الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / شمال إفريقيا / المغرب / المغرب: موقف الماركسيين من حملة مقاطعة بعض المنتجات الاستهلاكية

المغرب: موقف الماركسيين من حملة مقاطعة بعض المنتجات الاستهلاكية

وصية برتولد بريخت: “كلما كان عليك أن تقيم حدثا، ضع نفسك مباشرة وبصراحة في موقع طبقتك، ومن كل مسألة اتخذ موقفا”

انتشرت في الآونة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي حملة لمقاطعة بعض المنتجات على رأسها الحليب والبنزين والمياه المعدنية. حملة استهدفت بالأساس ثلاثا من أكبر الشركات المنتجة لهذه المواد… ويبدو من خلال المؤشرات الأولية أن الحملة بدأت تحقق نجاحا، سواء في ما يخص انخراط المواطنين، وخاصة الشباب، في تنفيذها عمليا من خلال توقفهم عن استهلاك منتجات تلك الشركات، أو من خلال النقاشات التي بدأت تدور حولها ليس فقط في مواقع التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي، بل كذلك في أماكن العمل والمقاهي وغيرها من الأماكن.

نحن الماركسيون معنيون، بطبيعة الحال، بهذا النقاش، فهو يهم مسألة غلاء الأسعار والاحتكارات الكبرى والاستغلال، ويهم أبناء طبقتنا من العمال والشباب الباحث عن بديل ثوري، بالتالي علينا أن ندلي برأينا في الموضوع ونوضح موقفنا من الحملة وتصورنا لتطويرها.

لقد انقسم اليساريون، على ما يبدو، إلى فرق شتى في ما يخص الموقف من هذه الحملة، فبعضهم انخرط فيها بدون قيد ولا شرط، استنادا إلى عدالة مطلبها المباشر والذي هو تخفيض أسعار البنزين والحليب. فالشعب المغربي يعاني من الارتفاع المهول في أسعار تلك المواد، حتى بالمقارنة مع الأسعار المعمول بها في العديد من البلدان المتقدمة وليس فقط المشابهة للمغرب. ثم إن تلك الشركات الثلاث تقف على رأس الاحتكارات التي تفرض غلاء الأسعار وتستفيد منه بتحقيق أرقام معاملات بالملايير…

بينما رفض البعض الآخر موقف المقاطعة، وشكك في دوافعها والجهات الداعية لها، باعتبار احتمال استغلالها (وهذا أكيد) من جانب الشركات المنافسة الأخرى لتوسع نصيبها في السوق، واستغلالها من طرف أحزاب سياسية (العدالة والتنمية أساسا) في صراعها ضد خصومها (حزب “ت. و. أ”، وزعيمه أخنوش، الذي يعتبر في نفس الوقت صاحب أكبر شركة لتوزيع البنزين)، ناهيك عن أنها حملة قد تستعمل لتحويل انتباه الجماهير عن الأسباب العميقة وراء الغلاء، والتي تتجاوز الشركات الثلاث، إلى السياسات العامة القائمة على فرض التقشف وتطبيق أوامر المؤسسات المالية الدولية وما إلى ذلك.

يعتبر هذان الموقفان دليلا على التيهان الذي يعانيه الكثير من يساريينا كلما واجهتهم قضية مستجدة، لا يجدون لها وصفة مسبقة في كتبهم المحنطة، وهذا أكبر ثمن يقدمونه لابتعادهم عن الماركسية وطريقتها العلمية القائمة على المادية الجدلية والتحليل الملموس، بعيدا عن الصيغ الجاهزة التي تدفعهم إما إلى السير في ذيل الحركة يجرون وراء كل موضة جديدة، أو إلى العزلة عن الجماهير والواقع خلف شعارات قصوية، تقوم على الحركة “كما يجب أن تكون” وليس الانطلاق منها كما هي في الواقع، بنواقصها وأوهامها وأخطائها، والعمل بصبر على تخصيبها بالوعي والتنظيم.

نحن مقتنعون بأن هذه الحملة سوف تستغل من طرف الشركات الخصوم من أجل الإشهار لنفسها (والمثير للسخرية هو أنها ستقوم بذلك رغم أنها جميعها تبيع بنفس الثمن وتتعامل مع عمالها نفس التعامل وتحقق أرباحا ضخمة من وراء ذلك)، وسوف تقدم نفسها بديلا وتعمل كل جهدها من أجل اقتطاع نصيب أكبر في السوق على حساب الشركات المستهدفة بحملة المقاطعة.

ومن الأكيد أيضا أن خصوم حزب أخنوش، التجمع الوطني للأحرار، سوف يحاولون أن يستفيدوا من الحملة سياسيا بفضحه باعتباره المستفيد الأكبر من الاحتكار والغلاء، ويظهروا أمام الجماهير باعتبارهم مهتمين بمصلحتها ومنخرطين في الدفاع عن مطالبها، الخ. بل ليس من المستبعد نهائيا أن تكون بعض تلك الشركات والأحزاب هي من يقف وراء الدعاية الواسعة للحملة، عبر المواقع الالكترونية التي يمتلكونها.

كما أن النظام عموما، وخاصة القصر، يكون دائما في حاجة إلى تنبيه بعض رموزه إلى هشاشة موقعهم وأن كل قوتهم ليست سوى صرح من ورق يمكن أن ينهار في أية لحظة لولا الدعم من الدولة. مما يضمن استمرار ولائهم ويحد من طموحاتهم وغرورهم.

لكن كل حركة يمكن استغلالها بالطريقة المشار إليها أعلاه. فإذا اندلع أي إضراب في أي معمل سوف يؤدي بالتأكيد إلى الإضرار بمصالحه وسيخدم في المقابل مصلحة خصومه، لكنه سيكون من الجريمة أن يستعمل أي كان هذا الواقع من أجل معارضة رغبة العمال في القيام بالإضراب. كما يمكن للنضال ضد هذا الحزب أو ذاك، خاصة إذا كان في الحكومة، أن يخدم مصلحة خصومه السياسيين الذين سيسارعون إلى الاستفادة من الحركة لتحقيق بعض المكاسب، لكن لا يمكن لعاقل أن يستند إلى هذا لكي يبرر عدم الانخراط في النضال ضد ذلك الحزب وسياساته وقادته، الخ.

كما أن جزئية مطالب الحركة ليست مبررا للامتناع عن المشاركة فيها، إذ هذه هي طبيعة كل حركة في كل مكان وكل زمان. الجماهير لا تنهض إلى النضال، منذ الوهلة الأولى، على أساس برنامج شامل مكتمل، بل تنهض للنضال ضد هذا المظهر من مظاهر الظلم أو ذاك، ضد هذا المسؤول أو ذاك، ولأجل مطالب جزئية، الخ.

إن ما يهمنا هو أن مطلب الحركة الحالية يستهدف الغلاء والاحتكار… يستهدف تلك القضايا بشكل غامض وناقص وسطحي، هذا صحيح، لكنه يستهدفها على أي حال. وما يهمنا كذلك أن الحركة بدأت تتسع وتتعمق، ولم تعد نخبوية، وهذا ما سيمكنها من أن تتخذ منطقا خاصا بها ومسارا خاصا بها، سيتجاوز (في حالة ما إذا استمرت ولم يتم إقبارها بمحاصرتها وتمييعها كما يحدث الآن) الحدود التي وضعها لها حتى مطلقوها مهما كانت دوافعهم.

إن الاستجابة السريعة والواسعة التي تلقتها هذه الحركة، بغض النظر عمن يقف وراءها وأهدافهم المباشرة، السياسية والاقتصادية، ليس صدفة أو ظاهرة عرضية، بل تعبير عن حجم السخط والغضب الذي يعتمل في أعماق المجتمع ويبحث عن فرصة للخروج إلى العلن. سخط وغضب سببه الاستغلال الهمجي والتقشف والغلاء الذي تفرضه الطبقة السائدة على الأغلبية الساحقة، في حين تستمر هي في مراكمة الثروات الهائلة وترفل في البذخ.

فأرقام معاملات شركة “إفريقيا غاز”، لصاحبها عزيز أخنوش، على سبيل المثال، ارتفعت بـ 5.4 مليار درهم، سنة 2017، بزيادة قدرها 28% مقارنة مع عام 2016. وفي الوقت الذي يعرف ملايين المغاربة تدهورا سريعا ومتواصلا في ظروفهم المعاشية، فإن أرباح الشركة ارتفعت من 350 مليون درهم سنة 2011 إلى 543.4 مليون درهم عام 2017. أما شركة “ولماس”، لصاحبتها مريم بنصالح، التي تنتج ماء سيدي علي وغيره من المنتجات، فإنها لوحدها تحتكر حوالي 70% من السوق الداخلية للمياه المعدنية، وتحقق أرباحا سنوية تزيد عن 20 مليون درهم، ببيع ماء المغاربة للمغاربة!

كما أن الاستجابة لحركة المقاطعة تبين الرغبة العارمة في النضال والاستعداد لمواجهة الغلاء والاحتكار وطغيان الطبقة السائدة في شخص أبرز ممثليها، الأسرة المالكة وأخنوش وبنصالح، في ظل تخاذل وخيانة قيادات النقابات العمالية ورفضها تنظيم أي مواجهة جدية وبنفس كفاحي لسياسات الطبقة السائدة.

لذلك فإننا نؤيد هذه الحملة وننخرط فيها وندعو الشباب إلى ذلك، فمكاننا الطبيعي إلى جانب أبناء شعبنا، من عمال وفلاحين وعموم الكادحين، بل وفي الصفوف الأمامية للنضال من أجل كل ما من شأنه تحسين ظروف عيش الكادحين ولو جزئيا وبشكل مؤقت، مع استمرارنا في الشرح بصبر حدود تلك المطالب والدفاع عن البرنامج الاشتراكي الثوري.

نحن لا نشترط على الحركة أن تتوافق مع مستوى وعينا للمشاركة فيها، كما أننا لا نفرض عليها شروطا مسبقة. صحيح أننا لسنا مستعدين على الإطلاق لتقديم أي تنازل مبدئي وبرنامجي لا للحركة الجماهيرية ولا للحلفاء، ناهيك عن الأعداء، لكننا مرنون جدا فيما يتعلق بالتكتيكات التي نتبناها. إن السؤال الذي نطرحه على أنفسنا قبل أن نشارك في حركة معينة ولكي نشارك فيها هو: هل ستؤدي مطالبها إلى رفع وعي الطبقة العاملة والشباب الباحث عن بديل أو العكس. ومرشدنا دائما هو: كل حركة أو ممارسة أو تنظيم أو فكر، يؤدي إلى رفع وعي الجماهير بوضعها ومطالبها ومهمتها التاريخية تقدمي، وكل نقيض ذلك رجعي!

إن هذه الحركة، بالرغم من كل شيء، بدأت تأخذ أبعادا أخرى، بدأت تدريجا تتعمم، وصار في إمكانها أن تخلق نقطة تجميع للغضب ضد الغلاء. ويمكنها في حالة تحمل اليسار مسؤوليته بعيدا عن المشاركة السلبية للبعض وعن المعارضة الغبية للبعض الآخر، أن تفتح نقاشا جماهيريا حول سياسة التقشف ومن يستفيد منها، ومسألة الاحتكارات ومن يحتكر ماذا، الخ.

يمكن لهذه الحركة في حالة تطويرها، أن تثير قوى سيصعب التحكم فيها بالنسبة للطبقة السائدة؛ ولتطويرها يجب أن نطالب بأن تتحمل النقابات العمالية مسؤوليتها من خلال الدعوة إلى إضراب عام يكون مطلبه محاربة غلاء الأسعار ووقف سياسة التقشف. يجب على النقابات العمالية أن تدعو عمال تلك الشركات نفسها إلى النضال، فهم أكثر المتضررين حيث أن اضطهادهم مضاعف، فهم يعانون من الاستغلال وظروف العمل السيئة وأجور البؤس، ويعانون كذلك مما يعانيه بقية الشعب المغربي من غلاء…

إلا أن كل هذه الإجراءات رغم أهميتها لا يمكنها أن تقدم الحل النهائي والدائم للمشاكل العويصة التي تعانيها الجماهير، فمثلما لا يمكن القضاء على السرطان بتناول الحبة السوداء، لا يمكن القضاء على الفقر والغلاء والاستغلال بإجراءات جزئية مهما كانت.

المشاكل الجذرية تحتاج حلولا جذرية، أما مقاطعة هذه الشركة أو تلك فلن يؤدي إلا إلى تراجع مؤقت من طرف الرأسماليين ليعدوا العدة للهجوم من جديد، بل وحتى إن أدت في أقصى الحالات إلى إفلاسها، فلن تكون النتيجة سوى أن تحل محلها شركات أخرى ستواصل بالتأكيد نفس سياستها.

فما دامت الرأسمالية قائمة، وما دامت أقلية من الطفيليات تمتلك كبريات الشركات والأبناك والمناجم والضيعات وغيرها، فإن الفقر سيبقى قائما وكذلك الاستغلال والبطالة وغيرها من أمراض الرأسمالية. إن الرأسمالية هي المشكل ولا يمكن في ظلها أن يكون هناك أي حل.

إن الحل النهائي للقضاء على الاستغلال والغلاء والخصاص رهين بالتغيير الاشتراكي للمجتمع، رهين بالقضاء على الرأسمالية واستيلاء الطبقة العاملة على مفاتيح الاقتصاد من شركات كبرى وأبناك ومناجم وضيعات كبرى، ووضعها تحت الرقابة العمالية في خدمة المجتمع بأسره.

أنس رحيمي
الثلاثاء: 24 أبريل 2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *