مصر: هل حدث فجأة؟

يوم 15 غشت 2013 نشرت منظمة اليسار الثوري المصرية على موقعها الالكتروني، مقالا هاما حول الأحداث الأخيرة التي شهدتها الثورة المصرية، بعد قيام الجيش بفض اعتصام الإخوان المسلمين في رابعة العدوية والنهضة، مع ما خلفه ذلك من ضحايا في الجانبين.

بالنظر لأهمية التحليل الذي تضمنه المقال المذكور، ولتعميم الفائدة وفتح نقاش بين عموم الماركسيين حول ما جاء فيه وحول مختلف القضايا التي تطرحها الثورة المصرية، نعمل هنا على إعادة نشره بالكامل، لنقوم بعد ذلك بنشر قراءة هيئة تحرير ماركسي في المقال كبداية لنقاش ماركسي بناء.


خرجت فرق واسعة من المولولين على دماء الإخوان التي أريقت في فض اعتصامي رابعة والنهضة، وهددتنا بفاشية العسكر التي ستستدير للانقضاض علينا بعد أن تفرغ من سحق الإخوان، وكأن الإخوان كانوا حائط دفاع عن الثورة وعن حرية الجماهير، غض النائحون الطرف تماماً عما اقترفه الإخوان من جرائم قتل وتعذيب وترويع منذ توليهم السلطة وحتى الآن، تناسوا تحالفهم مع العسكر وفلول نظام مبارك في مواجهة الثورة، لم يتحدثوا عن الهبة الرجعية المسلحة للإخوان في ربوع البلاد منذ 30 يونيو، الفض المسلح لاعتصامات جماهيرية بيد الإخوان وأنصارهم، وأخيراً الهجمات الطائفية في صعيد مصر ضد الكنائس والمدارس ودور الأيتام المسيحية، وحدثونا عن حرمة الدم ومصريته، وكأن لا مصرية ولا حرمة لغير الإخوان.

إن تراكماً كثيفاً من القمع والغدر اقترفه الإخوان ضد الحركة الجماهيرية والقوى الثورية، جعل الجماهير تتشوق للخلاص منهم بأي ثمن. ومن ثم راحت صيحات النحيب والبكاء المصطنع على “الدم المراق” سدى، وإن بقى صوت النائحين مزعجاً.

الجماهير بين الإخوان والعسكر

بالأمس القريب احتشدت الجماهير في مواجهة المجلس العسكري، حتى جعلت استمراره في الحكم مستحيلاً، وكان الحل الذهبي لنظام مأزوم، وعسكر مهزومين، أن يمسك الإخوان مقاليد الحكم، وكان حلاً مريراً فرضته الظروف على النظام حتى لا ينهار.

ولكن الإخوان، الذين حملتهم أكتاف الجماهير ودماء الشهداء إلى كرسي الحكم، سرعان ما استداروا ضد الجماهير، تحولوا إلى رأس رمح الثورة المضادة، استخدموا العضوية الواسعة لتنظيمهم في قمع الاحتجاجات الجماهيرية، توارى العسكر بذكاء من المشهد وتركوا الإخوان يلفون الحبل، بالقمع تارة وأخطاء الإدارة تارة أخرى، حول رقابهم، وكان الإخوان مسرفي الكرم في القمع وسوء الإدارة، هكذا حفرت السلطة الإخوانية قبرها بيدها، وكان الوضع كله في انتظار التصريح بالدفن على وجه السرعة.

وعلى إثر مبادرة “استمارة تمرد” احتشدت الجماهير وتهيأت للاطاحة بالإخوان، مثل ذلك فرصة جديدة للعسكر ليدخلوا مسرح الأحداث كمخلص، فيمنعوا بذلك تطور وتجذر الحركة الجماهيرية التي قد تغير المعادلة تماماً، وفي ذات اللحظة يستعيدوا هيمنتهم – في ظل الفراغ في السلطة – ويرتبوا البيت البرجوازي مجدداً لصالح استقرار واستمرار النظام.

هكذا جاءت بيانات السيسي التي هللت لها الجماهير، وبذلك تحولت صورة العسكر من قوة قمع لفرسان تحرير، ولكن خطئاً استراتيجياً رافق هذا المشهد، اكتفى العسكر بإعلان عزل مرسي، قبل ودون المساس بالقوى التي يستند إليها، لم يفض فوراً اعتصام رابعة وتعتقل القيادات الميدانية، لم تمس الكوادر الوسيطة أو الأموال، وانتظر العسكريون أن تتفاوض الجماعة على ما يشبه خروجاً آمناً وعدم مصادرة لوجودهم السياسي، رغم ان الإخوان أعلنوا تمرداً مسلحاً من اليوم الأول، فبدلاً من التصدي لهم، في هذا الظرف المناسب، وقع الجيش في تردد مميت، فتحت ضغط تردده الخاص، وضغوط الأمريكان، تُركت العصابات الإخوانية تستعرض قوتها وسلاحها، وتعبئ أنصاراً وتكسب متعاطفين، تقيم المتاريس وترتب الصفوف، وتشن هجوماً تلو الآخر، وتصرخ مستحثة الدول الغربية للتدخل، وهي تهدد المجتمع كله بتكرار السيناريو السوري أو العراقي.

الخطيئة الثانية للعسكر بعد التقاعس “العمدي” عن التصدي لهجمات عصابات الإخوان، إنهم أرادوا قطع الطريق مجدداً أمام احتمالات مبادرة الجماهير بالتصدي، وذلك بطلب “التفويض”، خرجت الجماهير تفوض – بلا لزوم – الأجهزة للتصدي، في هذا السياق تشكلت حكومة هزلية مؤقتة، كان رئيسها الفعلي هو السيسي نفسه وكل الآخرون مجرد ديكور سياسي.

مع توسع الصيحات وزيادة استعدادات الإخوان، والخوف من تغير المزاج الجماهيري نتيجة تقاعس الأجهزة، لم يكن هناك بُد من هذا التصدي، مهد له العسكريون بمبادرات تسوية سلمية أمام الرأي العام في الداخل والخارج، ووقع الإخوان في “شرك” التشدد إذ صمموا على عودة مرسي رئيساً أولاً، هكذا فشلت المساعي وأطلق العسكريون عدة صيحات تحذيرية عوملت باستخفاف، وكان الهجوم.

لم يكن هناك شيء مفاجئ في كل ذلك، فسير الأحداث كله كان ينبئ بحدوث هذا الهجوم، ومع تشدد الإخوان، وتسلح الطرفين – مع الفارق بالطبع – وطبيعة مسرح الأحداث حيث يحتشد الآلاف مكشوفين بدرجة كبيرة، كان من الطبيعي حدوث المذبحة، وسقوط القتلى بالمئات.

فيم البكاء؟

لم يكن الإخوان – على الأقل لحظة السقوط – أحد طلائع قوى الثورة، لقد أطيح بهم وهم يمثلون السلطة البرجوازية ورأس رمح الثورة المضادة، تواطئوا مع الفلول ومع العسكريين وأجهزة الأمن، سمحوا بقتل الثوار ومارسوه بأيديهم. قوة المقاومة الجماهيرية فقط هي التي عطلت مشروع إقامة حكومة دينية تشبه ملكيات العصور الوسطى المطلقة، كانوا يحملون استبداداً سياسياً وملامح سلطة شديدة القمعية، وسياسات اقتصادية لا تختلف عن مبارك أو نظم الافقار الجماهيري والخراب الاقتصادي العولمي، ومقاومتهم – بعد العزل – هي في الجوهر دفاع عن هذا المشروع الاستبدادي والمعادي للجماهير، ليس العسكر قوة تحرير بالقطع، إنهم الحرس العام للنظام، ومشروع الإخوان لم يكن ليساعد على استقرار هذا النظام، لقد أدت سياستهم إلى ظهور مخاوف بين الفلول والعسكر ومن ثم تصارع في الخفاء ذئاب النظام، العسكري والديني، ومع تداعي الأحداث خرج هذا الصراع إلى العلن، وأضحى صراعاً مسلحاً.

خطيئة الذئب الإخواني أنه كشر عن أنيابه – بعد خلعه – في مواجهة الجماهير، ولم يقتصر على صراعه ضد أجهزة الحكم، أرادوا الضغط على العسكر بهجمات مست عمداً الجماهير، أغلب معارك ما بعد العزل دارت بين إخوان وجماهير.

هكذا تعاظم الميل الجماهيري للتخلص من الإخوان (العصابات المسلحة) وبدا العسكريون وكأنهم تمثيل لذلك الميل الجماهيري- مرة أخرى نؤكد على طبيعة العسكر المعادية استراتيجياً للجماهير – ولم يكن الإخوان في السنة الأخيرة بالنسبة للجماهير سوى خونة الثورة، رأس رمح الثورة المضادة، عصابات رجعية وعدوانية مسلحة، وإذا نحينا العواطف المبتذلة والمصطنعة جانباً ليس ثمة ما يدعو للبكاء عليه، وسواء زاد حجم “الدم” أو نقص، ليس ذلك معياراً لاتخاذ موقف موضوعي، أو للدفاع عن الإخوان، وإلا كنت بدرجة ما على الأقل تبرر قتلهم للمواطنين أو تحبذ – ضمناً – هجومهم على الكنائس والمستشفيات.

لنترك بكاء الثعالب جانباً ونناقش التحذير من الفاشية العسكرية.

في صراع بين يمين ويمين، أختار أن أخوض معركتي

الثورة المصرية رغم حيويتها، إلا أنها، وكأثر لسياسات وقمع مبارك، لم تجهز بديلاً ثوريا تدفع به الثورة فعلاً إلى الحكم، ومن ثم كان منطقياً أن تنجر الجماهير خلف هذا البديل أو ذاك من داخل النظام، لقد رحبت بسلطة المجلس العسكري ابتداءاً وهتفت لها، ثم رحبت بوزارة شرف وهتفت لها، وبعد ذلك رحبت بسلطة الإخوان وهتفت لها، ومجدداً رحبت بعودة العسكريين – غير المباشرة – للحكم وهتفت لها، واستراحت لتشكيل حكومة “مؤقتة” تضم إصلاحيين رغم عجزها وصوريتها.

وفي كل مرة تكتشف فيها ان هذه السلطة أو تلك لا تمثل فعلاً أهداف الجماهير، أو معادية لها، تنقلب عليها وتخرج إلى الشوارع ولا ترجع إلا بعد أن تسقطها.

لكن النخب الثورية في صفوف هذه الجماهير ظلت، في كل تلك الجولات الانتفاضية، أقل قدرة على جذب الجماهير إلى تبني أهداف جذرية، أو تشكيل بديل ثوري، أو تنظيم الجماهير لتخوض معركتها الخاصة في مواجهة بدائل النظام، بل إن بعض تلك النخب عززت أمل الجماهير في هذا البديل البرجوازي أو ذاك، بما في ذلك الإخوان وغيرهم من البدائل الدينية.

إن هذه النخب لم تكن على مستوى مسئوليتها التاريخية في لحظات هامة لتشكل حلفاً ثورياً يمكنها من خوض المباراة بكفاءة مناسبة – ولو إلى حد ما – لهذه اللحظة التاريخية.

وبما ان ذلك لا زال هو الواقع، يظل بطل المشهد الحقيقي جماهير حيوية ومصممة، بلا حزب أو شكل سياسي – جبهة ثورية مثلاً – يقودها ويرشدها وينظم صفوفها. ومن ثم يظل خطر بديل استبدادي – وإن شئت سمه فاشياً – قائماً، تلك الثورة لا تسمح للنظام أن يستقر، ولكنها حتى الآن غير قادرة على أن تنتصر.

لم يكن بقاء اعتصامات الإخوان ليمنع قدوم بديل معادي للثورة، ما دامت الجماهير لا تتقدم مع بديلها الثوري. إن الحركة الثورية للجماهير حتى الآن تحل مشكلاتها بالقطعة وليس مرة واحدة فهذا شأن الثورات المنتصرة، إن بقاء عصابات الإخوان واعتصاماتها ربما كان ليشغل أجهزة الدولة بعض الوقت فقط، لكنه أيضاً كان سيعطي سلطة الدولة ذرائع عديدة لفرض الاستبداد، تحت اسم مكافحة الإرهاب، والأشد خطورة على الثورة كان ماثلاً في امكانية “التسوية السلمية” التي كان من شأنها أن توحدهم – بدرجة ما – في مواجهة الجماهير، حيث كانت الدولة ستستخدم، ليس فقط الأمن المركزي، ولكن أيضاً عصابات الإخوان المسلحة في مواجهة الحركة الجماهيرية، لقد شهدنا بروفات محدودة لهذا الأمر أثناء حكم الإخوان.

الجوهري في هذا المشهد ليس اقتتال ذئاب النظام، أو الدموع المصطنعة على الدم وحرمته، بل الإجابة على سؤال؛ كيف نقوي وننظم الحركة الجماهيرية ليس فقط لتواجه الاستبداد التالي، وهو أمر كان سيحدث في جميع الأحوال ما دامت الجماهير تنجر وراء بدائل النظام، ولكن أيضاً لتشق طريقها الخاص. أي بديل برجوازي قادم سيحمل معه حزمة من السياسات سرعان ما ستثير الجماهير مجدداً، لا يحمل أيٌ منهم حلولاً ولكن المؤكد أنه سيحمل أزمات، لذلك سيقدم مادة مشتعلة للوضع الذي يريد أن يبرده، قوة وتصميم الحركة الجماهيرية حتى الآن هو ما يعزز الأمل في امكانية انتصار هذه الثورة، وبدون حزب ثوري يظل ذلك مجرد أمل.

هزيمة الإخوان في مصر ستكون لها تداعيات شديدة الأهمية في النظام الإقليمي وربما الدولي، ذلك يعزز فرص انتصار الجماهير بقوة.

السير في خط بناء الحركة الجماهيرية والتنظيم الثوري، جبهات المعارك الثورية المستقلة عن البدائل البرجوازية أو المعارضة البرجوازية، السعي لتنظيم وتوجيه الموجة الاضرابية الصاعدة، إلتقاط كل حدث وكل خطأ للنظام، وكل أزمة تصنعها سياساته وتحويلها لفرصة للتعبئة ضده وتشهير واضح بالرأسمالية ككل، مستثمرين في ذلك عجز بدائلها (العسكري، الديني، الليبرالي) وإفلاسهم.

التقدم نحو بديل اجتماعي اشتراكي ثوري واضح، ذلك السير الثوري والمستقل هو ما يمهد فعلاً لوضع قطار الثورة على قضبانه الصحيحة، وليس أبداً بكائيات العجائز على دم الذئاب مستندين إلى صورة هنا أو فيديو هناك، هذا أو ترنحوا خلف الذئاب، هذا أو تتركوا الجماهير لعفويتها والنظام لطرح بدائل في أقنعة جديدة، هذا أو تلعنكم الجماهير التي تخليتم – فعلاً – عنها رغم وفرة خطبكم الجماهيرية.

اليسار الثوري
صباح الخميس 15 أغسطس 2013

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *