اجتاحت تونس منذ أسابيع، موجة من الاحتجاجات المناهضة للحكومة، فيما سمي بانتفاضة سياسية. نزل الشباب إلى الشوارع في الأحياء العمالية بالمدن وفي المناطق الفقيرة، مطالبين بتغييرات اقتصادية وسياسية ودخلوا في اشتباكات مع قوات البوليس.
انطلقت الحركة يوم الجمعة 15 يناير من سليانة، وهي بلدة فلاحية صغيرة على بعد 130 كيلومترا من العاصمة تونس، في أعقاب تداول شريط فيديو يظهر فيه ضابط شرطة وهو يعتدي على راع سيئ الحظ دخلت أغنامه بطريق الخطأ إلى فناء مبنى حكومي. كان هذا الاعتداء بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الشباب، ليس فقط في سليانة بل أيضا في بقية أنحاء البلد. وسرعان ما امتدت الاحتجاجات إلى تونس العاصمة و14 مدينة أخرى، خاصة في مناطق وسط وجنوب البلاد التي تعاني من ارتفاع مستويات الفقر وبطالة الشباب.
لا يبدو أن للحركة الاحتجاجية أي قيادة أو برنامج محدد بشكل واضح، لكن الشيء المشترك بينها جميعا هو المطالبة بالإصلاحات الأساسية: توفير مناصب الشغل وتحسين الخدمات العامة ووضع حد لعنف الشرطة، وكلها مطالب متواضعة جدا. لقد عانى الشباب سنوات من الكساد الاقتصادي والإذلال على يد الدولة، ولا يجدون الآن أي خيار آخر سوى النزول إلى الشوارع مرة أخرى. لكن الحكومة، التي تقوم على أساس نظام رأسمالي في حالة انهيار نهائي وتدافع عنه، عاجزة وغير مستعدة لتلبية أي من تلك المطالب العادلة للمحتجين.
أزمة الرأسمالية التونسية
الرأسمالية التونسية غارقة بالفعل في أزمة عميقة، وذلك قبل سنوات عديدة من انتشار فيروس كورونا. وقد تراكم الإحباط بسبب تراجع مستويات المعيشة والاقتطاعات المستمرة في النفقات العمومية التي فرضها صندوق النقد الدولي. ثم جاءت جائحة كورونا فزادت الوضع سوءا، حيث تعرضت السياحة، التي تعتبر أهم قطاع في الاقتصاد التونسي، للشلل. وهكذا انكمش الناتج المحلي الإجمالي التونسي بنسبة 9% عام 2020، فقامت الطبقة السائدة بوضع كامل عبء هذه الأزمة على كاهل الجماهير.
استمر الوضع الاقتصادي في البلاد يتدهور بسرعة منذ شهور. وصلت نسبة البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما إلى 36%، وقد أجبر هذا الوضع اليائس العديد من الشباب على الهجرة. في عام 2020 تم الإبلاغ عن وصول 12.883 مهاجرا إلى إيطاليا قادمين من تونس، مقابل 2654 في 2019! يجد الشباب أنفسهم مجبرين على الاختيار بين العيش في الفقر في تونس أو ترك كل شيء وراءهم والمخاطرة بحياتهم من أجل عبور البحر الأبيض المتوسط. وهذا الاحتمال الكئيب هو أفضل ما يمكن للرأسمالية أن تقدمه للشباب التونسي.
ردت الحكومة التونسية على الاحتجاجات باستعمال القمع الشديد ومحاولة تشويه صورة الحركة. في 19 يناير، وبعد خمسة أيام على انطلاق الاحتجاجات، خرج رئيس الوزراء هشام المشيشي بخطاب متلفز عبر فيه عن تفهمه لمطالب المتظاهرين، مؤكداً في الوقت نفسه على أن “الفوضى مرفوضة وسنواجهها بقوة القانون”. لكن تصرفات الدولة لا تشير إلى وجود تعاطف كبير مع مطالب المحتجين، بينما تم، من ناحية أخرى، تطبيق القانون وفرض النظام بالقوة. وقد نشرت العديد من مقاطع الفيديو والصور التي تظهر قوات الشرطة وهم يضربون المتظاهرين السلميين ويعتدون عليهم. وتم اعتقال أكثر من 1000 متظاهر، تتراوح أعمار معظمهم بين 15 و20 عاما، ونشر الجيش في العديد من الأحياء العمالية لمساعدة الشرطة في قمع الاحتجاجات. يوم الاثنين 18 يناير كانت قوات الحرس الوطني تقوم بدوريات في شوارع حي التضامن، الذي هو أحد أكبر أحياء الطبقة العاملة في تونس العاصمة، بالسيارات المدرعة.
وفي عرض نموذجي للاحتقار المتعجرف الذي تحسه النخبة تجاه الجماهير، رفض المتحدث باسم الوزارة، خالد الحيوني، تسمية المعتقلين بالمتظاهرين، وأطلق عليهم، بدلا من ذلك، اسم أشخاص متورطين في “أعمال إجرامية ونهب“. لقد حاولت الحكومة ووسائل الإعلام التونسية جاهدة تشويه سمعة الحركة وعزلها عن بقية الطبقة العاملة، من خلال تجاهل مطالب المحتجين والتركيز بدلا من ذلك على الاشتباكات العنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن، وعلى بعض حالات النهب. يأتي هذا الاتهام من جانب مسؤولين في الدولة متورطين بعمق في نهب خزائن الدولة وجيوب المواطنين. وعلى أي حال فإن النهب الذي يشيرون إليه هو نتيجة ثانوية مفهومة للاحتجاجات التي تحدث في سياق الفقر والجوع واليأس الاجتماعي. إن سياسات الحكومة التي تضع أرباح الرأسماليين قبل احتياجات الشعب، تتحمل المسؤولية الحقيقية عن أي نهب يحدث.
وقد أوضح الرئيس قيس سعيد بوضوح أين تكمن أولويات الحكومة من خلال دعوته للمتظاهرين إلى العودة إلى منازلهم والامتناع عن استهداف الممتلكات. إن الحكومة، بصفتها ممثلة للرأسماليين، لا تنوي نهائيا حل القضايا الملحة للجماهير، لكنها بدلا من ذلك تهتم بحماية الملكية الخاصة لأسيادها.
تجربة عام 2011
تتزامن هذه الحركة الجماهيرية الجديدة مع الذكرى العاشرة للثورة التي أطاحت بالدكتاتور بن علي. كان فراره من البلاد، في 14 يناير 2011، قد أطلق موجة من الحركات الثورية التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبعد أن خانت الحكومة التونسية آمال الجماهير، أرادت تجنب إحياء ذكرى ثورة 2011. تشعر الحكومة بأن الأرض تهتز تحت قدميها وتخشى أن يؤدي الاحتفال بالذكرى إلى اندلاع حركة واسعة. لذلك فرضت إغلاقا وطنيا لمدة أربعة أيام، يمتد من الخميس 14 يناير إلى غاية يوم الاثنين 18 منه.
لكن هذه المناورة لم تمنع انفجار الغضب الجماهيري المكبوت. استمر بركان هائل من الغضب والإحباط يتراكم طيلة سنوات، وصارت مسألة انفجاره حتمية عاجلا أم آجلا. تم تسجيل أكثر من 6500 احتجاج خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2020 وحده. وكل تلك الاحتجاجات كانت ضد السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة. كما أن ضعف إقبال الناخبين على صناديق الاقتراع شكل أيضا مؤشرا على أن الجماهير ترفض النخبة السياسية: في 2014 كان الإقبال 68%، وبحلول 2019 تضاءل إلى 42%! من الواضح أن شرعية النظام وصلت مستويات متدنية.
تمكنت الطبقة العاملة التونسية، خلال ثورة 2011، من انتزاع مكتسبات ديمقراطية مهمة، مثل حرية التعبير والبرلمان البرجوازي، وهي الحقوق التي وفرت للجماهير التونسية قنوات جديدة لتطوير نضالاتها. لكن تلك الحقوق الديمقراطية تبقى محدودة، طالما بقي النظام الرأسمالي سليما. إن الرأسمالية التونسية هشة للغاية وطبقتها السائدة ضعيفة للغاية وتعتمد على رأس المال الأجنبي، مما يجعلها عاجزة عن تقديم أي تنازلات جدية للجماهير. لا تستطيع الرأسمالية التونسية تقديم تنازلات اقتصادية أو حقوق ديمقراطية حقيقية للجماهير.
نجح الشباب والعمال في الإطاحة ببن علي عام 2011، وهو الإنجاز الذي ألهم الجماهير المضطهَدة في المنطقة وكل العالم. لكن ورغم الإطاحة بالدكتاتور وأقرب المقربين منه، استمر الاقتصاد وجهاز الدولة في أيدي الطبقة الرأسمالية. وهكذا بقيت كل التناقضات المادية التي أدت إلى اندلاع ثورة 2011 قائمة. وما تزال المشاكل الاجتماعية والاقتصادية دون حل.
لذلك فإن الجماهير التونسية مضطرة الآن إلى التحرك، مرة أخرى، من أجل تغيير حياتها وتغيير المجتمع من حولها. تُظهر تجارب ثورة 2011 أن الطريقة الوحيدة أمام العمال والشباب لتغيير المجتمع وفقًا لمصالح الأغلبية هي استهداف السبب الجذري لجميع مشاكلهم، أي النظام الرأسمالي نفسه.
ما العمل؟
لقد مرت 10 سنوات على ثورة 2011، وما تزال المشاكل الملحة للجماهير في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون حل. وكما قال أحد المتظاهرين لمراسل صحفي: «النظام بأكمله يجب أن يرحل… سنعود إلى الشوارع وسنستعيد حقوقنا وكرامتنا التي استولت عليها النخبة الفاسدة بعد الثورة»، جيل جديد من الشباب يدخل الآن إلى ساحة النضال. لقد ورث هذا الجيل الجديد دروس ثورة 2011، وبالتالي فإن الثورة المستقبلية لن تكون تكرارا للثورة السابقة، بل ستكون على مستوى أعلى.
لكن وعلى الرغم من أن الشباب يمكنهم أن يلعبوا دورا ثوريا مهما، فإنهم بحاجة إلى الارتباط بالطبقة العاملة، التي تمتلك، بفعل دورها في عملية الإنتاج، القوة الاقتصادية في المجتمع. إذا شاركت الطبقة العاملة في الحركة بوسائلها النضالية الخاصة بها، عن طريق الإضرابات واحتلال المصانع، سوف تكنس الحكومة بسهولة.
تُظهر تجارب ثورة 2011 أن التغييرات الطفيفة على جهاز الدولة غير كافية، من الضروري إسقاط الأساس الاقتصادي للمجتمع، أي: النظام الرأسمالي نفسه. وحده استيلاء العمال على السلطة السياسية والاقتصادية في المجتمع، والبدء في إعادة هيكلة المجتمع على أسس اشتراكية، ما سيمكن من تلبية مصالح الأغلبية وإقامة مجتمع ديمقراطي حقيقي. وحده النضال من أجل الاشتراكية ما سيمكن المجتمع من الخروج من المأزق الحالي.
أندرياس نورجارد
25 يناير 2021
تعليق واحد
تعقيبات: بعد عشر سنوات: دروس من الثورة المصرية – ماركسي