جاءت النهاية فجأة ودون سابق إنذار. ففي لحظة الحقيقة سقط نظام القذافي وكأنه بيت من ورق.
امتلأت شوارع طرابلس الليلة الماضية باحتفالات صاخبة، مع تمكن قوات المتمردين من السيطرة على الساحة الخضراء في طرابلس. لوح المنتصرون بأعلام المعارضة الليبية وأطلقوا أعيرة نارية في الهواء ابتهاجا، بعد تمكنهم من الوصول إلى الساحة المركزية في العاصمة، في الساعات الأولى من صباح يوم الاثنين. حتى الآن كانت هذه الساحة الواسعة مخصصة للمسيرات المنظمة بعناية للإشادة بمعمر القذافي. أما الآن فقد اجتاحتها الاحتفالات بعد توغل قوات المعارضة في وسط العاصمة الليبية.
يوم الجمعة الماضي استولت قوات المعارضة على مدينة الزلتان، حوالي80 كيلومتر شرق العاصمة. وقد وقعت طرابلس بين فكي الكماشة، مع هجمات من الشرق والغرب من جانب قوات المعارضة المتقدمة من الزلتان والزاوية لعزل طرابلس عن باقي ليبيا. لقد كان سقوط الزاوية ضربة قاصمة للقذافي، مما حرم العاصمة من الوصول إلى إمدادات النفط. ربما كانت هذه هي اللحظة الحاسمة التي قوضت تماما معنويات قوات القذافي. وحده الانهيار الكامل للمعنويات ما يمكنه أن يفسر الغياب الواضح للمقاومة في المراحل الأخيرة، والسهولة النسبية التي دخلت بها قوات المعارضة إلى وسط طرابلس.
صباح أمس فقط كانت حكومة القذافي تؤكد أنها ستقاتل حتى النهاية. وقد وعد نجل العقيد القذافي، سيف الإسلام، في خطاب متلفز له انه لن يرفع أبدا “الراية البيضاء” على طرابلس. ثم أعلنت حكومة معمر القذافي، في ما شكل بوضوح علامة على اليأس، عن استعدادها للدخول في مفاوضات فورية مع المعارضة. من المعتاد أن يطلب من هو على وشك أن يهزم عسكريا، إجراء مفاوضات فورية – على الرغم من انه لا يبقى في الواقع شيء للتفاوض حوله.
وقال المتحدث باسم حكومة القذافي، موسى إبراهيم، إن العقيد القذافي نفسه أعلن عن استعداده للتفاوض مباشرة مع رئيس المجلس الوطني الانتقالي. كان هذا التصريح، الذي أتى بعد أسابيع وأشهر من الحديث المتبجح حول القتال حتى الموت في شوارع طرابلس، مثيرا للسخرية. والأكثر إثارة للسخرية، هو طلب الحكومة من حلف الناتو أن يعمل على إقناع قوات المعارضة بوقف الهجوم على طرابلس، وفقا لما ذكره متحدث باسم التلفزيون الحكومي الليلة الماضية.
ردا على هذا العرض، أعلن رئيس المجلس الانتقالي على عجل أن قواته ستوقف هجومها فقط إذا أعلن العقيد القذافي رحيله. وأضاف مصطفى عبد الجليل أن قوات المعارضة ستمكن العقيد القذافي وأبنائه من ممر آمن للخروج من البلاد. الشيء الذي يشكل دليلا آخر على أن قادة المجلس الانتقالي كانوا يحاولون طوال الوقت الوصول إلى اتفاق خياني مع النظام القديم.
لكن من الواضح أن هذه المشاعر لا تتقاسمها معهم القوات التي قاتلت لعدة أشهر من أجل الإطاحة بالقذافي. حيث استمرت تلك القوات، في تجاهل لتحركات “زعماءها”، في الضغط بالهجمات على جيوب المقاومة اليائسة لما تبقى من جيش القذافي. في غرب طرابلس اجتاحت قوات المعارضة مستودع لواء النخبة 32 التي يقودها نجل العقيد القذافي خميس. وفي وقت متأخر من الليلة الماضية استولت قوات المعارضة على عدد من الضواحي، ورفعت علمها الثلاثي الألوان على المباني العامة.
وبسرعة مذهلة تقدمت قوات المعارضة إلى قلب المدينة، دون أي مقاومة كبيرة، على ما يبدو، من جانب القوات الموالية للعقيد القذافي. ومع دخول قوات المعارضة إلى العاصمة ذابت القوات المدافعة عنها واختفت. في غضون ساعات، أعلن المتمردون أنهم استولوا على العاصمة بأكملها، باستثناء معقل القذافي.
أوهام القذافي
إن عدم وجود أي مقاومة جدية، بينما كانت الحكومة قد وعدت بالقتال في كل شارع، تأكيد بليغ عن عدم وجود أي قاعدة دعم للنظام المتداعي. وبدلا من المعارك الدامية في الشوارع، أظهرت الصور التلفزيونية أعداد كبيرة من الناس يخرجون إلى شوارع طرابلس لاستقبال قوات المعارضة. وقال أحد قادة قوات المعارضة إن الوحدة المسؤولة عن حماية القذافي وطرابلس قد استسلمت وانضمت إلى المعارضة، مما سمح لقواته بالدخول بحرية.
أفادت وكالة رويترز أنه تم القبض على نجل القذافي وولي عهده سيف الإسلام. ويبدو أن محمد القذافي، الابن البكر للقذافي، قد سلم نفسه لقوات المعارضة في طرابلس، وفقا لتقرير قدمته حكومة المعارضة. إن هذا الاستسلام الجبان يناقض بشكل صارخ الخطابات النارية السابقة والوعود بالقتال حتى الموت. إنها تدل على الإحباط التام في صفوف الزمرة الحاكمة.
ليست هناك أخبار عن القذافي نفسه. وفي أحدث بث صوتي له اعترف بأن قوى المعارضة تدخل طرابلس وحذر من أن المدينة ستتحول إلى بغداد أخرى. قال: “كيف يمكنكم أن تسمحوا بأن تصير طرابلس العاصمة تحت الاحتلال مرة أخرى؟ إن الخونة يمهدون الطريق لنشر قوات الاحتلال في طرابلس”.
أكد العقيد على أنه لن يغادر العاصمة وأنه سيلحق الهزيمة بقوات العدو. ودعا أنصاره إلى الخروج إلى شوارع العاصمة و”تطهيرها” من “الجرذان”. تدل هذه الكلمات على أن هذا العجوز مجنون أكثر حتى من أبنائه المستهترين المدللين. قد يكون بصدد التخطيط في ذهنه لنوع من الهجوم المضاد. لكن خطابه يذكر بإحدى الرسائل اليائسة التي بعث بها القيصر نيكولاس لجنرالاته في فبراير 1917. فمثله مثل القذافي كان يحرك جيوشا وهمية لم تعد موجودة إلا في خياله.
تبدو فرصة العودة في اللحظة الأخيرة مستبعدة. لكن وبالرغم من ذلك كثيرا ما خبأ القذافي العديد من المفاجآت، ومن الصعب معرفة ماهية الأوراق التي ما يزال يمتلكها بين يديه. من بين الاحتمالات هو انه قد يحاول تجميع صفوفه في المناطق التي ما يزال لديه فيها دعم بين بعض القبائل وإطلاق حرب عصابات. لكن حتى لو انه ما زال يمتلك بعض القوات المستعدة لإطاعة أوامره، فإنه مع مرور الساعات وإحكام قبضة قوات المعارضة على طرابلس، يصير مثل هذا الاحتمال بعيدا على نحو متزايد. إن مشاهد الجماهير وهي تحتفل بالنصر في الساحة الخضراء الليلة الماضية كافية للتعبير عن حقيقة الوضع. هذا هو المكان حيث كان أنصار القذافي يتجمعون مساء كل ليلة طيلة مدة الانتفاضة لحشد التأييد لزعيمهم. إن الأهمية الرمزية لهذه المشاهد واضحة.
الزعيم الليبي ليس رجلا غبيا، لكنه محاط منذ فترة طويلة بطغمة من الرجال الذين يوافقونه في كل شيء ولا يعارضونه مطلقا، مما قوى إحساسه بالقدرة المطلقة والقداسة. يبدو واضحا من كلماته وتصرفاته أنه كان يعيش في عالم متوهم لبعض الوقت. لقد حملت خطاباته نفس مؤشرات اللاواقعية مثل خطابات حسني مبارك في الأيام الأخيرة لحكمه.
قال اللورد أكتون: “السلطة مفسدة؛ والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة”. إنها لحقيقة موثقة جيدا في التاريخ أن الملوك والديكتاتوريين المطلقي السلطة يتعرضون في النهاية لشكل من أشكال الجنون. وعندما يصل شخص ما إلى الاعتقاد بأنه مطلق الجبروت، يصير الخط الفاصل بين ما هو حقيقي وما هو خيال غير واضح.
كلبية الامبريالية
ليبيا هي البلد الوحيد الذي تمكن فيه الامبرياليون من التدخل مباشرة خلال الأحداث التي اجتاحت العالم العربي في الأشهر الثمانية الماضية. تجربة محاولات التدخل في إيران في 1979-1980، علمت الأمريكان أن التدخل عسكريا في الثورة ليس فكرة جيدة.
وحتى عندما قرروا التدخل في ليبيا كانوا منقسمين. كان الأمريكيون مترددين، وخصوصا الجنرالات الذين تعلموا بعض الدروس المؤلمة في العراق وأفغانستان. وكان الفرنسيون والبريطانيون، لأسباب خاصة بهم، هم الأكثر حماسا للتدخل. لكن ومع ذلك، فإنهم هم أيضا صاروا في الآونة الأخيرة يعربون عن شكوك جدية بخصوص مشاركتهم في ليبيا. فخزائنهم خاوية، وجيوشهم مستنزفة القوى، ومواطنيهم ليسو متحمسين للمغامرات العسكرية الخارجية.
من أجل تبرير مغامرتهم الليبية، قدموا حجة “منع سقوط ضحايا من المدنيين”. وعلى أساس هذا العذر توصلوا إلى إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي لصالح العمل العسكري. كان هذا الهدف المحدود مجرد ورقة تين لإخفاء الهدف الحقيقي لقوى حلف الناتو– الذي هو الإطاحة بالقذافي. توهم البريطانيون والفرنسيون أنه سيكون كافيا إسقاط بعض القنابل ليعمل القذافي على الاستسلام. لقد كانوا مخطئين.
ليس من الضروري أن نشير إلى أن تدخل حلف الناتو قد تسبب في سقوط المزيد من القتلى المدنيين. وقد تفاخر الناطق الرسمي باسم حلف الناتو (امرأة بالطبع!) الليلة الماضية بأن طائرات الحلف قد هاجمت أكثر من 4000 هدف منذ أن بدأت العمليات قبل بضعة أشهر. ولم تكن هذه الأهداف عسكرية فقط، بل شملت مناطق مدنية. إنهم لم يقتلوا المدنيين فقط بل قتلوا أيضا مقاتلي المعارضة. إن الحوادث المتكررة لقيام طائرات حلف الناتو بقصف مواقع المعارضة تفضح زيف الدعاية التي تتحدث عن “القنابل الذكية”، التي من المفترض أن تضمن عدم حدوث أي إصابات بين المدنيين.
كانت حملة القصف الامبريالية عنيفة ووحشية. لقد حاولوا قتل القذافي وأفراد عائلته وحاشيته، الشيء الذي يتجاوز كثيرا الأهداف المعلنة للحملة. وعلى الرغم من الاحتجاجات الغاضبة من جانب الروس، فإن المتحدثين الرسميين في واشنطن ولندن وباريس لم يخفوا أن هدفهم هو تغيير النظام في طرابلس. إن هذه الممارسات تفضح في وقت واحد كلبية الامبرياليين والدور الرجعي لما يسمى بالأمم المتحدة، والتي توفر تغطية محترمة لقطاع الطرق لتنفيذ أعمالهم القذرة في كل مكان.
من الواضح أن تدخل حلف الناتو قد لعب دورا رئيسيا في تدمير القدرة العسكرية للقذافي من خلال القصف الجوي القاسي. كان حلف الناتو يغطي تقدم قوات المعارضة بشن غارات جوية على طرابلس، وأعلن عن تدمير 36 هدفا في نهاية الأسبوع. وادعى المتحدث باسم القذافي إبراهيم موسى أن 1300 شخص سقطوا خلال القتال في طرابلس يوم أمس. من دون هذا الغطاء الجوي كانت مهمة قوات المعارضة ستكون أكثر صعوبة. ومع ذلك، فإنه ليس صحيحا القول بأن حلف الناتو هو من انتصر في الحرب فمقاتلو المعارضة على الأرض هم من خاضوا الحرب وكسبوها. هذه حقيقة مهمة وهي التي ستحدد ما سيحدث في المراحل المقبلة.
في الواقع أعطت حملة حلف الناتو الدليل على محدودية القوة الجوية وحدها. فبعد شهور من بدء القصف لم تبد هناك أي علامة على تحقيق انتصار عسكري حاسم. خاف الزعماء في باريس ولندن أن يطول الصراع الليبي لسنوات دون نتيجة. إن تاريخ الحروب يبين أنه من المستحيل تحقيق الانتصار في حرب من قبل القوة الجوية وحدها. ففي نهاية المطاف تكسب الحروب من طرف القوات على الأرض. لكن بعد تجربة العراق وأفغانستان، صار آخر شيء يريدونه هو الانجرار إلى حرب على الأرض في ليبيا. وبالتالي فإنهم شعروا بالارتياح الكبير (وكذلك المفاجأة) بأنباء دخول قوات المعارضة إلى طرابلس.
قال الرئيس أوباما إن نظام القذافي قد وصل إلى “نقطة اللاعودة”. وصرحت الحكومة البريطانية أن نهاية الزعيم الليبي قد اقتربت، وحثته على الرحيل. لكن ابتهاج الامبرياليين ممزوج بشعور من القلق. فالنصر تحقق على يد قوات المعارضة على الأرض، والتي ما تزال أهدافها ونواياها الحقيقية غير واضحة. إنهم مسلحون، ويغمرهم شعور كبير بالثقة. إن هذا السيناريو يمثل حقل ألغام بالنسبة للامبرياليين، الذين صاروا منذ الآن يعبرون عن القلق من “فراغ في السلطة” بعد سقوط نظام القذافي.
كثيرا ما يحدث في الحروب أن تقاتل الجيوش المتحالفة ضد عدو مشترك لأسباب مختلفة تماما. ففي حرب الاستقلال الأميركية في القرن 18، مثلا، قاتلت فرنسا الملكية إلى جانب المستوطنين الأمريكيين ضد قوات التاج البريطاني. وقد ساعد التدخل العسكري لفرنسا بلا شك المستوطنين الأميركيين في تحقيق النصر. لكن لم يكن لأهداف فرنسا من وراء تلك الحرب أي قاسم مشترك مع أهداف المستوطنين الأميركيين.
كانت فرنسا منخرطة في صراع قوة مع انجلترا من أجل السيطرة على المستعمرات – بما في ذلك العالم الجديد. ولو سقط المستوطنون الأميركيون، تحت حكم فرساي، بدلا من حكم لندن، لكانت حالتهم ستكون أسوأ من ذي قبل. لحسن الحظ، حال التوازن الدولي للقوى – والثورة الفرنسية- دون حدوث ذلك.
موقفنا من الحرب
إن موقفنا من الحرب لا يستند إلى أسباب عاطفية ( من قبيل النزعة “الإنسانية” الكاذبة و”الديمقراطية” الخ، الخ) بل إلى مسألة ماهية المصالح الكامنة وراء الحرب في كل حالة بعينها. في هذه الحالة، يسعى كل من الامبرياليين وقوات المعارضة إلى الإطاحة القذافي. لكنهم يقومون بذلك لأسباب ليست مختلفة فقط بل متناقضة تماما.
أراد الإمبرياليون التخلص من القذافي لأنه كان مستقلا للغاية وغير مستعد لفعل كل ما يرغبون فيه في جميع الظروف. لقد أرادوا (وما زالوا يريدون) أن يضعوا محله عميلا أكثر مرونة وطاعة. فهم، قبل كل شيء، يريدون أن يضعوا أيديهم على ثروات ليبيا النفطية الهائلة. إن الجشع، وليس الإنسانية، هو دافعهم الحقيقي.
قدمت لهم الانتفاضة ضد القذافي التي بدأت في بنغازي فرصة أثمن من أن يضيعوها. تظاهروا بالتعاطف مع الشعب الثائر، بالضبط مثلما تظاهر ملك فرنسا بالتعاطف مع المستوطنين الأمريكيين. لكن تعاطفهم، مثله في ذلك مثل تعاطف أسرة البوربون، لم يكن حقيقيا. إنهم يخافون من الثورة العربية مثل الخوف من الطاعون، وسوف يفعلون كل ما في وسعهم للقضاء عليها.
طالما بقيت الحرب مشتعلة طالما بقيت هذه التناقضات مختفية. بل إن بعض العناصر بين صفوف قوات المعارضة قد طلبت من الناتو تصعيد تدخله. إن مثل هذه الأوهام في حسن نوايا الامبريالية ليست خاطئة فقط، بل هي في غاية الخطورة. إن الامبرياليين يتبعون أجندتهم الخاصة، والتي لا تتضمن تحقيق الانتصار للشعب الثوري في ليبيا، أوفي أي مكان آخر.
إلا انه بمجرد ما سينتهي القتال ستصعد هذه التناقضات إلى السطح. في الواقع، لقد كانت هذه التناقضات واضحة بالفعل حتى أثناء القتال. فليس من قبيل المصادفة أن حلف الناتو رفض تسليح المتمردين. لو أنهم كانوا مسلحين ومجهزين بشكل ملائم، لكان في إمكانهم أن يأخذوا طرابلس منذ أشهر. لكنهم كانوا مسلحين بأسلحة صغيرة فقط لا تتماشى مع دبابات القذافي ومدفعيته الثقيلة.
كان هذا أحد أسباب بطء تقدم قوات المعارضة، التي هزمت مرارا من قبل قوات القذافي المسلحة ومجهزة بشكل كاف. لكنه لم يكن السبب الوحيد. فالمجلس الانتقالي الغير المنتخب والذي نصب نفسه بنفسه، المستقر في بنغازي، والذي يفترض أنه يتكلم باسم الثورة، على الرغم من أن أحدا لم يعطه أبدا الحق في القيام بذلك، استمر طوال الوقت يسعى جاهدا للتوصل إلى اتفاق مع القذافي، وعرقلة تطور الثورة. وهذا ليس مستغربا بالنظر إلا أنه يضم عددا كبيرا من مؤيدي القذافي السابقين في صفوفه. لقد تحققت انتصارات قوات المعارضة ليس بفضل هذا المجلس بل بالرغم منه.
ماذا الآن؟
لأكثر من 40 عاما حكم القذافي ليبيا بقبضة من حديد. والآن تم تحطيم هذه القبضة. السؤال الكبير الآن هو: ماذا بعد؟ لقد تحقق هذا الفوز الصعب عن طريق بذل الدماء والتضحيات من جانب الشعب الثوري، وخاصة من جانب الشباب. لا أحد يعرف كم عدد الذين قتلوا في حرب الأشهر الستة الدموية، لكن الأرقام سوف تكون بالتأكيد عشرات الآلاف. قد تكون هناك رغبة في الانتقام من جانب قوات المعارضة، على الرغم من أن الحديث يدور الآن عن المصالحة الوطنية والوحدة.
هذه لحظة خطيرة بالنسبة للثورة الليبية. وبينما يرقص الناس ويهتفون في الشوارع، تتجمع السحب الداكنة. وما تم تحقيقه بالدم يمكن أن يسلب بسهولة بالحبر. يمكن أن تتم سرقة ثمار النصر من بين أيدي الناس الذين حصلوا عليها في النضال.
وراء الكواليس يقوم التجار بالمساومات، ويقوم المحامون بالخدع، ويقوم السياسيون بالمناورة. هؤلاء الناس لم يقاتلوا ولم يتعرضوا للموت، إلا أنهم سيتقدمون الآن إلى الأمام بسرعة لاحتلال مركز الصدارة.
سوف يدفع الوصوليون والانتهازيون، الذين كان عدد منهم موالين للقذافي حتى وقت قريب، جانبا أولئك الشباب الذين غادروا بنغازي في سيارات قديمة مهترءة، والذين ليس لديهم من سلاح تقريبا إلا الحماس الثوري، لمواجهة مرتزقة القذافي المسلحين تسليحا جيدا. سوف يجد هؤلاء الشباب أنفسهم مهمشين في الصراع من أجل السلطة.
وطوال الوقت، سوف يحلق الامبرياليون مثل النسور الجائعة لالتقاط الغنيمة. سوف يقولون: “انظروا نحن أصدقائكم. تذكروا كيف ساعدناكم؟”. سيجيد الشعب الليبي صنعا بالابتعاد عن مثل هؤلاء ” الأصدقاء “!
كل التناقضات التي كانت مختفية في سياق النزاع المسلح ستظهر الآن إلى السطح. إن أهداف الحرب بالنسبة للامبرياليين وعملائهم في المجلس الانتقالي تتعارض مع أهداف الشعب الثوري. وسوف يكون هناك استقطاب حاد على نحو متزايد داخل معسكر المعارضة.
فيما يتعلق بالمصالحة الوطنية، لن يخدم مصالح الثورة تقديم بعض أكباش الضحية من بين الشخصيات الثانوية في النظام القديم. بل يجب ألا تكون هناك أي مصالحة مع كل أولئك الذين ارتكبوا جرائم فظيعة ضد الشعب. إن الشعب الليبي هو الوحيد الذي يمتلك الحق في محاكمة هؤلاء المجرمين. لا ينبغي أن يسلموا إلى ما يسمى بمحكمة العدل الدولية، بل يجب أن يحاكموا علنيا من قبل المحاكم الشعبية الثورية.
أكدت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لقناة ان بي سي نيوز أن سيف الإسلام موجود بين قبضة قوات المعارضة. وكانت المحكمة الجنائية الدولية أصدرت في يونيو الماضي مذكرات اعتقال بحق القذافي وابنه سيف الإسلام ورئيس الاستخبارات الليبية عبد الله السنوسي، على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بعد أن أحال مجلس الأمن الدولي المسألة الليبية إلى المحكمة في فبراير.
هذا مثال آخر على النفاق وازدواجية المعايير من قبل الامبرياليين. ليس هناك من شك في أن هؤلاء الرجال هم طغاة وأيديهم ملطخة بدماء شعوبهم. لكن يمكننا أن نقول الشيء نفسه عن سلطان البحرين، الذي قمع بوحشية الحركة المؤيدة للديمقراطية بمساعدة نشطة من جانب الجلادين السعوديين. أين هي التهم الموجهة ضد هؤلاء السادة؟ وأين هي الاتهامات ضد الطبقة السائدة في إسرائيل؟ أو ضد توني بلير وجورج بوش؟ إن الامبرياليين لا يهتمون بـ”العدالة” و”الديمقراطية” و”الإنسانية” إلا بقدر ما يخدم ذلك مصالحهم.
علينا أن نعارض كل محاولة للامبرياليين للتدخل في الشؤون الداخلية للشعب الليبي. فلتترك للشعب الليبي مسألة تسوية مشاكله بنفسه دون تدخل من رجال العصابات الامبرياليين! إن أي أوهام حول حسن نوايا الإمبرياليين سيكون خطئا قاتلا على مستقبل الثورة الليبية.
لم يكن رجال العصابات في باريس ولندن وواشنطن أبدا مهتمين بمشاكل الشعب الليبي. وليست نزعتهم ” الإنسانية” سوى مزحة سيئة المذاق. إن ما يهمهم هو وضع أيديهم على النفط الليبي. إنهم يغرسون مخالبهم في المجلس الانتقالي، الذي سيكون أعضائه على أتم الاستعداد لبيع ثروات ليبيا لأصدقائهم في حلف الناتو، ما داموا سيتقاضون عمولة مناسبة.
إن موقفنا السياسي يتمثل في الدفاع عما يلي: حصول ليبيا على الاستقلال التام والوحدة الوطنية! وهذا هو مطلبنا الأول. ووقف التدخل الامبريالي! يجب أن يكون الشعب الليبي حرا في أن يقرر شؤونه بنفسه دون أي تدخل خارجي!
ثانيا، نحن نطالب بالديمقراطية الكاملة الآن: من أجل جمعية تأسيسية ثورية لوضع دستور جديد يقوم على إعطاء كل الحقوق الديمقراطية للشعب: الحق في الإضراب والتظاهر والتنظيم، والحرية الكاملة في التعبير والتجمع، وكل الحقوق الأخرى التي ستمكن العمال الليبيين من تنظيم أنفسهم وتطوير الصراع الطبقي إلى أقصى حد.
ثالثا، يجب ألا توضع أي ذرة ثقة في المجلس الانتقالي. لقد هُزم نظام القذافي من قبل الشعب المسلح، ويجب أن تبقى السلطة بين أيدي الشعب المسلح، وليس اغتصابها من قبل الوصوليين. فليتم تشكيل لجان ثورية في كل مدينة وبلدة وقرية، وفي كل مصنع، وفي كل مدرسة وكل جامعة. يجب أن يتم التنسيق بين هذه اللجان على المستوى المحلي والإقليمي والوطني. وحدها اللجان الثورية من ستضمن عقد جمعية تأسيسية ثورية حقيقية وديمقراطية.
من الطبيعي بالنسبة للشعب الاحتفال بالنصر. لكن من الخطورة بمكان أن نحتفل قبل الأوان. يجب على الشعب الثوري أن يبقى حذرا للدفاع عما تم تحقيقه، وإلا فإن النصر يمكن أن يفلت من بين أصابعه. إن الثورة الليبية لم تنته بعد. وما تزال العديد من التجارب والصعوبات تنتظرنا.
لو أن هذه الثورة امتلكت القيادة التي تستحقها، لكان من الممكن أن تكون نقطة انطلاق لإعادة إحياء شاملة للثورة العربية، بدءا من المغرب الكبير: يمكنها أن تقدم دفعة قوية للثورة في تونس والجزائر والمغرب، وقبل كل شيء في مصر. لكن الثورة المصرية تبين كيف انه من السهل، في ظل غياب القيادة المناسبة، أن يحرف مسار الثورة وتختطف من قبل عناصر غريبة عنها.
تحتوي الثورة الليبية على العديد من العناصر المتناقضة، ويمكنها أن تذهب في عدد من الاتجاهات المختلفة. إن نقطة ضعفها الرئيسية، كما هو الحال في تونس ومصر، هو غياب العامل الذاتي، أي: الحزب والقيادة الثوريين. وهذا العامل المفقود سيجعل الثورة أكثر تعقيدا، لكن الثورة تمتلك أيضا قوى عظيمة.
لقد أظهر الشعب الثوري، والشباب بوجه خاص، شجاعة هائلة وقوة وعزيمة. يجب علينا أن نستند إلى هذه المؤهلات ونناضل من أجل إيصال الثورة إلى نهاية ناجحة، ولن تكون الثورة ناجحة إلا عندما يستولي العمال والفلاحون على السلطة بين أيديهم.
لم يناضل الشعب الليبي من أجل إزالة عصابة فاسدة لمجرد استبدالها بعصابة أخرى، أكثر جشعا. يا عمال ويا شباب ليبيا! لقد أعطيتم الدليل على شجاعتكم ومقدرتكم في الممارسة. لا تسمحوا لأي كان بانتزاع النصر من بين أيديكم. لا تثقوا إلا في أنفسكم، وفي قوتكم، وفي منظماتكم الثورية!
لم يكن إسقاط القذافي سوى الخطوة الأولى. إن الثورة الليبية الحقيقية بدأت الآن.
آلان وودز
الاثنين: 22 غشت 2011
عنوان النص بالإنجليزية:
After the fall of Tripoli: The way forward for the Libyan Revolution