أيام 21- 22- 23 غشت 2013، نظمت رابطة العمل الشيوعي، الفرع المغربي للتيار الماركسي الأممي، مؤتمرها الوطني الثالث، تحت شعار: “بناء منظمة قوية رهين بتكوين الكوادر”. وهو المؤتمر الذي أهداه المناضلون للرفيق أنس لحكيم بناني، فقيد المنظمة وأحد أعضائها القياديين الذي توفي اثر حادثة سير بتاريخ 28 ماي 2012.
لقد شكل المؤتمر محطة نوعية وقف خلالها المناضلون على حصيلة سنتين من التكوين النظري والبناء التنظيمي والنضالات والمبادرات السياسية. وكانت أهم أشغاله هي تلك التي انكب المناضلون خلالها على تحيين وتدقيق البرنامج الانتقالي للمنظمة ونقاشه والمصادقة عليه، إضافة إلى نقاش وثيقة منظورات مغربية والتعديلات المقترحة عليها والمصادقة عليها. كما شهد المؤتمر التدقيق في القانون الداخلي للمنظمة.
كل هذا حرصا من المناضلين على بناء منظمة ثورية ديمقراطية تضم كوادر ثورية متمكنة من النظرية الماركسية وحاملة لمشروع اشتراكي واضح وبرنامج انتقالي علمي قادر على الربط بين مطالب الجماهير الملحة ونضالاتها اليومية وبين النضال من اجل حسم السلطة السياسية من طرف الطبقة العاملة.
شعار المؤتمر
إن شعار المؤتمر: “بناء منظمة قوية رهين بتكوين الكوادر”، تعبير عن وعي عميق بطبيعة المهام التي تطرحها هذه المرحلة التاريخية العاصفة على كاهل الماركسيين في المغرب والعالم. إن الرأسمالية على الصعيد العالمي قد أفلست بشكل تام على جميع الأصعدة. لقد صارت نظاما يهدد بالقضاء على منجزات الحضارة (الحروب، المجاعات، التلوث، الاستغلال، الخ) بل تهدد حتى الحياة فوق سطح الكوكب (انقراض العديد من أنواع الحيوانات والنبات، انتشار الأوبئة وظهور أمراض جديدة وعودة القديمة إلى الظهور، الخ). إنها نظام يجب أن يسقط.
وفي مواجهة جرائم الرأسمالية وفظاعاتها ها هي الطبقة العاملة في العالم والشعوب الكادحة بدأت تنهض للنضال الثوري من اجل تغيير واقعها مطالبة بالعدالة والمساواة والقضاء على الاستغلال والقهر. حيث نشهد في كل أنحاء العالم ثورات وانتفاضات جماهيرية ضد الرأسمالية وتمظهراتها. وهي النضالات التي استعادت خلالها الأجيال الحالية من العمال والثوريين الأساليب والأشكال التي راكمتها الأجيال السابقة في النضال الثوري (المسيرات واحتلال المصانع والمجالس العمالية، الخ )، كما أبدعت أشكالا جديدة.
إلا أن كل تلك النضالات الرائعة تقف عاجزة عن إنجاز مهمة القضاء على النظام الرأسمالي وتحطيم جهاز الدولة البـرجــوازي وبـنــاء دولــة الديمقراطية العمالية ووضع السلطة بين أيدي المنتجين الحقيقيين للثروة والثقافة، أيدي الطبقة العاملة. مما يجعل هذه المرحلة الثورية تحبل بسيرورات طويلة من الصعود والهبوط، والمد والجزر، والكثير من الآلام. بل وحتى مخاطر الثورة المضادة والارتدادات الرجعية الأكثر بشاعة.
إن تجربة السنتين الأخيرتين من النضال الثوري الذي خاضه شعبنا كافية للدليل على أن أعظم التضحيات وأروع البطولات يمكنها أن تضيع دون تحقيق مهمة إسقاط الدولة البرجوازية في حالة عدم توفر القيادة الثورية. وعلى أنه لا وجود، بالنسبة للنظام الحاكم، لأزمة بدون حل، وأن جعبته لا تنفذ من المناورات والخدع التي يتمكن من خلالها من إنقاذ نفسه وتحميل الأزمة على كاهل الجماهير.
وبالتالي فإن مهمة بناء الحزب الثوري، عالميا وفي كل قطر على حدة، مسألة راهنية جدا، وضرورية جدا. بل إنها أكثر راهنية من أي وقت مضى في التاريخ. ملايين البشر يخرجون في كل أنحاء العالم إلى النضال، ويتمكنون عمليا من إسقاط سلطة الدولة البرجوازية عشرات المرات. حيث يستولون على الشوارع والساحات والمصانع، ويعملون على بناء جنين دولتهم من مجالس أحياء ومتاريس ولجان معارك، الخ. ففي مصر وتونس على سبيل المثال تمكنت الجماهير من إغلاق مؤسسات الدولة والاستيلاء عليها في مرات عديدة، لكنها رغم ذلك لم تتمكن من الوعي بأن السلطة بين أيديها، مما مكن البرجوازية من أخذ زمام المبادرة. لو توفرت القيادة الثورية، أي الحزب الماركسي، لكانت مهمة إسقاط الدولة البرجوازية واستيلاء الطبقة العاملة على السلطة قد أنجزت بأقل قدر من التضحيات والآلام.
نفس الشيء يقال عن المغرب حيث خرج مئات الآلاف في مختلف أنحاء البلد إلى الشوارع طيلة أكثر من سنتين متتاليتين، كما اندلعت العديد من الإضرابات العمالية والانتفاضات الجماهيرية، لكن غياب الحزب القادر على توحيد كل تلك النضالات وتوجيهها بشعارات ثورية صحيحة نحو إسقاط النظام القائم وحسم السلطة من طرف الطبقة العاملة، تسبب في تبدد تلك الموجة من النضالات، ومكن الطبقة السائدة من كسب الجولة.
إن المرحلة التي تنفتح أمام أعيننا عاصفة ومليئة بالمنعطفات وموجات الصعود والهبوط، وبالتالي فإنها تتطلب من الماركسيين امتلاك فهم واضح للواقع وقدرة على تقديم الإجابات الصحيحة في كل لحظة، رغم تسارع الأحداث. في ظل مرحلة كهذه يمكن لأحزاب جماهيرية كبيرة أن تنخرها الأزمات وتتحول إلى هباء بسبب تراكم الأخطاء وغياب البوصلة، كما يمكن لمنظمات صغيرة تمتلك مقومات النمو أن تتحول بطفرات سريعة إلى أحزاب قوية ذات مصداقية عالية في أعين الجماهير. وفي هذا السياق نقول إن منظمتنا الآن ما تزال صغيرة، لكن كلنا ثقة في أننا سنتمكن من النمو بسرعة شريطة الحرص على كسب أفضل الفئات المناضلة بين العمال والشباب وتكوينهم تكوينا نظريا صليا على أساس الماركسية والتجربة التاريخية للطبقة العاملة عالميا ومحليا، في الماضي والحاضر.
وهذه بالضبط هي مهمة المناضلين الماركسيين، وهذه هي بالضبط المهمة التي وضعناها على عاتقنا في رابطة العمل الشيوعي. إن مهمتنا هي بناء المنظمة الماركسية التي ستقود الطبقة العاملة إلى حسم السلطة السياسية وإنجاز مشروعها التاريخي: بناء المجتمع الاشتراكي.
الوضع السياسي
يعرف الوضع السياسي بالمغرب أزمة خانقة. فالنظام القائم يتخبط بدون تصور للخروج من الأزمات التي يواجهها داخليا وخارجيا. شكل الحكم الذي يجسده متخلف ومثير للتقزز حتى بمقاييس الديمقراطية البرجوازية بل حتى بمقاييس “ديمقراطية” دول المنطقة المغاربية. نظام حكم ملكي فردي مطلق السلطات يقوم على تقبيل الأيدي والركوع، وذو كلفة هائلة. الأحزاب الرسمية دكاكين انتخابية لا مبرر لوجودها سوى حاجة النظام الدكتاتوري إليها لتوفير قناع ديمقراطي عليه يخفي وراءه طبيعته الدكتاتورية. وأحزاب المعارضة البرلمانية (الاشتراكية الديمقراطية والستالينية) صارت منذ زمن بعيد جزءا من النظام القائم، لا مصداقية لها في أعين الجماهير ولا تمثل سوى نفسها والوصوليين الموجودين في قيادتها، لا تمتلك مشروعا سياسيا ولا برنامجا وكل مهمتها التصفيق للـ “الحكمة المولوية”.
ولعل أبرز مظاهر هذه الأزمة في الوقت الحالي هو العجز حتى عن تشكيل ولو حكومة، بالرغم من كونها شكلية وبدون سلطات حقيقية، حيث كل السلطات الحيوية موجودة في أيدي القصر. إذ ما زال بنكيران يستجدي حزب الأحرار من اجل الالتحاق به في قادة سفينة تغرق. وهو ما لن يقبل الحزب المذكور القيام به إلا بمقابل يستحق العناء، أي بأكبر قدر من المناصب الوزارية وكتابات الدولة، مما سيحول الحكومة الحالية إلى فسيفساء غريبة تتداخل فيها الصلاحيات وتتناقض.
كان القصر يخطط في البداية لحكومة يقودها صديق الملك -الهمة- (الأصالة والمعاصرة)، لكن رياح الثورة التونسية وبعدها المصرية قلبت المعطيات وجعلته يلتجأ إلى الاستعانة بخدمات الإسلاميين المجتمعين في حزب طبيب الملك -الخطيب- (العدالة والتنمية)، فكان ذلك دليلا على التخبط والأزمة والرعب.
لقد لجأ القصر إلى الإسلاميين بحثا عن استقرار سياسي ولخداع الجماهير بخطابهم الديني الأخلاقي. رغم ذلك امتنع أغلبية المغاربة عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع، وكانت نسبة المقاطعة كارثية على النظام. أما الذين صوتوا خلال تلك الانتخابات فقد أعطى أغلبهم صوته لحزب الإسلاميين لعلهم يكونون بديلا عن هؤلاء السياسيين الفاسدين. لكن تجربة أزيد من سنة من حكم الإسلاميين أعطت الدليل حتى للفئات المتخلفة من الجماهير بأنهم لا يختلفون في شيء عن “الآخرين”، بل إن الحكومة الحالية ظهرت باعتبارها أشد الحكومات رجعية وشراسة في مهاجمة قوت الجماهير ومستويات عيشها، إضافة إلى حربها على ما تحقق من الحريات الديمقراطية والنقابية.
وها هي الحكومة التي كان القصر ومعه الطبقة السائدة والامبرياليون يأملون أن تكون مستقرة وجالبة للاستقرار والنمو الاقتصادي، الخ تظهر باعتبارها أكثر الحكومات هشاشة وضعفا. فبالإضافة إلى كونها موضوعة على الرف ومتعايشة مع وضعها الهامشي وتبرره، لم تعرف مدة حكمها ولو فترة قصيرة من الاستقرار. وبعد أن انفجر الائتلاف الحكومي عندما قفز حزب الاستقلال من سفينتها الغارقة، صارت أول حكومة في العالم تحكم من موقع الأقلية البرلمانية.
وبالرغم من أن مسألة تشكيل الحكومات في “الديمقراطية المغربية”، سواء في طبعتها الحسنية أو المحمدية، تبقى مجرد مسرحية بالنظر إلى كونها مجرد هيئة من الموظفين الملحقين بالقصر الذين هو من يعينهم للتأشير على قراراته وتنفيذها، وبالرغم من أنه كانت العادة أنه كلما تعطل أحد مكوناتها أو لم يعد يروق “لأصحاب الحال” يتم استبداله سريعا بمكون آخر بدون مشاكل، فإن رئيس الحكومة الحالية عجز عن ترميم ائتلافه، وما يزال في مفاوضات لحد اللحظة مع حزب صديق آخر للملك (الراحل) – التجمع الوطني للأحرار-. أن يعجز النظام القائم عن الحكم بالطرق القديمة دليل آخر على الأزمة.
لا نعطي نحن الماركسيون أهمية كبرى للصراعات البرلمانية والمناوشات التي تحدث حول المقاعد الوزارية، لأن السلطة الحقيقية ليست موجودة في البرلمانات أو مكاتب الوزراء. كما لا نعطي للصراعات الشخصية ولا للميزات الفردية أهمية حاسمة في الصراع الطبقي. لكن وبالرغم من ذلك يفيدنا تتبع ذلك في التعرف على ما يجري في العمق. وعليه فإن الصراع الذي نشهده الآن بين قادة مختلف أحزاب الطبقة السائدة واللغة المنحطة المستعملة فيه، بل حتى نوعية هؤلاء القادة وأخلاقهم ودرجة ذكائهم مؤشرات مفيدة للتعرف على طبيعة الوضع السياسي القائم.
إن كل طبقة تمتلك القادة الذين تستحقهم. كما أن ممثلي كل طبقة يحملون خصائص تلك الطبقة التي يمثلون مصالحها. إنهم قادتها وممثلوها وعليه فإنهم يفكرون مثلها ويتكلمون مثلها ولديهم مثل مفاهيمها وقيمها، الخ. بل إنهم، باعتبارهم ممثليها السياسيين، يكونون أفضل من تستطيع هي إنتاجهم على مستوى الفكر وبعد النظر والاتزان. وبالتالي فإنه يمكننا من خلال النظر إلى ثقافة وذكاء محمد السادس وشباط ومزوار ولشكر وغيرهم ومستواهم الأخلاقي والفكري، التعرف على درجة انحطاط الطبقة السائدة الأخلاقي والثقافي والسياسي.
إن انحطاط أساليبهم وانحطاط المصطلحات التي يستعملونها في الحياة السياسية مؤشر عن مستوى الانحطاط السياسي والقيمي العام للطبقة السائدة ونظامها.
والجدير بالذكر هو أن كل ذلك الصراع الدائر بين هؤلاء “الزعماء” وبالرغم من عنفه وشراسته، ليس صراعا حول تصورات مختلفة وبرامج ومقترحات سياسية مختلفة، بل هو أشبه بصراع الضباع حول اقتسام الجيفة والفتات. صراع يغيب فيه أي مبدأ أو أخلاق يمكن فيه أن يتحالف بنكيران الإسلامي مع نبيل بنعبد الله الستاليني. ولم يمض وقت طويل منذ أن كان فيه بنكيران وحزبه يتهمان مزوار بأنه لص وفاسد، بينما كان هو يتهمهم بالظلامية والرجعية، لكن هاهم قد نسيا خلافاتهما وتصالحا كسيدين مهذبين وأغلقا الباب ورائهما لينكبا على نقاش كيفية اقتسام الكعكة بعدل.
إن من ينظر إلى هؤلاء يؤمن بأنهم منفصلون عن الواقع. إن مركبهم يغرق بسرعة لكنهم منهمكون في الصراع حول اللون المناسب للشراع. وليست هذه العقلية بغريبة عن الطبقات السائدة في عصر انحطاطها التام. فنبلاء فرنسا عشية الثورة إضافة إلى الملك والملكة كانوا يعيشون بعقلية شبيهة بعقلية هؤلاء، ومنخرطون في صراعات شبيهة بصراعاتهم. وعندما خرج الجياع يحتجون على انعدام الخبز، استغربت الملكة لتفاهة المطلب ولم تفهم لماذا لا يستعيضون عن الخبز بالبسكويت.
القصر يعتبر هذه الوضعية مريحة، ويعمل عبر كل الوسائل على إعادة إنتاجها. فهي تمكنه من الظهور أمام الجماهير باعتباره القوة الجدية الوحيدة التي تعمل لمصلحة البلد. إذ لا تكف وسائل الإعلام عن إظهار الملك وهو يرتحل من مكان إلى مكان يطلق برامج التنمية البشرية ويدشن هنا ويقدم الحساء هناك. لكن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على إفلاس النظام القائم، فمثل هذه المسرحية السخيفة لا يمكنها أن تستمر إلى الأبد، خاصة وأن الكادحين لا يحسون بنتائج تلك التنمية الموعودة ولا بآثار تلك التدشينات في حياتهم.
كما أن فقدان الثقة في الأحزاب السياسية، وخاصة الإصلاحية، سيجعل الطبقة السائدة والقصر في مواجهة مباشرة مع الجماهير بدون صمامات أمان ولا واقي صدمات. وستبدأ حتى تلك الفئات المتخلفة من الجماهير التي ما تزال تثق الآن في الملك باعتباره هو الذي يقوم بكل شيء في هذا البلد و”بلا بيه ما كاين والو”، في التساؤل: “بما أنه هو الذي يقوم بكل شيء، وهذه هي النتيجة، إذن هو المسؤول عن هذه النتيجة، وهو الذي يجب أن يحاسب”.
إننا نعتبر أن الأزمة السياسية الحالية ليست عابرة ولا هي مرتبطة بهذا الشخص أو ذاك، ولا بتلك الحكومة أو تلك. سيتغير الأشخاص، وستتغير الحكومات، لكن الأزمة ستبقى، بل ستتعمق. إنها أزمة بنيوية تجد جذورها في أزمة النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي القائم، وطبيعة الطبقة السائدة، كطبقة رأسمالية تبعية. إنها مثلها مثل كل برجوازيات البلدان المستعمرة سابقا، وبسبب طبيعتها بالذات ليست قادرة على الحكم بواسطة أشكال الديمقراطية البرجوازية مثل تلك السائدة في البلدان الرأسمالية المتقدمة. إنها بحكم نشأتها وطبيعتها بالذات كطبقة طفيلية ضعيفة لا تمثل سوى أقلية ضئيلة جدا في المجتمع، طبقة لا يمكنها التعايش حتى مع الديمقراطية البرجوازية الشكلية بانتخاباتها وبرلماناتها وحق التعبير والتظاهر. إنها تميل مباشرة إلى الاستبداد والدكتاتورية السافرة الوقحة.
وفي ظل الأزمة التاريخية للرأسمالية على الصعيد العالمي، ليس هناك في المغرب من إمكانية لبناء نظام سياسي ديمقراطي مستقر على أساس الرأسمالية. وحتى في حالة تمكن بنكيران من ترميم ائتلافه الحكومي فإن ذلك لن ينتج سوى حكومة ضعيفة تتصارع مكوناتها كالدجاج، وستنتقل من أزمة إلى أخرى بدون حل في الأفق.
إذا كان هناك من قرار سيلقى إجماعا من طرفهم فهو حول تكثيف الهجوم على الجماهير بتحميلها ثقل الأزمة، عبر الرفع المتتالي في الأسعار والضرائب ووتيرة الاستغلال، الخ.
النظام مفلس وليس لديه ما يقدمه، بل مضطر للهجوم على المكتسبات القليلة التي حققتها الجماهير (المقاصة، التعليم العمومي، التقاعد، الخ). والجماهير ظهرها إلى الحائط ولم يعد لديها ما تتنازل عنه، ولا هي مستعدة لتحمل المزيد من الهجومات. هذه هي المعادلة التي تحدد الوضع السياسي خلال المرحلة التي نعيشها.
وبفعل عجزه عن تقديم أي بديل لجأ النظام وسيلجأ أكثر إلى القمع الشرس لسحق أي تحرك في المهد، وليمنع تحوله إلى شرارة تشعل الوضع في البلد بأسره. لكنه يواجه جماهير تخلصت إلى حد بعيد من الخوف، ولم تعش منذ مدة طويلة نسبيا أية هزيمة ساحقة، بل على العكس تماما، تخرج من كل معركة بانتصار معنوي وخبرة أكبر.
إن الحكومة الحالية عاجزة عن التعامل مع هكذا وضع. بل لقد سقطت عمليا، وليس هناك ما يجعلها مستمرة سوى خوف الطبقة السائدة من الفراغ التام. لكن هذا لن يستمر طويلا وستسقط بشكل أوضح، عندها سيلجأ النظام إلى قطع الغيار المتوفرة لديه وخاصة القوى الإصلاحية التي ستسارع إلى لعب دورها المشؤوم، لكن بنجاح أقل من الماضي، فقد مضى ذلك الوقت الذي كانت تلك القوى تتمتع فيه ببعض المصداقية في أعين الجماهير.
القمع والوعود بالإصلاحات هذه هي التكتيكات التي سيواصل النظام تطبيقها خلال المرحلة المقبلة. ستنهض الجماهير للدفاع عن نفسها، لكنها في ظل غياب القيادة الثورية الجريئة لن تتمكن من تحقيق النصر النهائي. لكن وفي ظل عدم وجود حزب ماركسي جماهيري ذو مصداقية في أعين الجماهير وقادر على قيادتها لحسم السلطة السياسية وإقامة نظام سياسي بديل، ستستمر الأزمة الحالية وستستمر مناورات النظام
المنظورات:
يعطي الماركسيون للمنظورات أهمية كبرى، بل إن السعي الدائم إلى تحديد منظورات علمية صحيحة هي بالضبط ما يميز الماركسيين عن المتمردين العفويين وعن العصبويين والراديكاليين البرجوازيين الصغار. إن الماركسي يعتبر أن العمل الثوري علم، وليس مجرد سخط أخلاقي وانغماس في الحركة والسير معها حيث تسير.
إن الجماهير لا تحتاج إلى مخلصين، كما أنها لا تحتاج بالضبط إلى مناضلين كفاحيين مهما بلغت روح التضحية عندهم، ولا إلى “قادة” يجيدون إلقاء الخطب. فليس هذا ما ينقصها. إن الجماهير عندما تنهض إلى النضال تثبت أنها قادرة على تقديم أعظم التضحيات واجتراح المعجزات. إن ما ينقصها هو من ينير لها الطريق ويوضح لها مسارها خلال المنعطفات ويفسر لها ألاعيب الأعداء وخططهم ويكون قادرا علـى توقع التطورات المسـتقبلية[1]. إن المهمة الأولى بالنسبة للماركسي ليس فقط أن ينخرط بالنسبة للماركسي ليس فقط أن ينخرط في الحركة ويقدم التضحيات إلى جانب أبناء وبنات طبقته، بل هي بالدرجة الأولى أن يقدم البرنامج الثوري والإجابات والتكتيكات المناسبة في كل فترة وعند كل منعطف. إن مهمته هي أن يحلل كل القوى المتداخلة المعقدة الفاعلة في كل مرحلة، من أجل أن يرى بأوضح قدر ممكن الاتجاه الذي يسير فيه المجتمع.
وللقيام بذلك لا بد له من تحليل الواقع كما هو في ملموسيته بتناقضاته وإمكانياته المتضاربة. ويتتبع حركيته الجدلية وآفاق تطوره من أجل القدرة على التموقع الجيد وتقديم الإجابات الصحيحة عند كل نقطة. الماركسيون لا يؤمنون بالجمود، كما لا يعتقدون في وجود إجابات صالحة لكل زمان ومكان. لذا فإنهم يعملون دائما على تحليل الواقع تحليلا ملموسا ويدرسون احتمالات تطوره.
إن الواقع يحبل بعدة إمكانات تطور متضاربة، والصراع الطبقي مجال لصراع قوى حية، طبقات ذات مصالح متضاربة. وعلى الماركسي أن يحللها بشكل علمي ودقيق عند كل مرحلة، وعليه أيضا أن يحدد الاحتمال الأبرز لتطورها. وهذا التحليل العلمي والتوقع بآفاق واحتمالات تطور الواقع واتجاهاته الممكنة هو ما يسمى في الماركسية منظورات.
إن المنظورات هي القدرة على التوقع لكنها ليست تنجيما، إنها علم يستند على التحليل الدقيق للأوضاع الاقتصادية والسياسية والقوى المتصارعة ومزاج تلك القوى وأفكارها وآليات اشتغالها. من أجل التدخل في الواقع والفعل فيه وليس الاكتفاء بالانفعال بالأحداث والسير مع التيار كيفما اتفق.
إن عدم امتلاك المنظورات يعني السقوط في التجريبية والسير الأعمى وراء التيار دون القدرة على مواكبته أو استباقه فبالأحرى توجيهه.
وتزداد الحاجة إلى علم المنظورات في المرحلة العاصفة التي نعيشها اليوم بمنعطفاتها الحادة، التي تثير عند أغلب القوى والتيارات، بما فيها اليسارية، إحساسا بالضياع والتيهان.
هذا ما يجعلنا نحرص على صياغة المنظورات، وتصحيحها وتدقيقها وتحيين معطياتها كلما اتضح لنا ضرورة ذلك. وبفضل حرصنا هذا تمكنا من توقع مجمل التطورات التي عرفها الواقع قبل وقوعها بوقت طويل. نعم قد نخطأ أحيانا في هذا الجانب أو ذاك، وقد لا نصيب في بعض التوقعات. وهذا أمر طبيعي لأن الصراع الطبقي ليس معادلة بسيطة بمجهول واحد، إنها معادلة معقدة لتفاعل وصراع قوى حية عديدة.
كل من يمارس يخطئ والمهم هو أن نكون قادرين على التعرف على أخطائنا وتحديد الأسباب التي جعلتنا نسقط في تلك الأخطاء والاعتراف بها بنزاهة ونصححها. فعلى سبيل المثال، أعلنا في حوار لنا مع موقع الدفاع عن الماركسية تحت عنوان: (المغرب: تقييم سنتين من نضال حركة 20 فبراير ضد الدكتاتورية والاستغلال – “لا يمكن إطاحة النظام الملكي الدكتاتوري إلا من خلال الصراع الطبقي”)، نشرناه يوم الثلاثاء: 19 فبراير 2013
«إن منظورنا للاتجاه العام للأحداث خلال الأشهر المقبلة يقوم على قناعة نهوض نضالي عظيم، إن احتداد الصراع الطبقي على رأس قائمة جدول الأعمال. وهذه القناعة لم نبنها على أساس المتمنيات، بل على أساس قراءة علمية للوضع الاقتصادي والسياسي بالمغرب والمنطقة والعالم.
فالأزمة الرأسمالية ما تزال تتفاقم بدون أي مخرج في الأفق. وانعكاساتها على المغرب مدمرة في ظل النظام القائم. كل المؤشرات في الأحمر: البطالة وصلت مستويات عالية جدا، ثلث الشباب بدون عمل، الأسعار في تصاعد، ظروف العمل والعيش صارت لا تطاق. فخلال السنة الماضية تم تسجيل 60000 حادثة شغل رسميا، بما فيها 2000 حادثة قاتلة.
كما ارتفع الاعتماد على التمويل الأجنبي. وخلال السنة الماضية لم تعد الصادرات تغطي سوى 47 في المائة من جميع الواردات. عجز الميزان التجاري يمثل 24 في المائة من الناتج الداخلي الخام. الدين العمومي يمثل الآن 70 في المائة من الناتج الداخلي الخام السنوي. وتكلف خدمة الدين العمومي نفس المبلغ الذي يصرف على التعليم والصحة والاستثمار! ثلاثة أرباع مداخيل الدولة تأتي من الضرائب المفروضة على الطبقة العاملة والفلاحين الصغار والفقراء.
وحل الطبقة السائدة للخروج من هذه الأزمة هو المزيد من الهجومات على مكاسب وحقوق الطبقة العاملة وعموم الفقراء، وهو ما بتنا نشاهده في إجراءات الحكومة المتتالية.
الوضع السياسي يعرف بدوره أزمة خانقة، وهناك هجوم قوي على المكاسب القليلة من الحريات التي تحققت بفضل نضالات مريرة طيلة عقود من الزمن.
الهجوم على صندوق التقاعد، والأجور، ومحاولة فرض قانون يقيد الحق في الإضراب، الخ. تمس بشكل مباشر الطبقة العاملة ومكتسباتها، وهو ما سيدفع الطبقة العاملة إلى الرد بقوة.
إن الطبقة السائدة، أو على الأقل الجزء الأكثر غباء منها والذي يمثله القصر ورئيس الحكومة، تتوهم أن العاصفة الثورية قد مرت ولهذا خرجت من جحرها وبدأت تهاجم. لكن الأيام والأشهر المقبلة كفيلة بأن تبين لها كم كانت مخطئة عندما توهمت أنه يمكن إرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء. فجني الثورة قد خرج من القمقم.
إن بشائر هذا النهوض الجديد قد بدأت تلوح منذ الآن عبر تجدد نضالات الطلاب في الإحياء الجامعية، والنضال المستمر لحملة الشواهد المعطلين وانتفاضات سكان الأحياء الشعبية مثل ما وقع في مراكش خلال نهاية السنة الماضية ضد ارتفاع الأسعار وانتفاضات البوادي (النضال من أجل البنية التحتية، وضد الآثار المدمرة للقروض الصغرى على نساء البوادي)، أو في الإضرابات في قطاعات: الفنادق، عمال المناجم، الفلاحة، وفي وزارة العدل، ورجال ونساء التعليم والمستشفيات.
سيشهد الصراع الطبقي نهوضا هائلا، الأفق مشرق، والمد سينطلق من جديد وهو ما يطرح علينا نحن الماركسيين/ات مهمات نظرية وتنظيمية وسياسية عظيمة».
كان هذا توقعنا للأشهر القليلة الموالية لتوقيت انجاز الحوار. وقد أثبتت التطورات اللاحقة إلى حدود الآن خطأ منظورنا المباشر. لكن الخطأ، من وجهة نظرنا، ليس في جوهر التحليل الذي نعتبر أنه ما زال يحتفظ براهنية كبيرة، بل في الوتيرة. إن أي متتبع جدي للصراع الطبقي بالمغرب يمكنه أن يتأكد من صحة الاتجاه العام لذلك المنظور، لكن من حيث الوتيرة لم تسر الأحداث بالوتيرة التي توقعناها. إن المعطى الأساسي الذي “استهنا” به نسبيا هو قدرة البيروقراطية النقابية على مقاومة الضغوط التي تأتيها من تحت، ومكنها من لجم كل تحركات الطبقة العاملة وتقييد أيديها أمام الهجمات التي تشنها الطبقة السائدة ضدها.
الطبقة العاملة تغلي غضبا ومناضلي القواعد النقابية ساخطون على القيادات الخائنة، لكن غياب بديل يساري كفاحي واضح لهؤلاء مكن القيادات الميتة من الاستمرار في الإطباق بيديها المتصلبتين على الزمام، خاصة وأنها تلاقي في ذلك مساعدة كبيرة من طرف الدولة ووسائل اعلامها ومحاكمها وبوليسها الخ، التي تتدخل لحسم الصراع لصالح هؤلاء الخونة كلما تطلب الوضع ذلك.
هذا ما شكل علامة فارقة في الصراع وحدد وتيرته، وهذا ما لم يكن في إمكاننا أن نتوقعه مسبقا، لأنه حصيلة صراع قوى حية وليست نتيجته محسومة سلفا.
لكن رغم ذلك يعتبر الماركسي أن وضع منظور للصراع ولو أثبتت التجربة التاريخية لاحقا [ولا بد أن تثبت] ضرورة تصحيحه من بعض جوانبه، أفضل من النضال بدون أي منظور مطلقا.
إننا وبفضل منظوراتنا تمكنا من توقع أبرز الأحداث التي صار الجميع يعترف بها بعد أن تحققت تحت أنظارهم. لقد كنا الوحيدين الذين توقعنا اندلاع الحراك الثوري في تونس في وقت كان الجميع، بمن فيهم يساريون، يستبعدون أية إمكانية لحدوث ذلك. ففي مقال “عشرات الآلاف من الشباب ينتفضون ضد دكتاتورية بن علي في تونس“، الذي نشرناه يوم 07 مارس 2005، كتبنا: ” […] إنّ ما حدث ليس سوى المعركة الأولى، ليست سوى مناورة حربية، لكن المهم هو أن الحرب قد بدأت، لا شك في ذلك”.
كما كتبنا بعده بأسبوع (يوم 14 مارس 2005) في مقال آخر عن تونس تحت عنوان: “تونس: الشباب يواصلون تحدي دكتاتورية بن علي” «إن هذه الاحتجاجات، التي قام بها طلبة الجامعات والتعليم العالي والتي تلتها احتجاجات المحامين، جد مُعّبرة. إنها تدل على بدايات الحركة ضد دكتاتورية بن علي الدموية في المجتمع التونسي. لقد تمكن النظام من فرض نوع من الهدوء والصمت على المجتمع التونسي طيلة سنوات عبر موجة من القمع والسيطرة المطلقة، وكذلك بنوع من النمو الاقتصادي. إذ كانت تونس تقدم للمستثمرين الدوليين باعتبارها جنة للسلام والطمأنينة، في منطقة معروفة بالاضطرابات. لقد كانت توصف بكونها “التنين الإفريقي” بسبب إنجازاتها الاقتصادية. إن بداية تململ الفئات الوسطى داخل المجتمع (الطلبة والمحامون) تشكل خطرا على استمرارية النظام.»
«لقد كان الطلبة دائما مقياس يعكس درجة التحولات التي تطرأ على مزاج المجتمع. وهم، على العكس من العمال والفلاحين، يمتلكون قدرا أقل من الالتزامات المادية الشيء الذي يمكنهم من الانخراط بسهولة في الاحتجاج. كما أنهم لن يلعبوا فقط دور مقياس للعواصف التي ستضرب تونس، بل سوف يعيدون الحياة للعديد من الذين فقدوا الأمل خلال السنوات الأخيرة.»
وعندما قلنا في نفس المقال إنه «لإنجاح هذه المسيرة يجب موازاتها بدعوة إلى القيام بإضراب وطني في كل الجامعات والمعاهد العليا ودعم ذلك بإضراب العمال عن العمل في المصانع والإدارات.. يتوجب على الطلبة أن يتوجهوا نحو أحياء الطبقة العاملة والمصانع للدعاية للمسيرة الوطنية. وبتنظيمهم للجان معارك ديمقراطية تظم ممثلين منتخبين عن العمال والشباب، سوف يعطون للشكل الاحتجاجي تعبيرا أكثر تنظيما.» اعتبرنا محبطو اليسار أننا مجرد حالمين نحاول إعادة إحياء أشكال تنظيمية ونضالية “عفا عنها الزمن”، لكن وبمجرد ما نهضت الجماهير إلى النضال وتحركت السيرورة الثورية، اتضح أنها إجابات علمية تتماشى مع حقيقة الواقع، إذ وبالرغم من أن تلك الجماهير لم تقرأ مقالنا ولا هي قرأت تحاليلنا فإنها ذهبت في نفس ذلك المسار الذي توقعناه: فقد نجحت الثورة التونسية في طرد الدكتاتور بواسطة المزاوجة بين الاحتجاجات في الشوارع وبين الإضرابات العامة وتنظيم لجان المعارك الديمقراطية.
وفي مقال آخر (تونس: تواصل الاحتجاجات) نشرناه يوم 08 يناير 2011 أي قبل هروب بن علي وبينما كان النظام ما زال يبدو متماسكا كتبنا ما يلي:
«لقد دخلت تونس والمنطقة المغاربية كلها، مرحلة العواصف الثورية. إن هذه التحركات التي يلعب فيها حاليا الشباب العاطل والتلاميذ والطلاب الدور الريادي، استباق للنهوض العمالي الذي ستعرفه تونس والمنطقة عموما، عاجلا أو آجلا، إذ تحركات الشباب مقياس صادق لحجم الضغوطات التي تعتمل في أعماق المجتمع. ورياح التغيير التي بدأت تحرك أوراق الشجرة العظيمة، من شباب عاطل وطلاب وتلاميذ، ستهز بالتأكيد جدعها، أي الطبقة العاملة. لقد حان الوقت حيث سيطل فيه خلد الثورة العجوز، الذي استمر طيلة عقود يحفر تحت السطح، برأسه، فيقفز كل العالم على قدميه ويهتف بفرحة: ما أحسن ما كنت تحفر أيها الخلد العجوز!»
أما بالنسبة لتوقعاتنا للمغرب فقد كتبنا يوم 09 فبراير 2009، في: “حوار مع ماركسي مغربي: الغليان الشعبي عبر عن نفسه من خلال مظاهرات التضامن مع غزة“. إن «خروج هذا العدد الكبير جدا من الشباب المغربي الذين في أغلبهم بدون أي تكوين سياسي ولا تجربة نضالية سابقة ومواجهتهم مع آلة القمع هو في حد ذاته تمرين جيد لتسخين العضلات الفتية قبل الدخول في المعارك المقبلة والتي ستكون ذات مضمون طبقي، تدور حول قضايا اجتماعية كالتعليم والتشغيل والصحة الخ». وهو ما تأكد بشكل باهر بعد سنوات قليلة فقط.
وسنة 2007، وبالضبط يوم الأربعاء: 18 يوليوز، أي في الوقت الذي كان حتى بعض “الثوريين” المزعومين وأغلب تيارات اليسار يعتبرون الثورة خارج حساباتهم وأنها شيء من الماضي البعيد والمستقبل الأكثر بعدا. كتبنا في مقال: “رابطة العمل الشيوعي بعد سنة من إعلانها” نقول ما يلي: «نحن نعيش بداية مرحلة جديدة بجميع المقاييس! مرحلة تتميز بأزمة عميقة للطبقة السائدة ونظامها، عالميا ومحليا، وإفلاس على جميع المستويات، كما تتميز من جهة أخرى بنهوض نضالي عارم للجماهير الكادحة والشعوب المضطهدة. وقد بدأ هذا الوضع الموضوعي يجد انعكاسا له في وعي الجماهير حيث بدأنا نشهد، على الصعيد العالمي، ميلا متزايدا نحو اليسار، خاصة في أمريكا اللاتينية. نفس الشيء نشهده في المغرب حيث بدأت الطبقة العاملة وعموم الكادحين تسائل النظام القائم بشكل يتزايد حدة وعمقا وتتخلص من الأوهام والثقة في الوعود، كما أن هناك تعطشا كبيرا لبديل ثوري وللأفكار الماركسية بين الشباب المناضل».
وفي مقال الربيع المغربي الذي كتب يوم 13 دجنبر 2006 كتبنا ما يلي: «الأكيد أن هذه الموجة من النضالات الجماهيرية الرائعة قد دقت نهاية مرحلة وبداية أخرى من الصراع الطبقي في المغرب، أعطت خلالها الجماهير، ولا زالت تعطي، الدليل على رغبتها في تغيير الأوضاع تغييرا جذريا وقدرتها على ذلك. لو توفر حزب ماركسي، يمتلك برنامجا ثوريا علميا ونفوذا ومصداقية بين العمال والكادحين، لصار من الممكن توجيه ضربة قاصمة لنظام الاستغلال والقهر القائم. لكن هذا بالضبط هو ما ينقص، إن كل الأزمة الحالية هي أزمة القيادة الثورية. وهنا بالضبط تكمن مهمة المناضلين الثوريين. المناضلون الثوريون ليس دورهم مجرد إتباع التيار والانفعال بالأحداث، بل عليهم التحضير الجدي لتنظيم الجماهير وتمكينها من برنامج ثوري حقيقي ومنظورات علمية. عليهم بناء الحزب العمالي الثوري، حتى لا تضيع هباء التضحيات العظمى التي تقدمها الجماهير الكادحة».
لقد أثبت التاريخ صحة منظوراتنا، وهذا ما يعطينا الحق في الفخر. نعلم أن بعض البائسين سيلوموننا على ما سيعتبرونه تباهيا من طرفنا، لكننا نقول لهم: من حقنا ان نقارن توقعاتنا التي وضعناها أمس وسخرتم منها، مع الأوضاع الحالية وقد صارت واقعا. إن تأكد منظوراتنا دليل على تمكننا من الماركسية ومن فهم الواقع وتوقع الاتجاه العام لحركيته، وهذا سبب كاف للفخر.
إن اختلافنا في الأمس مع أغلب تيارات اليسار التي كانت تتحدث عن مرحلة استقرار الرأسمالية، وإمكانية إصلاحها، وأن الثورة مؤجلة الخ. لم يكن اختلافا سكولاستيكيا من قبيل خلاف الكهنة القروسطويين حول جنس الملائكة أو طبيعة المسيح، بل كان اختلافا نظريا يحدد كل التكتيكات السياسية والتنظيمية والنضالية. إن توقعنا للمرحلة الثورية هو ما جعلنا نؤكد على ضرورة بناء القيادة الثورية، في الوقت الذي كان أصدقاؤنا “الثوريون” (هم أيضا؟) ينظّرون لجمعيات تضريب المعاملات المالية الخ.
وقد حرصنا في مؤتمرنا الثالث هذا على طرح منظوراتنا للتطورات المستقبلية، وكلنا ثقة في صحة الأداة التي نستعملها في القيام بذلك، أي: النظرية الماركسية. وكلنا ثقة أيضا في تمكننا من تطبيقها على أرض الواقع مما يعطينا الحق بأن نعتبر أنفسنا استمرارية للخيط الذي لم ينقطع من ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وتيد غرانت إلى يومنا هذا.
هوامش:
[1]: غني عن الذكر أنه حتى بالنسبة لهذه المهمة أثبتت التجربة التاريخية أن الجماهير ليست عاجزة تماما عن إيجاد طريقها بحسها الطبقي، بل وحتى في إبداع أشكال نضالية وتنظيمية لم تكن لتخطر على ذهن أكثر القيادات الثورية طليعية وحنكة، لكنها تقوم بذلك بطريقة التجربة والخطأ وتصير السيرورة الثورية أكثر طولا وحجم الخسائر أكبر. ما يهدد باستعادة قوى الردة الرجعية للمبادرة وإعادة تنظيم صفوفها.