الرئيسية / دول العالم / أمريكا / فنزويلا / الماركسيون والثورة الفنزويلية

الماركسيون والثورة الفنزويلية

لقد حققت الثورة الفنزويلية الكثير من الانتصارات والهزائم أيضا، منذ تاريخ كتابة هذا المقال، ونحن نعيد نشره باللغة العربية لأننا نعتبره الموقف الماركسي الصحيح من الثورة الفنزويلية ، ويوضح كيف أن العصب التي تدعي الماركسية، تعيق الثورة بدل أن تساعدها.


«إن من يتوقع رؤية ثورة اجتماعية “نقيةلن يعيش مطلقا حتى يراها. مثل ذلك الشخص، يتحدث بلا انقطاع عن الثورة، دون أن يفهم ما معنى الثورة.» (لينين)

هناك أنواع عدة من الماركسيين: بعضهم قرأ كثيرا وبعضهم الآخر قرأ أقل. بعضهم تكبد عناء التعمق في جوهر المنهجية الماركسية والقيام بدراسة جدية للديالكتيك، بينما اكتفى البعض الآخر بفهم سطحي لتلك الأمور، واقتصروا على تبني جبرية اقتصادية فظة، قد تكون ذات فائدة فيما يخص التحريض لكنها في الواقع جد بعيدة عن الماركسية.

عندما نقرأ كتابات “ماركسيين” من ذلك القبيل، يخامرنا دائما انطباع بأننا ننزل إلى قبو مكتبة مظلم ظل مغلقا طيلة عدة سنوات. هناك العديد من فتات المعارف الغير مهضومة. المكان سيء التهوية، مليء بالغبار وعقيم. يتعلق الأمر بماركسية مجردة من الديالكتيك، أي محرومة من روحها الثورية. هذا النوع من “الماركسية” هو في جوهره فكر جد متوافق مع الإصلاحية والسلبية، بما أنه وبالرغم من مصطلحاته الجذرية، لا يغادر أبدا الأريكة الوثيرة ولا لباس النوم.

هذا الانحراف شائع جدا في بريطانيا على وجه الخصوص، حيث ينحدر من تقليد طويل يعود حتى إلى هيندمان. إنه يعكس، من جهة، التقليد البريطاني المتمثل في تجريبوية ضيقة ومقت شديد للتعميمات النظرية الكبرى. ومن جهة أخرى، هو ثمرة لضغط الأفكار الإصلاحية والجانب الروتيني للحركة العمالية.

يتوجب على الثوري أن “يحس” بحركة الجماهير وأن يحملها في روحه. وعلى عكس ذلك يفهم أدعياء المعرفة المجدون المسلسل التاريخي كمسألة “قوى إنتاج” تحدد كل شيء مسبقا. هؤلاء الناس ليسوا ثوريين، بل هم بالأحرى ملاحظون أبديون وجهة نظرهم أقرب ما تكون إلى مفهوم الجبرية الكلفاني (calviniste) منها إلى الديالكتيك الماركسي الثوري.

لقد لعبت فكرة الجبرية دورا تقدميا خلال المراحل الأولى للثورات البورجوازية في هولندا وفي إنجلترا، خلال القرنين 16 و17. إلا أنها صارت الآن باطلة تماما. يعطي الديالكتيك الماركسي هامشا كبيرا للدور الخلاق للرجال والنساء في المسلسل التاريخي. لكنه يشرح أيضا أن هؤلاء الرجال والنساء ليسوا أبدا أحرارا تماما عن الشروط الموضوعية للمرحلة التاريخية التي يعيشون فيها.

يجب على الثوري أن يمتلك فهما للمنهج الديالكيتيكي، الذي لا ينطلق من تحديدات أو بديهيات مجردة، بل من الواقع الحي، بكل خصوصياته وثرائه وتناقضاته. يجب عليه أن يتعامل مع الحركة الجماهيرية كما هي في الواقع، كما تطورت تاريخيا، وأن يبذل جهوده، بكل الوسائل التي يمتلكها، من أجل الدخول في علاقة معها وخلق حوار معها وتخصيبها بالأفكار الماركسية.

إن الثوري الغير مستعد لتتبع الجماهير عبر هذا المسلسل المتناقض، ويكتفي بترديد خطبته على هامش الحركة، لا علاقة له على الإطلاق بالمناضل الثوري، بل هو مجرد صوري مثير للرثاء. إن أية مقاربة ميكانيكية ودوغمائية اتجاه الحركة العمالية تحول دون أية إمكانية لامتلاك تأثير عليها.

العامل الذاتي

لم تنفي الماركسية أبدا دور الفرد في التاريخ. في فترات محددة من السيرورة الثورية يمكن للأفراد أو لمجموعات من الأفراد أن يلعبوا دورا حاسما جدا. ما شرحه ماركس، وقد كان محقا تماما في ذلك، هو أن قدرة نظام اجتماعي اقتصادي محدد على البقاء يحددها في آخر المطاف، قدرته على تطوير القوى المنتجة. وهكذا فإن الأزمة الحالية للرأسمالية العالمية تعكس، في العمق، عدم قدرة هذا النظام على تطوير القوى المنتجة كما كان في السابق.

هذا الواقع الأكيد يحدد السياق التاريخي العام الذي تحدث فيها المأساة الكبرى للسياسة العالمية. إنه يحدد بشكل مطلق السيرورات العامة. إنه يعين حدودها. لكن داخل إطار هذه السيرورات العامة، يمكن وجود كل أنواع التطورات المتناقضة، فترات من المد والجزر، حيث يمكن للمميزات الشخصية لدى الأفراد أن تلعب دورا حاسما. في الواقع إن ضعف العامل الذاتي على الصعيد العالمي هو العامل المحدد حيث يؤخر ويشوه الحركة نحو الثورة الاشتراكية.

إن العامل الأكثر أهمية في ظل الوضع الحالي هو غياب قيادة ماركسية قوية ومؤثرة على الصعيد العالمي. التيار الماركسي الحقيقي تعرض للعزلة طيلة عقود، ولا يمثل اليوم سوى أقلية ضئيلة. ليس قادرا بعد على قيادة الجماهير نحو النصر. لكن مشاكل الجماهير غير محتملة. لا تستطيع الجماهير أن تنتظرنا حتى نصير مستعدين لقيادتها. ستحاول تغيير المجتمع بواسطة جميع الوسائل، وإيجاد مخرج من المأزق. يصدق هذا خصوصا على البلدان المستعمرة سابقا في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث لا توجد أية إمكانية لتطوير المجتمع على قاعدة الرأسمالية.

في ظل غياب تيار ماركسي جماهيري، تصبح جميع أنواع التطورات الخاصة ممكنة، بل في الواقع حتمية. من أجل فهم طبيعة هذه التطورات ومن أجل التمييز، في كل مرحلة، بين ما هو تقدمي وما هو رجعي، من الضروري التوفر على مقاربة خلاقة.

بالنسبة للتفكير العصبوي، يجب على الثورة أن تتلائم مع مخطط موضوع سلفا. على سبيل المثال، يجب عليها أن تكون بقيادة حزب ماركسي. نحن أبعد ما نكون عن أن نستهين بالأهمية الحاسمة التي للقيادة الثورية والحزب الثوري إبان الثورة. لكن من أجل بناء مثل ذلك الحزب، من الضروري أن نقيم، بطريقة واقعية، المرحلة التي وصلتها الحركة، والدور الذي يمكننا أن نلعبه خلالها. سنعود إلى هذه النقطة فيما بعد.

مشكلة المقاربة العصبوية هي أنها تعوض السيرورة الحية بصيغ جاهزة، بتحديدات مجردة ومعايير عامة. بعبارة أخرى، إنها مقاربة مثالية وليست مادية، وميتافيزيقية وليست جدلية. هذه المقاربة تفبرك معيارا مثاليا حول ماهية الثورة وترفض بشكل منهجي كل ما لا يتوافق مع ذلك المعيار. بالنسبة للعقلية المثالية هذا ممتاز. لكن من المعروف منذ أفلاطون أن مثل ذلك الصفاء يتعارض غالبا مع الواقع الحي.

نعرف جميعا كيف نحدد إنسانا: إنه إما ذكر أو أنثى، لديه أو لديها عينان وساقان، وهكذا. لكن في الحياة الواقعية، يولد بعض الأشخاص بعين واحدة أو بساق واحدة، أو بدون أية ساق. حتى جنس بعض الأشخاص نفسه لا يمكن تحديده بالتدقيق. في الواقع، كثيرا ما نشهد في الطبيعة أو في الحياة اليومية، أشياء تخالف المعايير، والتي يجب علينا أن نتعلم التعايش معها، وإلا فإننا سنتعرض لجميع أنواع الحيرة والمشاكل.

نجاح الثورة سيكون مضمونا، فعلا، لو توفر الحزب الماركسي الجماهيري، الذي يمكنه أن يعطي القيادة الضرورية للشرائح الطليعية بين صفوف الطبقة العاملة ويسلحها ببرنامج سياسي. إلا أن بناء مثل ذلك الحزب لا يمكن تحقيقه بواسطة المراسيم. لا يمكن للطليعة الثورية أن تكسب الأغلبية إلى جانبها إلا بعد الخضوع لامتحان الأحداث وكسب ثقة الجماهير. لا يمكن تحقيق هذا من خلال مخاطبة الجماهير انطلاقا من الهوامش. وقبل التمكن من التأثير في الجماهير يتوجب أولا أن نفهم طبيعة الحركة الجماهيرية والمرحلة التي وصلتها ومختلف الميولات (المتناقضة) التي تتواجد داخلها، وكذا الاتجاه الذي تتطور نحوه. أي بعبارة أخرى: يجب امتلاك مقاربة ديالكتيكية.

أول قانون للديالكتيك هو الموضوعية المطلقة: عندما ندرس ظاهرة معينة، يجب علينا أن لا ننطلق من أفكار أو تحديدات معدة مسبقا، بل من دراسة جد دقيقة للوقائع، ليس لأمثلة أو استطرادات بل للشيء ذاته. إذا ما أردنا فهم الأحداث التي تقع في فنزويلا، والدور الذي تلعبه هناك الحركات والأشخاص، يتوجب علينا الانطلاق من الوقائع نفسها. يجب على التحليل بالمعنى الديالكتيكي أن يكون ناتجا عن امتحان مدقق للوقائع والسيرورات وليس مسقطا عليها من فوق.

هكذا كانت منهجية تروتسكي. في مقدمته لكتابه: تاريخ الثورة الروسية، كتب قائلا:

«يجب على تاريخ الثورة، مثله مثل كل تاريخ، أن يروي، قبل كل شيء، ما الذي حدث وأن يشرح كيف. لكن هذا لا يكفي. ومن خلال الحكي نفسه يجب أن نرى بوضوح لماذا سارت الأحداث بهذه الطريقة وليس بطريقة أخرى.لا يمكن اعتبار الأحداث كسلسلة من المغامرات، ولا أن تقحم، الواحدة منها بالأخرى، على أساس أخلاقي محدد مسبقا. يجب أن تنضبط لقوانينها الخاصة. مهمة الكاتب هي اكتشاف هذه القوانين الداخلية.»

تقدم هذه الأسطر مثالا رائعا للمنهجية الديالكتيكية في التحليل. لكن المفكرين الصوريين، على العكس من ذلك، لا يرهقون أنفسهم بدراسة دقيقة للوقائع والسيرورات. ولا يكلفون أنفسهم العمل بجد لاكتشاف قوانين حركة ثورة معينة، لأنهم يعلمون مسبقا (أو يتخيلون أنهم يعلمون) قوانين الثورة بوجه عام. وهكذا وبما أنهم مسلحون بهذه المعرفة العامة، فإنهم غير محتاجين لإضاعة وقتهم في دراسة الوقائع. ليس عليهم إلا أن يسقطوا أفكارهم وتحديداتهم المعدة سلفا على الوقائع، مثلما يصب أي عالم كيمياء سائلا ما على ورقة pH. إذا ما أصبحت الورقة حمراء يكون لدينا سائل حامضي، أما إذا صارت زرقاء فإن السائل قاعدي.

مثل هذه المنهجية سهلة، بل وطفولية في الواقع، ومن ثم فإنها تناسب الأطفال الصغار بشكل تام. يمكن للصوري، المسلح بمثل هذه المعرفة الواسعة، أن يقرر مسبقا ما إذا كان سيعتبر أن ما يحدث في فنزويلا، أو في أي مكان آخر على هذا الكوكب، ثورة حقيقية أم لا. إنهم يرفضون، من فوق قمم جبل الأولمب، أن يعطوا الثورة الفنزويلية شهادة الميلاد. إلا أن الثورة، لحسن الحظ، ليست على علم بهذا التحريم الكنسي، ولا هي مهتمة به.

ما هي الثورة؟

ضعف موقف العصب بخصوص فنزويلا، إذا كان من الممكن الحديث عن موقف لدى هؤلاء، يتمثل في أفكارهم المعدة مسبقا حول الثورة “كما يجب أن تكون“، مما يبين جهلا تاما بما هي الثورة.

ما هي الثورة؟ قلما يتم طرح هذا السؤال الجوهري. لكن إذا لم نعمل على طرحه والإجابة عليه، لن نتمكن أبدا من تحديد ماذا يحدث الآن في فنزويلا، ولا في أي مكان آخر. إن الثورة كما يشرح تروتسكي في كتابه: تاريخ الثورة الروسية، هي وضع تبدأ الجماهير خلاله في أخذ مصيرها بين أيديها. هذا بالتأكيد هو الحال في فنزويلا اليوم. إن استيقاظ الجماهير ومساهمتها النشيطة في الحياة السياسية هو الميزة الأكثر وضوحا للثورة الفنزويلية، وكذا سر نجاحها.

في نفس المقدمة كتب ليون تروتسكي، الذي يعرف الشيء الكثير عن الثورات، ما يلي:

«إن الميزة الأكثر تأكيدا لثورة ما هي التدخل المباشر للجماهير في الأحداث التاريخية. في العادة ترفع الدولة، لا سواء الملكية أو الديمقراطية، نفسها فوق الأمة؛ التاريخ يصنعه متخصصون: الملوك، الوزراء، البيروقراطيون، البرلمانيون، الصحفيون. لكن خلال الانعطافات الحاسمة، عندما يصبح النظام القديم غير محتمل من وجهة نظر الجماهير، تكسر هذه الأخيرة السياجات التي تفصلها عن الحلبة السياسية، وتسقط ممثليها السياسيين التقليديين، و، بتدخلها هكذا، تخلق نقطة انطلاق لنظام جديد. نترك للكتاب الأخلاقيين أن يحددوا ما إذا كان هذا جيدا أو سيئا، أما نحن فسنأخذ الوقائع كما هي، في تطورها الموضوعي. إن تاريخ الثورة بالنسبة إلينا هو، قبل كل شيء، حكاية اقتحام عنيف للجماهير للمجال حيث يحدد مصيرها الخاص.» (ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، المقدمة، التشديد من عندي –آ و-)

خلال المراحل العادية، لا تشارك الجماهير في السياسة. فظروف العيش في ظل الرأسمالية تزرع في طرقهم عراقيل هائلة: ساعات العمل الطويلة، التعب الجسدي والنفسي، الخ. عادة يكتفي الناس بأن يعهدوا بمسألة اتخاذ القرارات التي تهم حياتهم لأناس آخرين: المجلس البلدي، السياسيون المحترفون، الموظفون النقابيون، الخ.

مع ذلك، تعمل الجماهير، عند لحظات حاسمة، على اقتحام مسرح التاريخ، وتأخذ حياتها ومصيرها بين أيديها، وتتحول من عوامل سلبية للسيرورة التاريخية، لكي تصبح صانعة الأحداث. يجب أن يكون المرء بليدا جدا لكي لا يرى أن هذا هو ما يحدث بالضبط في فنزويلا اليوم. خلال السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الانقلاب الفاشل، أبريل 2002، بدأ ملايين العمال والفلاحين في التحرك والنضال من أجل تغيير المجتمع. إذا لم يكن هذا ثورة، فإننا لن نرى ثورة أبدا. وحدهم العصبويون الذين لا يرجى شفائهم من لا يفهمون هذا.

يجب أن نفهم أن الجماهير، لا سواء في فنزويلا أوفي غيرها، لا تتعلم إلا بطريقة تدريجية انطلاقا من تجربتها الخاصة. يجب على الطبقة العاملة أن تمر من خلال تجربة الثورة والأزمة الاجتماعية من أجل أن تتعلم كيف تميز بين مختلف التيارات، وبين مختلف البرامج والقادة. إنها تتعلم من خلال تقديرات تقريبية متوالية. وكما شرح تروتسكي:

«المراحل المختلفة للسيرورة الثورية، التي تتميز باستبدال أحزاب بأخرى دائما أكثر تطرفا، تعكس الدفع القوي الذي تمارسه الجماهير نحو اليسار، طالما لم تنكسر هذا الاندفاعة أمام عراقيل موضوعية. عندما يحدث ذلك، تبدأ الردة الرجعية: فقدان الحماس بين بعض أقسام الطبقة الثورية، تزايد اللامبالاة، و، في النهاية، توطيد القوى المعادية للثورة. هذا على الأقل هو مسار العام للثورات السابقة.»

ويضيف:

«فقط من خلال دراسة السيرورات السياسية بين الجماهير نفسها نتمكن من فهم دور الأحزاب والقادة، وهو الدور الذي لا نميل مطلقا إلى تجاهله،. إنهم لا يشكلون عنصرا مستقلا ذاتيا، لكنهم عناصر جد هامة في هذه السيرورة. بدون منظمة قائدة، تتبدد طاقة الجماهير كالبخار الغير محصور في اسطوانة المكبس. لكن ما يحرك الأشياء ليس هو الاسطوانة ولا المكبس، بل البخار.» (نفس المرجع)

تنطبق هذه الملاحظات بشكل تام على الوضع في فنزويلا، حيث تشكل حركة الجماهير، من تحت، القوة المحركة الرئيسية للثورة. من المستحيل أن نفهم هذه السيرورة إذا ما نحن اقتصرنا على نقاش مسألة القادة، وأصولهم الطبقية وتصريحاتهم وبرامجهم. إنهم ليسو إلا مثل زبد البحر: لا يشكلون في النهاية إلا انعكاسا سطحيا للتيارات التي تعتمل في الأعماق.

الجماهير وتشافيز

«تتحدد دينامية الأحداث الثورية بشكل مباشر بالتحولات السريعة والمكثفة والحماسية في نفسية الطبقات التي تشكلت قبل الثورة.» (تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية)

في ظل غياب حزب ماركسي ثوري جماهيري، تحلقت قوى الثورة حول تشافيز والحركة البوليفارية. يوجد هوغو تشافيز في مركز الإعصار. أيا كان الموقف الذي يمكن للمرء أن يتخذه من هذا الرجل، فإنه هو من فتح أقفال الثورة. هو الوحيد الذي تجرأ على مواجهة سلطة الأوليغارشية وتحدي قوة الإمبريالية الأمريكية. حتى أعدائه ومنتقدوه يعترفون أنه عبر عن شجاعة هائلة. ومن خلال إعطائه لمثال شجاع تمكن من تحرير القوى الهائلة التي ضلت محصورة طوال أجيال في أعماق المجتمع الفنزويلي. إن هذا واقع يكتسي أهمية عظيمة.

لقد بدأت الجماهير تشعر، للمرة الأولى منذ حوالي قرنين من تاريخ فنزويلا، أن الحكومة موجودة بين أيدي أناس يريدون الدفاع عن مصالحها. كانت جميع الحكومات في الماضي دائما سلطة غريبة عن الجماهير ومعادية لها. إن الجماهير لا تريد عودة الأحزاب القديمة الفاسدة. لقد نهض سكان دور الصفيح الفقراء والعاطلون والعمال والفلاحون والهنود والسود، من خمولهم السياسي ووقفوا على أرجلهم. لقد اكتشفوا معنى آخر للحياة، وإحساسا جديدا بالكرامة وأملا جديدا. لقد أصبحوا، بين عشية وضحاها، مناصرين لتشافيز، بالرغم من أنهم لا يعرفون جيدا ما الذي يعنيه هذا.

ربما لا تمتلك الجماهير سوى فكرة عامة حول ما الذي تريده فعلا، لكن لديها فكرة واضحة جدا حول ما الذي لا تريده. إنها لا تريد أن ترى عودة النظام السابق، والأحزاب السابقة والقادة الرأسماليين السابقين. لقد تذوقت معنى الحرية وهي لا تريد العودة إلى العبودية الماضية. إنها تتطلع بكل ذرة من كيانها إلى إحداث تغيير جوهري في ظروف حياتها. هذا هو ما يعنيه بالنسبة إليها التيار التشافيزي. وفي وجدانهم يتجسد هذا الحلم الكبير بالتغيير في رجل واحد: هوغو تشافيز.

يستغرب العديد من الناس للحماسة، الشبه دينية، التي تقابل بها الجماهير رئيسها. من أجله ستكون الجماهير مستعدة لتحمل الجوع والفقر، والتضحية بكل ما تملكه، والمجازفة بحياتها (كما عملت قبل سنتين [شهر أبريل 2002 – م-]). يشكل هذا قوة رائعة، ويفسر كيف تمكن تشافيز من الانتصار على جميع محاولات إسقاطه. السر الحقيقي وراء نجاحه لا يكمن في شخصه هو، بل في الجماهير، وأيضا قوة الجماهير هي التي تحدد كل مسار الثورة وتشكل محركها الرئيسي.

لا يتمكن أعداء تشافيز اليمينيين من فهم هذا، لأنهم عاجزون بنيويا عن فهم دينامية الثورة نفسها. لا يمكن للطبقة السائدة والمثقفين المأجورين لديها، أن يتقبلوا أبدا فكرة أن الجماهير تمتلك عقلا وشخصية خاصة بها، وأنها تشكل قوة جد خلاقة، قادرة ليس فقط على تغيير المجتمع، بل أيضا على تسييره. إنهم لا يستطيعون تقبل شيء من هذا القبيل، لأنهم إذا تقبلوه، سيعترفون في نفس الوقت بإفلاسهم ويكشفون أنهم لا يشكلون مجموعة اجتماعية ضرورية، لديها حق مقدس في الحكم، بل أنهم مجرد طبقة زائدة طفيلية وعائقا رجعيا في وجه التقدم.

العصبويون عاجزون عن الفهم

لكن ليس أعداء الثورة البورجوازيون هؤلاء هم وحدهم من لا يستطيعون فهم الثورة الفنزويلية. فقد عبر العديد من الأشخاص الآخرين، على اليسار، (بمن فيهم بعض من يسمون أنفسهم ماركسيين)، عن عجز مشابه عن فهم ما الذي يحدث في فنزويلا. لقد أصيب هؤلاء الأشخاص، الذين نصبوا أنفسهم قادة للطبقة العاملة، بالخزي والعجب بسبب الدعم الحماسي الذي توليه الجماهير لتشافيز. إنهم يتذمرون في الهامش حيث يقفون ويغمغمون بشيء ما بخصوص “الشعبوية“، لكنهم يعبرون عن عجز مطلق عن التواصل مع الحركة الواقعية للجماهير. لكن هذه هي الميزة الرئيسية للعصبويين في كل مكان.

الشيء الذي لا يفهمه أي من هؤلاء السيدات والسادة هو العلاقة الجدلية بين تشافيز والجماهير. إنهم يشتركون في مقاربة صورية وميكانيكية للثورة. إنهم لا ينظرون إليها كسيرورة حية، مليئة بالتناقضات والتفاوتات. هي لا تتطابق مع مخططاتهم المعدة مسبقا حول كيف يجب على الثورة أن تكون، ومن ثم فإنهم يديرون لها ظهورهم باحتقار. إنهم يتصرفون مثل ذلك الأوروبي الذي كان أول من رأى زرافة فقال مستغربا: “أنا لا أصدق هذا!”

إن الثورة، لسوء حظ أصدقائنا الصوريين، لا تتطور بصورة متناغمة، إنها لا تسير وفق مخطط معد سلفا، إنها لا تعزف بطريقة أوركسترا تتبع مخصرة قائدها. الثورة تتبع قواعدها الخاصة وتنضبط لقوانينها الداخلية، التي لا توجد في أي من كتب الطبخ الثوري، بل تجد جذورها في تناقضات المجتمع التي تتحضر تدريجيا عبر العمل الجماعي للجماهير نفسها، التي لا تتعلم في الكتب، بل من خلال خبرة النضال وعبر مسلسل مؤلم من التجارب والأخطاء.

إلا أن العصبويين يحتجون قائلين: “لكن تشافيز بورجوازي”. هؤلاء الناس يفكرون دائما باستعمال مفاهيم مبسطة: أسود أو أبيض، نعم أو لا، بورجوازي أو بروليتاري. لقد كان العجوز إنجلز يتحدث هذا النوع من العقلية الصورية عندما استشهد بالأسطر التالية من الإنجيل: “فليكن كلامك نعم، نعم، لا، لا؛ لأن كل ما يضاف إلى هذا يأتي من الشيطان.” للوهلة الأولى تبدو هذه المطالبة بالتحديد الصارم الواضح مسألة حكيمة وعقلانية. لكنه ليس من الممكن دائما المطالبة بتحديدات صارمة واضحة.

ليس من الصحيح، حتى من وجهة النظر السوسيولوجية، القول أن “تشافيز بورجوازي”. الأصول الطبقية التي ينحدر منها هوغو تشافيز ليست بورجوازية، بل هو بالأحرى من الطبقة الوسطى. إنه يعتبر نفسه فلاحا. وأيا كان الحال، فإن هذا لا يحسم المسألة من وجهة نظر الماركسيين. الطبقة الوسطى ليست طبقة منسجمة. فئاتها العليا: المحامون الأغنياء والأطباء والأساتذة الجامعيون، هم أقرب إلى البورجوازية ويخدمونها. وفي المقابل تعتبر فئاتها الأدنى: صغار التجار والفلاحون الفقراء والمثقفون الكادحون، أقرب إلى الطبقة العاملة، ويمكن، في ظل شروط محددة، أن يتم كسبهم إلى قضية الثورة الاشتراكية.

إلا أن الأصول الطبقية للقادة ليست بدورها مسألة حاسمة عندما تتعلق المسألة بتحديد الطبيعة الطبقية لحزب ما أو حركة ما. فالذي يحدد الطبيعة الطبقية لحركة سياسية ما، هو، في أخر المطاف، برنامجها وسياستها وقاعدتها الاجتماعية. يمكننا أن نحدد برنامج وسياسة الحركة البوليفارية، بوجه عام، كبرنامج وسياسة الديمقراطية البورجوازية الصغيرة الثورية. وهكذا، فإنها لا تسير إلى ما وراء حدود ديمقراطية بورجوازية جد متقدمة. لقد طرحت الثورة برنامجا طموحا للإصلاحات لصالح الجماهير، لكنها لم تقضي بعد على الرأسمالية. وهذا ما يشكل نقطة ضعفها الرئيسية، وأكبر تهديد يتربص بها في المستقبل.

مسألة الدولة

ويصر أصدقائنا الصوريون قائلين: “لكن الدولة لا تزال بورجوازية!“. نعم، طالما لم تتم بعد مصادرة أملاك الأوليغارشية وطالما لا يزال جزء كبير من السلطة الاقتصادية بين أيديها، فإن فنزويلا تبقى بلدا رأسماليا، ويجب علينا أن نحدد بنفس الطريقة الطبيعة الطبقية للدولة الفنزويلية. علاوة على ذلك، لا يزال جزء كبير من البيروقراطية القديمة في السلطة: النظام القضائي موروث عن النظام السابق والبوليس الحضري يتصرف كدولة داخل الدولة، وولاء قطاعات من الضباط المتوسطين ليس مؤكدا. يعني هذا أنه لم يتم بعد القيام بتغييرات نوعية، ومن ثم فإنه لا يزال في الإمكان حدوث ردة إلى الوراء. إلا أنه لا يمكن حدوث هذا بدون مواجهة شرسة وحرب أهلية.

لكن التحديد العام للدولة الفنزويلية كدولة بورجوازية لا يخبرنا أي شيء عن موازين القوى الحقيقية، أو الواقع الملموس لهذه الدولة، أو عن الطريق التي يتطور فيها الوضع. في الحقيقة الدولة في فنزويلا لم تعد تحت سيطرة البورجوازية. وهذا هو ما يجبر الأوليغارشية على اللجوء إلى أساليب غير شرعية وغير برلمانية في محاولتها لاستعادة السيطرة. أغلبية القوات المسلحة، بمن في ذلك قطاع هام من الضباط، تساند الثورة. يخلق هذا صعوبات هائلة لقوى الثورة المضادة، ويخلق كذلك إمكانيات ملائمة لهؤلاء الذين يريدون إنجاز الثورة حتى النهاية.

لقد طرحنا أعلاه السؤال التالي: ما هي الثورة؟ لكن يتوجب علينا أيضا أن نتساءل: ما هي الدولة؟ لقد سبق للينين (بعد إنجلز) أن أجاب عن هذا السؤال قبل وقت طويل عندما قال أن الدولة هي، في آخر المطاف، جهاز من الرجال المسلحين (الجيش، البوليس، الخ). خلال المراحل العادية، تكون الدولة تحت سيطرة الطبقة السائدة. لكن خلال المراحل الاستثنائية، عندما يصل الصراع الطبقي إلى مستويات عالية، يمكن للدولة أن تكتسب درجة عالية من الاستقلالية، وترفع نفسها فوق المجتمع. هذا هو الوضع في فنزويلا اليوم.

الحجة الأخيرة لدى العصبويين تتعلق بالقوات المسلحة: “يجب ألا تكون لدينا أية علاقة مع ضباط الجيش“. ليست هذه في الواقع حجة على الإطلاق، بل مجرد حكم مسبق غبي. الفكرة القائلة بأنه من المستحيل كسب الجيش إلى جانب الثورة فكرة حمقاء. لو أن هذا صحيح لما كان من الممكن حدوث أية ثورة في التاريخ. لكن الجيش مشكل من رجال ونساء يرتدون البذلة، وبما أنهم كذلك فإنه يمكن أن يتأثروا بما يحدث في المجتمع. (من الممل الاضطرار إلى التذكير بهذه الوقائع، لكن يبدو أنه يجب، في أيامنا هذه، التأكيد حتى على البديهيات).

خلال كل ثورة كبيرة، يتأثر الجيش بحركة الجماهير. ويميل إلى الانقسام على أسس طبقية. لو أن الأمر لم يكن كذلك لكانت الثورات عموما مستحيلة. الغليان الثوري لا يؤثر فقط على الجنود والضباط الصغار، بل يؤثر أيضا على جزء من كبار الضباط. وفي ظل ظروف خاصة ملائمة، يمكن أن يتأثر جزء كبير من الضباط ويرفضوا القتال من أجل النظام السابق، بل ويمكن أن ينتقلوا إلى جانب الثورة، كما كان الحال مع توخاشيفسكي الذي كان ضابطا في جيش القيصر.

علاوة على ذلك، حدث أكثر من مرة في التاريخ أن بدأت الحركة الثورية من فوق، عبر تمرد جزء من الضباط، قبل أن ينتقل إلى الجماهير. هذا ما يحصل خصوصا عندما يظهر النظام القديم كمجرد نظام فاسد ومفلس. تاريخ إسبانيا خلال القرن التاسع عشر مليء بالأمثلة عن مثل هذه الأحداث، المعروفة تحت اسم pronunciamientos [بالإسبانية في النص الأصلي: التمردات العسكرية -م-]، والتي كثيرا ما فتحت أبواب الثورة. إلا أن هناك أمثلة أكثر معاصرة عن نفس هذه السيرورة.

الثورة البرتغالية

الفكرة القائلة بأن الثورة الفنزويلية ثورة فريدة من نوعها فكرة خاطئة. لديها بطبيعة الحال مميزاتها الخاصة بها، لكنها أبعد عن أن تكون فريدة من نوعها. في الواقع جميع الثورات لديها مميزات مشتركة. لو لم يكن الأمر كذلك، لكان من المستحيل أن يتعلم المرء أي شيء مفيد من دراسة الثورات السابقة، لكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. قبل ثلاثين سنة بالضبط شهدنا، في البرتغال، مسلسل مشابه إلى حد كبير لما يحد الآن في فنزويلا.

بعد أكثر من نصف قرن من حكم النظام الفاشستي، عمل الشعب البرتغالي على قلب دكتاتورية كايتانو الممقوتة وانخرط في طريق الثورة. كيف بدأ هذا؟ لقد بدأ بانقلاب نظمه ضباط يساريون. هذا الحدث مناقض بشكل مطلقة لما هو معتاد: إذ أن ضباط الجيش يلعبون، دائما تقريبا، دورا معاديا للثورة. لكن العكس هو ما حدث هنا. سنة 1975، كتب تيد غرانت قائلا:

«تكمن الخصوصية الحقيقية للثورة البرتغالية، مقارنة بأي من الثورات السابقة، في انخراط فريق من الضباط من الدرجة العليا والمتوسطة، بل وحتى بعض الجنرالات والأميرالات، في الثورة.

إذا كانت سلطات الدولة، كما شرح ماركس ولينين، تختصر في رقابة فرق من الرجال المسلحين، فإن انحطاط النظام البرتغالي ظهر بالصورة الأكثر سفورا. لقد راهنت البورجوازية بكل ما لديها على سلاحها لأخير: القمع الشرس والكلياني ضد الجماهير. نتيجة لذلك، وخلال أكثر من جيلين، فقدت البورجوازية نقاط دعمها بين الطبقة الوسطى، وبعد ذلك، بسبب العدوى، بين صفوف القسم الأكبر من شريحة الضباط. لقد لعبت الحرب العديمة المعنى في إفريقيا دورا في ذلك، لكنها لا تفسر كل شيء. حيث أنه حتى المجزرة، الأكثر جنونا، التي حدثت خلال الحرب العالمية الأولى لم تدفع بالأغلبية الساحقة من الضباط [الروس] إلى التخلي عن القيصرية. لم يترددوا في الانتقال إلى صفوف الثورة المضادة ودعم حروب التدخل الأجنبي ضد بلدهم.

اصطدمت الثورة الألمانية، سنة 1918، بأغلبية فئات الضباط. وقد تمتعت الردة الرجعية الهتليرية بدعم الأغلبية الساحقة من الضباط.

خلال الثورة الإسبانية، 1931 – 1937 التحق 99% من الضباط بصفوف فرانكو. كما أن أغلبية الضباط، في البرتغال، سنة 1926، دعمت سلازار.

لقد اتجه البندول السياسي بعنف نحو اليسار. فخلال العقود الثلاثة الأخيرة، حتى البورجوازية الصغرى اتجهت نحو اليسار، كما تبين لنا ذلك حركة الطلاب. في البرتغال انعكس مأزق الرأسمالية والحقد اتجاه طغمة الرأسماليين الاحتكاريين، الذي حققوا ثرواتهم من دماء ومعاناة الشعب والجنود، في عزلة الفئة الأكثر ثراء. لقد استفاد هؤلاء الأخيرون من النظام الكلياني ودعموه حتى اللحظة الأخيرة. وقد امتد هذا الحقد اتجاه تلك الطفيليات الممقوتة إلى أوساط الضباط. لدينا هنا مؤشر عن أن النظام الرأسمالي قد استنفذ مهمته التاريخية، ويصير يوما عن يوم كابحا للإنتاج. وهكذا فإنه في البرتغال حتى هيئة الأركان العامة انقسمت على نفسها، كما يدل على ذلك حادث سبينولا السيئ الحظ.»

تبدو هذه الأسطر وكأنها كتبت أمس، حول الثورة الفنزويلية. لقد شرح التيار الماركسي هذه الظواهر قبل عشرات السنين، لكنها تظل كتابا مغلقا بالنسبة إلى جميع العصبويين وجميع الصوريين، الذين هم بالتالي عاجزين عن فهم الثورة الفنزويلية، فبالأحرى التدخل فيها. إنهم عميان بفعل أساليبهم الصورية، التي تمنعهم من رؤية ما الذي يحدث أمام أعينهم. إنهم يميلون بشكل دائم إلى سرد استشهادات معروفة جيدا من الكتابات الماركسية الكلاسيكية: “يجب علينا أن ندمر الدولة القديمة…”، الخ. لكن هذه الصيغ العلمية تتحول بين أيديهم إلى كليشيهات فارغة أو إلى تمائم دينية. بدل أن تساعدنا على فهم السيرورة الحقيقية، تشكل عائقا أمام أي فهم.

سنة 1975، كتب تيد غرانت في وثيقة عن الثورة البرتغالية ما يلي:

«كتب ماركس أنه يمكننا، في كتابات هيغل المكثفة والغامضة ظاهريا، أن نستشف السيرورات المعقدة التي تحدث من خلالها الثورة في مرحلة معينة من التاريخ. والحالة هذه، تمكننا عبقرية التاريخ الخلاقة من رؤية مشهد ثورة تحدث بواسطة الجنرالات والأميرالات! السبب وراء ذلك هو أن الرأسمالية قد استنفذت ضرورتها في البرتغال، ذلك البلد الشبه مستعمر والشبه إمبريالي، التي تعيش في مأزق، في ظل الرأسمالية، منذ فقدانها لإمبراطوريتها. في الوقت نفسه، أدت تجربة خمسين سنة من الدكتاتورية العسكرية إلى ضرب كلي لمصداقية خيار الدكتاتورية، حتى بين بعض قطاعات الطغمة العسكرية.

لكن السبب الرئيسي وراء الدور الكبير الذي لعبه العسكر هو شلل المنظمات العمالية، بسبب غياب حزب ماركسي حقيقي وقيادة ماركسية. منذ بداية الثورة، كان قوة الفعل موجودة بين أيدي العمال والجنود. لم تعمل حركة القوات المسلحة سوى على ملئ الفراغ الذي خلفه إفلاس قادة الحزب الاشتراكي البرتغالي والحزب الشيوعي البرتغالي.»

يقال أن الطبيعة تكره الفراغ ونفس الشيء يصدق على المجتمع والسياسة. في ظل شروط معينة، وبسبب غياب حزب ماركسي وثوري جماهيري، يمكن لتيارات أخرى أن تملئ الفراغ السياسي. لكن وبمجرد ما قام الضباط البرتغاليون بإشعال شرارة السيرورة، وانفتاح أبواب الثورة، نهضت الجماهير الشعبية والطبقة العاملة وطبعن الثورة ببصمتهن. لقد توفرت كل الشروط لحدوث ثورة سلمية في البرتغال، خاصة بعد الانقلاب الرجعي الذي نظمه الجنرال سبينولا، شهر مارس 1975. هذا الانقلاب مشابه جدا للانقلاب الذي شهدته فنزويلا يوم 11 أبريل 2002، وقد انتهى بنفس الطريقة. كما شرح تيد غرانت:

«لقد تبخرت القوى الانقلابية اليمينية أمام المظاهرات العمالية الحاشدة. عادة ما تكون قوات المظليين والكوماندو هي القوات الأكثر محافظة داخل الجيش. تلك القوات مشكلة في العادة من العناصر الأكثر مغامراتية وتهورا، وتشكل نوعا من القوات الصدامية، التي تكون الأكثر ولاء وآخر القوات التي تتفكك (مثل قوات القوزاق في روسيا). والآن طمئن المظليون المتظاهرين قائلين: “نحن لسنا فاشيين!”. تآخوا مع العمال ومع قوات المدفعية. بل إن بعضهم قدموا بنادقهم كتعبير عن حسن النوايا.

بعد بضعة ساعات من اندلاع الانقلاب، كانت القاعدة العسكرية قد تم الاستيلاء عليها. وفر سبينولا وعدد من الضباط الذين ساندوا الانقلاب نحو إسبانيا. انتهى الانقلاب بالفشل. يمكن أن نقيس مدته بالدقائق بدل الأيام. ربما كان ذلك الانقلاب المحاولة الرجعية الأكثر سخافة وإثارة للسخرية في التاريخ. لكن إذا كان قد تعرض لمثل هذه الهزيمة فذلك راجع بالضبط إلى الجو الثوري المشتعل، الذي لم يؤثر فقط على العمال والفلاحين، بل أيضا عمليا على كل قاعدة القوات المسلحة. لم يكن هناك، في كل البرتغال، أي فيلق مستعد لخدمة أهداف الثورة المضادة.»

مرة أخرى يمكن لهذه الأسطر أن تطبق بشكل كامل على فنزويلا قبل سنتين. يكفينا أن نغير الأسماء. وكما كان الحال في البرتغال، كان من الممكن في فنزويلا، بعد هزيمة الانقلاب أن يتم إحداث تغيير سلمي للمجتمع. لكن هذا لم يحدث، وتمت إضاعة فرصة جد ملائمة. يبين هذا الواقع، في حد ذاته، ضرورة قيادة ثورية حازمة، تمتلك خطا واستراتيجية واضحتين. ثمن هذه الأخطاء سيدفع في المستقبل، وسيكون الثمن جد مرتفع.

سيصيح أصدقائنا العصبويين بانتصار: “هذا يؤكد أنه لا يمكننا أن نولي الضباط أية ذرة من الثقة!”، لكن المسألة المطروحة ليست مسألة ثقة، الثقة مفهوم معنوي وليس علميا. الشيء المحدد ليس هو الميزة المعنوية للقادة، بل البرنامج والسياسة التي ينفذونها. لقد كان عدد كبير من الضباط البرتغاليين أناس نزهاء وقفوا بصدق إلى جانب الجماهير. كان عدد منهم يريدون حتى إنجاز تغيير اجتماعي عميق في البرتغال، لكنهم لم يكونوا يعرفون كيف.

المسئولية الحقيقية وراء فشل الثورة البرتغالية لا تقع على كاهل الضباط اليساريين، بل على السياسات الإصلاحية لقادة الحزب الشيوعي والاشتراكي، اللذان دمرا الثورة. يجب أن نضيف أيضا أن العصب اليسراوية، الماركسية المزيفة، لعبت هي أيضا دورا مثيرا للرثاء، وكانوا عاجزين عن اقتراح بديل للعمال والضباط المتجذرين، الذين كانوا يبحثون في الواقع عن ذلك البديل.

أزمة الرأسمالية

الشيء الذي يجعل مثل هذا التطور ممكنا، هو الأزمة البنيوية للرأسمالية على الصعيد العالمي. كتب تيد غرانت قبل 29 سنة، قائلا:

«من بين العوامل المحددة في التطور الثوري، هناك إحباط الطبقة السائدة. نشهد اليوم في بلدان رأسمالية هامة ظهور انشقاقات وتصدعات بين صفوف الطبقات السائدة نفسها. لقد بدأت التصدعات والانشقاقات تحدث الآن، بين صفوف الطبقة الحاكمة في البلدان الرأسمالية الهامة. إنها تنظر برعب إلى السيرورة التي تحدث في أوروبا والعالم. الطبقة الأقوى على الإطلاق، أي الطبقة الرأسمالية الأمريكية، التي كانت تتطلع إلى قرن من الهيمنة على العالم، وإلى أن تصبح شرطي البلدان المستعمرة والرأسمالية، تشعر بالإحباط مثلها مثل جميع نظيراتها.»

تنطبق هذه الأسطر بشكل تام على الوضع الحالي.

تتميز الوضعية الدولية باضطراب عام. لقد تراكمت منذ 1947 تناقضات عميقة. إن عصرنا هو عصر الانتفاضات والتحولات المفاجئة والعميقة في جميع القارات وجميع البلدان. يجد الرأسماليون صعوبة كبيرة في الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية. وحدها الولايات المتحدة من عرف بعض النمو، لكن هذا شديد الهشاشة ويستند أساسا على الاستهلاك والقروض ومديونية لا سابق لها.

يعيش النظام الرأسمالي، على الصعيد العالمي، أزمة عميقة. الحروب والإرهاب والاضطراب الاجتماعي والسياسي والدبلوماسي هي تمظهرات إضافية عن هذه الأزمة، لكن كل هذا ليس سوى أعراض للأزمة المركزية. يحاول مبررو الرأسمال تصوير الأزمة وكأنها مجرد أزمة ظرفية، مجرد تسوية خفيفة، “تصحيح”. لكنه ليس كذلك. تعكس الاضطرابات التي نشهدها في كل مكان المأزق الذي توجد فيه الرأسمالية. إنها تعبر، في آخر التحليل، عن تمرد قوى الإنتاج ضد العائقين الكبيرين أمام تطورهما: الملكية الخاصة والدولة القومية.

تعبر الأزمة عن نفسها بقوة خاصة في البلدان المستعمَرة سابقا في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. جميع تلك البلدان تشهد اضطرابات اقتصادية ومالية واجتماعية وسياسية هائلة. لا يوجد أي نظام رأسمالي مستقر في كل أمريكا اللاتينية.

لو توفرت أحزاب ماركسية قوية لتمكنت الطبقة العاملة الأرجنتينية والبوليفية والبيروفية والإكوادورية بسهولة من حسم السلطة خلال السنوات الأخيرة. لكن مثل هذه الأحزاب غير موجودة. فإلى جانب انحطاط الأمميتين الثانية والثالثة يضاف الإفلاس المطلق للمنظمات العصبوية التي تدعي كونها تروتسكية، والتي ارتكبت كل أنواع الأخطاء، لا سواء منها ذات الطبيعة الانتهازية ولا اليسراوية المتطرفة. لقد فقدوا منذ زمن طويل الحق في اعتبارهم قوة ثورية.

في ظل غياب حزب ماركسي قوي، كان من الحتمي، في البلدان الرأسمالية المتخلفة، أن تعبر الثورة عن نفسها من خلال العديد من الطرق الخاصة. هذه هي نتيجة تأخر الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية المتقدمة. لا يستطيع عمال وفلاحو آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية أن ينتظروا. إنهم في حاجة إلى البحث الآن عن حل لمشاكلهم الأكثر ملحاحية. وإذا لم يكن لديهم حزب ماركسي، يكون عليهم أن يبحثوا عن بديل. منطق هذه السيرورة صارم.

في نظريته “الثورة الدائمة” شرح تروتسكي أنه لا يمكن، في ظل الظروف المعاصرة، إنجاز مهام الثورة البورجوازية الديمقراطية إلا عبر مصادرة أملاك الطبقة الرأسمالية. الوسيلة الوحيدة لإنقاذ المجتمع من الركود والجوع والبؤس هي القضاء على الملكية العقارية الكبرى والرأسمالية. استحالة تطوير القوى المنتجة بشكل كامل في ظل الرأسمالية والملكية العقارية هو الدافع الأصلي لثورات المستعمرات. ليس هناك من حل في ظل الرأسمالية.

بسبب غياب حزب ماركسي، يمكن لقوى أخرى أن تظهر في الصفوف الأولى. لقد سبق لنا أن رأينا هذا في حالة البرتغال، سنة 1974 – 1975، عندما عملت مجموعة من الضباط الراديكاليين على إسقاط الدكتاتور الفاشستي كايتانو وفتحت أبواب الثورة. وقد كتب الرفيق تيد غرانت في مقالته ما يلي:

«بالنظر إلى أنتطور قوى الإنتاج كان معاقا من طرف العناصر الموالية للرأسمالية، التابعة للإمبريالية والمتعاونة معها، فقد أطيح بهم. وفيما يشكل نسخة مشوهة عن الثورة الدائمة، تحولت فئة الضباط الصغار، لفترة من الزمن، إلى عامل غير واع في يد التاريخ، وحققوا مهام تأميم الاقتصاد الضرورية.»

طبعا، يتعارض هذا التصريح مع الفكرة القائلة بأن جميع الضباط رجعيون وبأن كل الانقلابات تكون يمينية، وهي الفكرة التي اتخذت عند بعض المجموعات “الماركسية” شكل حكم مسبق مشابه للدين. لو أنه كان علينا أن ننطلق من هذه الأحكام المبسطة، لتوجب علينا أن ندين بشكل مسبق ليس تشافيز وحده بل أيضا قادة الثورة البرتغالية. إلا أن التاريخ أكثر تعقيدا من أن يقحم في هذه القوالب البسيطة. لكن وكما تقول حكمة انجليزية قديمة، “العقول البسيطة تحب الأشياء البسيطة.”

لقد ذهبت الثورة البرتغالية بعيدا جدا. آنذاك كتبت جريدة التايمز، في لندن، مقالا تحت عنوان: الرأسمالية ماتت في البرتغال. كان يمكن لهذا أن يكون صحيحا. تحت ضغط الطبقة العاملة، قامت حركة القوى المسلحة بتأميم الأبناك وشركات التأمين، وهو ما كان يعني، عمليا، تأميم 80 % من الاقتصاد. مع الأسف، ضربت مكتسبات الثورة من طرف قادة الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي، فضاعت الفرصة.

اليوم نشهد في فنزويلا ظاهرة مشابهة. ضل الشعب الفنزويلي، طيلة أجيال، محكوما بأحزاب تمثل مصالح الأوليغارشية والإمبريالية. لكن سنة 1996، وجد الشعب الفنزويلي بديلا في شخص حركة سياسية جديدة، الحركة البوليفارية، أسسها هوغو تشافيز. كان برنامج تشافيز متواضعا: ضد الفساد، من أجل الإصلاحات الاجتماعية، الخ. لكنه دخل فورا في مواجهة مع الأوليغارشية والإمبريالية.

ما نراه في فنزويلا هو تنويعة خاصة لنظرية الثورة الدائمة. من المستحيل تعزيز مكتسبات الثورة في إطار حدود النظام الرأسمالي. عاجلا أو آجلا سيتوجب الاختيار: إما أن تصفي الثورة السلطة الاقتصادية للأوليغارشية وتصادر الأبناك والرأسماليين وتسير في طريق الاشتراكية، أو أن تصفي الأوليغارشية والإمبريالية الثورة.

تشافيز والجماهير

في ظل وضعية يكون فيها النظام القديم يعيش أزمة عميقة، وحيث يكون من الواضح أنه لا يوجد أي مخرج ما عدا القيام بتغيير عميق، لكن حيث لا يوجد أي حزب ثوري جماهيري، يمكن حدوث كل أشكال التنويعات الخاصة. في ظل هذه الشروط، يمكن للغليان الثوري أن يؤثر على شرائح اجتماعية غير منتظرة. لقد سبق لنا أن أشرنا أعلاه إلى أن اعتبار هوغو تشافيز “بورجوازيا” شيء غير صحيح من وجهة النظر السوسيولوجية. لكن حتى ولو كانت لديه فعلا أصول بورجوازية، فإن هذا لا يلغي تلقائيا إمكانية التطور نحو الثورة الاشتراكية ونهج سياسة بروليتارية. فلنستشهد مرة أخرى بمؤسس الاشتراكية العلمية. كتب ماركس في بيان الحزب الشيوعي ما يلي:

«وأخيرا, عندما يقترب صراع الطبقات من ساعة الحسم، تتخذ عملية التـفسّخ داخل الطبقة السائدة، وفي الواقع داخل المجتمع القديم بأسره، طابعا عنيفا وحادا، إلى حد أنّ قسما صغيرا من الطبقة السائدة ينسلخ عنها وينضمّ إلى الطبقة الثورية، إلى الطبقة التي تحمل المستقبل بين يديها. ومثلما انتقل في الماضي قسم من النبلاء إلى البرجوازية، ينتقل الآن قسم من البرجوازية إلى البروليتاريا، لا سيما هذا القسم من الإيديولوجيين البرجوازيين الذين ارتفعوا إلى مستوى الفهم النظري لمجمل الحركة التاريخية.» (ماركس، إنجلز: بيان الحزب الشيوعي، البرجوازيون والبروليتاريون)

كم هو واضح تعبير ماركس! إن فهم ما يحدث في فنزويلا ليس شيئا صعبا جدا، بالنسبة إلى أي شخص استوعب حقا المنهجية الماركسية، ولم يكتفي بتكرار ميكانيكي لبعض الوصفات التي لم تهضم جيدا. وليست هذه هي المرة الأولى التي تطرقنا فيها لظواهر مشابهة. يبدأ مقال تيد غرانت الذي عنوانه الثورة الإيبيرية: الماركسية والتطور التاريخي للوضع الدولي، بتاريخ ماي 1975، بالكلمات التالية:

«ستكون الماركسية نظرية بسيطة جدا لو أنها اقتصرت على ترديد أفكار الماضي. يجهل العصبويون والانتهازيون من مختلف العصب والمجموعات المناهج والمبادئ التي لا تزال تحتفظ براهنيتها، والتي يمكن استخلاص دروس ثمينة عنها من كتابات المعلمين الكبار. يكتفون بتكرار بعض الجمل المستقاة من الماضي والتي يعتقدون أنها تجعل منهم استراتيجيين كبار. تمثل كتابات ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي بالنسبة إلينا ميراثا ثمينا، ويجب علينا أن نحث الرفاق الشباب على دراستها بجدية. لكنها لا تقدم لنا مخططا مفصلا للسيرورة التاريخية.»

إن الاختبار الحقيقي للثوريين هو موقفهم من الثورة. لقد وقفت العصب التروتسكية المزيفة عاجزة بشكل مطلق عن تحديد الاتجاه خلال تطور الأحداث. إنهم لم يفهموا أنه في ظل غياب حزب ماركسي تصبح كل الأشياء ممكنة. تلك العصب التي تسمي نفسها “تروتسكية” هي كما سبق لتيد غرانت أن قال بحق: “لقد صاروا أكثر فأكثر بعدا، وفاقدين لأي إمكانية للتحول إلى منظمات جماهيرية للطبقة العاملة.”

تفاعل العوامل الموضوعية والذاتية، في التاريخ، مسألة جد معقدة ومتناقضة. وحده المنهج الجدلي من يمكننا من تفسير تناقضات الوضع في فنزويلا. في ظل غياب تيار ماركسي حقيقي، من الحتمي أن تظهر تيارات أخرى. وبما أن الطبقة العاملة ليست هي الطبقة القائدة، فإن طبقات أخرى تدخل المسرح. ليس هذا صعبا جدا على الفهم!

العلاقة بين هوغو تشافيز والجماهير جد معقدة وجدلية. لقد سنحت لي الفرصة لكي أرى هذا بنفسي عندما حضرت المسيرة الحاشدة التي نظمت يوم 12 أبريل 2004، في وسط كاراكاس. كان حماس الجماهير وحميتها اتجاه تشافيز عظيما. إلا أنه لا يجب البحث عن سر هذه الحمية في شخصية تشافيز، بل في العلاقات بين الطبقات. تعتبر الجماهير تشافيز كانعكاس لها. إنها تتماهى به، باعتباره الرجل الذي أيقظها إلى الحياة السياسية ومن أعطى لتطلعاتها صوتا. إنه يجسد، في نظرها، الثورة.بالنسبة للجماهير يشكل هوغو تشافيز والثورة شيئا واحدا.

بطبيعة الحال، إن إحساس الجماهير شيء والمنطق الموضوعي للأحداث شيء آخر. في خضم الثورة تتوالى الأحداث بسرعة مثيرة للدوار، ويصعب على القيادة أن تواكب هذه الوثيرة الحادة. خلال مرحلة تاريخية كاملة يميل البندول بشكل متواصل نحو اليسار. توضع جميع الأحزاب والتيارات والبرامج والأشخاص على محك التجربة. لهذا السبب يكون تطور الثورة مطبوعا بصعود وأفول القادة والأحزاب وتميل التيارات الأكثر راديكالية إلى الحلول محل التيارات الأكثر اعتدالا.

سوط الثورة المضادة

لا تندفع الجماهير إلى الثورة ببرنامج تغيير اجتماعي معد سلفا، بل بشعور حاد بأنها لم تعد تحتمل استمرار النظام القديم. تتميز المراحل الأولى للثورة حتما بسيادة منظور غامض وغير منسجم. يسود شعور بالمرح والانتصار والتقدم الذي لا يقاوم. يكون هذا مصاحبا بفكرة الوحدة: “نحن جميعا متشابهون”، في ما يشبه مسيرة عامة نحو الحرية والعدالة الاجتماعية.

إلا أن هذا مجرد وهم. الثورة تتناقض بشكل حتمي مع حدود النظام الاجتماعي والمؤسسات القائمة. هذا يؤدي إلى حدوث مواجهات. لكل فعل رد فعل مشابه له في القوة ومعاكس له في الاتجاه: هذا القانون يصدق أيضا على الثورات أكثر مما يصدق على الميكانيك الأولية. الانتصار الانتخابي الذي حققه تشافيز [سنة 1998 -م-]، لم يكن يعني ثورة اجتماعية، لكنه قلب النظام القائم بشكل كامل وأثار غليانا اجتماعيا شاملا. عندما استوعبت الأوليغارشية أنه لا يمكنها إفساد تشافيز ولا ممارسة الضغط عليه، قررت إقصائه بالقوة. وقد أدى هذا مباشرة إلى الانقلاب الرجعي الذي حدث يوم 11 أبريل 2002.

قبل سنتين بالضبط، شنت قوى الأوليغارشية الفنزويلية المعادية للثورة انقلابا بمساعدة من الضباط اليمينيين داخل الجيش. تم اعتقال تشافيز وتم الإعلان عن إقامة “دكتاتورية ديمقراطية”. لكن الجماهير انتفضت وأسقطت الحكومة الانقلابية، فاتحة الطريق للمزيد من تقدم الثورة. ومرة أخرى، وجدت الجماهير الدعم من طرف الفئة الثورية داخل الجيش. خلال 48 ساعة، انهار الانقلاب كبيت من ورق.

أشار ماركس أن الثورة تحتاج لكي تتطور لسوط الثورة المضادة. في فنزويلا، أثارت كل محاولة قامت بها قوى الثورة المضادة رد فعل هائل من طرف الجماهير، التي كنست كل شيء وقف في طريقها. وفي كل مناسبة صارت مشاعرها أكثر صلابة وأكثر تصميما وكفاحية. الحاجة الملحة إلى القيام بعمل حاسم من أجل التخلص من الثورة المضادة صارت أكثر فأكثر ملحاحية: “Manodura!” – “القبضة الحديدية!”، هذا هو المطلب الآتي من تحت.

بعد فشل الانقلاب صار من الممكن إنجاز ثورة اشتراكية بسرعة وبشكل غير مؤلم. لكن مع الأسف تمت إضاعة الفرصة وتمكن الرجعيون من إعادة تجميع صفوفهم وتنظيم محاولة جديدة، أي ما أطلق عليه “إضراب” [دجنبر 2002 ويناير 2003 -م-] (وهو ما كان في الحقيقة إغلاقا نظمه أرباب العمل)، والذي سبب ضررا خطيرا بالاقتصاد. العمال هم من أفشلوا هذه المحاولة الجديدة، حيث أخذوا زمام السيطرة على المصانع وأجهزة الصناعة البترولية وطردوا الرجعيين. هنا أيضا أدى هذا إلى فتح إمكانية إحداث تغيير جذري، بدون حرب أهلية. لكن مرة أخرى تمت إضاعة الفرصة.

حاليا يسود المجتمع تقاطب كامل بين اليمين واليسار. انفتحت هوة بين الطبقات المتناقضة: الأغنياء والفقراء، chavistas وescualidos، الثوريون والمعادون للثورة يتواجهون في جو من العداء الدائم. يعيش المجتمع في حالة من القلق الشديد والهيجان الدائمين. الهواء مشبع بالإشاعات عن انقلاب والمؤامرات والاعتداءات الأجنبية. الجو مكهرب، كذلك الذي يسبق العاصفة. إن عاجلا أو آجلا ستنفجر العاصفة.

الجماهير تتعلم بسرعة في مدرسة الثورة. إنها تستخلص دروسها. الدرس الرئيسي هو أنه يجب على المسلسل الثوري أن يتقدم إلى الأمام ويواجه أعدائه ويقضي على جميع العراقيل. لكن هذه الرغبة الملحة لدى الجماهير تصطدم بمقاومة تلك العناصر المحافظة والإصلاحية، التي تدعوا بشكل دائم إلى الحذر والتي تريد، في الواقع، أن تكبح الثورة. إن مصير الثورة رهين بحل هذا التناقض.

الثورة في خطر

تقف الثورة الفنزويلية الآن أمام اختيار صارم. الثورة محاصرة بالأعداء، في الداخل وفي الخارج، الذين يصارعون من أجل سحقها. للقضاء على قوى الثورة المضادة، هناك الحاجة إلى برنامج وسياسة واضحين. إلا أن هذا لا يمكن أن يوفره إلا التيار الماركسي.

تقف الثورة الفنزويلية الآن في مفترق الطرق. لقد تمكنت الجماهير خلال السنتين الماضيتين من هزم محاولات الرجعية خلال ثلاثة مناسبات. لكن قوى الرجعية لم تهزم بعد بشكل حاسم. تواصل الأوليغارشية السيطرة على القطاعات الرئيسية للاقتصاد، وتتآمر بدون توقف ضد الثورة. تشارك واشنطن بشكل نشيط في هذه المؤامرات المعادية لثورة. أعلن بوش أنه لن يجد الراحة ما دام تشافيز في السلطة. وقد أعلن جنرال أمريكي مؤخرا أن فنزويلا تشكل تهديدا للولايات المتحدة. كل هذه إشارات خطيرة.

الإمبريالية الأمريكية غارقة في العراق. هذا يجعل من الصعب عليها، في الوقت الحالي، شن تدخل عسكري مباشر في فنزويلا، حتى ولو في حجم مغامرتها في هايتي. لكن هناك الكثير من الخيارات الأخرى. تحاول الولايات المتحدة أن تحصل على قرار بفرض الحصار على فنزويلا من طرف منظمة الدول الأمريكية (OEA)، على شاكلة الحصار المفروض على كوبا، لكن بدون نجاح لحد الآن. إلا أن التهديد الأكثر خطورة يأتي اليوم من الجارة كولومبيا.

تريد الإمبريالية الأمريكية أن تستعمل كولومبيا كقاعدة لعملياتها في أمريكا اللاتينية. تحت مبرر “الحرب ضد المخدرات”، أغرقت واشنطن كولومبيا بالأسلحة والأموال و”المستشارين العسكريين”. لقد أدى هذا إلى تغيير جذري في التوازن العسكري في المنطقة. تشكل الخطة الكولومبية (Plan Colombie) السيئة الذكر غطاءا رسميا للقيام بتدخل إمبريالي على مستوى عال. إن هذا تهديد خطير للثورة الفنزويلية. عمل آثنار، مباشرة قبيل إسقاطه من طرف الشعب الإسباني، على إرسال كمية هامة من الدبابات إلى كولومبيا. وبما أنه من غير الممكن استعمال الدبابات في إطار الحرب ضد المغاوير الكولومبيين فإن هذا لا يترك المجال إلا لاحتمال واحد: هذه الدبابات موجهة لكي تستعمل ضد بلد مجاور، واسم هذا البلد هو فنزويلا.

في سياق الأشهر الأخيرة، تراكمت الأدلة على احتدادا أنشطة المجموعات الشبه عسكرية اليمينية فوق الأراضي الفنزويلية. هذه المجموعات هي “كتائب الموت” الفاشستية الشهيرة، التي عملت خلال عقود على اغتيال وتعذيب وإرهاب الساكنة، بدعم رسمي من جانب الدولة والقوات المسلحة الكولومبية. إنهم الآن يتحركون كمرتزقة لحساب وكالة المخابرات الأمريكية. هدفهم هو اغتيال هوغو تشافيز وتنظيم استفزازات عنيفة من أجل تبرير اندلاع مواجهة مسلحة بين فنزويلا وكولومبيا.

لقد سبق لنا أن شرحنا في مقالات سابقة أن الإمبريالية الأمريكية تستعد لتنظيم استفزاز على الحدود بين كولومبيا وفنزويلا. إلا أن المعارضة، وبعد الهزيمة المذلة التي تكبدتها خلال حملة الاستفتاء، في وضع كارثي، وقد اتهمت إحدى مكوناتها التي انشقت عنها باقي المكونات الأخرى بكونها تحضر للقيام بانقلاب جديد. إن الثورة في خطر. لكن وكما كان الحال إبان الثورة الفرنسية الكبرى خلال القرن الثامن عشر، يمكن للتهديد الأجنبي أن يؤدي إلى دفع الثورة الفنزويلية إلى أبعد.

موازين القوى بين الطبقات

موازين القوى بين الطبقات، في فنزويلا لا يزال جد ملائم لإنجاز ثورة بروليتارية كلاسيكية. ما يجب القيام به هو التطبيق الحيوي لسياسة الجبهة الموحدة. هذا لا يعني إطلاقا ذوبان الحركة العمالية أو تذويب جناحها الماركسي في “جبهة شعبية” عامة. هذا يعني فقط أنه يجب على الطبقة العاملة وطليعتها أن تنخرطا في اتفاق نضالي مع البرجوازية الصغرى الثورية والفلاحين الفقراء وكل العناصر الأخرى الثورية بين الساكنة، من أجل خوض نضال شامل ضد الإمبريالية والأوليغارشية.

هل هذه السياسة تتناقض مع هدف الثورة الاشتراكية؟ وحدهم الدوغمائيون الميئوس منهم من يمكنهم أن يزعموا ذلك. مثل هؤلاء الناس ليست لديهم أدنى فكرة عن ماهية الثورة الاشتراكية. دعونا نستشهد بلينين في هذا السياق:

«الثورة الاشتراكية ليست عملا منعزلا، ليست معركة منعزلة على جبهة واحدة، بل هي مرحلة كاملة من المواجهات الطبقية الحادة وتتابع طويل من المعارك على جميع الجبهات، أي معارك حول كل مسائل الاقتصاد والسياسة، معارك لا يمكنها أن تنتهي إلا بمصادرة أملاك البورجوازية. سيكون من الخطأ الجسيم أن نعتقد بأنه يمكن للنضال من أجل الديمقراطية أن يحول أنظار البروليتاريا عن الثورة الاشتراكية أو يطفئ هذه الأخيرة أو يمحوها، الخ. بل على العكس، فكما أنه لا يمكن للاشتراكية أن تنتصر إلا إذا حققت الديمقراطية الكاملة، فإن البروليتاريا ستكون عاجزة عن التحضير للانتصار على البورجوازية إذا لم تخض نضالا شاملا، منتظما وثوريا من أجل الديمقراطية.» (لينين، الثورة الاشتراكية وحق الأمم في تقرير مصيرها، 1916)

ما الذي تعنيه هذه السطور؟ الثورة الاشتراكية مستحيلة بدون النضال اليومي من أجل تحسين أوضاع الطبقة العاملة والجماهير المستغَلة. فقط عبر هذا النضال تتمكن الطبقة العاملة من مراكمة وتجميع القوى الجماهيرية الضرورية من أجل إنجاز التغيير الاشتراكي للمجتمع. لا يتضمن هذا فقط النضال من أجل أجور أعلى وتخفيض ساعات العمل وعدد أكبر من المساكن والمستشفيات والمدارس، الخ. بل أيضا النضال من أجل الديمقراطية. في سياق هذا النضال تتمكن الطبقة العاملة من أخذ زمام القيادة وبالتالي من وضع نفسها على رأس الأمة. بدون هذا لن يكون انتصار الثورة ممكنا لا في المدى القصير ولا بعد ألف عام.

في فنزويلا، يكمن سر النجاح في الوحدة النضالية للبروليتاريا الاشتراكية مع القوى الديمقراطية الثورية، أي الفلاحون الفقراء وفقراء المدن والبرجوازية الصغرى الثورية عموما. يبذل أعداء الثورة كل ما في وسعهم من أجل كسر هذه الوحدة. والماركسيون يناضلون من أجل إبقائها. لكن هذا لا يعني أنه علينا أن نقبل بإعطاء القيادة للبورجوازية الصغرى، أو أن نخفي اختلافاتنا معها. بل كما يقول تعبير إسباني: “juntos pero no revueltos“- “معا لكن لسنا مختلطين”.

ليست الحركة البوليفارية حزبا ستالينيا أحاديا، بل هي في الجوهر حركة جماهيرية واسعة، مشكلة من اتجاهات وتيارات مختلفة. الجناح اليساري، الذي يعبر عن التطلعات الثورية للجماهير، يناضل من أجل دفع الثورة إلى الأمام، والقضاء على مقاومة الأوليغارشية وتسليح الشعب. أما الجناح اليميني (الإصلاحيون والاشتراكيون الديمقراطيون)، فيبحثون في الواقع عن كبح الثورة، أو، على الأقل، إبطائها والتوصل إلى اتفاق مع الأوليغارشية والإمبريالية.

إن هذا الخيار الأخير غير ممكن في الواقع. ليس هناك من توافق ممكن مع أعداء الثورة، مثلما لا يمكن مزج الزيت بالماء. كل منطق الوضع يقود نحو حدوث مواجهة مفتوحة بين الطبقات. ومصير الثورة رهين بنتيجة هذه المواجهة.

ما هو الموقف الذي يجب على الماركسيين اتخاذه أمام هذه الوضعية الملموسة،؟ هل يجب علينا أن نبقى في الركن، ونشرح أنه بما أن الثورة ثورة “بورجوازية” فإنه ليست لدينا أية علاقة بها؟ إن هذا الموقف يساوي الحياد في النضال بين الثورة والثورة المضادة. سيكون تبني مثل هذا الموقف خيانة للثورة وللطبقة العاملة. مثل هذه السياسة سوف تضرب مصداقية أية مجموعة أو حزب. وسوف ينظر إليهم، عن حق، كهاربين من جبهة القتال وكخونة.

نقول لهؤلاء الذين لا يتوقفون عن تذكيرنا بأنه يجب على الماركسيين والطبقة العاملة أن يحافظوا على استقلاليتهم: إنكم تذكروننا بألف باء الماركسية ونحن نشكركم على ذلك. لكننا بدورنا نثير عنايتكم إلى أن حروف الهجاء تتضمن العديد من الأحرف التي تلي الألف باء. يجب على الطبقة العاملة طبعا أن تحافظ على استقلاليتها الطبقية، في كل لحظة وفي ظل جميع الظروف. هذا هو ما يجعلنا ندعوا العمال الفنزويليين على بناء وتقوية منظماتهم الطبقية: أي النقابات ولجان المصانع، والرقابة العمالية، الخ.

نفس الشيء يقال عن التيار الماركسي. نحن نؤيد التعاون مع باقي التيارات الثورية الأخرى، بشرط وحيد هو: عدم اختلاط الرايات والبرامج والأفكار. يجب أن نحافظ في كل حين على الأفكار الماركسية والسياسة الماركسية والبرنامج الماركسي، وندافع عنها داخل الحركة. وهكذا فإن الموقف الصحيح الوحيد هو التالي:

  1. الدفاع اللامشروط عن الثورة الفنزويلية ضد الأوليغارشية والإمبريالية.
  2. الدعم النقدي للديمقراطية الثورية ولهوغو تشافيز ضد الأوليغارشية والإمبريالية.
  3. داخل الحركة الجماهيرية (الحركة البوليفارية) نؤيد الجناح اليساري في وجه الإصلاحيين والاشتراكيين الديمقراطيين.
  4. داخل الجناح اليساري، ندافع نحن الماركسيون عن أفكارنا وسياستنا وبرنامجنا. سنناضل من أجل كسب الأغلبية من خلال إعطاء المثال وبفضل عملنا وتفوق أفكارنا.
  5. نناضل داخل الحركة الجماهيرية من أجل بناء منظمات عمالية مستقلة قوية ومن أجل مد نفوذها، بدءا بالنقابات.

ضرورة الحزب الماركسي

مثل ببغاء مخمور، لا يتوقف العصبويون عن ترديد جملة: “يجب بناء الحزب! يجب بناء الحزب!”. لكن عندما نسألهم عن كيف يمكن للماركسيين الفنزويليين أن يبنوا الحزب، تصير تلك الببغاوات فجأة أكثر هدوءا: “كيف؟ بالإعلان عنه طبعا!” إن هذا مسل جدا. يجتمع ثلاثة رجال وكلب (أو ببغاء مخمور) في مقهى بكاراكاس ويعلنوا الحزب الثوري. حسن جدا. وماذا بعد ذلك؟ “سندعوا الجماهير إلى الالتحاق بنا!” رائع. وإذا لم تأتي إليكم، وفضلت البقاء في منظماتها البوليفارية الجماهيرية؟ “حسنا، تلك مشكلتهم!”

هؤلاء الناس الخارقي الذكاء، الذين يعتقدون أن اشتراك الماركسيين في الحركة البوليفارية يشكل تخليا عن النضال من أجل الحزب الماركسي الثوري، لا يعملون سوى على التأكيد على أنهم لا يمتلكون أدنى فكرة عن كيفية بناء مثل ذلك الحزب، لا في فنزويلا، ولا في أي بلد آخر. لا تتضمن مقاربتنا أية ذرة للتصفوية أو الانتهازية، بل تعمل فقط على تطبيق الأساليب الحقيقية لماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي. فلنستشهد بفقرة جد معروفة من الوثيقة التأسيسية لحركتنا، بيان الحزب الشيوعي. يمكننا أن نقرأ في الفصل المعنون بالبروليتاريا والشيوعيين، ما يلي:

«ما هي علاقة الشيوعيين بالبروليتاريين عموما؟ لا يشكل الشيوعيين حزبا منفصلا معارضا للأحزاب العمالية الأخرى.

وليست لديهم مصالح تفصلهم عن عموم البروليتاريا. وهم لا يطرحون مبادئ خاصة يريدون قَولَبَة الحركة البروليتارية بقالبها.

لا يتميز الشيوعيون عن الأحزاب البروليتارية الأخرى إلاّ في مسألتين: أولا، في الصراعات القومية المختلفة، يبرزون ويُغلِّبون المصالح المستقلة عن القومية والمشتركة لجميع البروليتاريين، ثانيا، يمثلون دائما مصلحة مُجمل الحركة في مختلف أطوار التطور التي يمر بها الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية.

إذن الشيوعيون عمليّا هم الفريق الأكثر حزما من الأحزاب العمالية في جميع البلدان,الفريق الذي يدفع جميع الآخرين إلى الأمام؛ وهم يتميزون نظريا عن سائر البروليتاريا بفهم واضح لظروف الحركة البروليتارية ومسيرتها وأهدافها العامّة.»

يمكن للمرء أن يظن أن هذا واضح بما فيه الكفاية لكي يتمكن طفل ذو ذكاء متوسط من فهمه. لكن، مع الأسف، يوجد “ماركسيون” لا يمتلكون هذا المستوى من الذكاء. سبق لماركس، بعد أن قرأ كتابات بعض من أطلقوا على أنفسهم اسم ماركسيين، أن احتج وأكد أنه إذا كان ما قرأه هو الماركسية، فإنه ليس ماركسيا. يمكننا أن نتخيل ما الذي أحس به. لكن ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي ليسو مسئولين حقا عن الحماقات التي تكتب باسمهم، مثلما هو المسيح ليس مسئولا عما يفعله الأساقفة الفنزويليون.

لقد سبق لشكسبير أن وصف منطق هذه الوضعية في الجزء الأول من مسرحيته “هنري الرابع”، عندما حاول أواين غليندور، الرجل الشجاع لكن المشبع بالأفكار الخرافية، أن يقنع الرجل الإنجليزي هوتسبور بقدراته السحرية:

غليندور – “أنا قادر على استدعاء الأرواح”.
هوتسبور- “وماذا بعد، أنا أيضا، والجميع قادرون على القيام بذلك. لكن هل يأتون حقا عندما تستدعيهم؟”

من المستحيل أن نأخذ على محمل الجد الفكرة التي تقول أنه يمكن في فنزويلا بناء حزب ثوري خارج الحركة الجماهيرية. نحن نفضل أن نعتمد على الأساليب التي حددها ماركس وإنجلز منذ أكثر من 150 سنة، وهي الأساليب التي، مثلها مثل جميع الأفكار الماركسية الجوهرية، لا تزال تحتفظ اليوم براهنيتها. من الضروري بشكل مطلق توحيد قوى الماركسية مع الحركة الجماهيرية.

يجب على الطبقة العاملة في كل حين أن تحمي وتشيد منظماتها الطبقية الخاصة، نقاباتها ولجان المصانع، الخ. وستعمل في نفس الوقت، على بناء حركة شاسعة تضم الشرائح الأوسع من الجماهير الغير بروليتاريين والنصف بروليتاريين. سيحافظ الجناح الماركسي للحركة على استقلاليته السياسية المطلقة وعلى صحفه الخاصة ومجلاته وكتبه وكراريسه، وحريته التامة في الدفاع عن وجهة نظره. سيشتغل بإخلاص من أجل بناء الحركة ويستقطب إليها أوسع الشرائح من العمال والشباب، مع النضال في نفس الوقت من أجل كسب العناصر الأكثر تقدما لبرنامجه وسياسته وأفكاره.

نحن لا نبحث عن فرض نفسنا على الحركة. نحن لا نوجه إليها أية إنذارات. هدفنا هو بنائها وتقويتها ودفعها إلى الأمام مع القيام في نفس الآن بتسليح شرائحها القيادية بالأفكار والبرنامج والسياسة الضرورية للتغلب على الأوليغارشية، وهزم الإمبريالية وتوضيح الطريق أمام التحويل الاشتراكي للمجتمع. لأن النضال الحازم من أجل الديمقراطية سيقود حتما، كما شرح لينين، إلى مصادرة أملاك الأوليغارشية وتحويل الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية.

يمكن، في الوقت الحالي، أن تبقى هذه الأفكار أقلية. هذا لا يقلقنا. نحن سنتقبل واقع كوننا أقلية، ونتصرف على هذا الأساس. لكننا سنواصل الدفاع عن برنامج مصادرة أملاك الأوليغارشية وتسليح الشعب باعتبارها الضمانات الوحيدة لنجاح الثورة. ستثبت الأحداث صحة أفكارنا. سندافع عن أفكارنا، وسندعوا جميع التيارات الأخرى إلى القيام بنفس الشيء. وحدهم الستالينيون والبيروقراطيون من يخشون النقاش المفتوح، أما الماركسيون والديمقراطيون الثوريون النزيهون فلا يخشونه.

نحن نقف بحزم على قاعدة حركة الجماهير الثورية. ستتأكد الجماهير، على قاعدة خبرتها، من صحة أفكارنا وشعاراتنا وبرنامجنا. هذا هو الطريق الوحيد إلى النصر! سنعطي الكلمة الأخيرة للماركسي والمنظر العظيم تيد غرانت، الذي كتب بخصوص المنظمات الجماهيرية، قائلا:

«من بين صفوفهم، من وسط مناضلي الطبقة العاملة، ستنبع قوى الماركسية اللينينية. خارج هذه المنظمات الجماهيرية، لا يمكن خلق أي شيء دائم.»

آلان وودز
الثلاثاء: 04 ماي 2004

عنوان النص بالإنجليزية:

Marxists and the Venezuelan Revolution

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *