الرئيسية / دول العالم / أوروبا / بريطانيا / خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي يخلق صدمة في كل أوربا

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي يخلق صدمة في كل أوربا

يوم 23 يونيو 2016، اتخذ الشعب البريطاني قرارا هاما، فلقد صوت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، بعد أربعين عاما من الانتماء إليه. لهذا القرار تبعات هائلة بالنسبة لمستقبل بريطانيا وأوروبا والعالم.


آلان وودز
الجمعة: 24 يونيو 2016

كانت نتيجة الاستفتاء تصويتا ساحقا بعدم الثقة في النظام السياسي. لقد تسببت في خلق موجات صدمة في الأسواق، التي كانت إلى حدود الليلة الماضية واثقة من انتصار التصويت بالبقاء. فاز فريق المغادرة بهامش 52٪ مقابل 48٪ لفريق البقاء، أي بأكثر من 1,2 مليون صوت، مع تصويت المقاطعات الإنجليزية وويلز بقوة لصالح المغادرة. لكن اسكتلندا صوتت بكثافة ضد. كانت نسبة الاقبال على التصويت عالية جدا: 67٪ في اسكتلندا، و72٪ في ويلز و73٪ في إنجلترا.

ومرة أخرى أثبتت استطلاعات الرأي أنها مخطئة، إذ أنها بقيت حتى اللحظة الأخيرة تتوقع فوز حملة البقاء. لكن استطلاعات الرأي توصلت إلى نتيجة خاطئة جدا، مثلما حدث في الانتخابات العامة العام الماضي. والسبب وراء هذا الفشل هو أن القائمين بها عاجزون عن فهم مزاج الاستياء العميق الموجود في المجتمع.

لقد أصيبت الطبقة الحاكمة وممثلوها السياسيون بحالة صدمة. ليس لديهم أي فهم لواقع الحياة التي يعيشها غالبية الشعب في بريطانيا. وقد تبين نفس الجهل في السلوك غير العقلاني لأسواق الأسهم عشية التصويت. قبل 48 ساعة عن الاستفتاء كانت أسواق الأسهم مزدهرة وارتفع الجنيه الاسترليني إلى أعلى مستوى له منذ شهور، حيث وصل عند نقطة معينة إلى ما يقارب 1.5 دولار أمريكي.

أنباء نتيجة الاستفتاء أثارت على الفور انخفاضات حادة في أسواق الأسهم في العالم وانخفض الجنيه الاسترليني إلى أدنى مستوى له منذ عام 1985. هذه إشارات إنذار مبكرة عن الركود الذي سيضرب قريبا الاقتصاد البريطاني، وموجات الصدمة التي ستنشر بسرعة في جميع أنحاء أوروبا وبقية العالم. وقد تم الشعور على الفور بالتداعيات السياسية لهذه النتيجة الصادمة. وأعلن ديفيد كاميرون، الذي تضرر سياسيا بشدة، أنه سيتنحى عن منصب رئيس الوزراء بحلول اكتوبر.

كما أن البليريين اليمينيين، الذين يتحكمون في الفريق البرلماني لحزب العمال، أخذوا بدورهم على حين غرة بنتيجة الاستفتاء. كان هؤلاء المحافظون المتخفين متحمسون في دعمهم لأوروبا المحكومة من طرف المصرفيين والرأسماليين، وتفاجئوا عندما وجه لهم قسم كبير من الطبقة العاملة، بمن فيهم العديد من ناخبي حزب العمال التقليديين، ركلة في الوجه.

لماذا؟

إن الناس الذين صوتوا لصالح “المغادرة” فعلوا ذلك لأسباب عديدة ومختلفة، بعضها تقدمي وبعضها الآخر رجعي. غضب التجمعات الصناعية والمعدنية القديمة في الشمال، التي عانت لسنوات من التدهور الاقتصادي وفقدان فرص العمل والفقر والتهميش، كان واضحا. تشعر هذه التجمعات بالسخط تجاه الطغمة السياسية التي تحكمهم من وستمنستر، وبسخط أكبر تجاه البيروقراطية البعيدة في بروكسل، التي لم تفعل شيئا لصالحهم.

عندما تحدث معسكر البقاء عن كون بريطانيا أكثر ازدهارا داخل الاتحاد الأوروبي، هزت فئات واسعة من الطبقة العاملة أكتافها بلا مبالاة. لقد رأوا الأغنياء يزدادون أكثر فأكثر ثراء، في حين أنهم وأسرهم صاروا أكثر فأكثر فقرا. فوائد الاتحاد الأوروبي – الذي هو بمثابة ناد للأغنياء – استفادت منها الأقلية وليس الأغلبية. وقد أدى ذلك إلى شعور متزايد بالظلم والذي خلق شعورا بالغضب والحنق ضد النظام السياسي، تجسدت نتيجته في تصويت يوم أمس.

تكشف النتيجة وجود مزاج من السخط يغلي في المجتمع. كما تبين إلى أي مدى صارت الطغمة السياسية بعيدة كل البعد عن فهم مشاعر الناس العاديين. وهذه ظاهرة عالمية تبينت من خلال الاستفتاء الاسكتلندي على الاستقلال في عام 2014، وفي الانتخابات العامة الإسبانية في دجنبر 2015، وفي صعود سيريزا في اليونان وحزب بوديموس في إسبانيا، والدعم الهائل الذي حصل عليه ساندرز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي ، كما ظهرت، بطريقة مشوهة، حتى في بروز دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية.

حجة معسكر البقاء، التي مفادها أن عضوية الاتحاد الأوروبي تعني ارتفاع معايير الرفاهية ومستوى المعيشة للجميع، مجرد كلام فارغ بالنسبة لكثير من البريطانيين ذوي الأجور المنخفضة. بالنسبة لهؤلاء الناس كان وعد الاتحاد الأوروبي بالازدهار مجرد غش وخداع.

بدت رسالة حملة البقاء للناس الذي يعانون من انعكسات الأزمة الرأسمالية، وكأنها لإرضاء السياسيين المحترفين المنتمين للطبقة الوسطى الثرية في لندن. كانت وكأنها صوت أشخاص يعيشون على كوكب آخر ويتحدثون لغة غير مفهومة للناس العاديين. وحقيقة أن نواب حزب العمال – البليريين اليمينيين الذين ينتمون في أغلبيتهم الساحقة إلى الطبقة المتوسطة – تعرضوا للصدمة دليل على ضآلة ما يفهمونه عن الوضع الحقيقي في بريطانيا. ومع ذلك يعتبر هؤلاء الناس أنفسهم واقعيين عظماء!

ومن جهة أخرى يشعر قادة اليمين في بريطانيا بالابتهاج طبعا. لقد قامت حملة الاستفتاء بالفعل بدفع مركز ثقل السياسة البريطانية نحو اليمين، مؤقتا على الأقل. لكنهم على الرغم من ذلك لم يحققوا هدفهم الفوري، وسوف يستمر الجناح التاتشيري[1] اليميني داخل قيادة المحافظين في الضغط من أجل السياسات الرجعية.

قال زعيم “حزب استقلال المملكة المتحدة” نايجل فرج، الذي كان إلى حدود الليلة الماضية يعتقد أنهم سيخسرون: «نجرؤ على الحلم بأن فجر استقلال المملكة المتحدة قادم». لكن حلم فرج سيتحول قريبا إلى كابوس للشعب البريطاني. ولم يكد يتحدث حتى بدأت السحب الداكنة تتجمع حول شمس حزب استقلال المملكة المتحدة المشرقة.

الأزمة داخل حزب المحافظين

«الشخص الذي ترغب الآلهة في تدميره تحوله في البداية إلى مجنون». ستكون هذه مرثيه مناسبة جدا لديفيد كاميرون وزعماء حزب المحافظين البريطاني. لقد أدت عقود من التراجع المخزي إلى تحويل بريطانيا إلى قوة من الدرجة الثانية قبالة سواحل أوروبا. هذه الحقيقة غير المستساغة لم يتقبلها أبدا يمين حزب المحافظين الذي يحلم باستعادة بريطانيا لعظمتها السابقة. وقد تباهى بوريس جونسون قائلا بأن 23 يونيو 2016 سيكون “يوم الاستقلال البريطاني”، مما يظهر إلى أي مدى صار هؤلاء الناس منفصلين عن الواقع. والآن ها هو الواقع على وشك أن يعلمهم درسا قاسيا جدا.

لم يعد للطبقة الحاكمة البريطانية وممثليها السياسيين اليوم أية علاقة مع سادة العالم بعيدي النظر القدامى الذين كتب عنهم تروتسكي في الماضي. إنهم جهلة أغبياء وقصيرو النظر. وهم في هذا الصدد يعكسون بصدق صورة المصرفيين والرأسماليين، الطفيليين الأغبياء والمدمنين على المضاربة والذين لا يمكنهم أن يروا أبعد من أنوفهم. هؤلاء، وليس بروكسل، هم الذين يحكمون حقا بريطانيا اليوم، وسيواصلون حكمها غدا.

يمتلك زعيم حزب المحافظين، كاميرون، العديد من الصفات المشتركة مع الطبقة التي يمثلها. يبدو أنه، مثل أصدقائه تجار المدينة، مدمن على المضاربة. لكن في حين يضارب هؤلاء بالأسهم والسندات، يضارب زعيم حزب المحافظين بمصائر شعوب بأكملها. لقد قام بمقامرة متهورة جدا مع الاستفتاء الاسكتلندي الذي فاز فيه بصعوبة. وها هو الآن قد قام بمقامرة أكبر على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وخسر. إن عواقب ذلك على بريطانيا وحزب المحافظين لا تحصى.

الضحية الأولى هي كاميرون نفسه، الذي ينتحر بسيفه، مثل نبيل روماني من العصر القديم، للتكفير عن ذنوبه. قدم زعيم حزب المحافظين المهان تصريحا في داوننغ ستريت على الساعة 08:15 صباحا، وهو الوقت الذي سجل فيه مؤشر FTSE100 انخفاضا بـ 500 نقطة، هو الاكبر على الاطلاق. وقال في خطبة الوداع: «سأفعل كل ما بوسعي، باعتباري رئيسا للوزراء، لضمان استقرار السفينة على مدى الأسابيع والأشهر المقبلة. لكنني لا أعتقد أنه سيكون من المناسب بالنسبة لي أن أحاول أن أكون الربان الذي سيقود بلادنا إلى وجهتها المقبلة».

التصدعات في حزب المحافظين

قادة معسكر المغادرة هم رجعيون من أسوء نوع. إنهم يمثلون، في أحسن الأحوال، تيار انجلترا الصغيرة اليميني التقليدي داخل حزب المحافظين والذي كان دائما موجودا. أنهم يمثلون الآراء والأحكام المسبقة السائدة بين صفوف قواعد حزب المحافظين: أصحاب الدكاكين وعقداء الجيش المتقاعدين ووكلاء العقارات وغيرهم من الدهماء الرجعيين، الذين كانوا في الماضي خاضعين بقوة لسيطرة الزمرة الحاكمة من النبلاء الأرستقراطيين المحافظين. وقد بقي هؤلاء الرعاع الشوفينيين المسعورين بدون قيادة بعد رحيل مارغريت تاتشر التي جاءت من صفوف هذه الطبقة بالذات.

ومثلما هي القيادة اليمينية للفريق البرلماني لحزب العمال بعيدة كل البعد عن قواعدها العمالية، فإن قادة حزب المحافظين في البرلمان – قدماء جامعة إيتون (Eton College) المحترمين والأثرياء، مثل كاميرون وأوزبورن- هم أيضا منفصلون عن قواعد حزب المحافظين، الذين ينحدرون من طبقة مختلفة ولهم خصائص سيكولوجية مختلفة.

قادة المحافظين يمثلون أصحاب الأبناك والاحتكارات الكبرى ومدينة لندن ويطلون بازدراء على المتعصبين اليمينيين في التجمعات الانتخابية للحزب. هذا هو خط الصدع الذي استغله بمهارة أمثال مايكل غوف وبوريس جونسون. الأشخاص مثل غوف، التاتشيريون اليمينيون المخلصون والمتشككون في أوروبا، هم التعبير الأكثر صدقا عن آراء قواعد الحزب والمدافعون الأشرس عن مبادئهم اليمينية.

نفى كل من جونسون وغوف مرارا أن تكون لديهم طموحات للحلول محل كاميرون في رئاسة الوزراء، لكن لا أحد يصدقهما. والآن بعد حملة مريرة وشخصية بشكل مكثف، سوف تبقى الانقسامات وتصبح أكثر حدة. وعند نقطة معينة، سيصبح حدوث تصدع في الحزب احتمالا واضحا.

تميزت حملة الاستفتاء منذ البداية بحدة لهجتها. وأصبحت الهجمات الشخصية الخبيثة هي القاعدة، تبادل قادة حزب المحافظين الشتائم واتهموا بعضهم البعض على الملأ بالكذب. لقد فتحت هذه الهجمات المتبادلة جروحا عميقة في حزب المحافظين لن يكون من السهل أن تلتئم.

والآن انقسم حزب المحافظين بوضوح إلى معسكرين متعارضين بشدة. من جهة هناك ما يسمى بالجناح “التقدمي” لحزب المحافظين والممثل بكاميرون وأوزبورن. ويقف ضدهما، وبدعم قوي من صفوف قواعد حزب المحافظين، اليمينيون التاتشيريون المدافعون عن السوق الحرة من أمثال مايكل غوف وايان دنكان سميث، بمساعدة عمدة لندن السابق بوريس جونسون. هذا الأخير هو المرشح المفضل الآن لزعامة حزب المحافظين في المستقبل.

بوريس جونسون

بوريس جونسون، الثرثار والمغرور وخريج جامعة إيتون، هو رجل ذو طموحات كبيرة. ليس سرا أنه هيأ نفسه لخلافة رئيس الوزراء البريطاني الحالي ديفيد كاميرون. وبعد أن تنحى من منصب عمدة لندن، وضع نفسه في قيادة حملة مغادرة الاتحاد الأوربي، التي رأى فيها بوضوح نقطة انطلاق ليبلغ داوننغ ستريت.

يتضح الانعدام التام للمبادئ عند جونسون في مقال لمايكل كوكيريل، في صحيفة الغارديان، يوم الأربعاء 22 يونيو، حيث نقرأ ما يلي:

«عاد جونسون إلى مخبئه في اوكسفوردشاير [في فبراير] لاتخاذ قراره. وكان من المقرر أن يسلم عموده، المؤدى عنه بشكل جيد، لصحيفة ديلي تلغراف. كتب مقالتين، يدافع في إحداهما عن الوضع الراهن، وفي الأخرى يدافع عن مغادرة الاتحاد الأوربي. قال لي شخص رأى كلا المشروعين إنه استعمل في الدفاع عن قضية البقاء أكثر الحجج قوة وإقناعا.

«عندما طرحت هذه المسألة على جونسون خلال الحملة، شهق وزفر وقال: أنا لا أعرف مصدر معلوماتك، لكن صحيح أنني كتبت مقالتين. وفي الثانية قلت: بغض النظر عن اعتراضاتي على الطريقة التي يسير بها الاتحاد الأوروبي، فإنه من أجل دعم حزبي ودعم رئيس الوزراء سيكون من الأفضل البقاء. وفكرت في النهاية أنه لم يكن سببا كافيا».

لا يعرف بوريس جونسون إلا مبدأ واحدا، وهو مصلحة بوريس جونسون. لقد ركب عربة المتشككين تجاه الإتحاد الأوروبي كوسيلة لتزلف قواعد حزب المحافظين والجناح المتشكك تجاه الإتحاد الأوروبي بين برلمانيي الحزب. ويبدو أن هذا التكتيك قد نجح بشكل جيد. قبل ساعات من إعلان النتيجة، وقع زعماء بارزون في حزب المحافظين، من حملة المغادرة، رسالة إلى ديفيد كاميرون يطلبون منه البقاء في منصب رئيس الوزراء. وكان هذا تكتيكا محسوبا، الهدف منه تقديم أنفسهم في صورة ايجابية كأشخاص موالين لزعيم الحزب، يشبه ذلك الولاء الذي أظهره بروتوس لصديقه يوليوس قيصر قبل وقت قصير من إغماد السكين في قلبه.

لقد حقق جونسون بالفعل هدفه في هذه الحملة، حيث تملق الجناح اليميني في حزب المحافظين، ووضع نفسه في موقع جيد لتولي مكان ديفيد كاميرون عندما يقدم هذا الأخير استقالته من منصب رئيس الحزب في اكتوبر المقبل. ومن وجهة النظر هذه، لم يكلفه التظاهر بالولاء أي شيء وسيكسبه المزيد من النقاط لقيادة حزب المحافظين.

نايجل فرج

في أقصى يمين حملة المغادرة يقف نايجل فرج، زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة، الذي دافع طيلة سنوات عن سياسة كراهية الأجانب ومعاداة أوروبا ومناهضة الهجرة. لقد استمر حتى وقت قريب منبوذا من قبل جميع السياسيين المحترمين، لكن حملة الاستفتاء على الاتحاد الأوروبي وضعته في صدارة الحياة السياسة البريطانية. وهذا له تداعيات خطيرة في المستقبل.

قبل ما يزيد قليلا على أسبوع واحد على الاستفتاء، نشر فرج بفخر ملصقا ضخما يصور أعدادا كبيرة من المهاجرين وطالبي اللجوء – كلهم من ذوي البشرة السمراء والسوداء- تحت شعار “نقطة الانهيار”. إن هذه الديماغوجية العنصرية هي محاولة فجة لصرف العمال عن رؤية الأسباب الحقيقية وراء البطالة وأزمة السكن. ليس لديك عمل؟ السبب هم المهاجرون! ليس لديك مسكن؟ السبب هم المهاجرون! الخدمات الصحية في أزمة؟ السبب هم المهاجرون!

يتضح لنا هنا كل المحتوى الرجعي لحملة المغادرة. بينما لم تكن جميع العوامل الأخرى: السيادة والديمقراطية ووضع حد لتدخل بروكسل، سوى توابع ثانوية لهذه الرسالة الرجعية الرئيسية. وعندما طرح السؤال على مايكل غوف حول هذا الملصق، قال: “عندما رأيت ذلك أحسست بالقشعريرة”.

ولكن كما أوضح له مذيع تلفزيوني في مقابلة معه، إن القشعريرة رد فعل شخصي بحت، لم يترجم إلى أفعال في شكل إدانة علنية. إن هذا الحادث الصغير يعبر على نحو كاف عن العلاقة الموجودة بين أشخاص مثل غوف وفرج.

بطبيعة الحال لا يوجد شيء جديد بخصوص الرسالة العنصرية المبطنة التي روجها حزب استقلال المملكة المتحدة. لكن هناك شيء جديد بخصوص القبول الذي صار هذا السم يلقاه اليوم، بعد أن كان يعتبر حتى وقت قريب أمرا غير مقبول من طرف الأحزاب السياسية الرئيسية. لقد بدأ جو سام يطغى على الحياة السياسية البريطانية.

إن الآلية التي صارت من خلالها الأفكار المناهضة للهجرة والمعادية للأجانب والعنصرية المبطنة مقبولة، كانت على النحو التالي: يطرح نايجل فرج تلك الأفكار بهذا القدر أو ذاك من الوضوح، وهي الأفكار القريبة جدا من العنصرية، وإن كان ذلك بطريقة أكثر دهاء وتسترا من تلك التي ينهجها الحزب الوطني البريطاني وغيره من المجموعات الفاشية الواضحة. لا يمكن لجونسون وغوف أن يدعما علانية فرج وآرائه المعادية بشكل واضح للأجانب، لكنهما اقتربا تدريجيا منه، مرددين رسالته بطريقة ماكرة وخفية، بينما كانا يحتجان ظاهريا ضد “تجاوزاته”.

في مقابلة له مع قناة Channel 4 News سئل فرج عن رأيه في أن النواب المحافظين، مثل مايكل غوف وبوريس جونسون، الذين كانوا ينظرون له سابقا بازدراء، صاروا الآن يكررون خطابه المناهض للهجرة، أجاب زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة أن ذلك جعله سعيد جدا. وعندما سئل أيضا عن الشائعات التي تقول بأن بوريس جونسون سيكون مستعدا ليقدم له منصبا في الحكومة المقبلة، احتج فرج بأنه لا يعرف شيئا عن أي اقتراح من هذا القبيل. لكن من الواضح أن مثل هذه المقترحات تجري مناقشتها وراء الكواليس.

ماذا الآن؟

يجب أن يؤدي انتصار خيار المغادرة إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وفق أحكام المادة 50 من معاهدة لشبونة (تضمنت معاهدة لشبونة بندا لخروج الأعضاء الذين يرغبون في الانسحاب من الاتحاد، ضمن المادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي). لكن هذه الخطوة مجهولة العواقب. لم يحدث أبدا شيء من هذا القبيل من قبل، ولم يكن من المفترض أن يحدث أبدا. ستكون عملية الانفصال طويلة ومعقدة، ستبدأ فترة تمتد عامين على الأقل للتفاوض على شروط “الطلاق”. لكن وكما هو معروف عموما، فالطلاق يكون تجربة سيئة ومثيرة للجدل ومريرة.

ومن المفارقات أن الموالين لحملة المغادرة بدأوا يقولون إنه ليس من الضروري أن يحدث ذلك على الفور. إنهم يفضلون أن يكون خروج المملكة المتحدة من التكتل في وقت الانتخابات العامة المقررة في ماي عام 2020. لكن هذه القرارات ليست في أيديهم تماما. بشكل عام كان للمعسكر المعارض للاتحاد الأوروبي وجهة نظر متفائلة جدا حول كيف ستسير الامور إذا صوتت بريطانيا لصالح مغادرة الاتحاد. والآن سوف نرى الواقع القاسي لموقف بريطانيا أمام أوروبا.

ستكون ردة فعل القادة الأوروبيين الآخرين تجاه قرار بريطانيا بالقفز من السفينة هي الصدمة والغضب والاستياء. إن فكرة أن بريطانيا يمكنها أن تقيم علاقات صداقة وتعاون مع الاتحاد الأوروبي بعد أن تغادره هي مجرد فكرة طوباوية محضة. والحقيقة الواضحة هي أن أنجيلا ميركل والزعماء الأوروبيين الآخرين لا يمكنهم أن يقدموا أي تسهيلات لبريطانيا، حتى لو أرادوا ذلك، ناهيك عن أنهم بالتأكيد لا يريدون ذلك.

وقد بدأت بالفعل تصدر تقارير متواترة عن تزايد الشعور المتشكك تجاه الاتحاد الأوربي في جميع أنحاء القارة. ووفقا لاستطلاعات الرأي فإن المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي في فرنسا أقوى مما كانت عليه في بريطانيا. مارين لوبان تطالب بإجراء استفتاء. وسوف تحذو حذوها الأحزاب المتشككة تجاه الإتحاد الأوروبي الأخرى. ويمكن لهذا أن يؤدي في النهاية إلى تفكك الاتحاد الأوروبي.

لهذا فإنه إذا تعاملت بروكسل بتساهل مع بريطانيا، سوف يشجع ذلك الآخرين على أن يحذوا حذوها. وهذا غير وارد. سرعان ما سوف تجد الطبقة الحاكمة البريطانية نفسها في العراء. وستكون الطبقة العاملة والفقراء هم الذين سيشعرون بثقل ذلك أكثر من أي كان.

تستند توقعات معسكر البقاء بأن المغادرة ستؤدي إلى حدوث أزمة اقتصادية حادة، على معطيات حقيقية. وتتجمع الآن في بريطانيا غيوم أزمة ستضرب الطبقة العاملة بقوة.

من ناحية أخرى سرعان ما سيتضح أن وعود جونسون وأمثاله بأن مغادرة الاتحاد الأوروبي ستمكن البلد من “استعادة السيطرة على مصيره”، مجرد مزاعم من دون أساس. سوف تحدد المفاوضات ما إذا كانت المملكة المتحدة ستبقى أم لا جزءا من السوق المشتركة دون أن تكون ضمن الاتحاد، مثلما هو وضع النرويج حاليا. لكن هذا يعني أنه سيكون على المملكة المتحدة القبول بحرية حركة العمالة.

وتشمل الخيارات الأخرى صفقة على غرار الاتفاقية الكندية للتجارة الحرة أو اتفاقا ثنائيا على غرار الاتفاق السويسري أو العودة إلى الشروط الأساسية للتجارة التي توفرها عضوية منظمة التجارة العالمية. لكن كل هذه الخيارات تتطلب مفاوضات طويلة ومعقدة، سوف تكون مصحوبة بزيادة البطالة وانخفاض مستويات المعيشة.

لقد أشار الجانب المؤيد للمغادرة بالفعل إلى أنهم يتوقعون حدوث أزمة مالية على المدى القصير. يحاول بوريس جونسون تهدئة مخاوف الناس بالقول إن الجنيه “يتذبذب بشكل طبيعي”. لكن من الواضح أن التذبذب الحالي يسير في اتجاه هابط. ويحذر الملياردير والمضارب بالعملات جورج سوروس من أن التأثير سيكون أكبر من انهيار 1992.

بدأت هذه التحذيرات تصير بالفعل واقعا. انهار مؤشر FTSE100 بما يقرب من 500 نقطة في غضون دقائق على فتحه هذا الصباح. هذا الانخفاض مسح على الفور حوالي 124 مليار جنيه من قيمة أكبر 100 شركة مدرجة في المملكة المتحدة. إذا ما أغلق اليوم على هذا التراجع الكبير، يمكن أن يكون ذلك أكبر انخفاض سجل في تاريخ المؤشر. وهذا تحذير بالأمور التي ستحدث في المستقبل.

الاقتصاد البريطاني سينكمش. والاستثمار في الأعمال سينهار، كما ستنهار أسعار العقارات والجنيه الاسترليني. ذلك يعني أن السلع المستوردة ستصبح أكثر تكلفة، مما سيؤدي إلى ارتفاع في الأسعار. وبعبارة أخرى، لقد تعرضت الطبقة العاملة في بريطانيا للخداع من طرف دعاة المغادرة، بالضبط مثلما كانوا سيخدعون من طرف أنصار البقاء. وفي كلتا الحالتين كانت الطبقة الحاكمة ستجعلهم يدفعون ثمن أزمة نظامها.

التداعيات على اسكتلندا

لنتيجة هذا الاستفتاء تداعيات هائلة على مستقبل اسكتلندا. إنها تعمق الصدع الذي يفصل اسكتلندا عن بقية المملكة المتحدة. لقد صوتت اسكتلندا لصالح بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بنسبة 62٪ إلى 38٪ – مع تصويت كل المجالس المحلية الاثنتان والثلاثون لصالح البقاء. قال أعضاء حملة “اسكتلندا أقوى داخل الاتحاد الأوروبي” إن الأغلبية التي صوتت في اسكتلندا لصالح البقاء كانت “استثنائية”.

لكن هذه النتيجة ستطرح من الأسئلة في اسكتلندا أكثر مما ستقدم من الأجوبة. المشكلة هي أن المملكة المتحدة ككل قد صوتت لصالح المغادرة، مما يثير احتمال جر اسكتلندا للخروج من الاتحاد الأوروبي ضد إرادتها. وقالت وزيرة الشؤون الخارجية في الحكومة الاسكتلندية، فيونا هيسلوب: «يجري النظر في جميع الخيارات الممكنة من أجل حماية مصالح اسكتلندا»، وحذرت من أنه ستكون هناك “عواقب” اذا ما قامت المملكة المتحدة باتخاذ قرار ضد إرادة الشعب الاسكتلندي.

وقالت الوزيرة الأولى، نيكولا ستيرجون، إن اسكتلندا قامت “بتصويت قوي لا لبس فيه” لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. وقالت السيدة ستيرجون إن التصويت أوضح «أن شعب اسكتلندا يرى مستقبله كجزء من الاتحاد الأوروبي». وأشارت إلى أن هذه النتيجة من شأنها أن تضع على جدول الأعمال استفتاء جديدا على استقلال اسكتلندا. وكان الوزير الأول السابق، أليكس سالموند، أكثر تأكيدا، إذ قال إنه يعتقد أنه يجب أن يتم الآن تنظيم استفتاء ثان على الاستقلال.

قال السيد سالموند لقناة بي بي سي: «هذا يعني أنه على نيكولا ستيرجون أن تذهب إلى الأمام مع البيان الذي، كما تتذكرون، قال إنه يجب أن يكون للبرلمان الاسكتلندي الحق في الدعوة الى استفتاء ثان على استقلال اسكتلندا إذا ما حدث تغير مادي وكبير في الظروف، مثل إخراج اسكتلندا من الاتحاد الأوروبي ضد إرادة الشعب الاسكتلندي. وقد حدث ذلك الآن، وأنا على يقين من أن نيكولا سوف تمضي قدما في الالتزام بالبيان».

وهكذا تكون مقامرة كاميرون المتهورة قد وضعت المملكة المتحدة مرة أخرى في خطر، وهو ما قد ينتهي بتحول بريطانيا العظمى إلى انجلترا صغيرة.

آثار رجعية

لا يعني انتصار موقف المغادرة تعزيز التيار الثوري أو اليساري كما يتصور بعض الناس المخدوعين، بل على العكس من ذلك، إنه انتصار للقوى الرجعية – ولو مؤقتا – ليس فقط في بريطانيا، لكن أيضا في جميع أنحاء أوروبا. إن الذين يحتفلون بمثل هذا التطور هم أمثال مارين لوبين وحزب البديل من أجل ألمانيا وغيرهم من القوى الشوفينية الرجعية والمعادية للهجرة. طالبت مارين لوبين، زعيمة حزب الجبهة الوطنية، بإجراء استفتاء في فرنسا، وكذلك الشأن بالنسبة لقادة اليمين في هولندا وغيرها من البلدان.

وفي محاولة للرد على الحجة القائلة بأن الخروج من الاتحاد الأوربي سيعني كارثة اقتصادية، كثف الجانب الآخر من الدعاية المناهضة للهجرة. وقد أصبح المزاج أكثر قبحا وأكثر سمية يوما بعد يوم. ولا يمكن أن يكون هناك أدنى شك في أن هذا الوضع لعب دورا في جريمة القتل الوحشية التي تعرضت لها جو كوكس.

تحتوي ديماغوجية نايجل فرج المناهضة للهجرة على العنصرية وكراهية الأجانب. وعلى الرغم من آرائه المناهضة للهجرة، فإن فرج نفسه ليس فاشيا، لكنه يرسم الطريق لتطور الفاشية في المستقبل. وبينما سيكون من الخطأ تماما أن نبالغ في تقدير قوة وأهمية المنظمات الفاشية في بريطانيا، والتي هي في الوقت الحاضر مجرد عصب صغيرة، لكنها رغم ذلك شرسة، على هامش الحياة السياسة، فإن اللهجة العنصرية، والتي بالكاد يخفيها اللوبي المناهض للهجرة، ستخلق، بدون شك، ظروفا مواتية لنمو هذه التيارات.

الاتعكاسات على حزب العمال

كما كان متوقعا يستغل البليريون داخل حزب العمال نجاح التصويت لصالح المغادرة لشن حملة جديدة ضد زعيم حزب العمال جيرمي كوربين. يدعي هؤلاء النواب البليريون أن جهود كوربين للإبقاء على بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي “لم تكن متحمسة بشكل كاف”. مسكين جيريمي! لو كان في مقدورهم إلقاء اللوم عليه بسبب حالة الطقس لما ترددوا. إن البليريين اليمينيين عازمون على التخلص منه مهما فعل.

في سياق الدفاع عن نفسه ضد الاتهامات المتكررة بأن حملته الانتخابية للبقاء في الاتحاد الأوروبي كانت “غير حماسية”، قال كوربين: «هناك الكثير من الناس الذين لم يكونوا سعداء مع الاتحاد الأوروبي. وكان الموقف الذي دافعت عنه هو أنه جاءتنا أشياء جيدة من أوروبا – ظروف العمل وحماية البيئية – لكن كانت هناك قضايا لم تعالج بشكل صحيح، وخاصة قضية عدم المساواة الاقتصادية في بريطانيا… لذلك قلت إن مشروعي هو أنه علينا التصويت لصالح البقاء من أجل تغيير الاتحاد الأوروبي وإصلاحه».

وخلافا لزعيم الحزب، كان البليريون اليمينيون في الفريق البرلماني لحزب العمال متحمسين للغاية تجاه الاتحاد الأوروبي الرأسمالي. وفي هذا كانون متفقين تماما مع كاميرون وأوزبورن ومدينة لندن، لكنهم كانوا، وما يزالون، منفصلين بشكل مطلق عن ناخبي حزب العمال.

إن أبناء الطبقة الوسطى الاثرياء الانتهازيون هؤلاء لا يفهمون مزاج الاستياء وعدم الثقة، بل وحتى الكراهية، التي يشعر بها الشعب العامل ضد النظام السياسي في وستمنستر، بما في ذلك عصابة يمين حزب العمال. والحقيقة هي أن معظم أبناء الشعب العامل الآن لا يرون أي فرق حقيقي بين النواب البليريين وبين المحافظين. وقد ساهمت حملة الاستفتاء في تأكيد هذا الاعتقاد لديهم، وهو الاعتقاد الذي يقوم بالطبع على أسس سليمة.

لا يمكن من الناحية السياسية تمييز البليريين عن تيار كاميرون داخل حزب المحافظين. انهم ينحدرون من نفس الطبقة الاجتماعية، ويتمتعون بنفس أسلوب الحياة المتميز، وهم أعضاء في نفس النوادي ولديهم بالضبط نفس السيكولوجية الطبقية. وخلال حملة الاستفتاء شاركوا بسعادة في الدعاية جنبا إلى جنب مع كاميرون وأوزبورن والسياسيين المكروهين من طرف الطبقة العاملة بسبب سياستهم المشؤومة، سياسة الاقتطاعات والتقشف، وهي السياسة التي يوافق الجناح اليميني لحزب العمال على معظم مضامينها.

أصدرت قواعد الحزب المؤيدة لكوربين البيان التالي هذا الصباح:

«نحن ندرك أن الناس صوتوا لصالح “المغادرة” لأسباب عديدة. يعكس هذا التصويت وجود الكثير من الغضب بين التجمعات السكانية التي شهدت سنوات عديدة من تراجع الصناعة، مع ما رافق ذلك من خسارة لفرص العمل. لقد تعرضت الكثير من هذه التجمعات العمالية لسنوات من التهميش من طرف من هم في السلطة. ويبدو أن الملايين منهم اختاروا “المغادرة” للتصويت ضد العولمة الجامحة والتي أدت إلى ركود مستويات المعيشة أو انخفاضها وارتفاع تكاليف الحياة. نحن نشاركهم هذه الغضب ضد هيمنة الشركات التجارية الكبرى وضد التقشف وضد النخب، سواء كانت بريطانية أو أوروبية أو عالمية، ونشاركهم المطالبة ببلد يكون فيه للشعب العامل حق الرقابة.

«كثير من الذين صوتوا لصالح “المغادرة” هم عادة ما يصوتون لحزب العمال أو هم عمال ينبغي على حزب العمال أن يمثلهم. والآن يجب على الحزب، وعلى الحركة العمالية كلها، أن يظهرا للبلد أنهما وحدهما من في مقدورهما أن يمكنا الشعب العامل من ممارسة رقابة حقيقية على حياته وأماكن عمله وتجمعاته.

«يجب على حزب العمال أن يبين بوضوح كيف سيحسن حياة الناس من خلال سياسات من شأنها زيادة الأجور ومعالجة أزمة السكن وإعطاء الشعب دورا أكبر في أماكن العمل وفي تجمعاتهم.

واضاف البيان: «اذا لم نفعل ذلك، فإننا لن نفشل فقط في طرح السياسات التي سوف تفيد الشغيلة، بل قد نمكن أيضا اليمين الشعبوي، الذي يلوم المهاجرين، وليس الأقوياء، على المشاكل التي يعيشها بلدنا. جزء من حملة “المغادرة” عزز هذه القوى الرجعية العنصرية، التي تنشر الكراهية وتقدم أملا كاذبا. يجب علينا أن نضاعف جهودنا لوقف تحويل المهاجرين إلى أكباش فداء، ونركز اهتمامنا على احتياجات ورغبات الأغلبية الساحقة، ونقدم برنامجا حقيقيا للأمل لشعبنا.

«على الرغم من أننا سوف نغادر الاتحاد الأوروبي، فإن حركتنا ستبقى أممية. يجب أن نستمر في العمل مع أصدقائنا وشركائنا وحلفائنا في شتى أنحاء أوروبا، في الكفاح المشترك ضد التقشف وللتصدي لتغير المناخ وبناء اقتصاد مستدام مع التشغيل الكامل لجميع شعوب أوروبا».

يمكننا أن نتفق مع الكثير من هذه المشاعر. لكن لقد حان الآوان لكي تدرك الحركة أن الجناح اليميني للفريق البرلماني لحزب العمال قد أعلن الحرب على جيريمي كوربين ولن يرتاح أبدا حتى يتمكن من عزله. أزمة حزب المحافظين، التي تعمقت الآن نتيجة للاستفتاء، تطرح مسألة الانتخابات العامة في المستقبل القريب، وسيكثف الجناح اليميني الآن حملته الشرسة لإسقاط جيريمي كوربين قبل حدوث ذلك.

ستنفتح الآن حتما فترة من عدم الاستقرار السياسي في بريطانيا. وبالفعل هناك دعوات لإجراء انتخابات عامة جديدة لكي يتمكن النواب من كلا الجانبين من طرح خططهم لما يمكن فعله مستقبلا. قال النائب المحافظ يعقوب ريس موغ إن إجراء انتخابات عامة في الخريف المقبل “ليست مسألة مستحيلة”. واقترح آخرون إجراء الانتخابات في شهر مارس أو يونيو 2017 وهو الأكثر احتمالا.

منذ اللحظة الأولى لانتخاب كوربين زعيما لحزب العمال، انطلقت حملة شرسة في وسائل الإعلام، مدعومة بالكامل من قبل الفصيل البليري بين برلمانيي حزب العمال، تزعم بأن جيريمي كوربين شخص “لا يمكن انتخابه”. لكن المشكلة الحقيقية للطبقة الحاكمة هي العكس تماما. فحكومة المحافظين فاقدة بشكل شديد للشعبية ومنقسمة على نفسها من أعلى إلى أسفل. وقد كان تصويت يوم أمس حقا استفتاء، ليس على الاتحاد الأوروبي، بل على حكومة كاميرون. والنتيجة واضحة ليراها الجميع.

على المدى القصير من المرجح أن يتولى أمثال جونسون وغوف قيادة حزب المحافظين ويشكلوا حكومة محافظين جديدة. بعد ذلك سوف يواصلون الهجوم على الطبقة العاملة. وعوض أن نرى تقشفا أقل سنرى المزيد من التقشف. يرى كثير من الناس في التصويت لصالح المغادرة وسيلة لوضع حد للتقشف، لكنهم سيصدمون وسوف يشعرون بأنهم تعرضوا للخيانة. وهذا بدوره سيثير ردود فعل بين العمال، وفي نهاية المطاف سيعود الصراع الطبقي مرة أخرى إلى رأس جدول الأعمال.

إذا جرت انتخابات عامة في ظل هذه الظروف، سيكون من المرجح أن يفوز حزب العمال. وهو الاحتمال الذي تنظر إليه الطبقة الحاكمة بخوف، وسوف تفعل كل ما في وسعها لمنعه، مستخدمة عملائها في الفريق البرلماني لحزب العمال، وسوف تقيم الدنيا ولن تقعدها من أجل التخلص من كوربين قبل أي انتخابات من هذا القبيل. وإذا فشلوا في ذلك، من الممكن أن يعمل البليريون على تنظيم انشقاق في الحزب وينتقلوا للتحالف مع جناح كاميرون داخل حزب المحافظين. كما أن حزب المحافظين بدوره ليس بمنآى عن احتمال الانشقاق.

ويقول جيرمي كوربين إنه لن يستقيل بسبب هزيمة حملة البقاء التي لا يتحمل فيها أدنى مسؤولية. يجب وضع اللوم في تلك الهزيمة على الجناح اليميني لحزب العمال، الذي فقد كل مصداقية في أعين الطبقة العاملة. رأينا ذلك في اسكتلندا، حيث تسبب الجناح اليميني في تحطيم حزب العمال، والآن نراه مرة أخرى في الجنوب.

لقد حان الوقت لكي تقرر الحركة في أي اتجاه ستسير. من الضروري عليها التقاط القفاز الذي ألقاه الجناح اليميني لحزب العمال ورميه مرة أخرى في وجهه. فلتبدأ بتنظيم حملات لإلغاء تفويض نواب حزب العمال الذين يقومون باستمرار بمهاجمة زعيم الحزب وتشويهه، ويشوهون سمعة الحزب ويشقون صفوفه ويساعدون حزب المحافظين ويقومون بالدعاية لصالحه. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها لحزب العمال أن ينجح في تجديد نفسه ويقدم بديلا يساريا ذا مصداقية عن حكومة المحافظين الرجعية والفاقدة للمصداقية.

ما لا يجب القيام به

هناك مثل يقول: «إن الذي يركب على ظهر نمر سيواجه صعوبة عندما يكون عليه النزول».

شهدنا خلال حملة الاستفتاء بروز جبهة متحدة، كان الصوت المهيمن في هذه الجبهة هو صوت الرجعية المفضوحة الوقحة. وجد خطاب نايجل فرج العنصري الوقح غطاء محترما من طرف غوف وجونسون، اللذان تلقيا بدورهما الدعم من طرف بعض قادة حزب العمال الذين أبانوا عن النزعة الأكثر رجعية والأكثر ارتدادا، والمشوبة بالقومية التي هي جزء من التراث السلبي الذي خلفته الستالينية المحتضرة .

على المرء أن يضيف إلى هؤلاء عددا من المجموعات، التي تسمي بعضها نفسها ماركسية، والتي حاولت تبرير دعمها لخيار المغادرة باستعمال كل أنواع الحجج الغريبة والشعوذة الفكرية. يحق لنا أن نسأل هؤلاء سؤالا بسيطا ونحصل منهم على جواب بسيط: كيف يمكن لدعم حملة المغادرة أن يرفع مستوى الوعي الطبقي للعمال البريطانيين؟ ويهمنا جدا أن نسمع الجواب. لكننا لا نعتقد، ولو للحظة، أن هناك أي جواب إيجابي ممكن.

حاول البعض أن يرد بأن حملة المغادرة كانت موجهة ضد النظام بشكل عام وضد حكومة كاميرون على وجه الخصوص. هناك ذرة صغيرة من الحقيقة في هذه الحجة، لكنها مع ذلك مثال صارخ على السفسطة التي تأخذ ذرة صغيرة من الحقيقة وتتجاهل الكم الهائل من المعلومات التي تناقضها تماما.

صحيح أن حكومة كاميرون مكروهة من طرف الطبقة العاملة التي ترغب بكل جوارحها أن تقاومها وتضعفها وتسقطها. هذا إحساس تقدمي نؤيده بكل إخلاص. لكنه لا يكفي مجرد طرح مسألة إسقاط حكومة كاميرون. فالمسألة قبل كل شيء هي ما الذي سيحل محلها. وعند هذه النقطة يتضح بشكل جلي كل زيف وفراغ حجج من يسمون أنفسهم بالدعاة اليساريين لحملة المغادرة.

إذا تولى غوف أو جونسون قيادة حزب المحافظين، سوف يكثفون فورا سياسة الاقتطاعات والتقشف المشؤومة التي أطلقها كاميرون وأوزبورن. وقد ألمحا بالفعل إلى حقيقة أن التقشف يجب أن يستمر، وتراجعا عن الوعود التي قطعاها خلال حملة الاستفتاء. إنهما دعاة اقتصاد السوق الحرة بأسلوب تاتشر. سوف يكثفان حملة خصخصة المؤسسات العمومية، وسيدفعان إلى الأمام برنامج خصخصة الخدمات الصحية العمومية وسيشنان المزيد من الهجمات ضد حقوق الطبقة العاملة.

بعد مقتل جو كوكس، سارع بعض من هؤلاء الأنصار اليساريين لحملة المغادرة إلى القول بأنهم ينأون بأنفسهم عن العنصرية وكراهية الأجانب، ودعوا إلى تنظيم حملة ضد العنصرية. لكن كيف يمكن أن تفعل هذا في نفس الوقت الذي تواصل فيه المشاركة في الحملة التي تحرض بنشاط على كراهية الأجانب والعنصرية؟ هذا هو ما يعادل في السياسة محاولة تربيع الدائرة.

ليست لدينا، بالطبع، أية أوهام في الدور الذي تقوم به إجراءات الاتحاد الأوروبي في الدفاع عن حقوق العمال البريطانيين. لكن من الصحيح تماما، كما حذر جيريمي كوربين محقا، أن حزب المحافظين اليميني سوف يستغل فورا الانفصال عن أوروبا ذريعة لضرب ما كانوا يعتبرونه إجراءات غير ضرورية ومزعجة، بدءا بكل تلك الإجراءات التي تحد من ساعات أسبوع العمل، والدفاع عن معدلات الحد الأدنى للأجور والمعاشات والعطل، وما شابه ذلك.

كيف يمكن تفسير هذا على أنه حركة في اتجاه اليسار، سؤال يبقى لغزا للجميع باستثناء هؤلاء “الماركسيين” المثيرين للرثاء الذين قفزوا بحماس إلى عربة حملة المغادرة الرجعية. يجب عليهم الآن أن يتحملوا المسؤولية عن عواقب أفعالهم.

ما هو الموقف الذي ينبغي أن يتبناه الماركسيون؟

الجواب على هذا السؤال هو حقا بسيط جدا. كل شيء يساعد على رفع الوعي الطبقي للطبقة العاملة هو تقدمي، و كل شيء يؤدي إلى انخفاض الوعي الطبقي هو رجعي. والآن هل أدت حملة دعم المغادرة إلى رفع وعي الطبقة العاملة البريطانية؟

لقد كانت الطبيعة الرجعية لحملة دعم المغادرة واضحة للجميع. لقد اعتمدت كليا تقريبا على كراهية الأجانب والمشاعر المناهضة للمهاجرين وتضمنت إيحاءات عنصرية واضحة. لم تناشد الوعي الطبقي، بل استندت إلى المشاعر الأكثر تخلفا وردة وحتى رجعية عند الفئات الأكثر تخلفا بين صفوف الطبقة العاملة.

إن العمل على إرضاء هذه الحملة وتقديم الدعم لها بأي شكل من الأشكال، لا يمكن اعتباره محاولة لرفع وعي الطبقة العاملة، بل محاولة انتهازية لكسب ود الفئات الأكثر تخلفا. لكن، وكما شرح تروتسكي، إن محاولة كسب شعبية قصيرة الأجل عن طريق السباحة مع التيار هي أضمن طريقة لإعداد كارثة ليوم غد.

دعونا نطرح المسألة مباشرة: لقد كان هذا خلافا بين قسمين متنافسين داخل الطبقة الحاكمة وحزب المحافظين، وليست هناك ذرة من المضمون التقدمي في حجج كلا الطرفين. ليس هناك ما يفرض على الطبقة العاملة أن تأخذ موقفا في كل مرة يحدث انقسام في صفوف الطبقة الحاكمة، بل على العكس.

صحيح أنه كانت هناك العديد من العوامل الأخرى التي ساهمت في التصويت الكبير لصالح المغادرة، والذي شمل قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة. هناك شعور قوي بالسخط ضد النظام وممثليه السياسيين المحافظين ويمين حزب العمال. هناك شعور عميق الجذور، ولا سيما في المناطق التي تعرف ارتفاع معدلات البطالة والفقر، بـ “أنهم لا يمثلوننا”.

كثير من الناس صوتوا أمس ليس على مسألة ما إذا كانت بريطانيا ينبغي أو لا ينبغي لها أن تبقى داخل الاتحاد الأوروبي، بل مجرد تصويت احتجاجي ضد حكومة المحافظين وجميع سياساتها. وهذا شعور مفهوم تماما وصحيح وتقدمي. ومع ذلك، فإنه حتى المشاعر الأكثر تقدمية عند الطبقة العاملة يمكن أن يساء استخدامها وأن تستخدم لأغراض رجعية.

في القرن التاسع عشر واجه كارل ماركس وضعا مماثلا عندما حدث انقسام في صفوف الطبقة الحاكمة البريطانية بشأن مسألة الحمائية أو التجارة الحرة. درس ماركس المسألة ووصل إلى استنتاج مفاده أنه على الرغم من أن التجارة الحرة هي، من حيث المبدأ، أكثر تقدمية من الحمائية، فإنه أوصى العمال بالامتناع عن دعم أي من الطرفين في هذا النزاع. هذا موقف طبقي سليم جدا، وهو الذي يجب علينا أن نتبناه في الوقت الحاضر.

وأكرر ما قلته في مقالي الأخير: «ليست هناك ذرة من المضمون التقدمي سواء في حملة المغادرة أو حملة البقاء. إنهما تدافعان عن مصالح جناحين من الطبقة الحاكمة وحزب المحافظين. كما أنه ليست لديهما أية علاقة مع الطبقة العاملة. ليست لدينا نحن أية علاقة مع أي حملة منهما».

الاستفتاءات، مثل الانتخابات، يمكنها أن تخبرنا بجزء من القصة، لكن ليس كل القصة. إنها مثل لقطة تكشف عن الحالة الذهنية للجماهير في لحظة معينة من الزمن. لكنه من المستحيل التوصل إلى رؤية الصورة الكاملة عن السيرورة ما لم ننظر إلى الوضع في شموليته. ومثل أمواج المحيط، لا نرى سوى السطح، ومن أجل فهم المغزى الحقيقي للنتيجة، علينا التغلغل تحت السطح. لن نتمكن من أن نستشف التيارات العميقة التي تتدفق بقوة في أعماق المجتمع البريطاني إلا إذا درسنا الوضع بشكل أعمق مما تقدمه الأرقام.

وحده الموقف الطبقي المستقل من يمكنه أن يقطع مع ضباب الارتباك، ويوضح أن السبب الحقيقي وراء البطالة وسوء ظروف السكن هي أزمة الرأسمالية ومحاولات حزب المحافظين وضع عبء الأزمة كله على عاتق الطبقة العاملة وأفقر شرائح المجتمع.

لو أن كوربين حافظ على موقف مبدئي في معارضة الاتحاد الأوروبي، موضحا بجلاء طبيعته الطبقية، وطرح بديلا اشتراكيا أمميا، لما حدث الارتباك الذي رأيناه بين فئات واسعة من السكان. وبدلا من ذلك، تم تحويل المسألة بأكملها إلى جدل عقيم حول ما إذا كانت الطبقة العاملة ستكون أفضل حالا داخل أو خارج الاتحاد الأوروبي الرأسمالي.

لقد طرحت المسألة برمتها بطريقة خاطئة. في الواقع ليس هناك بالنسبة للطبقة العاملة فرق كبير بين ما إذا كانت بريطانيا ستبقى في الاتحاد الأوروبي أم لا. ففي كلتا الحالتين سوف تستمر الطبقة الرأسمالية في شن هجماتها ضد مستويات المعيشة وحقوق العمال. إن البديل الحقيقي هو شن نضال شرس ضد الاقتطاعات والتقشف ومن أجل التحويل الاشتراكي للمجتمع في بريطانيا وأوروبا وعلى الصعيد العالمي. وهذا يبدأ بخوض المعركة من أجل هزيمة اليمين البليري داخل حزب العمال، وتقوية كوربين وانتخاب حكومة عمالية يسارية لتنفيذ كل ذلك. هذا هو الأمل الوحيد للمستقبل.

هوامش:

1: مارغريت تاتشر (1925- 2013) سياسية يمينية، قادت حزب المحافظين ما بين 1975 و1990، تقلدت منصب رئاسة حكومة بريطانيا ما بين 1979 و1990. وكانت مسؤولة عن الكثير من الإصلاحات المضادة القاسية ضد العمال والكادحين. -المترجم-

عنوان النص بالإنجليزية:

Brexit vote sends shockwaves across European Establishment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *