تجتاح المغرب في الفترة الأخيرة موجة هائلة من الاحتجاجات، فإلى جانب تنفيذ الإضراب العام يوم 29 أكتوبر الماضي، والذي شل جل القطاعات الحيوية في البلاد والذي وصلت نسبة المشاركة فيه إلى 83 في المائة، حسب النقابات الداعية له، فإن هناك حركة ما زالت تتسع يوما بعد يوما وتنتقل من مدينة إلى أخرى. إنها حركة احتجاجية جماهيرية ضد غلاء فواتير الماء والكهرباء.
مباشرة بعد شهر غشت، وكما كان مقررا من حكومة الحزب الإسلامي العدالة والتنمية، عرفت فاتورة الماء والكهرباء زيادة قيل أنها خطة ستستمر لمدة ثلاث سنوات من أجل “إنقاذ” المكتب الوطني للماء والكهرباء من الإفلاس. وطبعا المواطن البسيط هو من سيدفع فاتورة هذا “الإنقاذ”. ليس مهما عند السادة البرجوازيين من الذي أوصل المكتب الوطني إلى هذا المستوى حتى “ينقذ”، فهذا ترف لا يمكن الخوض فيه أو مناقشته فما بالكم بتفعيل آلية المحاسبة وتقديم المفسدين وناهبي المال العام للمحاكمة. ما يهم عندهم فقط هو “إنقاذ” المكتب الوطني، أو بالأحرى إنقاذنا نحن له وكأننا من أوصله لحالة الإفلاس. هؤلاء السادة لا ينظرون إلينا إلا كجيوب لحل أزمتهم.
ما حدث في المكتب الوطني للماء والكهرباء هو بالضبط ما حدث في صندوق التقاعد والقرض العقاري والسياحي وغيرهما: نفس السياسة لنفس النظام. يعمل النظام جاهدا على رفع يده عن القطاع العام والخدمات العمومية التي تمس الحياة اليومية للمواطن. منذ الاستقلال الشكلي وبسياسة ممنهجة قائمة على النهب وخلق الأزمات في كل القطاعات العامة ودفعها إلى الإفلاس عبر إطلاق يد المدراء العامين المعينين بظهير “شريف”، وبسلطة مستمدة من الملك، يلعب النظام على حبلين: حبل توسيع قاعدته الاجتماعية المشكلة أساسا من مختلسي المال العام والذين لا يرون أي مستقبل لهم وضامن لمصلحتهم غير النظام القائم؛ وحبل خلق أزمات في القطاعات العامة من أجل تفويتها للخوصصة أو للتدبير المفوض. المكتب الوطني للماء والكهرباء مثال لهذا الفساد والإفساد، وعبر هذا المسار يعيش “أزمة”.
حدود الأزمة
قال وزير الطاقة والمعادن، عبد القادر اعمارة، في معرض رده على أسئلة آنية حول وضعية المكتب الوطني للماء والكهرباء، تقدمت بها عدة فرق في إطار جلسة الأسئلة الشفوية لمجلس المستشارين يوم 23/6/2014، إن العجز المسجل في صافي دخل المكتب يناهز 2,7 مليار درهم، وقد يصل إلى 7 ملايير في السنوات القادمة إن لم يتم التسريع “بالإصلاحات” الضرورية.
وأضاف أن مديونية المكتب الوطني بلغت 51,8 مليار درهم بالإضافة إلى التزامات صندوق التقاعد بـ 18 مليار درهم، موضحا أنه في حال عدم القيام بإصلاح المكتب ستتجاوز المديونية 82 مليار درهم. وقال إن عجز خزينة المكتب بلغ بدوره ناقص 7,5 مليار درهم وسيصل في حالة عدم إصلاح المكتب إلى ناقص 38 مليار درهم في 2017. وأكد أن ديون الشركات الممونة للمكتب تبلغ 2,3 مليار درهم لحساب 1422 شركة وطنية و181 شركة أجنبية.
السيد الوزير وفي إطار حجب الشمس بالغربال عندما سيقف على الأسباب التي أدت إلى هذه “الأزمة” فمن جملة ما سيقول “تأثير تقلبات الطقس” وعلى نفس المنوال سيقدم لنا الوزير الوفا نصيحة سيعتبرها من إنجازات الحكومة وهي “تعلم قراءة العداد”… أي أن كل الحكاية تتلخص في طقس وعداد.
ماذا بعد الأزمة
في أواخر الثمانينات شرع المغرب في العمل بالقانون المفوض الذي هو “اتفاق تسند بموجبه جماعة محلية أو مؤسسة عمومية أو مقاولة أو هيأة عمومية أو شبه عمومية، صلاحية استغلال مرفق عمومي حسب شروط محددة في دفتر التحملات، وذلك مقابل أداء مالي”. والذي قدم كحل سحري للأزمة التي يعيشها القطاع العام بشرت به “اتفاقية الجات”، والذي ينص على رفع يد الدول عن سوق الخدمات العمومية وتفويتها للقطاع الخاص. بعد عشر سنين من هذا التفويض لقطاع الماء والكهرباء سيصبح “الحل السحري” أزمة، بل كان أزمة منذ البدء. وهو الذي ولد حركة احتجاجية في أكثر من مدينة طالها التفويض.
يعتبر التدبير المفوض حلقة أخرى من حلقات “الاستعمار الجديد” الذي جاءت به الإمبريالية، إنه هيمنة الرأسمال على الحياة والذي لا يرى في كل القيم إلا مجرد سلع يجب بيعها. وكلما اشتدت أزمته كلما زحف أكثر على قطاع الخدمات العمومية من ماء وكهرباء وتعليم وصحة… الشركات متعدد الجنسيات والرأسمال “المحلي” جنبا إلى جنب، وبمباركة الحكومات البرجوازية، يعلنون الحرب المعلنة مسبقا ضد القوت اليومي للفقراء. إننا أمام حرب حامية الوطيس تستهدف الإنسان كنوع.
ليس غريبا في هكذا وضع أن يخرج الناس للاحتجاج، وليس غريبا كذلك أنه كلما نهضوا إلى خوض أشكال نضالية، كلما قاوموا في الشوارع، تظاهروا واعتصموا كلما نهض من الطابور الخامس من يسقف مطالبهم ويعمل على احتواء حركتهم. حركة المقاومة والاحتجاج عليها أن تتعرف على مثل هؤلاء السادة، كشف خياراتهم وتعريتها. إن شرط نجاح حركة الجماهير رهين بكشف هؤلاء الأصدقاء المزيفين وتجاوزهم من خلال تجاوز شعاراتهم وبرامجهم.
تشارك في حركة الاحتجاج الحالية، على الأقل داخل بعض التنسيقيات التي تشكلت على خلفية السخط ضد التسعيرة الجديدة للماء والكهرباء، أحزاب سياسية تحملت المسؤولية في تفويت هذا القطاع العمومي للتدبير المفوض، وفي إطار القيام بحملة انتخابية سابقة لأوانها هاهي اليوم تتبوأ موقع القيادة. هؤلاء ليسوا رفاق طريق، إنهم أعداء على الحركة أن تتخلص منهم كما عليها أن تتخلص من أوهامها.
المخـرج
مع مطلع عام 2008 دخلت الرأسمالية في أزمة. أزمتها هاته بنيوية ولا يمكن مقارنتها إلا بأزمة 1929. إننا نعيش عصر انحطاط الرأسمالية، والرأسمالية بهذا لا تتوعدنا إلا بمزيد من الحروب والإرهاب والمجاعات… ولدت الأزمة موجة عارمة من النضالات وخصبت الصراع الطبقي أكثر. وبقدر ما هددت الرأسمالية العالمية كوكب الأرض بالفناء بقدر ما خلقت شروط تجاوزها.
من تونس ومصر إلى تركيا والبرازيل… راية واحدة مرفوعة: راية النضال والثورة. الحلم بالإصلاحات في ظل الرأسمالية حلم حسم فيه الصراع الطبقي، حلم انتهى بانتهاء ما كان يسمى بـ “دولة الرفاه”. لا حل على قاعدة رأسمالية.. هناك من “يبشر” في حركة النضال ضد غلاء فواتير الماء والكهرباء بأنه يكفي أن تناضل ضد إلغاء عقدة التدبير المفوض، (كذا). ويكفي أيضا أن يسير القطاع من طرف الدولة، (كذا). يجهل أصحاب وجهة بلا نظر هؤلاء أن الدولة هي من أوصلت قطاع الماء والكهرباء إلى الأزمة، إنه تعبير صارخ عن أزمتها في التسيير. ويجهلون أيضا بأن دولة الرأسمال لن تقف إلا في صف الرأسماليين ومعسكرهم.. لن تلغي الدولة أيا من عقود التدبير، يمكن أن تسحبه من شريك لصالح شريك آخر. وإن ألغته فاعلم أن القطاع أفلس كما حالة “دوزيم” الذي أنقذت فيه الدولة الشركة المالكة من الخسارة التي كانت تتكبدها، بفضل أموال دافعي الضرائب.
تعلمنا الماركسية أن الرأسمالية تأخذ باليد اليسرى كل ما أعطته باليد اليمنى، هذا الدرس يجب أن ينقش في الذاكرة. وعلى حركة النضال ضد الغلاء أن تستوعبه. إن حركة النضال هاته محكومة بأن تكون جذرية، وعلى قوى اليسار الاشتراكي أن تنظر إليها من هذا الجانب.
للحركة عمق شعبي وامتداد جماهيري كبير، وقد استطاعت أن تنفتح على الشباب بقدر انفتاحها على كبار السن، كما يمكن ملاحظة الدور الكبير الذي تلعبه المرأة خاصة ربات البيوت داخل هاته الحركة. للحركة كذلك، وهذا هو الأهم، رافد مهم من العمال والعاملات يتقدمون كل اشكال النضال ومنهم من هو عضو فاعل في تنسيقية النضال. كل هاته المعطيات وغيرها تجعل من حركة النضال ضد الغلاء حركة أصيلة تخترق كل المجتمع بكل فئاته المفقرة. من هنا وجب التعاطي مع هذه الحركة وربطها بمشروع التغيير الثوري.
يبتدء هذا المشروع بخلق تنظيم جماهيري يمتد في كل الأحياء والشوارع ومشكل من المعنيين الحقيقيين والمتضررين الفعليين من موجة الغلاء هاته، تنظيم ديمقراطي تمتلك فيه الجماهير حق التقرير والتوجيه والتسيير. يجب تشكيل مجالس شعبية في الأحياء والمناطق، والتنسيق بينها عبر ممثلين منتخبين في جموعات عامة ديمقراطية، سواء على صعيد المدينة والبلدة أو الإقليم أو الجهة أو على الصعيد الوطني. وعلى الاشتراكيين الحقيقيين أن يساعدوا الجماهير على إيجاد الطريق نحو بناء أدوات نضالها وسلطتها، عبر الانخراط الفعلي في تلك النضالات والعمل بصبر على شرح التكتيكات المناسبة وتمكين الجماهير من التعلم من خلال تجربتها الخاصة.
أما فيما يتعلق بشعارات النضال فيجب ألا ينحصر النضال في فسخ “عقدة التفويض”، يجب أن ينفتح على النضال ضد الخوصصة وغلاء الأسعار. وتجميع قوى كل المتضررين من ذلك، من عمال وربات بيوت وشباب معطل وفلاحين فقراء.
إن مهمة الاشتراكيين هي ربط النضال ضد الخوصصة بالنضال ضد الرأسمالية. لقد أدى تسيير الرأسماليين ودولتهم بكل القطاعات الحيوية إلى أزمات عميقة صاروا هم بأنفسهم يعترفون بها. فمن شركة لاسامير والبنك العقاري والسياحي والصندوق الوطني للإيداع والتدبير، إلى صناديق التقاعد وصولا إلى المكتب الوطني للماء والكهرباء، لم يؤد تسييرهم سوى إلى خراب تلك الشركات. والآن ها هم يطالبوننا، نحن العمال والفلاحين، بأداء فاتورة جرائمهم. لماذا يا ترى علينا أن نؤدي نحن ثمن جرائم لم نرتكبها، بينما ينعم هؤلاء اللصوص بالثروات التي حققوها من نهب تلك القطاعات؟
يجب أن نناضل من أجل محاكمة كل المسؤولين الذين تسببوا في إفلاس تلك الشركات، ومصادرة ممتلكاتهم وتأميمها، يجب أن يعيدوا للشعب كل ما نهبوه، كما يجب أن يحاسب كل من شارك وتستر واستفاد.
ولكي نقطع مع كل إمكانية لتكرار هذه الجرائم يجب أن يصير كل قطاع “مأزوم/ مفلس قطاعا يخضع للرقابة الجماهيرية. والمكتب الوطني للماء والكهرباء أحد تلك القطاعات. نحن من يؤدي ثمن بقائه ونحن من يفرض عليها ملئ صناديقه التي أفرغتها عصابة اللصوص الذين يحكموننا، وبالتالي فنحن من يمتلك الحق في ممارسة الرقابة عليه وتسييره، من خلال مجالس شعبية منتخبة وبصلاحيات كاملة، لمنع أي كان من إعادة الكرّة. يجب أن يخاض الصراع على هذا المستوى.
إن قوة البرنامج الانتقالي هي أنه جسر يربط بين المطالب الآنية والملحة للجماهير العريضة وبين التغيير الاشتراكي للمجتمع. ونحن كماركسيين ثوريين لا نرى أي حل آخر سوى تأميم قطاع الماء والكهرباء ووضعه تحت رقابة الجماهير، وليكن شعارنا في النضال وسط الجماهير: “كل قطاع مفلس هو قطاع مؤمم تحت رقابة الجماهير”.
رابطة العمل الشيوعي
الخميس: 18 دجنبر 2014