل من الجنود.» المشكل الرئيسي هو أن المتمردين يتمتعون بدعم السكان ويمكنهم أن يذوبوا بينهم ويعودوا إلى الظهور قبل أن تكون للأمريكيين أية فرصة في التحرك. في غالب الأحيان لا يمكن تمييز المتمردين عن العراقيين العاديين وليس هناك أية خطوط مواجهة محددة بوضوح. هذا يعني أنه ستكون هناك المزيد من الاعتداءات ضد السكان المدنيين وسيخلق هذا المزيد من الكره ضد القوات الأجنبية الغازية والمزيد من الملتحقين بصفوف المتمردين. ومقابل كل مقاتل يقتله الأمريكيون، سيكون هناك خمسة أو عشرة أو عشرون مقاتلا جدد يأخذون مكانه أو مكانها.
صارت الأوضاع أكثر تعقيدا مع الصراع الطائفي الدموي بين السنة والشيعة. الأمريكيون هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن إشعال نيران هذا الكابوس. فمن خلال تشجيعهم للشيعة، الذين كانوا مضطهدين سابقا، على الوقوف ضد السنة الذين كانوا يحكمونهم في السابق، خلقوا جوا ملائما لتشكيل ميليشيات شيعية. وعبر إقامتهم لحكومة يهيمن عليها حلفائهم الشيعة والأكراد، خلقوا شعورا لدى السنة بأنه تم تهميشهم وإقصائهم عن مواقع القرار. هذا خلق الأسس للصراع الطائفي الحالي.
قال السيد بوش أن القوات العراقية والأمريكية سيكون لها “الضوء الأخضر” للذهاب إلى أي مكان في بغداد. لكن حتى الجنرال كين الغبي لا يعتقد أنه سيكون من الحكمة في الوقت الحالي محاولة دخول مدينة الصدر، معقل رجل الدين الشيعي وقائد جيش المهدي المعادي للأمريكيين، مقتدى الصدر.
كل ما تمكنت الانتخابات من تحقيقه هو إقحام الانقسامات الإثنية التي يعرفها البلد في الحياة السياسية. ومع كل يوم يمر تفقد الولايات المتحدة وسائل نفوذها. فشلت حكومة المالكي البائسة في تحقيق أي من الأهداف التي سطرتها لها واشنطن: اقتسام عادل لمداخيل النفط، إنفاق 10 ملايير دولار على إعادة الإعمار، تنظيم انتخابات إقليمية، مراجعة الدستور الفدرالي ومسلسل “تصفية البعث”. كل هذا لا معنى له في الوقت الذي يتم الصراع على السلطة الحقيقية كل يوم في شوارع بغداد بين القوات الأمريكية والمتمردين. بينما الحكومة معلقة بين السماء والأرض.
بوش الذي أحبطه المأزق الواضح، يحاول الآن تحميل المسؤولية للإيرانيين على جميع مشاكله في العراق. من الواضح أن إيران تتدخل إلى جانب الشيعة في العراق وربما أرسلت أسلحة لمساعدتهم. كما أنه من المؤكد أيضا أن العربية السعودية تساعد السنة وتبعث لهم بالأسلحة والأموال. إن الأسرة المالكة السعودية الرجعية مرعوبة من أن يؤدي انهيار العراق إلى ارتفاع كبير لنفوذ إيران في المنطقة. لكن وبما أن جورج بوش وأسرته يقيمون علاقات طيبة مع الطغمة الحاكمة في السعودية، فإنه يعتبر أنه من غير الملائم الإشارة ولو بإصبع واحد إلى بيت آل سعود.
أزمة سياسية جدية تتهيأ في الولايات المتحدة
إن عاجلا أو آجلا ستقود هذه الوضعية إلى حدوث أزمة سياسية جدية في الولايات المتحدة. وقد بدأ الكونغرس، المسيطر عليه من طرف الديموقراطيين، يحاول ممارسة الضغوط على بوش. من الناحية النظرية، يمكن للكونغرس أن يرفض حصول بوش على المال لمواصلة الحرب. لكن هذا سوف يقود إلى أزمة دستورية حادة في الولايات المتحدة، والديموقراطيون عادة ما يرتعبون عندما يتحول التدافع إلى صراع. لكن من الواضح رغم ذلك أن قطاعا متزايدا من الطبقة السائدة قد تعب من تكتيكات بوش المغامرة بل وصار أكثر قلقا بخصوص العواقب البعيدة المدى على أمريكا.
سبق للكونغرس أن استعمل في الماضي سلطاته فيما يخص النفقات، كما كان الشأن خلال السنتين الأخيرتين من حرب فيتنام. لهذا مخاطره. إذ سيمكن الجمهوريين من اتهام الديموقراطيين بالخيانة عندما يخسرون الحرب. إنهم، في الوقت الحالي، ينوون فقط القيام “بتصويت غير ملزم” تعبيرا عن الاحتجاج، الشيء الذي، على حد تعبير السيناتور جوزيف بيدن: “سيبين للرئيس أنه وحيد”. ويمكن أن يتحركوا أيضا لعرقلة الرفع من عدد القوات في العراق. لقد أكدوا على ضرورة قيام الرئيس بالاستشارة مع الكونغرس قبل القيام بأي شيء في العراق.
مصالح كباريات الشركات، التي تحكم أمريكا في الواقع، لا تهتم بالتفاصيل الصغيرة من قبيل الديموقراطية. إنهم عادة ما يفضلون الديموقراطية البورجوازية البرلمانية لأنها النظام الأكثر اقتصادية بالنسبة لهم. إنها تمكنهم من حكم البلاد بهدوء، بينما لا أحد يلاحظ ذلك.
لدى أغلبية المواطنين الأمريكيين الوهم بأنهم يقررون حقا في من يحكمهم، بينما الحقيقة هي أن الديموقراطيين والجمهوريين ليسو سوى جناحين لنفس الطبقة السائدة التي تملك الكونغرس، كما تملك الأرض والأبناك والشركات الكبرى والصحف وشركات الإذاعة والتلفزيون.
عادة يفضل كبار الرأسماليين الحزب الجمهوري، الحزب الطبيعي لكبريات الشركات ومن تم الحزب الطبيعي للحكم. يدافع الجمهوريون (أو كانوا يدافعون) عن حكومة قليلة التكاليف، ضرائب منخفضة، عدم تدخل الحكومة في الاقتصاد، دولار قوي، ميزانية متوازنة. وهذه هي البرامج التي يحبها الرأسمال الكبير، خاصة الرأسمال المالي. لكن، في بعض المناسبات، يمكن للحكومة الجمهورية أن تسقط في المشاكل. عندها يستدعي الرأسمال الكبير حزبه الاحتياطي، أي الحزب الديموقراطي. ينتقلون بسرعة من الارتكاز على قدمهم اليمنى إلى الارتكاز على قدمهم اليسرى، دون أن يتخلوا ولو للحظة عن ذرة واحدة من سيطرتهم على شؤون الأمة.
من تم، عندما وصل جورج وولكر بوش إلى السلطة (عبر طرق مشكوك فيها جدا)، كانت الفرحة عارمة في وول ستريت. إذ هاهو رئيس يشبه في كل شيء الطبقة السائدة في أمريكا: وقح، جاهل، ضيق التفكير، فظ. حسنا إنه لا يستطيع حتى تركيب جملتين مفيدتين، لكنه، رغم كل شيء، واحد منا. إنه يقوم بكل ما هو متوقع منه: الاقتطاعات الضريبة، ضرب شروط العمل، النقص من التبذير على نفقات الدولة (أي على الخدمات الاجتماعية)، الخ. آه لقد كان ذلك مثل أغنية بالنسبة لهم! وعندما أمر باجتياح العراق، بدا آنذاك أن ذلك بدوره جيد بالنسبة للمشاريع، وكما يعلم الجميع فإن ما هو جيد للمشاريع هو جيد أيضا لأمريكا.
لكن الأمور تغيرت الآن. فالحرب لم تسر كما كان متوقعا وقد فقدت شعبيتها بشكل كبير في الولايات المتحدة. العديد من الجمهوريين بدءوا يعبرون الآن عن ريبتهم بخصوص الحرب. الجمهوري الوحيد الذي عبر عن دعم شفوي “للموجة” هو اليميني جون ماك كين. مرشحون آخرون، يطالبون، بهذه الحدة أو تلك، بالانسحاب. لكن بوش بقي متعنتا. لقد رفض القبول برأي مجموعة الدراسة ويتصرف ضد المصالح الجماعية للطبقة السائدة. سوف يحدد هذا مصيره.
من الممكن ألا يستمر بوش حتى للسنتين المقبلتين. ستتخلص منه الطبقة السائدة بدون احتفال إذا ما واصل توريط أمريكا في المزيد من المغامرات العسكرية. فقد تظهر عليه فجأة أعراض “مرض” ما، بعد تكبد هزيمة فادحة، أو أن تكشف الصحافة بعض الفضائح (لا بد أن هناك الكثير منها في ملفات مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة المخابرات المركزية) التي ستورط قيادات الجمهوريين وستؤدي إلى العديد من الاستقالات، مما سيجعل من المستحيل على بوش أن يستمر في السلطة. في آخر التحليل، يمكنهم أن يقرروا التشكيك في قدراته. على أية حال، لقد انتهى جورج بوش.
سوف يؤدي سقوط بوش إلى فتح الباب أمام الطوفان في الولايات المتحدة. هناك أصلا تيار قوي من الغضب، يجري تحت السطح، في المجتمع الأمريكي، حيث تم تجميد الأجور أو الإنقاص منها في عز الازدهار، قطاعات واسعة من الشباب بدأت تتجذر بسبب الحرب وهناك انتشار لشعور الشك في الحكومة وتصاعد المسائلة للنظام الاجتماعي بمجمله.
في هذا السياق تحضر الإدارة للقيام بميل من الارتكاز على الحذاء الأيمن إلى الحذاء الأيسر. الهدف من وراء الصعود المفاجئ للمرشح الأمريكي ذو الأصول الإفريقية “الراديكالي”، باراك أوباما، هو استقطاب أصوات الأمريكيين الساخطين وإعادة البريق لصورة نظام الحزبين (الحزب الواحد في الواقع). لكنها ربما المرة الأخيرة التي يمكنهم فيها أن ينفذوا بجلدهم باستخدام هذه الخدعة البالية. أيا كان الفريق من الطبقة السائدة الذي سيفوز خلال الانتخابات المقبلة، فإنه لن يحل أي مشكل. سينفتح المجال أمام مرحلة عاصفة في الولايات المتحدة والعالم.
آلان وودز
االخميس: 15 فبراير 2007
عنوان النص بالإنجليزية :