فاز حزب المحافظين الإسلاميين النهضة بأغلبية المقاعد (90 من أصل 217) في انتخابات الجمعية التأسيسية في تونس، يوم 23 أكتوبر. وقد أصابت هذه النتيجة العديد من اليساريين بالحيرة والارتباك. البعض منهم يقولون إن هذا يمثل ميلا نحو اليمين. بينما يتساءل آخرون كيف يمكن للثورة التونسية أن تنتهي إلى انتصار الجناح اليميني. ويزعم بعض “الحداثيين” أن “الانتخابات كانت سابقة لأوانها”.
وقد أعطت وسائل الإعلام الغربية نظرة منحازة وجد مشوهة عن هذه الانتخابات. وحتى قبل إعلان النتائج كانت العناوين تقول: “بلغ الإقبال على الانتخابات في تونس أكثر من 90%”، و”نسبة مشاركة واسعة النطاق في انتخابات تونس التاريخية”؛ و”تونس: يلاقي التصويت في الانتخابات إقبالا كبيرا”؛ و”إقبال ضخم في انتخابات الربيع العربي بتونس”؛ و”الإقبال على الانتخابات التونسية تجاوز كل التوقعات”.
الامتناع المكثف عن التصويت
أخيرا – وبعد فترة تأخير طويلة وإلغاء العديد من المؤتمرات الصحفية- تم الإعلان عن النتائج الرسمية المؤقتة، التي ظهر أنها ليست مؤقتة. هناك 7.569.824 تونسي يحق له التصويت. من بين هؤلاء لم يتقدم سوى 4.123.602 ( أي 54,47٪) لتسجيل أسمائهم في قوائم التصويت. ومن بين هؤلاء المسجلين لم يذهب إلى مراكز الاقتراع سوى 3.205.845 (أي 77,75%)، بالإضافة إلى مشاركة 496.782 شخص لم يكونوا مسجلين في التصويت. فتكون النتيجة 3.702.627 ناخب، مما يمثل 42% – وهو ما يعتبر رقما بعيدا جدا عن “مهرجان الديمقراطية” الذي تحدثت عنه وسائل الإعلام البرجوازية، وبالتأكيد أقل كثيرا من نصف النسبة المحتفى بها: “90%”.
سبب هذا الامتناع الكبير عن التصويت واضح. فبعد تسعة أشهر من الثورة التي أسقطت ديكتاتورية بن علي الممقوت، يعتقد عدد كبير من التونسيين أنه على الرغم من أنهم حصلوا الآن على “الديمقراطية”، فإنه لم يتغير شيء في الواقع. إن الثورة التونسية، التي بدأت في سيدي بوزيد يوم 17 دجنبر 2010، وأدت إلى الإطاحة ببن علي بفضل النضال الثوري الجماهيري في 14 يناير من هذا العام، كانت نضالا يجمع بين المطالب السياسية (الحرية والديمقراطية والقضاء على الفساد) وبين المطالب الاجتماعية والاقتصادية (التشغيل، توفير مستقبل للشباب، والتعليم، والإصلاح الزراعي، ومكافحة نهب ثروات البلاد من قبل زمرة الطرابلسي الحاكمة). ولم تتم الاستجابة لأي من تلك المطالب الاجتماعية والاقتصادية، والشعب لا يثق بأن أيا من الأحزاب الحالية سيستجيب لها.
ويوضح استطلاع للرأي (انقر هنا) أجري في غشت الماضي من قبل المعهد التونسي للاقتراع ومعالجة البيانات الإحصائية (ISTI)، هذا الواقع بشكل جلي جدا. أعلن أكثر من 60% أنهم “غير راضين” عن الوضع الاقتصادي للبلد (مقابل 57% في شهر أبريل)، وقال 70% إنهم غير راضين عن أداء الأحزاب السياسية (مقابل 64% في أبريل). وعندما طلب منهم ذكر أسماء الأحزاب التي “يقدرونها”، أجاب 57% منهم: “لا أحد”. وكان مستوى رفض كل الأحزاب السياسية عاليا حتى بين أولئك الذين قالوا في غشت إنهم سيصوتون، 65% من بينهم قالوا إنهم لم يقرروا بعد لصالح من سيصوتون، وحتى بين أولئك الذين قرروا، فقد عبر 47% أنهم قد يغيرون اختيارهم.
وقد ظهر مزاج الغضب والسخط على ما حققته الثورة خصوصا في المدن الداخلية، التي كانت معاقل الثورة، وأكبر بين صفوف الشباب العاطلين عن العمل الذين كانوا في طليعتها.
وقد تعرف مراسلو جريدة الحزب الشيوعي الفرنسي L’ Humanité على هذا المزاج بشكل جيد للغاية من خلال التحدث إلى الناس في عدد من البلدات والمدن في الجنوب الغربي. في سيدي بوزيد، قابلوا الشاب جامع بوعالق، 24 عاما، وهو بائع فاكهة في السوق مثل البوعزيزي، الشاب الذي بإضرام النار في نفسه مما أدى إلى اندلاع الثورة، وقال لهم: “بعد 14 يناير صار في إمكاننا التحدث بحرية أكبر، هذا صحيح، ولكن وضعيتي لم تتغير. وحياتي ما تزال صعبة للغاية”. وقال لهم انه لن يصوت: “أنا لا أثق في أي حزب. لا أعتقد في وعود من دون ضمانات”. وقال نادر حمدوني، أحد الخريجين العاطلين عن العمل، الذي يرأس واحدة من القوائم المستقلة العديدة التي تشارك في الانتخابات: “ما حدث في سيدي بوزيد ليس ثورة، بل انتفاضة اجتماعية. لكن بعد ذلك، لم يتغير شيء. والشباب يشعرون بالإحباط نفسه، وباليأس نفسه”.
ونرى في الرقاب، المعقل الآخر للثورة، نفس القصة. نعمان بن محمد قدري (34 عاما)، خريج عاطل عن العمل يتقاضى 45 أورو في الشهر لإعالة أسرته المكونة من ثلاثة أفراد، 30 أورو منها تصرف لشراء الدواء لوالده المسن، فلا يتبقى لهم سوى 12 سنتا للشخص الواحد في اليوم. وقد أقام مخيما أمام قاعة المحافظة طيلة 200 يوم للمطالبة بوظيفة. قال أيضا إنه لن يصوت: “إن الثورة التونسية لم تغير أي شيء بخصوص انعدام المساواة. وأنا لن أصوت طالما لم أنل حقي في العمل”. وفي مكان أخر قال نمري بسام، الذي يعمل حارس أمن خاص في منتجع الحمامات: “لن تكتمل الثورة طالما لم نحصل على عمل”.
ليس هذا من نوع ذلك الامتناع عن التصويت الذي يأتي من عدم الاهتمام بالسياسة، بل هو امتناع يأتي أساسا من رفض الأحزاب السياسية القائمة، وشعور قوي بأن الثورة لم تحقق أهدافها. وقد وجه صديق نمري، سفيان، العاطل بدوره عن العمل، كلمات قوية لـ “كل تلك الأحزاب التي انتشرت على الساحة مثل الدمى للتحدث باسمنا”، مهما كانت نتيجة الانتخابات، فإن “هناك حاجة لثورة ثانية”.
“العلمانية” أو القضايا الاجتماعية؟
إن نتائج الانتخابات تحكي، حتى مع هذا المستوى العالي من الامتناع عن التصويت، قصة مثيرة للاهتمام. أحزاب “اليسار التقليدية” سجلت نتائج أسوأ بكثير مما كان متوقعا. إذ لم يحصل الاشتراكيون الديمقراطيون (التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات) سوى على 21 مقعدا، بينما حصل الماويون السابقون الذين تحولوا إلى حزب يسار الوسط الديمقراطي التقدمي على 17 مقعدا، بينما حصل القطب الديمقراطي الحداثي (ائتلاف حول الحزب الشيوعي سابقا: حزب التجديد حاليا) على 5 مقاعد فقط، من أصل ما مجموعه 217 مقعدا. وكل هذه الأحزاب كانت قانونية في ظل حكم بن علي، وقدمت له عمليا واجهة “ديمقراطية” لحكمه. ولم تلعب تلك الأحزاب أي دور في الثورة، وقد شاركت جميعها في مختلف الحكومات “الانتقالية” التي تشكلت بعد سقوط بن علي، والتي أطاحت بها الحركة الجماهيرية تباعا.
في الواقع، كان الحزب “التقدمي” الوحيد الذي حقق نتائج جيدة نسبيا في الانتخابات هو المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي كانت محظورا في ظل بن علي، وكان زعيمه في المنفى القسري ولم تتسخ أياديه بالمشاركة في أي من الحكومات المؤقتة. حصل حزب المؤتمر من أجل الجمهورية على 30 مقعدا، وجاء في المرتبة الثانية بعد النهضة (بعد إلغاء عدد من قوائم العريضة الشعبية).
لقد تمت معاقبة جميع الأحزاب التي سبق لها أن لعبت دور “المعارضة الموالية” للنظام القديم، ولم تنجح أي من محاولات بعث حزب جديد من رماد حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم سابقا.
علاوة على ذلك، فإن هذه الأحزاب “التقدمية” ركزت كل حملتها حول مسألة “التهديد الإسلامي”، الذي تمثله النهضة وحول الدفاع عن “الحداثة” و”العلمانية” (اللائكية)، ولم تذكر أي شيء عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحة، التي أدت إلى اندلاع الثورة، والتي تأتي في أعلى قائمة الأولويات بالنسبة للجماهير التونسية. وقد بدا الإصرار على العلمانية والحداثة كأساس للهجوم ضد النهضة، بالنسبة للعديد من الناس، شبيها جدا بالخطاب الذي كان يستخدمه كل من بورقيبة وبن علي.
معدل البطالة يساوي 18% بين عامة السكان و37% بين الشباب، وهناك أكثر من 180.000 من خريجي الجامعات دون وظيفة.
وكما قال أحد الكتاب في موقع نواة الالكتروني، خسرت المعركة حول هذه القضايا «مسبقا، حيث أن الشعب التونسي لم ينزل إلى الشوارع للمطالبة بالمساواة في الحق في التناوب على الحكم أو حرية التعبير للفنانين. لقد جاء التونسيون من الرقاب للمطالبة بالحق في العمل، وتكافؤ الفرص، أي بعبارة أخرى، الحق في حياة كريمة هنا! كانوا ينتظرون رسالة من الأحزاب اليسارية في ما يتعلق بمسائل فرص العمل، والعدالة الاجتماعية، والنموذج الاقتصادي المطلوب أو توزيع الثروة. ولكن الانتظار كان بدون جدوى ».
وقد كانت أسوأ هزيمة هي تلك التي تعرض لها الحزبان الذين كانا أكثر شراسة في الهجوم على النهضة، بناء على منظور لا طبقي “للحداثة”، (الحزب الديمقراطي التقدمي والقطب الديمقراطي الحداثي). كان من شأن حملة تربط بين مطالب واضحة وبين هذه القضايا أن يسمح للمنظمات اليسارية بالفوز بقسم كبير من الناس الذين صوتوا لصالح النهضة، والذين لم يكن تركيزها على مسائل الهوية (“الحداثة” في مقابل “العروبة والإسلام”، الخ) ليثيرهم.
وقد تجلى ذلك بوضوح في النجاح الغير المتوقع لقائمة العريضة الشعبية، لزعيمها عضو النهضة السابق ورجل الأعمال وصاحب قناة تلفزية الهاشمي حمدي، الذي طرح برنامجا ديماغوجيا يعد بتوفير الرعاية الصحية المجانية للجميع والنقل العمومي المجاني للمسنين والتنمية الاقتصادية، وقبل كل شيء بدفع تعويض عن البطالة للجميع بقيمة 200 دينار، واستخدم صورته كشخص ينحدر من سيدي بوزيد، أي من المناطق الداخلية، وليس من “نخبة تونس العاصمة”. وقبل استبعاد ستة مقاعد من لائحتها بسبب “مخالفات”، فازت العريضة بـ 28 مقعدا، مما يجعلها ثالث اكبر حزب، في المرتبة الأولى في مكان انطلاق الثورة بسيدي بوزيد، حيث حصلت على 59% من الأصوات. وفي النهاية، حصلت العريضة على 19 مقعدا.
النهضة تطمئن الشركات الكبرى والإمبريالية
في سياق هذا النوع من الحملات الانتخابية، تمكن حزب النهضة، الذي لم يلعب أي دور في الثورة التي أطاحت ببن علي، من لعب أوراقه بقوة: باعتبارها الحزب الذي كان ينشط في السرية، والذي عانى من القمع الشديد في ظل بن علي، وباعتباره الحزب الذي كان ضحية لهجمات نخبة الأثرياء “الحداثيين” في تونس، والذي كان “يدافع عن حق ارتداء الحجاب”، المهدد كما يزعم من طرف “العلمانيين” المواليين لفرنسا، الخ. وفوق كل ذلك، يمتلك هذا الحزب شبكة قوية من الناشطين في صفوف الطبقة العاملة وفي المناطق الفقيرة في جميع أنحاء البلاد (وقد أتى في المرتبة الأولى في جميع الدوائر الانتخابية باستثناء سيدي بوزيد)، وميزانيات ضخمة بتمويل من رجال أعمال وعناصر من الطبقة الوسطى، فضلا عن الدعم والدعاية من جانب دولة قطر (من خلال قناة الجزيرة) وربما السعودية، إضافة إلى كونه قادرا على استخدام المساجد للدعاية السياسية. وفي الوقت نفسه، خاطب برنامج النهضة جماهير الفقراء بوعود خلق فرص العمل والحد من التفاوت بين الأقاليم.
وقد مثل التصويت للنهضة أيضا، وإلى حد معين، تعبيرا على درجة من التعب بين قطاعات من السكان. فبعد نحو عام من التوتر المستمر والنضال، واختلال السير العادي للحياة اليومية، والتعبئة الاجتماعية والفوضى والمواجهات وغيرها، والتي لم تحدث أي تغيير جوهري فيما يخص فرص الشغل والتعليم ومستويات المعيشة، وفي مواجهة عدم وجود أي بديل جدي من جانب اليسار لكيفية تحقيق تلك الأهداف، بدأت بعض الفئات الأقل نشاطا من الناحية السياسية تتوق لنوع من الاستقرار، والعودة إلى الحياة الطبيعية.
ويجب أن نضيف أيضا عاملا آخر هو الارتباك الناجم عن الانقسام الشديد بين مختلف الأحزاب السياسية والقوائم المتنافسة مع بعضها البعض (655 قائمة مستقلة، و830 حزبا سياسيا و34 ائتلافا)، إضافة إلى استخدام نظام تمثيل نسبي معقد للغاية مما أدى إلى ذهاب 1.392.657 صوتا (37.6% من الذين أدلوا بأصواتهم) إلى أحزاب وقوائم لم تحصل على أي تمثيلية، وهو الرقم الذي ليس بعيدا عن رقم 1.5014.18 الذي حصلت عليه النهضة (40.5%٪ من الذين أدلوا بأصواتهم).
بمجرد أن حصلت النهضة على 41% من المقاعد في الجمعية التأسيسية، سارع قادتها إلى طمأنة الشركات الكبرى والإمبريالية. ذهب زعيم الحزب الغنوشي على الفور للاجتماع مع وفد من بورصة تونس ووعدهم بالمزيد من العروض من الشركات العمومية (أي المزيد من الخصخصة). وقال معاذ الغنوشي، الخبير الاقتصادي ونجل الزعيم: “أردنا أن نؤكد لهم أننا في صفهم وأننا نريد أن نلعب دورا ايجابيا في الاقتصاد التونسي”.
بعد الاجتماع مع الزعماء الإسلاميين، انتعشت البورصة مجددا. وفي الوقت نفسه، عقد الأمين العام للحزب، والمرشح لرئاسة الوزراء، حمادي الجبالي، اجتماعا مع ممثلي اتحاد أرباب العمل UTICA. حيث طمأنهم بعدم تطبيق أي حكم إسلامي يتعارض مع القطاع السياحي، وأن “السوق يحتل مكانة مركزية في فلسفة النهضة الاقتصادية، كما هو واضح في برنامجها”.
وفي الوقت نفسه، سارعت النهضة، التي لا تمتلك أغلبية مطلقة في الجمعية التأسيسية، إلى عرض تشكيل ائتلاف على حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل.
لم يشعر الرأسماليون التونسيون ولا الإمبرياليون الأجانب بأي قلق بخصوص هذه النتائج، وفي واقع الأمر كانوا يعملون على اتصال مع قادة جميع الأحزاب السياسية، بما في ذلك النهضة، قبل الانتخابات. وكان الأمين العام لحزب النهضة قد سافر إلى الولايات المتحدة واجتمع مع عضوي مجلس الشيوخ ماكين وليبرمان، لطمأنتهم ولا شك على التزام الحزب بـ”الديمقراطية الغربية” و”اقتصاد السوق”.
ونقلت رويترز عن دبلوماسي غربي في تونس قوله: «سنتتبع باهتمام بالغ ما سيطبقونه، لكن ليس لدينا أي سبب للقلق على المستوى الاقتصادي. القلق الأكبر الذي يواجهنا هو التأخر الكبير في تشكيل الحكومة… إن الكثير من مؤيديهم ينحدرون من طبقة التجار الذين يحرصون على نهج سياسة اقتصادية ليبرالية وليست لديهم أية نية في تغيير السياسة الاقتصادية للحكومات السابقة». في واقع الأمر، كانت الإمبريالية تعمل بالفعل مع النهضة قبل الانتخابات، وبالتحديد الطبقة السائدة في فرنسا، التي لديها مصالح اقتصادية وسياسية هامة في تونس. وقد ساعدت على صعود النهضة.
ووفقا لمحلل سياسي تونسي استشهدت به صحيفة L’Humanité: «زار مبعوثون من الاليزيه وكاي دوأورساي (رئاسة الجمهورية ووزارة الشؤون الخارجية) تونس بانتظام خلال الأشهر الأخيرة، وجمعوا بين اللقاءات مع كوادر من الإسلاميين وعشاءات عمل مع رجال أعمال نافذين. لكن في الأسابيع القليلة الماضية توضح الموقف بشكل أكبر: فقد صوتت فرنسا لصالح النهضة».
تحاول الامبريالية الفرنسية استعادت مكانتها في هذا البلد الشمال أفريقي، والتي تعرضت لضربة موجعة بسبب علاقتها الوثيقة والحميمية مع بن علي، ويرون في قادة النهضة أفضل ضمانة لمصالح الرأسمال في تونس.
موجة من الإضرابات والاحتجاجات الاجتماعية
والآن، ستضطر حكومة النهضة الائتلافية الجديدة إلى مواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي أشعلت الثورة التونسية، قبل أقل من سنة، والتي صارت الآن أكثر سوءا، ولا يمكن حل أي منها في ظل الرأسمالية. وسيكون عليهم أيضا القيام بذلك في مواجهة شعب لا يثق في أي من الأحزاب السياسية، والذي يشعر بأن ثورته قد سرقت أو انحرفت عن مسارها، لكنه يدرك أيضا حجم قوته الثورية. لقد شهدت الأشهر التسعة الأخيرة انفجار موجة من الإضرابات والاحتجاجات في جميع قطاعات المجتمع وما تزال مستمرة.
اندلعت إضرابات في القطاع المصرفي، وفي مصانع النسيج، وفي مكاتب البريد، والسكك الحديدية، والمطارات، وبين صفوف القضاة وضباط الشرطة، الخ. للمطالبة بطرد المديرين الفاسدين والمستبدين، والزيادة في الأجور وتحسين ظروف العمل. عند بداية العام الجامعي اندلعت أيضا موجة من الإضرابات والمظاهرات والاعتصامات في مختلف الكليات والجامعات للمطالبة بطرد عمداء ومدراء، معظمهم على علاقة بنظام التجمع القديم.
لم تمر سوى أيام قليلة على انتخابات الجمعية التأسيسية، حتى اندلع إضراب لمدة ثلاثة أيام لعمال البريد، وإضراب وطني لعمال الفنادق والعاملين في الوكالات السياحية، إلى جانب مظاهرات كفاحية في العديد من المدن (مثل هذه في سوسة). كما انخرط عمال شركة التبريد ومعمل الجعة بتونس هم أيضا في إضراب، وكذلك العاملون في شركة النفط الايطالية ايني (ENI)، الذين يطالبون بعقود عمل دائمة. تشعر الطبقة العاملة والشباب بالثقة ويقومون بتنظيم النضال الثوري المباشر لتحقيق أهدافهم.
ومن بين هؤلاء نجد الخريجين العاطلين عن العمل الذين لعبوا دورا رئيسيا خلال كل مسار الثورة. وقد عقد اتحاد الخريجين العاطلين عن العمل (UDC) مؤخرا اجتماعه الوطني في سوسة بمشاركة 500 شخص يمثلون الآلاف من جميع أنحاء البلاد. وقد نجحت مظاهرة مشتركة مع مناضلين نقابيين يساريين في جمع أكثر من 10.000 شخص في تونس العاصمة، يوم 15 غشت، للمطالبة بالوظائف، والعدالة الاجتماعية، ومعاقبة المسؤولين في النظام القديم.
في سياق اقتصاد يسير ببطء، وانخفاض في الاستثمار الأجنبي المباشر يعادل 28%، والركود العالمي للرأسمالية الذي يضرب بشكل رئيسي أوروبا، التي هي الوجهة الرئيسية لصادرات تونس، والمصدر الرئيسي للاستثمارات الأجنبية والسياح، ستجد النهضة نفسها في وضع بدون مخرج.
إن اندلاع مواجهات جديد مسألة حتمية، وخلالها سوف تصعد القضايا الطبقية إلى الواجهة. وقد وضح ناخب من القصرين، يبلغ من العمر 27 سنة، صوت لصالح النهضة، وأحد العاطلين عن العمل الذين قابلتهم صحيفة L’Humanité ذلك قائلا: “إذا لم يف (قائد النهضة) الغنوشي بوعوده، فإنه سيلاقي نفس مصير بن علي”. وقادة النهضة في الواقع واعون بذلك، وهذا هو أحد أسباب حماسهم لتشكيل حكومة ائتلافية. إنهم لا يريدون أن يظهروا باعتبارهم المسؤولين الوحيدين عن السياسات التي يستعدون لتطبيقها.
البديل الثوري مفتقد
إن ما هو مفتقد في ظل هذا الوضع، وكان مفتقدا في ذروة الحركة الثورية، هو منظمة ثورية قادرة على تقديم بديل واضح لإنجاز المهام الديمقراطية والاقتصادية للثورة. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال مصادرة مصالح الشركات الكبرى والإمبريالية، والقيام بقطيعة واضحة مع الرأسمالية والنظام القديم.
حصل الحزبان الأكثر تقدما من بين الأحزاب اليسارية في تونس، حزب العمال الشيوعي التونسي وحركة القوميين العرب اليسارية، حركة الوطنيين الديمقراطيين، على ثلاثة مقاعد ومقعدين على التوالي. المشكلة الرئيسية التي تواجه حزب العمال الشيوعي التونسي هو أنه عجز في كل اللحظات الحاسمة للثورة عن أخذ زمام المبادرة. وعندما كانت السلطة في الشوارع ونظمت اللجان الثورية في الأسفل، وكانت الحكومات المؤقتة، التي تلت سقوط بن علي، معلقة في الهواء، كان يجب على حزب العمال الشيوعي التونسي أخذ المبادرة لعقد اجتماع وطني للجان الثورية بهدف الاستيلاء على السلطة. لكن بدلا من ذلك، استعادت القوى الرأسمالية زمام المبادرة من خلال تنظيم كافة أنواع “لجان حماية الثورة” و”الهيئات العليا لتحقيق أهداف الثورة” والتي وجهت كل شيء في اتجاه انتخاب رئيس للجمعية التأسيسية لضمان استقرار البرجوازية.
لقد تضمن برنامج حزب العمال الشيوعي التونسي في هذه الانتخابات العديد من المطالب التقدمية المهمة، لكن هذه المطالب لم تكن جزءا من برنامج أعم للنضال من أجل الاشتراكية. في الواقع، لم تتم الإشارة إلى كلمة اشتراكية في أي جزء من البرنامج كله. وفي الوقت الذي نجد فيه الحزب يدعو إلى “تأميم القطاعات الإستراتيجية الأساسية”، ووضعها تحت “التسيير الديمقراطي للعمال والأجراء العاملين فيها”، نجده يتحدث عن «تنمية متوازنة بالاعتماد أولاً على تطوير القطاعات الإنتاجية الأساسية… وعصرنتها وفق خطة شاملة لتسديد حاجات الشعب المادية والمعنوية والنهوض بالمجتمع والانتقال بتونس إلى مرتبة البلدان المتقدمة». المشكلة هي انه لا يمكن التخطيط للاقتصاد إلا إذا صارت وسائل الإنتاج ملكية عامة، وهو الأمر الذي يتناقض مع برنامج حزب العمال عندما يتحدث عن «إخضاع القطاع الخاص لمقتضيات التنمية الوطنية وحاجات الشعب التونسي: تنمية الإنتاج، توفير مواطن الشغل، احترام الحقوق الأساسية للعمال والأجراء، احترام البيئة». في واقع الأمر، في ظل الرأسمالية، تعمل الشركات على أساس تحقيق الأرباح، وليس من اجل تلبية احتياجات الشعب التونسي، والطريقة الوحيدة التي يمكن بها إجبارها على أن تتصرف بطريقة أخرى هي: تأميمها تحت الرقابة العمالية. ويجب أن تتم الإشارة إلى هذا بوضوح.
هذا التردد في التحدث علنا عن الاشتراكية، والحديث بدلا من ذلك عن “اختيارات اجتماعية شعبية وتقدمية”، والنقاش حول إسقاط مصطلح “الشيوعي” من اسم الحزب (والدخول في الانتخابات تحت اسم “البديل الثوري” بدلا من اسم حزب العمال الشيوعي التونسي الأكثر شهرة)، تظهر بوضوح أوجه القصور في نظرية المرحلتين الستالينية. هذه هي الفكرة القائلة بأن هناك مرحلة “تقدمية” و”وطنية” و”ديمقراطية” منفصلة للثورة، من الضروري إنجازها قبل أن يصبح من الممكن النضال من أجل الاشتراكية وسلطة العمال. ويصير هذا أكثر وضوحا عندما يتعلق الأمر بالبرنامج السياسي للحزب الذي يتحدث عن إقامة “نظام جمهوري، ديمقراطي، شعبي، وعصري” باعتباره الهدف الرئيسي للثورة. وسيتحقق هذا من خلال “نظام برلماني يقوم على التمثيل النسبي” و”استقلال القضاء”، وفصل الدين عن الدولة والسياسة، و”ضمان حقوق الأفراد واحترام حقوق الإنسان”، الخ… أي بعبارة أخرى عبر الديمقراطية البرجوازية!
ما يجب استيعابه هو أنه لا يمكن تلبية المطالب الديمقراطية والاجتماعية للثورة التونسية، وتحقيق الحرية، وفرص العمل والعدالة الاجتماعية، وما إلى ذلك، في إطار الرأسمالية والديمقراطية البرجوازية. لم يكن نظام بن علي مجرد نظام ديكتاتوري، بل كان نظاما ديكتاتوريا رأسماليا، يحمي أرباح شركات القطاع الخاص المحلية والمتعددة الجنسيات. من أجل تحقيق الشعب التونسي حقا لأهداف الثورة، والحرية والديمقراطية الحقيقية، يجب أن يتم الاستيلاء على الاقتصاد من قبل الشعب وإدارته من العاملين أنفسهم لصالح الأغلبية في المجتمع. إن هذا الطموح الديمقراطي الأساسي، يتناقض بشكل مطلق مع مصالح الطبقة الرأسمالية.
إن المهام الوطنية والديمقراطية للثورة التونسية ترتبط ارتباطا وثيقا بالمهام الاشتراكية والأممية. تبدأ الديمقراطية الحقيقية بمصادرة ثروة عائلة الطرابلسي وجميع أركان نظام بن علي، ومصادرة الشركات المتعددة الجنسيات التي استفادت من نظامه وتعاونت معه، والتنصل من أداء الديون الخارجية.
لا يمكن لمثل هذا البرنامج أن ينفذ من قبل هذه الجمعية التأسيسية، التي أنشئت من قبل الطبقة الحاكمة بهدف واضح هو وضع حد للتحركات الثورية في البلاد، وترسيخ شرعية المؤسسات الديمقراطية البرجوازية.
خلال الأشهر القليلة المقبلة، ستدخل تطلعات العمال والشباب الثوري في تونس في صراع مع حكومة النهضة الائتلافية، مما سيحضر لانطلاق مرحلة جديدة من الثورة. إن المهمة الرئيسية هي إعداد بديل ثوري يكون في حجم المهام التي ستطرحها الانتفاضات الجديدة.
خورخي مارتن
الاثنين: 7 نوفمبر 2011
عنوان النص بالإنجليزية:
Tunisian Constituent Assembly elections: Ennahda victory prepares further uprisings