الرئيسية / دول العالم / أمريكا / المكسيك / النهوض الثوري في المكسيك

النهوض الثوري في المكسيك

يشكل النهوض الثوري الذي تشهده المكسيك مرحلة جديدة ودرامية في تطور الثورة في أمريكا اللاتينية. فعلى أعتاب أقوى دولة إمبريالية في العالم، بدأت الجماهير تدخل ساحة النضال بدرجة لم نشهدها من قبل، موجهة تهديدا مباشرا للرأسمالية والإمبريالية.

  لم تشهد المكسيك حركة من هذا القبيل منذ حملة تأميم قطاع النفط سنوات الثلاثينيات. لقد أبانت الجماهير عن مستوى مثير للإعجاب من النضالية والمهارة التنظيمية والانضباط. فبين عشية وضحاها، نهض ملايين العمال والفلاحين على أقدامهم وبدءوا يناضلون من أجل حقوقهم.

  يا له من مشهد ملهم! يا له من مثال رائع لعمال جميع البلدان! إن هذا هو الجواب النهائي على جميع هؤلاء الجبناء والخونة الذين يدعون أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، صارت الاشتراكية مستحيلة وأن الطبقة العاملة لم تعد قوة ثورية.

  وضع متفجر

  بدأ النضال على قاعدة انتخابية. كانت الجماهير مصممة على إلحاق الهزيمة بالحكومة البرجوازية الرجعية لحزب العمل الوطني وطرد عميل واشنطن، فوكس، الذي باع بلده لكبريات الاحتكارات الأمريكية بأبخس الأثمان. وقد توجهت بكثافة نحو الثورة الديموقراطية وقائده أندريس مانويل لوبيز أوبرادور.

  سبق لهيغل أن أشار إلى أن الضرورة تعبر عن نفسها من خلال الصدفة. وقد كان تزوير الانتخابات “صدفة” دفعت إلى الواجهة بجميع التناقضات التي تراكمت في المجتمع المكسيكي طيلة عقود: غياب الديموقراطية، النمو الاقتصادي الذي لا يؤدي إلى تحسين ظروف عيش الفقراء، البطالة والأعمال السيئة الأجور، الفساد المعمم، ملايين المكسيكيين مجبرون على الهجرة نحو الشمال، جميع هذه العوامل تضافرت لخلق وضع متفجر.

  إنها في الواقع مسألة طبقية. هناك تمايزات طبقية هائلة في المكسيك، التي تعتبر رابعة أكبر دولة من حيث عدد المليارديرات في العالم، بينما يعيش فيها 50 مليون إنسان في الفقر المدقع. إن الجماهير تفهم بشكل جيد أن الأغنياء يسيطرون على الحكومة ويستغلون هذه السيطرة لنهب البلد ومراكمة الثروات لأنفسهم. وكما أشار جون بيترسون:

«تميزت المرحلة السابقة للانتخابات بتقاطب كبير، تضمنت غليانا داخل النقابات والحركة الطلابية وسلسلة من الهجومات العنيفة من طرف الدولة: ضد عمال الصلب بمدينة لازارو كارديناس في ولاية ميشواكان، قمع أنصار الجيش الزباطي للتحرير الوطني (EZLN) في سلفادور اتينكو والإغارة على مخيم المعلمين المضربين في مدينة أواكساكا.» (المكسيك: أواكساكا رأس حربة الثورة المكسيكية)

  هذا يفسر الغضب المتأجج بين صفوف الجماهير ورغبتها في توجيه ضربة ساحقة للاوليغارشية المكروهة وممثلها السياسي فيسنتي فوكس. وقد مكنتهم الانتخابات من فرصة القيام بذلك فانتهزوها بحماس. لقد أدت الحملة الانتخابية إلى تعبئة الملايين من المكسيكيين العاديين، من العمال والفلاحين والشباب الثوري وجماهير الشعب الفقير المسحوقة المضطهدة إضافة إلى أفضل فئات الأنتلجنسيا التقدمية, باختصار، جميع القوى الحية داخل المجتمع المكسيكي اجتمعت ضد كل ما هو متعفن وفاسد ورجعي ومنحط.

  لقد عملوا بطبيعة الحال على دعم لوبيز أوبرادور، ابرز مرشحي المعارضة وزعيم حزب الثورة الديموقراطية. لقد بنى لوبيز أوبرادور قاعدة الدعم التي يمتلكها من خلال حملة من التحريض الجماهيري وقافلة السيارات التي قطعت البلاد طيلة عشرة اشهر تقريبا من الحملة الانتخابية. لقد ملئ الساحات بالعمال والفلاحين والعديد من الناس الفقراء الذين ساءت أوضاعهم أكثر بفعل سير المكسيك نحو نظام اقتصاد السوق. لقد استجابت الجماهير بحماس, وهذا ليس مفاجئا، إذ أن الجماهير استجابت دائما بحماس عندما تطلب الأمر ذلك.

  إن برنامج لوبيز أوبرادور هو في الواقع جد معتدل: «إنه يؤمن بنزعة قومية ثورية: حكومة كبيرة، برامج اجتماعية، الحمائية وتحقيق الاكتفاء الذاتي في النفط والغاز الطبيعي» على حد تعبير جورج غرايسون، أستاذ العلوم السياسية بكلية ويليام وماري بفيرجينيا، وكاتب سيرة ذاتية عن لوبيز أوبرادور مؤخرا. هذا برنامج إصلاحي. إنه لا يستهدف النظام الرأسمالي من الأساس، لكنه يبدو كتهديد مميت من وجهة نظر اوليغارشية وسادتها في واشنطن. بالنسبة إليهم المسألة بسيطة: لوبيز أوبرادور راديكالي خطير يهيج الجماهير ويجب إيقافه بأي ثمن.

  المسألة بسيطة جدا بالنسبة للجماهير أيضا، إنهم لم يقرؤوا سطر من البيانات الانتخابية. من وجهة نظرهم لوبيز أوبرادور: “رجلنا” إنه «يخدم مصالح الشعب ويقف ضد الأغنياء» إلى أخره. إن قوة أوبرادور لا تكمن في خطاباته ومقالاته أو بياناته. فالجماهير الغير واعية سياسيا ترى فيه ما تريد هي أن تراه: فرصة تغيير الأوضاع، تغييرها جذريا. إن ما تخشاه واشنطن ليس لوبيز أوبرادور نفسه، بل القوى الطبقية التي تقف وراءه.

  نفاق الإمبريالية

  تعيش واشنطن في رعب من الحركة الثورية المتصاعدة التي تجتاح أمريكا اللاتينية. إنهم مصمموا العزم على ضرب “حجر صحي” حول فنزويلا الثورية للحيلولة دون امتداد الأفكار الثورية. من المحتمل جدا أن تكون لوكالة المخابرات الأمريكية يد في ضمان انتخاب الان غارسيا، أحد دمى بوش، في البيرو. لكن في المكسيك، تدخلت الجماهير بشكل مباشر لمواجهة هذا الهجوم المباشر على حقوقهم الديموقراطية.

  لقد كانت الإمبريالية الأمريكية والاوليغارشية المكسيكية مصممتان على منع انتخاب لوبيز أوبرادور، خوفا من احتمال صعود “تشافيز مكسيكي” على الحدود مع الولايات المتحدة ولضمان انتخاب كالديرون، وزير الطاقة السابق وأشرس المدافعين عن سياسات السوق الحرة. والنتيجة كانت هي تزوير الانتخابات الرئاسية الذي حصل يوم 02 يوليوز 2006.

  لا يدافع هؤلاء السيدات والسادة “الديموقراطيين” عن “الديموقراطية” إلا عندما تسمح بصعود حكومة تدافع عن مصالح أصحاب الابناك والملاكين العقاريين والرأسماليين. لكن عندما يستعمل العمال والفلاحون حقوقهم الديموقراطية لانتخاب حكومة تعتبرها الطبقة السائدة ضارة بمصالحها، فإنها لا تتردد في تدبير المكائد ضد الحكومات المنتخبة ديموقراطيا. يلجئون إلى التزوير والرشاوى والاغتيالات والانقلابات العسكرية. فقد اغتالوا سلفادور أليندي في التشيلي واسقطوا أربينيز في غواتيمالا وحاولوا إسقاط هوغو تشافيز سنة 2002 وها هم الان قد زوروا الانتخابات في المكسيك لمنع صعود لوبيز أوبرادور.

  ليس هنالك من شك على الإطلاق في أن لوبيز هو من فاز في الانتخابات وان الطبقة السائدة المكسيكية، بمساعدة متواضعة من السفارة الأمريكية، قد تلاعبت بالنتائج. حسب النتائج الرسمية، خسر لوبيز أوبرادور الانتخابات بحوالي 240.000 صوت من 41 مليون صوت. هذا يعني أن المرشح المحافظ فيلبي كالديرون فاز بأقل من 1%. إن واقع أن الفرق ضئيل إلى هذا الحد يؤشر إلى أن لوبيز أوبرادور قد فاز بأغلبية كبيرة. لم تجرأ البرجوازية على أن تجعل مرشح حزب العمل الوطني يفوز بأكثر من هذا الفارق الضئيل. لقد تم السطو على الانتخابات لصالح كالديرون من طرف فوكس وحلفائه.

  إن مستوى التزوير هائل، حتى بالمقاييس المكسيكية. إذ لم يتم عد ما لا يقل عن 904.000 صوت في انتخابات من المفترض أنها حسمت بهامش أصوات يصل 243.000 صوت فقط. عدد كبير من المواطنين الذين ذهبوا للتصويت يوم الانتخابات وجدوا أن أسمائهم غير مقيدة في اللوائح الانتخابية. هناك 119.000 صوت لا يمكن تبريرها لو جرت عملية إعادة الجرد، وفي حوالي 3500 Casillas (مركز انتخابي) تم عد 58.000 صوت أكثر من عدد المصوتين المسجلين في اللائحة. وفي حوالي 4.000 مركز انتخابي آخر، لم يكن من الممكن تبرير 61.000 صوت. بعض الصحف المكسيكية نشرت صور لصناديق اقتراع مرمية.

  مثل هذه الخروقات كانت سوف تجبر السلطات في أي بلد ديموقراطي فعلا إلى الدعوة إلى إعادة جرد عام للأصوات. لكن القضاء المكسيكي الفاسد والرجعي رفض ذلك. وقد خاض لوبيز أوبرادور مواجهات قانونية لكن، بطبيعة الحال، كل ذلك تم رفضه من طرف المحكمة الانتخابية المكسيكية، التي نصبت يوم 07 شتنبر كالديرون رئيسا.

  لوبيز أوبرادور

  في الظروف العادية لا تهتم الجماهير بالسياسة. فقلما يقرؤون الجرائد وحتى إذا ما قرؤوها فلكي يطلعوا على الصفحة الرياضية. وقلما تثير الانتخابات الكثير من الاهتمام فبالاحرى العواطف. يحدث هذا خاصة في المكسيك، حيث كان يُنظر، طيلة عقود، إلى الأحزاب السياسية كمجرد وسائل للحصول على الغنائم من الدولة وإثراء السياسيين وزبائنهم. لكن الوضع مختلف الآن.

  لقد دفع التزوير الفاضح للانتخابات بالجماهير فورا إلى الشوارع. بدأت الاحتجاجات أواخر شهر يوليوز، وبعد تنظيم مسيرة هائلة ضمت ثلاثة ملايين متظاهر، أقام المحتجون مخيما طوله سبعة أميال في وسط مدينة مكسيكو، مما أدى إلى شل المواصلات. يقضي قاطنوا المخيم الليل بأكمله متحلقين حول النار، على أهبة الدفاع عن مخيمهم. آلاف الأشخاص يقطنون المخيم تحت الأمطار المنهمرة طيلة أسابيع في شوارع مكسيكو منتظرين قرار المحكمة. وهكذا بدأت أسابيع من عمليات قطع الطرقات ومخيمات الاحتجاج وسط العاصمة، والتي أدت إلى قطع المواصلات ووقف الأعمال.

  لقد وضع لوبيز أوبرادور نفسه على رأس الحركة، وصار يتحدى الحكومة. نتيجة لهذا، بدأ حزب الثورة الديموقراطية يحقق تقدما، حتى صار الآن ثاني أكبر كتلة في البرلمان المكسيكي الجديد. شهر غشت، انتخب حزب الثورة الديموقراطية أول حاكم لولاية شياباس، ملحقا الهزيمة بخصم يتمتع بدعم ائتلاف اللحظة الأخيرة، الذي جمع حزب العمل الوطني وحزب الثورة المؤسساتية، الذي بقي في الرئاسة سبعة عقود إلى حين فوز فوكس سنة 2000. إن هذا يعتبر ردا حاسما على من يدعون أن الروح الكفاحية تخيف الناخبين!

  إن هذا يؤكد إفلاس التيارات العصبوية (والزباطيين) التي رفضت تقديم دعم نقدي للوبيز أوبرادور ضد كالديرون خلال الانتخابات. إن هؤلاء السيدات والسادة لم يروا أي فرق بين الاثنين، إذ أن كلاهما برجوازيان. إذا ما نظرنا إلى برنامج لوبيز أوبرادور فبالتأكيد سنجد انه لا يذهب ابعد من حدود الرأسمالية. انه برنامج برجوازي ديموقراطي. لكن هذا الواقع لا يكفي مطلقا لتحديد القاعدة الطبقية لحزب الثورة الديموقراطية. كما لا يخول لنا أن نستخلص عدم وجود أي فرق بين لوبيز أوبرادور وكالديرون.

  هذا مثال نموذجي عن طريقة تفكير العصبويين الصورية والمجردة في كل مكان، وعن عجزهم المطلق عن التفكير الجدلي وعجزهم المطلق عن وضع أنفسهم على نفس الأرضية مع الجماهير. إن الماركسيين في المكسيك لا يدافعون عن الديموقراطية البرجوازية، بل عن سلطة العمال والاشتراكية. من النافل قول هذا. لكن في المقام الأول، إذا لم نكن أقوياء بما فيه الكفاية لحسم السلطة واستبدال الديموقراطية البرجوازية المتعفنة والفاسدة بنظام ديموقراطية عمالية أرقى، فإننا مجبرون على الدفاع عن كل حق اكتسبه العمال، بما فيه الحق في التصويت والنضال ضد محاولات البرجوازية المكسيكية لحرمان الجماهير من حقهم في انتخاب حكومة من اختيارهم.

  ومن جهة أخرى، من الضروري على القوى الماركسية القليلة، لكي تصير قوية بما فيه الكفاية لمواجهة النظام البرجوازي القائم، أن تصل إلى الجماهير أينما كانت، أن تخلق علاقات مع العمال والفلاحين، أن تؤسس لحوار معهم وتتوصل إلى اتفاقات تكتيكية تمكننا من النضال معا ضد العدو المشترك دون التنازل في المسائل الرئيسية. لقد كانت هذه دائما هي منهجية لينين وتروتسكي، وهي التي أطلق عليها لينين اسم سياسة الجبهة الموحدة. وهذا طبعا كتاب مغلق بسبعة أقفال بالنسبة للعصبويين

  تعطي المذيعة التلفزية صوفي ماك نيل، التي زارت مخيم مدينة مكسيكو وحاورت لوبيز أوبرادور، وصفا مفصلا للقاعدة الطبقية للحركة انطلاقا من ملاحظتها الخاصة لأنصاره وتقول:

  «أثناء تجوالك عبر المخيم، يمكنك أن ترى كيف أوضحت حركة الاحتجاج هذه، الانقسام الطبقي العميق الذي يوجد هنا بالمكسيك. إن قاعدة الدعم التي يمتلكها أوبرادور مشكلة أساسا من الطبقة الدنيا والمكسيكيين الأصليين وهم ينظرون إليه كمخلص، باعتباره الشخص الوحيد في وقتنا الحالي، الذي يريد النضال ضد فساد الطبقة السائدة. يشعر مؤيدو أوبرادور وكأنهم أعطاهم صوتا وهم الآن هنا لكي يُسمعوا صوتهم. وقد قال لي هندي شاب من أواكساكا “إذا لم نقضي على الجوع فسوف نواجه كارثة خطيرة لا يمكن تخيلها، سوف تسيل الكثير من الدماء إذا نحن لم نغير السياسات الاقتصادية في هذا البلد”» (التشديد من عندي، آ. و)

  أغلق المتظاهرون الأبناك وكذلك مكاتب الضرائب. وعندما استجوبت الصحفية العمال أصحاب الياقات البيضاء التابعين لمكتب الضرائب، أشاروا باحتقار إلى المتظاهرين باعتبارهم «أناس جاهلون ذوو أجور متدنية». «وعندما رآني مؤيد لأوبرادور أتحدث إلى عمال المكتب هؤلاء، قال: “هؤلاء الناس يقفون ضدنا لأنهم يمتلكون في منازلهم كل شيء. ليسو في حاجة إلى أي شيء. نحن هنا لأننا نعاني الخصاص في قريتي. هل تفهمين، إنهم يدفعون لنا كأجر 600 بيسوس مقابل العمل من الاثنين إلى السبت من الثامنة صباحا إلى السادسة مساء، 600 بيسوس! – صاح الرجل- لهذا السبب نحن هنا!”».

  يمكن ان لا تكون تلك الصحفية ماركسية، لكنها تمتلك عينين وأذنين وقد قدمت لنا صورة واضحة جدا عن الطبيعة الطبقية للحركة. لقد وصفت موقف جماهير الفقراء والشعب المسحوق من لوبيز أوبرادور. يشعرون وكأنه قد أعطاهم صوتا وهم الآن هنا لكي يُسمعوا صوتهم. إن هذا وصف صادق جدا للعلاقة بين الجماهير ولوبيز أوبرادور.

  أما العصبوي فيستنكر هذا. يحرك رأسه ويطلق عبارات الاستهجان. طبعا لأنه كان ينبغي للجماهير أن تدعمه هو وليس لوبيز أوبرادور!. كان ينبغي عبارة فلسفية تنتمي إلى الكانطية المثالية وليس إلى المادية الجدلية. أما هذه الأخيرة فتنطلق من العالم كما هو وليس كما ينبغي له أن يكون، تحلل الاتجاهات المتناقضة التي يتضمنها وتبين كيف سيتطور.

  وتواصل الصحفية قائلة:

«لاحظت هنديا عجوزا وزوجته يسيران في مقدمة الجموع، كان الزوج قد فقد اغلب أسنانه الأمامية ويرتدي ثيابا ممزقة. وكانت الدموع تملئ عينيه وهو يغني مع الجموع: “أوبرادور! أوبرادور!”. نظرت زوجته إليّ واتضح لي أنها كانت تبكي هي أيضا، قالت لي “فقراء المكسيك يحتاجون أوبرادور!” فقاطعها الرجل الذي يقف إلى جانبها قائلا: “الرئيس هو أندريس مانويل لوبيز أوبرادور. سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوا!”.»

  من وجهة النظر الصورية للعصبوي، تكون مثل هذه المواقف غير مفهومة. فالجماهير لا تدعم لوبيز أوبرادور فقط، بل تدعمه بحماس شديد والدموع في أعينها. ما هو السر في هذه التركيبة الغريبة؟ السر بكل بساطة هو: أن الجماهير قد نهضت من حياة اللامبالاة وانخرطت في النضال. لقد بدأت تشعر بقوتها وسلطتها الجماعية. وهي تربط هذا بالرجل الذي توحدت الحركة حوله. فمن وجهة نظرها صار لصورة لوبيز أوبرادور دلالة جبارة أسطورية تقريبا.

  لقد أعطت صحيفة The Nation وصفا دقيقا للمزاج السائد بين الجماهير:

«لقد بدأوا يزورون الأضرحة والهياكل ويصلون من أجل تدخل العناية الإلهية. مئات الأشخاص حجوا إلى ضريح عذراء غوادالوبي، بعضهم حج على ركبتيه، ليطلبوا من السيدة العذراء أن تستخدم قوتها. “الله لا يحب حزب العمل الوطني!” هكذا ينشدون بينما هم يسيرون في الشارع الكبير الذي يقود إلى باسيليكا. وقد قالت إيستر أورتيز، جدة تبلغ من العمر سبعين عاما، لمراسل صحفي وهي تصلي أمام الهيكل المذهب: “إن لوبيز أوبرادور يستحق معجزة”.»

  بعض الكنائس عرضت شريط فيديو يقال فيه أن لوبيز أوبرادور سوف يدمر الأسرة المكسيكية، الشيء الذي دفع ببعض الأشخاص إلى مغادرة الكنائس. ويظهر نفس التقرير الغليان الاجتماعي الهائل الذي وصل صداه إلى داخل الكنائس:

  «في كاتدرائية العاصمة المتواجدة في أحد جوانب ساحة زوكالو، قاطع متعبد شاب الكاردينال نوربيرطو ريفيرا برفعه لشعارات مؤيدة للوبيز أوبرادور، ليتم إخراجه بسرعة من الكنيسة من طرف الحراس. وفي يوم الأحد الموالي، كانت الأبواب الكبرى للكاتدرائية تحت حراسة مشددة، ووضع مرتادو الكنيسة تحت الرقابة لكشف أي مؤشر عن تأييد لوبيز أوبرادور. وقد احتشد مئات من مؤيدي أوبرادور أمام الهيكل القديم يصيحون “voto por voto!” وبأن الكاردينال ريفيرا شاذ جنسيا.» (The Nation، 25 غشت)

  تُظهر الأسطر التي استشهدنا بها أعلاه تغييرا عميقا في مزاج الجماهير ونظرتها للأمور. إن الناس الذين تتحدث عنهم هذه السطور ليسو مناضلين سياسيين بل رجال ونساء الطبقة العاملة المكسيكية العاديين، الذين نهضوا إلى النضال ليس بفضل قراءتهم للكتب والنظريات، بل بفضل الحياة نفسها. إنهم لا يمتلكون نظرية واضحة محددة. إنهم لا يزالون تحت تأثير الدين، لكن هكذا كان حال العمال الروس إبان الثورة الأولى.

  إن ما حدث في المكسيك هو تأكيد تام للتحليل الماركسي. ففي الصراع بين لوبيز أوبرادور وفيسنتي فوكس قدم الماركسيون المكسيكيون دعما نقديا للوبيز أوبرادور. لقد شاركوا إلى جانب الجماهير في الحملة الانتخابية ودعوا إلى التصويت لمرشح حزب الثورة الديموقراطية وفي نفس الوقت طالبوا بتطبيق برنامج اشتراكي. وقد وجد هذا الموقف الصحيح صدى كبيرا لدى الجماهير التي كانت تناضل من أجل إسقاط حكومة فوكس.

  عدم نضج الجماهير؟

  يرى بعض المناضلين اليساريين تأثير الدين كمؤشر عن “ضعف مستوى الوعي السياسي”. إن هذا الموقف يبين غيابا مطلقا لفهم كيفية تطور الثورة. ففي يناير 1905، دخلت الطبقة العاملة الروسية لأول مرة إلى التاريخ عبر مظاهرة سلمية، يقودها قس، ليتقدموا بطلب إلى القيصر (“الأب الصغير”). ولم يكونوا يحملون في أيديهم الأعلام الحمراء بل الأيقونات الدينية وصور العذراء.

  لقد تطلب الأمر المرور بتجربة الثورة وخاصة مجزرة الأحد الدامي لطرد هذه الأوهام من وعي الجماهير. وكما كان يقول لينين، مستشهدا بمثل روسي قديم: “إن الحياة تعلم”. كل من السيدة العجوز التي تصلي للوبيز أوبرادور في كنيسة عذراء غوادالوبي والشاب الذي تواجه مع الكاردينال وطُرد من الكنيسة، يعبران، بطريقتهما الخاصة، عن مسلسل ثوري عميق.

  سوف يشير أدعياء الطبقة الوسطى إلى “عدم نضج الجماهير” كحجة ضد قابلية الثورة الاشتراكية للنجاح في المكسيك. لقد كان هناك أناس من هذا القبيل في روسيا أيضا: فالمناشفة بذلوا كل طاقتهم في الصراع ضد فكرة أن عمال روسيا “المتخلفة” يمكنهم أن يصلوا إلى السلطة قبل عمال أوروبا الغربية “المتقدمة”. وقد اثبت التاريخ أن هذا كان خاطئا. إذ أن الحزب البلشفي، تحت قيادة لينين وتروتسكي، واستنادا إلى الحركة الحية للجماهير والنظرية الثورية الماركسية، قاد العمال والفلاحين لحسم السلطة وغير تاريخ العالم.

  لقد أبانت الجماهير المكسيكية عن مستوى عال جدا من النضج السياسي، بالرغم من أن نضلاتها خلال هذه المرحلة تسير ابعد جدا من وعيها السياسي. لكن هذا ليس شيئا غريبا. ففي جميع البلدان، لا تتعلم الجماهير من الكتب بل من تجربتها الخاصة، وبالخصوص من تجربة النضال. العمال يتعلمون في يوم واحد من أيام الإضراب أكثر مما يتعلمونه خلال عشرة سنوات من الحياة العادية. والثورة تشبه إضرابا هائلا. لقد كان لينين، المنظر العظيم، يقول: «بالنسبة للجماهير أونصة واحدة من الممارسة خير من طن من النظرية». في الثورة تتعلم الجماهير بشكل أسرع.

  اتركوا أدعياء البرجوازية الصغرى والبيروقراطيين يتأوهون بخصوص “انخفاض المستوى السياسي” المزعوم للجماهير. نحن الماركسيون نحيي حركة العمال والفلاحين المكسيكيين. إننا نستمد منها الحماس والإلهام. وندعمها بكل جوارحنا. إن الجماهير، ومن خلال جميع أشكالها النضالية، ترمي بالقفاز في وجه الطبقة السائدة. وما بدأ كنضال ضد تزوير الانتخابات يتحول بسرعة إلى وضع ثوري بدأت خلاله عناصر ازدواجية السلطة في التشكل.

  نظرية “المرحلتين” الخاطئة

  المشكلة هنا ليست هي “المستوى المنخفض للوعي” عند الجماهير، التي تعمل كل شيء في مقدورها لتغيير المجتمع. المشكلة تتمثل، على العكس، في المستوى المنخفض لوعي هؤلاء الذين يدعون كونهم “قادة” الجماهير، هؤلاء الناس الذين يمكنهم أن يكونوا قد قرأوا الكتب، لكنهم يفتقدون للروح الثورية ولا يثقون في الجماهير، لا يؤمنون بالاشتراكية وأفسدتهم سموم الشكوك. إن هؤلاء المساكين الثوريين السابقين، المغاوير السابقين والشيوعيين السابقين، الذين تخلوا عن المنظور الاشتراكي وانتقلوا كليا إلى المعسكر الرأسمالي، يسببون أثرا سيئا ومدمرا في كل مكان، لكن على وجه الخصوص في أمريكا اللاتينية.

  نفس هؤلاء العناصر في المكسيك، يحاولون دفع الحركة إلى الوراء، عبر مغالطة العمال والشباب الثوري بالأفكار الخاطئة من قبيل نظرية “المرحلتين” المنشفية الستالينية. حسب هذه النظرية المشؤومة، يتوجب على العمال والفلاحين ألا يناضلوا من أجل الاشتراكية، بل يتوجب عليهم عوض ذلك دعم “البرجوازية التقدمية”، والدفاع عن “الديموقراطية” بعدها يمكننا بدأ الحديث عن الاشتراكية – في مستقبل غامض وبعيد. تحاول بعض قطاعات الحركة، بتأثير سلبي من الستالينيين، حصر الحركة ضمن الحدود الضيقة للديموقراطية البرجوازية. إن هذا خطأ خطير. في الواقع لقد تركت المكسيك مرحلة الثورة الديموقراطية البرجوازية وراء ظهرها منذ وقت بعيد. وكل ما يمكن تحقيقه بالثورة الديموقراطية البرجوازية قد تحقق بعد 1910-1917.

  لقد حصلت البرجوازية المكسيكية على حوالي مائة سنة لتبين ما الذي في مقدورها تحقيقه، والنتائج معروفة جدا لدى الشعب المكسيكي. إن الحديث الآن عن الحاجة إلى ثورة ديموقراطية برجوازية في المكسيك هو خداع مخجل وخيانة للشعب. إن ما يجب ليس هو دعوة البرجوازية “إلى المزيد من الديموقراطية” بل تحضير الشروط من أجل حسم السلطة من طرف الطبقة العاملة، الطبقة الوحيدة التي في مقدورها إخراج المكسيك من مأزق الفقر والجهل والاضطهاد الذي قادتها إليه البرجوازية المكسيكية المنحطة.

  المرحلة الحالية هي بداية تحرك الجماهير، بداية استيقاظهم على الحياة السياسية. ومن الطبيعي جدا أن ترتبط بهذه المرحلة جميع أنواع الغموض والأوهام، وخاصة الأوهام حول الديموقراطية البرجوازية. والطريقة الصحيحة لمساعدة الجماهير على التغلب على هذه الأوهام ليست هي إنكار الديموقراطية بل، على العكس، النضال بأشد العزيمة من أجل جميع المطالب الديموقراطية، النضال ضد تزوير الانتخابات، الخ. لكن مع الشرح بصبر أن الطريقة الوحيدة، بالنسبة للطبقة العاملة، وحلفائها الطبيعيين، الفلاحين وفقراء المدن، لضمان الديموقراطية وانتخابات نزيهة هي اخذ السلطة بين أيديهم. فطالما بقيت البرجوازية المكسيكية الفاسدة في السلطة، ستبقى الديموقراطية مجرد كلمة فارغة. هذا شيء يمكن لكل عامل وكل فلاح مكسيكي أن يفهمه!

  الماركسية والديموقراطية

  لقد تلقت الجماهير الآن درسا رائعا حول الطبيعة الحقيقية لمؤسسات الديموقراطية المكسيكية وهي بالمناسبة لا تختلف في الجوهر عن مؤسسات أي نظام برجوازي ديموقراطي آخر، فقط هي أكثر وقاحة وغباء. نفس الشيء يمكن قوله عن ما يوصف بشكل ساخر انه “إعلام حر”. هنالك جبل من البراهين حول انتهاك صناديق الاقتراع وسرقة الصناديق أو حشوها، تغيير عدد من الصناديق، وغيرها من الممارسات الغريبة. لكن جميع الصحف المكسيكية ما عدا La Jornada لم تجد مكانا في صفحاتها للحديث عنها. كتب جون روس يقول:

  «إن صمت وسائل الإعلام المكسيكية وشريكتها في الجريمة وسائل الإعلام الدولية، اتجاه التزوير الكبير يصم الآذان –ورغم ذلك تحاول التستر على فضيحتها بشن هجومات واسعة على لوبيز أوبرادور لقطعه طرق المواصلات في مكسيكو.» (The Nation، 25 غشت)

  سوف يناضل الماركسيون دائما بحماس للدفاع عن جميع الحقوق الديموقراطية التي اكتسبتها الطبقة العاملة بالنضال. وطالما لم تكن الطبقة العاملة قادرة على إسقاط الرأسمالية واستبدال الديموقراطية البرجوازية الوهمية والفاسدة بديموقراطية للشعب العامل الحقة، فإنه من الواجب علينا النضال ضد جميع محاولات الطبقة السائدة لتقليص الحريات الديموقراطية. سوف نشارك في الانتخابات ونستخدم النضال الانتخابي لتعبئة الجماهير وتثقيفها حول حدود الديموقراطية البرجوازية. سوف نستعمل أي انفتاح وكل انفتاح ديموقراطي يسنح لنا، بما في ذلك البرلمان البرجوازي، لكننا سنشرح أن الصراع، في آخر المطاف، سوف يحسم خارج البرلمان، في الشوارع، في المعامل، في القرى وفي ثكنات الجيش.

  إن نقطة الانطلاق للثورة المكسيكية هي النضال ضد التزوير. وهذا لديه طابع ديموقراطي برجوازي. لكن في الواقع هذه مسألة شكلية. إذ في العمق ذهبت الحركة الجماهيرية ابعد كثيرا من مجرد حدود مرحلة ديموقراطية. للحركة الجماهيرية منطقها وديناميتها الخاصتين بها وهما اللذان يصطدمان مع أسس السلطة البرجوازية. ومع كل يوم يمر لا يبقى السؤال هو هل مع لوبيز أوبرادور أو ضده، بل السؤال هو: من سيد البيت أنتم أم نحن؟

  الطبقة العاملة

  يجب على العمال أن يرفعوا مطالبهم الطبقية المستقلة الخاصة بهم، في نفس الوقت الذي يناضلون فيه من أجل المطالب الديموقراطية ويدفعون الحركة للسير ابعد إلى الأمام. سوف يدعم العمال أكثر مطالب الفلاحين والسكان الأصليين والنساء والشباب جذرية. فقط بهذه الطريقة تستطيع البروليتاريا كسب موقعها المستحق على راس الوطن بأسره.

  هنالك دور حاسم للنقابات لتلعبه. إن النقابات هي المنظمات القاعدية للطبقة العاملة. ولديها دور حاسم تلعبه في الثورة الاشتراكية. لا سواء قبل حسم السلطة أو بعدها. لكن مع الأسف يبدو أن جميع النقابات المكسيكية (مع بعض الاستثناءات المشرّفة من قبيل نقابة المعلمين بأواكساكا) لا تشارك بنشاط في الحركة.

  تتأكد الإمكانيات الثورية التي تمتلكها الجماهير عند كل خطوة. لكن النقابات التي تئن تحت ثقل مؤخرة البيروقراطية، تتخلف عن الركب. وهذا يشكل ضعفا حقيقيا للحركة. لكنه ليس حدثا غير مسبوق، ولا هو بالضرورة خطير. ففي الثورة الروسية سنة 1917 بقيت العديد من النقابات تحت سيطرة المناشفة حتى شهر نوفمبر بل وبعده. لقد توجب على البلاشفة في العديد من الحالات أن يستندوا على لجان المصانع التي كانت تعكس بشكل أفضل مزاج الطبقة العاملة الحقيقي.

  في الوقت الذي يواصل الماركسيون فيه العمل داخل النقابات ويقومون بكل ما في مستطاعهم لدمج النقابات بالحركة الثورية والتحضير لإضراب عام، يتوجب عليهم أن يشاركوا بنشاط في إنشاء لجان المعارك، ولجان الإضراب والجمعيات الشعبية وغيرها من الأجهزة ذات الطبيعة السوفياتية، التي تشمل أوسع جماهير العمال والفلاحين وفقراء المدن وباقي الشرائح المضطهدة.

  إن الشعار الأساسي في المكسيك الآن هو السوفييتات. لكن وبما أن هذه الكلمة الروسية سوف لن تعني شيئا لدى الجماهير في المكسيك، من الأفضل استعمال المصطلحات التي نبعت في خضم الحركة الحية للجماهير الثورية. أيا كانت الكلمة المستخدمة فسيكون من الواضح للعمال والفلاحين أن ما نتحدث عنه هو أجهزة قاعدية ديموقراطية للنضال الثوري، والتي يمكن تحويلها في اليوم التالي لانتصار الانتفاضة إلى أجهزة للديموقراطية الثورية المباشرة. يمكن أن نرى هذا بشكل أكثر وضوحا في الحركة الثورية بأواكساكا.

  الانتفاضة في أواكساكا

  لقد ذهبت الثورة ابعد إلى الأمام في أواكساكا مما في أي مكان آخر. لقد كان الـ”caudillo” [بالاسبانية في النص الأصلي وتعني زعيم أو قائد. المترجم] المحلي أوليسيس رويز أورتيز، مسؤولا عن تنظيم عدد من جرائم القتل نفذها رعاع مسلحون مرتبطون بالحزب الحاكم. وقد تضمنت أعماله الإرهابية الاختطافات والاعتقال التعسفي والسجن والتعذيب والاغتيال. رعاعه المسلحون كانوا يتمتعون بالحماية من العقاب على جرائمهم ضد الشعب. لكن الآن تحركت الجماهير بكثافة ضده. وبعد يومين من الهجوم على المعلمين نظمت مظاهرة حاشدة لأكثر من 400.000 شخص تطالب باستقالة الحاكم.

  لقد ووجهت الحركة في أواكساكا بالوحشية البوليسية والقمع المباشر ضد الرجال والنساء والأطفال بواسطة القنابل المسيلة للدموع والرصاص، واستعملت حتى مروحيات البوليس لرش الغاز المسيل للدموع على مخيم المضربين. لقد فجرت هذه الممارسات تمردا شعبيا في كل الولاية وخارجها فأعاد المعلمون الهجوم وتمكنوا من طر د البوليس بعد حوالي أربعة ساعات من المواجهات، واستعادوا السيطرة على مركز المدينة. لقد أثارت بطولة المضربين مشاعر الاستحسان بين الجماهير في كل الولاية. لقد أبانوا على أن عزمهم الفولاذي لا يمكن النيل منه بالإرهاب.

  هنا نرى الإمكانية التي تمتلكها الطبقة العاملة والنقابات لأن يصيروا في قيادة الجماهير المناضلة، في الوقت الذي يكونون يناضلون من أجل مطالبهم الطبقية المستقلة الخاصة بهم. لقد كانت الانتفاضة في أواكساكا بقيادة المعلمين. إن نقابة المعلمين (SNTE) كانت دائما مرتبطة بحزب الثورة المؤسساتية، لكن في أواكساكا يسيطر الجناح اليساري داخل هذه النقابة على الفرع المحلي. وسوف تحدث مثل هذه السيرورة في النقابات الأخرى، الواحدة منها تلو الأخرى، أثناء المرحلة العاصفة من الصراع الطبقي الذي بدأ في المكسيك.

  تحت ضغط الجماهير، حتى اشد النقابات يمينية وتبقرطا سوف تتغير من القمة إلى القاعدة. فبمجرد ما ستتحرك الجماهير وتدخل ساحة النضال، سوف تطور حتما إحساسا بقوتها الخاصة: قوة المنظمة الجماهيرية. لقد نظمت مظاهرات جماهيرية من 120.000 متظاهر سادها مزاج كفاحي لم يشهد مثيله من قبل. وعن مسيرة 07 يونيو يكتب شاهد عيان قائلا: «لقد ساد الحدث بأسره شعور بسلطة الشعب».

  لقد أدت حركة الجماهير بسرعة إلى تشكيل جمعية شملت الولاية، هي الجمعية الشعبية لجماهير أواكساكا (Asemblea Popular del Pueblo de Oaxaca). جون بيترسون كتب قائلا:

   «إن الجمعية الشعبية ظهرت كسلطة شعبية بديلة حقيقية، هي أول بذرة لسلطة العمال في أواكساكا والمكسيك كلها. أعضاء جمعيات الأحياء ينتخبون في كل شارع وهم بدورهم ينتخبون أعضاء الجمعية الشعبية. إن هؤلاء الممثلين المنتخبين والذين من الممكن عزلهم، مسؤولون عن الأمن وعن ضمان السير الجيد للحياة اليومية في الأحياء والمدينة.»، ما الذي يمكننا أن نسمي هذا إذا لم يكن سوفييتا؟

  ويقول جورج سالزمان:

« بالرغم من أنها نشأت كنتيجة لمبادرة المعلمين والقمع الشنيع الذي مارسته الدولة، فإن الجمعية ذهبت أبعد من مطالب المعلمين الأصلية، التي كانت محصورة في مسائل تعليمية. تمكنت أواكساكا، في ثلاثة مناسبات، سابقة من إسقاط حكام مكروهين. لم يكن ذلك عملا تافها، كان خطرا طبعا، لكنه لم يكن عملا ثوريا في حد ذاته.»

(“From Teachers’ Strike Towards Dual Power”, Counterpunch, August 30, 2006)

  إن هذه الكلمات تصيب كبد الحقيقة. حركة الجماهير الثورية تسير ابعد من مطالبها الأصلية. هذه طبيعة الأشياء. إن منطق الصراع نفسه يقود الجماهير إلى استخلاص خلاصات ثورية. تشعر الجماهير بالحاجة إلى التنظيم، وهو ما يجد التعبير عنه في الجمعيات الشعبية، التي هي سوفييتات في كل شيء ما عدا الاسم. إنها التعبيرات التنظيمات عن السلطة الجديدة، التي تتحدى “الحق المقدس” للبرجوازية وممثليها السياسيين في الحكم. والسلطتان المتصارعتان تدفع إحداهما الأخرى. فالعمال والفلاحون يسعون جاهدين لكي يأخذوا بين أيديهم تسيير المجتمع، والسلطة القديمة تقاوم، إنها ترفض أن تسقط وتموت لذا يتوجب إسقاطها.

  لقد تم التعبير عن التطلعات الثورية للجماهير من خلال البرنامج الذي تبنته أول جمعية شعبية: الجمعية الشعبية لجماهير أواكساكا، والتي أعلنت نفسها السلطة العليا في أواكساكا، وأكدت لا شرعية البنية السياسية السائدة. هذه هي ازدواجية السلطة، حيث الجماهير تتحدى سلطة الدولة السائدة.

  إن الجمعية الشعبية في أواكساكا ذات قاعدة واسعة، وهو شيء جيد. لكنها حسب بعض التقارير أقصت كل المجموعات السياسية المعلنة، وهو الشيء، الذي إذا كان صحيحا، سيكون خطأ. حسب تقرير لنانسي ديفيس، فإن الاجتماع الأول للجمعية الشعبية يوم 17 يونيو «حضره 170 شخص يمثلون 85 منظمة» وقد ضم، أو على الأقل استدعي إليه «جميع مناديب النقابة الوطنية لعمال التعليم وأعضاء النقابات والمنظمات الاجتماعية والسياسية والمنظمات الغير حكومية والتعاونيات ومنظمات حقوق الإنسان، وجمعيات الآباء ومستأجري المزارع والمجالس البلدية ومواطني كل ولاية أواكساكا». لقد كان هدفها أن تكون مفتوحة أمام جميع مواطني الولاية.

  يبدو انه لم تكن هنالك أية نية لإقصاء البرجوازيين، وغيرهم من المستغِلين، من الانتماء إلى الجمعية. غير انه، في الواقع، سوف يعمل الأغنياء على دعم النظام القائم. سوف يرفضون الانخراط في جهاز سلطة ثوري. لقد حاولت القيادة في البداية حصر مطالب الجمعية الشعبية في مطلب إقالة الحاكم. إن هذا المطلب، الصحيح كليا والضروري في حد ذاته، ليس كافيا. إن إقالة حاكم واحد سوف لن يحقق سوى القليل في مسار حل مشاكل الجماهير. إن الجماهير تسعى لحسم السلطة، تسعى لإحداث تغيير جذري للمجتمع.

  بالرغم من العراقيل التي وضعتها القيادة، فإن العمال اتخذوا فورا إجراءات ثورية اصطدمت مباشرة بسلطة الدولة القائمة. لقد قووا المتاريس تحسبا للهجومات البوليسية المستقبلية. صادروا الحافلات ليس التجارية فحسب بل حتى سيارات البوليس والسيارات الحكومية والتي استعمل بعضها لإغلاق الطرق المؤدية إلى زوكالو وغيرها من المخيمات، وكذلك استعملت لأهداف النقل. لقد قاموا بإغلاق الطرق السيارة واحتلال المباني الحكومية. ومنعوا المؤسسات الحكومية من القيام بمهامها: التشريعية والقضائية والتنفيذية (أي الإدارية).

  إن هذه التكتيكات تذهب ابعد من حدود العصيان المدني الذي دعى إليه لوبيز أوبرادور. هذه الأعمال التي تقوم بها الجماهير تعتبر “لا شرعية” من وجهة نظر الدولة البرجوازية. إنهم يقتنون الأسلحة كذلك، كما يقول جورج سالزمان في تقريره: «يمتلك بعضهم نبابيت وقضبان حديدية بل وحتى السيوف، لكن كلها من أجل الدفاع عن النفس. ليست الثقافة السائدة هنا ثقافة “أدر خدك الآخر”. إنهم لا يجلسون ويصلون إذا ما حاول البوليس الاعتداء عليهم.»

  النضال من أجل السيطرة على وسائل الإعلام

  لقد دمر هجوم 14 يونيو المحطة الإذاعية التي كان المعلمون يمتلكونها، Radio Plantón، والتي كانت تستعمل كمصدر للدعاية الموالية للمعلمين، منذ بداية الإضراب وكوسيلة تواصل حيوية. وردا على ذلك الهجوم احتل طلبة جامعة بينيتو خواريث المستقلة بولاية أواكساكا، المحطة الإذاعية الخاصة بالجامعة، التي هي محطة مرخص لها وذات قدرة إرسال أقوى بكثير، وجعلوها تستمر في العمل لدعم التمرد المتصاعد بسرعة آنذاك. إلا أن عملاء للحكومة اندسوا بين الطلاب ودمروا تجهيزاتها يوم 08 غشت بواسطة حمض الكبريتيك (sulphuric).

  وقد بلغ النضال من أجل السيطرة على وسائل الإعلام مرحلة نوعية جديدة عندما قامت مجموعة من النساء، وهن يقرعن طناجرهن بمعالق خشبية، بالاستيلاء على محطات التلفزيون والإذاعة الحكومية. وأطلق على محطات الإرسال المصادرة لقب: تلفزيون الطناجر (TV Caserolas). طيلة تلك الفترة سيطرت “أصوات وصور الشعب” على موجات البث التي كانت سابقا تحت سيطرة الدولة كما يقول سالزمان:

  «تحدث أناس عاديون بملابسهم المتواضعة عن حقيقة حياتهم كما يفهمونها هم، عن ما تعنيه النيوليبرالية بالنسبة لهم، عن خطة Pueblo Panama، عن فقدانهم لأراضيهم لصالح المستثمرين وشركات الورق الدولية، عن مدارس القرى الجبلية المتداعية المفتقدة للمراحيض، عن التجمعات السكنية المفتقدة للماء الشروب وأنظمة الصرف الصحي، وغيرها من الضروريات التي كانت ستتوفر لو أن الثروات لم تنهب من طرف الرأسماليين الأغنياء وموظفي الحكومة الفاسدين.»

(“From Teachers’ Strike Towards Dual Power”, Counterpunch, August 30, 2006)

  كم هي ملهمة حقا هذه الصورة المرسومة هنا! والإرسال لم يكن محصورا على أواكساكا.

  وقد تبينت الروح الأممية التي يمتلكها العمال ومستوى وعيهم المرتفع من خلال بث القناة التاسعة لبرنامج وثائقي مصور عن ظروف عيش الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. لقد غطى إرسال القناة التاسعة و إذاعة إف إم 96,9 كل تراب الولاية طيلة ثلاثة أسابيع، من فاتح غشت إلى حدود احتلالها من طرف قوات الدولة بعد الإغارة عليها في الصباح الباكر من يوم 21 غشت. وردا على هذا الاعتداء، قامت الجماهير المنتفضة باحتلال اثنا عشرة محطة إذاعية تجارية تابعة لتسعة شركات مختلفة. والصراع من أجل السيطرة على وسائل الإعلام متواصل.

  دور الامبريالية

  يحظى كالديرون بدعم الإمبريالية العالمية. وقد سارع كل من جورج بوش والسفير الأمريكي طوني غارزا، بكل وقاحة، إلى تهنئة كالديرون في أعقاب انتخابات الثاني من يوليوز. والآن وبعد أن صودق على “فوزه”، ستصطف واشنطن والبلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في طابور للحصول على نصيب في شركة النفط العمومية المكسيكية PEMEX.

  يراقب الامبرياليون الأمريكيون التطورات التي تحدث جنوب ريوغراندي بقلق شديد. وحسب راديو أمريكا فإن دوريات البحرية الأمريكية قد أُرسِلت من أجل “حماية منصات البترول المكسيكية في الخليج”. إلا أن إمكانية تدخل عسكري أمريكي في المكسيك حاليا مسألة مستبعدة. فالجيش الأمريكي غارق في العراق وأفغانستان ومن جد المستبعد أن يرغبوا في فتح جبهة أخرى في هذه الفترة، وخاصة في أمريكا اللاتينية.

  يعرف منظرو الإمبريالية انه من المستحيل التدخل بنجاح ضد الثورة. لقد اخذوا درسا قاسيا في إيران في الماضي ولم ينسوا كيف تعرضوا للإذلال. إذا ما هم حاولوا التدخل في المكسيك فسوف تواجههم مقاومة شرسة. إذ أن الشعب المكسيكي سيقاتل مثل النمور للدفاع عن بلدهم ضد الإمبريالية الأجنبية الممقوتة. سوف تحدث هناك انفجارات في كل بلدان أمريكا اللاتينية، وليس فقط في جنوب الريوغراندي. إن التحركات الجماهيرية الأخيرة للمهاجرين في الولايات المتحدة نفسها تظهر الإمكانيات الثورية الجبارة التي يمتلكها ذلك العدد الهائل من المضطهدين الأمريكيين اللاتينيين، الذين يشكلون الآن أكبر أقلية إثنية في الولايات المتحدة. سوف تواجه الإمبريالية فورا انتفاضات داخل الولايات المتحدة نفسها إذا ما هي تجرأت على غزو المكسيك. إن السخط الهائل المتراكم داخل المجتمع الأمريكي قد ينفجر على خلفية هذا الحدث. وقد يتم كنس إدارة بوش من السلطة، مما سيفتح الباب على مصراعيه أمام وضع جديد كليا داخل الولايات المتحدة نفسها.

  ومن ثم فإن احتمال تدخل مباشر للقوات الإمبريالية الأمريكية مستبعد جدا خلال المرحلة الحالية. لكن هذا لا يعني مطلقا أن واشنطن ستبقى مكتوفة الأيدي. فالمخابرات الأمريكية (CIA) والسفارة الأمريكية في مكسيكو العاصمة ستكونان نشيطتان جدا، حيث يتآمران مع فوكس وعملائهم من أجل سحق الثورة. إن الهجومات المتتالية على الحركة في أواكساكا بمثابة عمليات استكشاف لأرض المعركة زمن الحرب. إنهم يريدون تحسس الأرض قبل الدخول في مواجهة أكثر حدة. ولحد الآن تمكنت النضالات الكفاحية التي تخوضها الجماهير، التي عبرت عن تصميمها على الدفاع عن نفسها، من التصدي لتلك الاعتداءات.

  تمتلك الطبقة السائدة في المكسيك رقما قياسيا في القمع الدموي للحركات الاحتجاجية الجماهيرية. لقد تبين هذا خلال حملة القمع التي شهدها شهرا شتنبر وأكتوبر سنة 1968، مباشرة قبيل بداية الألعاب الاولمبية، عندما أمر الرئيس غوستافو دياز أورداز بتنظيم مجزرة ضد الطلاب المضربين في ساحة وسط المدينة ليست بعيدة عن المكان حيث يتواجد المخيم الاحتجاجي الآن. قتل آنذاك أكثر من 300 شخص في ساحة “الثقافات الثلاث” وأحرقت جثثهم في معسكر الجيش رقم 1 غرب مدينة مكسيكو.

  نشرت الصحيفة اللبرالية La Jornada صورة التقطها أحد الهواة لناقلة جنود تحمل جنودا متنكرين على هيئة فلاحين وشباب منحرفين، مما يدل على أن هناك حملة استفزازات ممنهجة يتم التحضير لها. لقد شبه لوبيز أوبرادور الرئيس فيسنتي فوكس بدياز أورداز. وكان التشبيه موفقا. لأنه إذا لم يكن فوكس قد لجأ بعد إلى استعمال الجيش فهذا ليس بسبب اعتبارات إنسانية بل لأنه يخاف من النتائج. إذ أن حدوث مواجهة دموية واحدة سوف تشعل المكسيك بأسرها. وقد أظهرت بعض المصادر أن أكثر من 70% من الجنود العاديين صوتوا لصالح لوبيز أوبرادور يوم الثاني من يوليوز. مما يعني أن الجيش سوف ينقسم إلى أشلاء وسيتم كنس فوكس من السلطة، الشيء الذي سيضع مسألة التحويل الثوري للمجتمع على جدول الأعمال.

  نفس مقال جون روس يشير إلى تطور الشعارات التي يرفعها المتظاهرون:

  «تطور تلك الأناشيد مثير للإعجاب. ففي البداية كان الشعار المعتاد “voto por voto, casilla por casilla!” هو الذي يرفع أوتوماتيكيا كلما دنى لوبيز أوبرادور من الميكرفون. كما أن للشعارات “أنت لست وحدك!” و”Presidente!” وقتها. أما شعار “Fraude!” فلا يزال لديه شعبية، لكن خلال هذه الأيام الأخيرة بدأنا نسمع كثيرا شعار: “¡No Pasarán!” (لن يمروا!) الذي رفعه المدافعون عن مدريد عندما كانت جحافل فرانكو الفاشية على أبواب مدريد سنة 1936.

 في سياقنا هذا، يعني شعار: “¡No Pasarán!“، “أننا لن نسمح لفيليبي كالديرون بالمرور نحو الرئاسة”»

  إلا انه وبالرغم من كل البراهين المتوفرة، فقد أصدرت المحكمة الانتخابية الفدرالية، يوم 07 شتنبر، حكما لصالح كالديرون. لقد اتخذت الهيئة الانتخابية العليا في المكسيك قرارها ولا يمكن مراجعة حكمها. هذا يعني أن جميع الطرق القانونية المؤسساتية قد استنفذت والطريق الوحيد المتبقي الآن هو النضال الثوري.

  إن قرار المحكمة الانتخابية هو في حد ذاته استفزاز واضح. «لقد لوحظ أن كالديرون، مرشح حزب العمل الوطني (الذي أعلن فائزا من طرف المؤسسة الانتخابية الفدرالية التي تتعرض للكثير من الانتقادات، بأقلية ضئيلة تبلغ 55% من 41,6 مليون صوت مسجل)، قد كسب عشرات الآلاف من الأصوات المشكوك فيها. ولقد ألغت المحكمة الانتخابية الفدرالية (في عدّ جزئي لأقل من 10% من 130.000 من أماكن التصويت، نظم قبل أسبوعين من اتخاذ القرار الأخير) 237.000 صوت، أي أكثر من الهامش الذي من المفترض أن كالديرون قد فاز به» (تقرير جون روس، 06 شتنبر 2006)

  بعبارة أخرى، إن المحكمة الانتخابية قد قبلت جميع التهم بوجود تزوير ثم أعطت الفوز لكالديرون! مباشرة بعد ذلك احتشد عدة آلاف من أنصار لوبيز أوبرادور أمام مقر المحكمة جنوبي مدينة مكسيكو وصاروا يرفعون شعار “Fraude!” “Rateros!” (تزوير! لصوص!)، عندما كان القضاة يغادرون في حماية الشرطة العسكرية.

  الملتقى الوطني الديموقراطي

  في خضم هذه الأحداث الدرامية اختفى القائد ماركوس وأتباعه من الخريطة السياسية. حيث وبسياساتهم الخاطئة، حكم الزباطيون على أنفسهم بالموت السياسي. وكما توقعنا، فإنهم فقدوا المصداقية بسبب ممارستهم الكارثية خلال الانتخابات، عندما حاولوا إلى جانب العصب اليسارية المتطرفة تنظيم ما أسموه “الحملة البديلة” الموجهة ضد لوبيز أوبرادور. على العكس من ذلك تبنى الماركسيون المكسيكيون مناضلو الميليتانتي تكتيكا صحيحا، حيث قدموا دعما نقديا للوبيز أوبرادور وهم الآن يلعبون دورا هاما في الحركة الجماهيرية الثورية.

  لقد دعى لوبيز أوبرادور الآن إلى عقد ملتقى وطني ديموقراطي للتقرير في مستقبل البلد وانتخاب رئيس شرعي. هذه خطوة هامة. لكن ما الذي تمثله؟ لماذا الملتقى الوطني الديموقراطي؟ إن هذا السؤال صار يطرح على جميع المستويات داخل حزب الثورة الديموقراطية وخاصة في القاعدة. ليس هناك من شك في أن هذا الملتقى من وجهة نظر بيروقراطية الحزب ليس سوى مظاهرة جماهيرية أخرى للضغط على فليبي كالديرون. يمكن لكالديرون أن يقدم تنازلات. يمكنه أن يطرح إمكانية دمج بعض قادة حزب الثورة الديموقراطية في مناصب هامشية داخل حكومته. وبما أن حزب الثورة الديموقراطية مخترق من طرف عناصر من حزب الثورة المؤسساتية، الذين كل همهم الحصول على مناصب مربحة لأنفسهم، فإن هذا قد يقود إلى حدوث صراعات داخل حزب الثورة الديموقراطية.

  إن قواعد حزب الثورة الديموقراطية، العمال والفلاحون والشباب الثوري، لا يريدون الفتات الساقط من مائدة البرجوازية: إنهم يريدون حسم السلطة. إن الملتقى الوطني الديموقراطي هو من وجهة نظرهم حكومة بديلة. لكن وبما أن الدولة البرجوازية قد سبق وان اعتبرت حكومة كالديرون هي الحكومة الشرعية الوحيدة، فإن إعلان حكومة مقاومة برئاسة أندريس مانويل لوبيز أوبرادور سيكون عملا ثوريا واضحا

  لقد وعد أندريس مانويل لوبيز أوبرادور بأحداث “تغيير جذري” في البلد عبر إقامة حكومة موازية. لقد قال: «إننا نسير نحو إجراء تغيير عميق، تغيير كلي، لأن هذا هو ما تحتاجه المكسيك. إنها تحتاج تغييرا جذريا. إننا نسير نحو بناء بلد جديد عادل وكريم..» وقال: «إننا لن نقرر فقط في شكل حكومتنا… بل سيتم أيضا تحديد مسألة أكثر أهمية، أي: المخطط الأساسي للتغيير في المكسيك.»

  هذا هو ما يريده العمال والفلاحون بحمية! إن قواعد حزب الثورة الديموقراطية لا يريدون الاتفاقات والمساومات مع البرجوازية. إن الجماهير التي تدعم الحزب لا تريد له أن يتصرف مثل حزب العمل الوطني وحزب الثورة المؤسساتية. إنهم لا يريدون حزبا، يسقط بمجرد ما أن يصل إلى الحكومة في الفساد والوصولية. ومن ثم فإنه من الضروري تبني برنامج سيضمن أن تمثل حكومة حزب الثورة الديموقراطية، الشعب بشكل حقيقي. إن مثل هذا البرنامج موجود. انه برنامج النقاط الأربع الذي طرحه لينين في أوج الثورة البلشفية:

1)- انتخابات حرة وديموقراطية مع الحق في إلغاء تفويض أي موظف كان.
2)- لا يتقاضى أي موظف أجرة أعلى من أجرة عامل مؤهل.
3)- لا جيش دائم، بل الشعب المسلح.
4)- تدريجيا يتم تولي جميع مهام الإدارة البيروقراطية من طرف الجميع بالتناوب (“عندما يصير الجميع بيروقراطيا، لا يبقى هناك أي بيروقراطي!”).

  مسألة العنف

  لقد وعد لوبيز أوبرادور بتلافي حدوث عنف. لقد اقترح ثورة غير عنيفة لتغيير المكسيك وطلب من أنصاره أن يتبعوا طريق المقاومة المدنية الغير عنيفة، كما كان يدعوا مارتن لوثر كينغ والمهاتما غاندي. لكن هذا لا يعتمد حصريا على النوايا الطيبة للوبيز أوبرادور. إذ أن للبرجوازية رأيها المختلف حول هذه المسألة!

  استدعى قائد حزب الثورة الديموقراطية مليون مندوب إلى ساحة زوكالو لملتقى وطني ديموقراطي، يوم عيد استقلال المكسيك، 16 شتنبر، وهو اليوم المخصص عادة لاستعراض عسكري كبير. ومن ثم فإن الأرضية توفرت لحدوث مواجهة جدية. إن فوكس يستعد لسحق الحركة عبر استعمال العنف. انه قد بدأ يستخدم صحف الدعارة لتحضير الرأي العام لحملة قمع صارم وعنيف ضد المحتجين. إن البرجوازية تستعد للهجوم. في ذلك اليوم كان من المقرر أن يقرأ فوكس خطاب الدولة، وقاموا بتطويق مقر الكونغرس بجدار حديدي. وقد كتب جون روس في تقرير له من مدينة مكسيكو نشر على صفحات The Nation يقول:

  «أحيطت البناية التي تضم الكونغرس، بساحة زوكالو الكبرى، بحواجز حديدية طولها متران، ملتصقة إلى بعضها البعض لتلافي حدوث هجوم انتحاري بسيارة مفخخة على ما يبدو. وخلف هذا السور الحديدي هناك 3.000 من رجال الشرطة الوقائية الفدرالية (شرطة مشكلة من الجيش) – وأعضاء نخبة الهيئة العليا أو ما يسمى قيادة الجيش الرئاسي، يشكلون خطا دفاعيا ثانيا. مسلحين بقاذفات قنابل الغاز، رشاشات المياه وهناك أخبار تروج عن وجود مدافع خفيفة، وقد وجهت هذه القوة لحماية القانون والنظام ومؤسسات الجمهورية ضد تحركات اليسار الذي يهدد باجتياح القصر الرئاسي كما صرح بذلك الرئيس لأتباعه خلال رسائل متكررة بثها التلفزيون الوطني.» (The Nation، 25 عشت)

  في ظل هكذا شروط، من الضروري تلافي السقوط في الاستفزازات. لكن هنالك فرق شاسع بين نصح الجماهير بعدم القيام بأعمال عنف لا معنى لها والدخول في مواجهات غير منظمة مع البوليس والجيش، مما لن يؤدي سوى إلى تمكين السلطات من مبرر لشن حملة قمع دموي، وبين خلق الوهم بأنه يمكن هزم الدولة البرجوازية عبر المقاومة السلبية وحدها. يجب على الحركة أن تتخذ إجراءات للدفاع عن نفسها. إن عناصر المقاومة الشعبية متوفرة منذ الآن في شكلها الجنيني. من الضروري البدأ في تحضير جدي ومنهجي لميليشيا شعبية، مستعدة وقادرة على الدفاع عن المخيمات وحماية المظاهرات ضد الاستفزازات المسلحة.

  موقف الجيش من أهم أرقام المعادلة. إذ في آخر المطاف ستحدد هذه المسألة مصير المعركة. إن الجيش مشكل من عمال وفلاحين شباب يرتدون البذلة. هل سيسمحون لأنفسهم أن يُستعملوا من طرف دولة الرأسماليين لسحق الشعب؟

  كلا الطرفين توجها بالنداء إلى الجيش. في خطاب مسجل للأمة في ليلة تنصيبه، عمل كالديرون على كيل المديح للجيش المكسيكي باعتباره واحدا من أكثر المؤسسات احتراما. يبدو بوضوح انه يحضر لاستخدام الجيش لإخلاء عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين يعتصمون في مكسيكو. ومن جهته طالما دعا لوبيز أوبرادور الجنرالات ألا يسمحوا بأن يستعمل الجيش في الصراع السياسي ضد شعبهم. هل ستجد هذه الدعوة صدى لها أم لا؟ هذه هي المسألة.

  توجد بين صفوف كل جيش، شرائح مختلفة. هناك شريحة من العناصر المتخلفة والحثالة – أقلية من المجرمين والفاشيين المحتملين – المستعدين للقيام بجميع أعمال البربرية. وفي الطرف الآخر هناك أقلية من الجنود الثوريين فعلا أو الذين لديهم إمكانية التحول إلى ثوريين. تلك الشريحة الأولى تكون مستعدة لإطلاق النار على المدنيين العزل. لكن أغلبية الجنود العاديين سيصابون بالذعر من هذا الاحتمال، حيث أنهم يتعاطفون مع الحركة الجماهيرية ولديهم الرغبة في التحول إلى معسكر الثورة. لكن لكي يتحقق هذا، من الضروري أن يروا أن الجماهير مصممة على السير في الطريق الثوري إلى نهايته.

  الشرطة هم دائما أكثر تخلفا من الجيش، لكن رغم ذلك هناك حتى داخل الشرطة شرائح مختلفة. لقد هاجموا المتظاهرين وضربوا الشعب بدون رحمة، لقد قذفوا قنابل الغاز وضربوا المحتجين العزل بهراواتهم. وهوجم برلمانيو حزب الثورة الديموقراطية. وقد خرجت سيارات رش المياه التابعة للشرطة إلى الشوارع وأحاطت بمقر الكونغرس بينما جالت دوريات الشرطة الفدرالية شوارع العاصمة. وفي أواكساكا تعاملت الشرطة والقوات الشبه عسكرية الموضوعة تحت تصرفها، بعنف أكبر.

  إن الماركسيين لا يمجدون العنف. إننا نتفق على أن نقل السلطة إلى الطبقة العاملة بطريقة سلمية سيكون أمرا محبذا جدا. لكننا درسنا التاريخ أيضا وتعلمنا العديد من الدروس. واهم درس علمنا إياه تاريخ الصراع الطبقي هو: انه لم توجد أية طبقة سائدة في التاريخ تخلت عن سلطتها وامتيازاتها دون نضال. يجب أن يتم تجريد الطبقة السائدة من السلاح. هذه هي الطريقة الوحيدة لتلافي حدوث عنف وحمامات دماء. لكن هذا غير ممكن إلا شريطة أن يتم تسليح الجماهير وتعبئتها للنضال من أجل إجراء تغيير ثوري للمجتمع. لقد كان الرومان يقولون: «si pacem vis para bellum»: إذا ما كنت تريد السلام فجهز نفسك للحرب. وهذه نصيحة جيدة جدا!

  دروس أواكساكا

  لقد وجهت الحركة الرائعة التي نظمتها جماهير أواكساكا تهديدا مباشرا للطبقة السائدة. لكن السلطات لا تجرأ على شن هجوم مباشر مثل ذلك الذي شنته يوم 14 يونيو الماضي. إن أي محاولة لسحق الانتفاضة الشعبية بالعنف سوف تقود إلى انفجار شامل. وبدل ذلك لجئوا إلى عمليات سرية انتقائية بواسطة قتلة مأجورين وأعضاء في جهاز البوليس. شرح دييغو إنريكي أوسورنو، في مقال له، كيف ينظم حاكم ولاية أواكساكا، أوليسيس رويز، عصابات من المجرمين المسلحين لسحق الحركة:

  «إضافة إلى رجال مسلحين مأجورين، هناك قوات من البوليس الوزاري، البوليس الوقائي الفدرالي والبوليس البلدي المحلي، كلهم متورطون في “عمليات التصفية”. أحد الفارين من الجيش المكسيكي والمسمى أريستيو لوبيز مارتينيز، والذي يشتغل لمكتب محلي، كان أحد المشاركين الرئيسيين في هذه العملية التي تستلهم أفكارها من كتاب: “العمليات النفسية خلال حرب العصابات” الذي كتبته وكالة المخابرات الأمريكية خلال الثمانينات لقوات الكونتراس النيكاراغوية في حربها ضد الحكومة الديموقراطية في ذلك البلد.

  لقد استشهد لوبيز مارتينيز بهذه الوثيقة خلال لقاءين مع ضباط شرطة آخرين، وهي الوثيقة التي تتضمن القول بأن ساحة الحرب هي “عقل الناس” سواء كانوا أعدائنا أو من “القوات التابعة لنا”.

  “الكتاب” مليء بأكثر الممارسات اللاقانونية طيشا. ومن بين التكتيكات التي يوصي بها هناك تطبيق اغتيالات انتقائية باستئجار مجرمين للقيام بذلك. والتكتيك الآخر هو اختراق الحركة بهدف القيام بعمليات تخريب» (The Narco News Bulletin، 28 غشت 2006)

  إن هذه العصابات المسلحة قد قامت بعمليات اغتيال وتخريب. لذا ففي مواجهة عنف الدولة يمتلك الشعب الحق في الدفاع عن نفسه. ولقد قامت الجمعية الشعبية لجماهير أواكساكا، بتشكيل “شرطة المعلمين” التي تطورت إلى قوة دفاع ذاتي عالية الانضباط، فعالة وتحت الرقابة الشعبية وقادرة على التحول إلى الهجوم إذا ما اقتضت الضرورة ذلك. هذا هو الطريق الذي يجب السير فيه!

  ليس الوضع في أواكساكا فريدا من نوعه: إذ أن نفس المشاكل الأساسية موجودة في جميع ولايات المكسيك. سوف تظهر إلى الوجود حتما حركات تمرد شبيهة في باقي جهات البلد. إن مثال الميليشيا العمالية من قبيل تلك التي في أواكساكا يجب أن يستنسخ ويطور ويمتد إلى جميع الجهات. يجب أن يتم تنظيم الميليشيا الشعبية على أساس ديموقراطي وتكون وثيقة الارتباط بأماكن العمل، والأحياء والنقابات والفروع المحلية لحزب الثورة الديموقراطية وغيرها من المنظمات الشعبية.

  ليس لهذه السياسة أية علاقة مع التكتيكات المغامراتية الإرهابية وحرب عصابات المدن، التي يجب أن تنبذ بحزم. تحاول السلطات ضرب مصداقية الجمعيات الشعبية عبر اتهامها ( الكاذب) بالعلاقة مع مجموعات من قبيل حزب الشعب الثوري. نفس الاتهام الكاذب وجه ضد التيار الماركسي المكسيكي، الميليتانتي.

  إن تكتيكات الإرهاب الفردي (وحرب عصابات المدن، التي ليست سوى تسمية أخرى لنفس الشيء) هي ممارسات غريبة كليا عن الطبقة العاملة والماركسية. إنها تشكل خطرا حقيقيا على الحركة الجماهيرية، بسبب إمكانية اختراقها من طرف عناصر استفزازية. إن الدولة البرجوازية تحاول إثارة مواجهات دموية لإيجاد مبرر لسحق الحركة الجماهيرية بالقوة. والخطر يكمن في إمكانية سقوط قطاعات من الشباب المتسرع في فخ هذا الاستفزاز، وهو ما يتوجب الحيلولة دون وقوعه بأي ثمن. لكن الطريقة الوحيدة للحيلولة دون سقوط الشباب في هذا النوع من المغامراتية، تكمن بالضبط في تشكيل حركة ميليشيا شعبية حقيقية تحت رقابة الطبقة العاملة ومنظماتها.

  إن تشكيل ميليشيا شعبية مرتبطة بالجمعيات الشعبية وغيرها من أجهزة الديموقراطية الثورية، مسألة عاجلة. إن حماية المخيمات والمظاهرات حاجة نابعة من طبيعة الحركة نفسها، ولا مبرر لها إلا إذا كانت جزءا من حركة الجماهير الثورية.

  الجمعيات الشعبية تنتشر

  المسألة الحاسمة هي تشكيل أجهزة السلطة الثورية. (“السوفييتات”) في جميع الولايات. إن الحركة نحو تشكيل جمعيات شعبية تمتد بسرعة عبر كل ربوع المكسيك. يوم الجمعة، فاتح شتنبر، تمكنت مسيرة أواكساكا الخامسة الكبرى، التي دعت إليها الجمعية الشعبية لجماهير أواكساكا، من حشد أكثر من 300،000 شخص حسب تقديرات Las Noticias. لقد عبرت الجموع مركز المدينة وأنهت مسيرتها الحاشدة بإحراق دمى ترمز لحاكم الولاية بساحة زوكالو.

  من أعلى المنصة بساحة زوكالو، رفع قائد الفرع 22 لنقابة المعلمين، إنريكي رويدا باشيكو، شعار تشي غيفارا الشهير: ” hasta la victoria siempre,”، عندما أكد أن أواكساكا سوف تظل تقاتل حتى النصر. والأكثر تعبيرا كان هو قوله أنهم سوف يناضلون على المستوى الوطني من أجل إقامة حكومة شعبية.

  وقد قال: «لدينا حركة وطنية، إننا ندعو إلى وحدة وطنية تظم حزب الثورة الديموقراطية والزباطيين وكل الوطن» لكنه أوضح أن الجمعية الشعبية لجماهير أواكساكا ليس لديها أية علاقة مع المجموعات المسلحة: «ليس لدينا أي رابط، أية علاقة ولا تنسيق مع أي من منظمات حرب العصابات… نحن نحترم جميع أشكال النضال، إن الشعب يساهم في النضال، كل بطرقه الخاصة.»

  وقد حضرت أيضا جماهير من ميشواكان، وهي التي من المنتظر أن تعقد التجمع الشعبي الثالث لها يوم 09 شتنبر، وحسب ما صرح به رويدا فإنهم مستعدون للانخراط في النضال الوطني. نفس فكرة خوض نضال على الصعيد الوطني تردد صداها لدى خطباء آخرين، بمن فيهم قائد فدرالية النقابات الديموقراطية للعمل ومنظمات أواكساكا (FSODO).

  إن هذا تطور جد هام ويجب أن يوضع فورا قيد التطبيق. يجب أن تشكل الجمعيات الشعبية على جميع الأصعدة: في كل بلدة وكل مدينة، في كل حي شعبي وكل قرية. في المعامل والمناجم أيضا، يجب على العمال أن ينتخبوا ممثلين للجان المعامل، نفس الشيء يجب أن يقوم به الطلاب والتلاميذ أيضا. ويجب أن يتم الربط بين لجان النضال الديموقراطية هذه، على المستوى المحلي والإقليمي والجهوي وعلى صعيد الولاية. وأخيرا، يجب عليها أن ترتبط معا على الصعيد الوطني، لتشكيل جمعية ديموقراطية شعبية حقيقية لكل المكسيك: أي حكومة شعبية ثورية.

  إن الحركة لم تنتهي!

  لقد سبق للينين أن أشار منذ وقت طويل إلى أن هناك أربعة شروط للوضع الثوري: 1)- أن تكون الطبقة السائدة منقسمة على نفسها وتعيش أزمة. 2)- الطبقة الوسطى تتذبذب بين البرجوازية والطبقة العاملة. 3)- أن تكون الجماهير مستعدة للنضال وتقديم أعظم التضحيات لحسم السلطة. 4)- أن يكون هناك حزب ثوري وقيادة مستعدة لقيادة الطبقة العاملة لحسم السلطة. تتوفر في المكسيك في وقتنا الحالي جميع هذه العوامل ما عدا العامل الأخير.

  لا يشكل إعلان كالديرون رئيسا للمكسيك نهاية المسألة، بل يدل على مرحلة جديدة للحركة الثورية. إن الطبقات المتصارعة تسير نحو مواجهة حاسمة. وهذا شيء معروف لدى منظري الإمبريالية. إذ نجد لوس أنجلس تايمز (03 شتنبر) تستشهد بأرماند بيشارد سفيردروب، الخبير في الشؤون المكسيكية، بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، حيث يقول:

  «إن السؤال الآن صار هو هل المكسيك على شفا أزمة سياسية؟ ويمكننا أن نقول أن المكسيك قد دخلت، بعد يوم الجمعة الماضي، هذه المرحلة. يبدو أنه لا توجد هناك أية رغبة في إجراء مفاوضات أو مساومات… إن الوضع أشبه بقطارين يسيران في اتجاه بعضهما» (التشديد من عندي آ.و)

  سوف تنتهي ولاية فوكس يوم الفاتح من دجنبر المقبل. ومن الآن حتى تلك اللحظة ستتواصل عاصفة التحريض، من خلال مد وجزر. ومن المستحيل توقع النتيجة النهائية للصراع بشكل أكيد. هنالك العديد من النقاط المضيئة في هذه المرحلة. فيوم 15 شتنبر، يوم استقلال المكسيك، ينوي الرئيس فوكس أن يطلق “grito” [الصرخة] التقليدية “Viva Mexico!” من شرفة القصر الرئاسي المطلة على ساحة زوكالو. لكن أنصار لوبيز أوبرادور اقسموا على ألا يتركوا الساحة ويطلقوا صرختهم إلى الوطن ذلك اليوم.

  النقطة المضيئة الأخرى ستأتي يوم 16 شتنبر، حيث من المزمع تنظيم استعراض عسكري هائل لتخليد الذكرى 196 لاستقلال المكسيك عن إسبانيا. وقد قرر لوبيز أوبرادور ومعه أكثر من مليون مندوب من جميع ربوع البلاد، أن يجتمعوا في ذلك اليوم بساحة زوكالو لتنظيم “الملتقى الوطني الديموقراطي” الذي من المنتظر أن يعلن “حكومة مقاومة”.

  من المحتمل أن يزاوج كالديرون ما بين القمع والرشاوي لشراء ذمم قادة حزب الثورة الديموقراطية. وقد سبق لجنرال فوكس، كارلوس أباسكال، أن حذر لوبيز أوبرادور بأنه إذا ما قام بتشكيل حكومة موازية، فسوف يحاكم بتهمة الاستيلاء على السلطة، وهي الجريمة التي تؤدي إلى السجن لمدة طويلة.إن حزب الثورة الديموقراطية مهدد بفقدان تسجيله الانتخابي بسبب قيامه بمنع فوكس من إلقاء خطاب الدولة. لكن هذه التهديدات وكما حدث في السابق لن تؤدي سوى إلى إغضاب الجماهير والرفع من الدعم الذي يتمتع به حزب الثورة الديموقراطية ولوبيز أوبرادور.

  من المحتمل أن تقرر النخبة الحاكمة في المكسيك أن تزيل لوبيز أوبرادور من مسرح الأحداث من خلال وسائل عديدة دائمة، إذا ما هو رفض الاستسلام. إذ إضافة إلى تزوير الانتخابات والإفساد، تعتبر الاغتيالات سلاحا تقليديا لدى الطبقة السائدة المكسيكية، كما كان الحال مع ايميليانو زاباطا وفرانسيسكو ماديرو.

  لكن مهما حصل، فإن المكسيك لن تكون كما كانت عليه. وإذا ما تمسك حزب العمل الوطني بالسلطة، فإن الحكومة ستكون جد ضعيفة، سوف تهتز بالأزمات والتصدعات، ومن المحتمل ألا تنهي فترة ولايتها. إن المجتمع المكسيكي منقسم في الوقت الحالي بشكل عميق على أسس طبقية. وسوف تستمر التقاطبات في الاحتداد خالقة إمكانيات كبيرة للتيار الماركسي.

  ازدواجية السلطة

  لقد بقي لوبيز أوبرادور، والحق يقال، حازما في موقفه ودعا إلى إقامة حكومة موازية. لكنه لم يحدد بدقة كيف يمكن أن تبنى حكومة من هذا القبيل. لقد قال سابقا أن أنصاره سيواصلون احتجاجات الشوارع طيلة سنوات إذا ما اقتضى الحال.

  «يمكننا أن نقول بكل تأكيد أننا مستعدون للمقاومة مهما طال الزمن. يمكننا أن نبقى هنا طيلة سنوات إذا ما تطلبت الأوضاع ذلك!». أوبرادور يقول هذا، لكن هذا مستحيل. من الأساسي أن تستمر الحركة الجماهيرية في التقدم، وفي احتلال موقع بعد آخر. فالثورة التي لا تشن الهجوم تموت. ومن ثم فإنه من الضروري امتلاك استراتيجية بأهداف محددة بوضوح خلال كل مرحلة، وان تكون كل خطوة موجهة نحو حسم السلطة.

  لكن من الطبيعي جدا أن فترة ازدواجية السلطة لا يمكنها أن تستمر طويلا. إذ يجب أن يحسم التناقض إن عاجلا أو آجلا، في اتجاه أو في آخر. فإما أن يُسقط العمال والفلاحون السلطة القديمة ويحسموا السلطة بين أيديهم، أو أن السلطة القديمة ستعمل في النهاية على إعادة بناء نفسها وتصفي الأجهزة الجنينية لسلطة العمال. ليس هنالك من طريق ثالث ممكن.

  تعيش الطبقة السائدة المكسيكية التصدعات والأزمات، لكنها لا تزال تسيطر على جهاز الدولة وجميع مفاتيح السلطة الأخرى. بينما الجماهير في الشوارع تعمل على بناء الأشكال الجنينية لدولة جديدة. إن النظام القديم يترنح، لكنه يرفض الموت. والنظام الجديد يكافح لكي يرى النور. هذا هو جوهر الوضع. ومن أجل حل هذا التناقض من الضروري توفر قيادة حازمة وبعيدة النظر. لكن هذا بالضبط هو ما ينقص.

  بعض منظري الرأسمال قد يفضلون ربما نقل السلطة إلى لوبيز أوبرادور، وإرسال الجماهير لتعلم درس قاس في مدرسة الإصلاحية. لكن الأغلبية قررت منع حدوث ذلك. إنهم يخشون من ألا يتمكن أوبرادور من السيطرة على الجماهير وان تصير حكومة حزب الثورة الديموقراطية تحت الضغوط للسير ابعد مما كانت تنوي. إن شل المجتمع المكسيكي طيلة عدة شهور، مسألة لا يمكن القبول بها من وجهة نظرهم. لكنها تشكل مشكلة حتى للجماهير نفسها، فالعمال وأسرهم يحتاجون الأكل، ولا يمكن للمجتمع أن يستمر في حالة شلل إلى الأبد. إن عاجلا أو آجلا سيفرض حل التناقض المركزي.

  لقد تمكن لوببز أوبرادور، لحد الآن، من الاستمرار في المعركة. لكنه رغم كل شيء يعاني ضغوطا هائلة. وفي غياب منظور ثوري سوف يميل القادة البرجوازيون الصغار في حزب الثورة الديموقراطية إلى التردد والتذبذب والمساومة مع العدو.

  طبعا سوف نرفع المطالب في وجه القيادة ونحثهم على التقدم. وإذا ما قاموا ولو بنصف خطوة إلى الأمام فسوف نقول لهم: «هذا جيد جدا! لكن فلنتقدم أكثر الآن». وإذا ما خطو خطوة إلى الوراء، سوف ننتقدهم وسنفضحهم أمام الجماهير التي تريد النضال وليس المساومة. بهذه الطريقة وحدها سنتمكن من دفع الحركة إلى الأمام، في نفس الوقت الذي نعلّم فيه الجماهير ونستقطب أكثر العناصر ثورية إلى جانبنا. ليس هنالك من طريق آخر.

  مع الأسف، هناك مؤشرات بأن قطاعا من قادة حزب الثورة الديموقراطية قد بدأوا يخافون الحركة الجماهيرية التي ساهموا في استثارتها، مثلهم في ذلك مثل الساحر في قصيدة غوته الشهيرة. لقد بعثوا قوى لا يمكنهم السيطرة عليها. ومن المحتمل أن يلتحق قطاع من أكثر القادة فسادا بكالديرون، مما سوف يؤدي إلى حدوث أزمة داخل حزب الثورة الديموقراطية. سوف يطالب مناضلو القاعدة بطرد العناصر البرجوازية المتواجدة في القيادة. لقد حان الوقت لتطهير الحزب من العناصر الغريبة أي البيروقراطيين الفاسدين والبرجوازيين الذين اخترقوه قادمين إليه من حزب الثورة المؤسساتية!

  يدعوا الماركسيون إلى عقد كونفرانس وطني للمندوبين، ترسل إليه كل جمعية شعبية مندوبا منتخبا عنها. سوف يكون هذا حكومة وطنية موازية، ليس فقط بالأقوال بل فعلا. يمكن للملتقى الوطني الديموقراطي المزمع عقده يوم 16 شتنبر، يوم عيد استقلال المكسيك، أن يكون بداية تحد ثوري حقيقي. لكن قادة الحزب جعلوا منه تجمعا مفتوحا، إن لم نقل مظاهرة جماهيرية.

  إن المظاهرة الجماهيرية، ليست حكومة ثورية: إنها مجرد مظاهرة جماهيرية لا شيء أكثر. لكن خلال الشهور القليلة الماضية خرج العمال والفلاحون في العديد من المظاهرات الجماهيرية. لا يمكن إطالة عمر الحركة إلى ما لا نهاية بتكرار نفس التكتيك دائما. إن ذلك يشبه الدوران في نقطة محددة دون التقدم. إن عاجلا أو آجلا سوف تشعر الجماهير بالتعب من كل هذه الخطب والمظاهرات. سوف تسأل نفسها: إلى أين يقودنا كل هذا؟ من غير الممكن إبقاء الجماهير في حالة غليان إلى الأبد، بدون إظهار طريق للخروج من المأزق.

  يريد لوبيز أوبرادور استعمال الجماهير للضغط على البرجوازية لإجبارها على تقديم التنازلات. هذا هو المعنى الحقيقي للـ”العصيان المدني السلمي”. ولقد جعلت الحركة الجماهيرية السير العادي للمجتمع مستحيلا. إنه يتمنى أن تخاف الطبقة السائدة وتعطيه ما يريد. لكن هذا خطأ في التقدير.

  فمع مرور الوقت بدون نتائج واضحة، سوف يسود التعب واليأس. إذا لم يكن هناك من حل واضح، فإن الحركة سوف تتوقف في الأخير وستستعيد البرجوازية السيطرة. سوف يسود شعور عارم من اليأس وستتراجع الحركة الجماهيرية مرة أخرى – مؤقتا على الأقل. لكن رغم ذلك، ليس هناك في ظل الرأسمالية من حل ممكن للعمال والفلاحين المكسيكيين. سوف تكون هناك أزمات جديدة وإضرابات جديدة وانتفاضات جديدة. خلال هذا الوقت، من الضروري بناء تيار ماركسي ثوري داخل حزب الثورة الديموقراطية والنقابات وبين الشباب.

  إن البرنامج الذي يطرحه الرفاق في الميليتانتي بالمكسيك هو الوحيد الذي يمكنه ضمان النجاح النهائي للحركة. إنه برنامج حكومة عمالية مبنية على أساس سياسات اشتراكية:

  «فقط عبر هذه الإجراءات يمكننا تقوية وتصليب حكومة عمالية. لكن يجب على الملتقى الوطني الديموقراطي أن يكون واضحا جدا حول المسألة التالية: إنه لا يمكن لجميع هذه النضالات وهذه المجهودات، أن تنعكس على شكل تحسين في شروط عيش مستَغلي البلد، إلا إذا تحقق تغيير جذري للاقتصاد، يجب الدعوة إلى تأميم الشركات الصناعية المتعددة الجنسيات والأبناك إذا كنا نريد تحقيق توزيع جديد حقيقي للثروة. يجب أن توضع المصانع والأبناك تحت رقابة الدولة الجديدة، تحت إدارة وتسيير العمال أنفسهم.

  لا يمكننا أن نسمح بأن يحصر هذا النضال في بناء برلمان آخر، برلمان لن يكون سوى مثل سابقه، أي فضاءا يسيطر فيه شرذمة من (ح ث م) و(ح ع و) والذي لن يرفع سوى الأجور التي يتقاضونها هم. يجب أن يتحول هذا النضال إلى نضال حاسم ضد الرأسمالية، نضال من أجل مجتمع أفضل، من أجل الاشتراكية.»

آلان وودز
الجمعة: 08 شتنبر 2006

عنوان النص بالإنجليزية:

The revolutionary reawakening of Mexico

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *