رابطة العمل الشيوعي
الأحد: 12 مارس 2017
لا تخرج مطالب بلدة تماسينت، كما سطرتها “لجنة الحراك الشعبي بتماسينت”، عن إيجاد حل جذري لمياه الصرف الصحي التي تخنق أنفاس الساكنة، وإتمام بناء قنطرة واد غيس، وإعادة تأهيل المركز الصحي وتجهيزه بمعدات الإسعافات الأولية، وفتح دار الشباب وملعب القرب الذي انهار بنيانه قبل فتحه، وإعادة بناء مركز دار الولادة المهجور بسبب موقعه… مطالب بسيطة لا تتجاوز في سقفها حد المطالبة بتحسين شروط العيش واحترام كرامة الإنسان، ولا تعكس إلا رغبة الأهالي في العيش ولو في إطار الحد الأدنى. لكن ورغم بساطة المطالب، فإنها في “مملكة” محمد السادس، الذي يحكم بقبضة من حديد ونار والذي يحتل بالمناسبة المرتبة الخامسة عالميا بين أغنى ملوك العالم والأول إفريقيا، تتطلب نضالا طويلا وشاقا وجذريا.
البداية:
تبعد تماسينت عن مدينة الحسيمة بـ 20 كلم، إداريا هي جزء من إقليم الحسيمة. تماسينت بلدة من بلدات المغرب المنسي، المغرب “غير النافع”. لا يمكن أن تتكلم في تماسينت عن شيء اسمه البنية التحتية أو التعليم أو التطبيب أو فرص عمل. ضد كل هذا قررت الأهالي خوض غمار النضال بعدما ملت من الصمت، وبالتجربة تعلمت أن الصمت لن يحقق لها غير تلك الوضعية المأساوية التي تعيشها وتحياها. وضعية اليوم بتماسينت هي وضعية الأمس.
تاريخيا تعرض الريف لحملة قمعية شعواء وحصار اقتصادي طويل وسياسة تفقير وتهميش وعزل. مازلت الذاكرة الجماعية في الريف تستحضر القمع الدموي الذي تعرضت له الجماهير في 1958- 1959 على يد من كان وليا للعهد آنذاك “الحسن العلوي” والذي لم يختلف معه الأمر عندما أصبح “ملكا”. الذاكرة في الريف تورّث وتعاش، فمن لم يعش فترة الخمسينات والستينات حيث القمع بالمروحيات المدججة بكل أنواع الأسلحة الثقيلة والقتل والاعتقال بالشبهة، عاش فترات أخرى لا تقل دموية كـ “انتفاضة 84” والتي قمعت بالرصاص الحي وخلفت العديد من الشهداء دفنوا في مقابر جماعية تحت جنح الليل لإخفاء معالم الجريمة.
كل هذا مستحضر في منطقة الريف ويناقش عند كل حراك جماهيري في المنطقة. بلدة تماسينت وأهاليها، باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من الريف، عاشوا كل هذا التاريخ ويستحضرونه، فقرروا الانتفاض على التهميش الممنهج، ومن أجل حياة أفضل أعلنوا “النفير”.
تنوع أشكال الاحتجاج:
ما يميز حراك تماسينت عن غيره هو البعد الديمقراطي الذي يتميز به. فقبل خوض أي شكل نضالي تدعو لجنة الحراك إلى جمع عام موسع لكل الأهالي وتسهر لجنة الحراك على تنظيمه. الجمع العام يتخذ القرارات والخطوات لتصبح ملزمة. بهكذا آلية ديمقراطية تأطرت كل المعارك النضالية التي خاضتها بلدة تماسينت الصامدة. إن الجماهير تتعلم بالتجربة، وأهالي تماسينت بالتجربة تعلموا الديمقراطية ومارسوها.
لم تعتمد تماسينت على شكل واحد محدد في النضال، كان هناك تنوع وتطوير للأشكال النضالية. لقد خاضت تماسينت العديد من الوقفات ضد جماعة “إمرابطن” ومركز “القيادة” وخاضت مع “المسؤولين” سلسلة من “الحوارات” لكنها كانت تلقى فقط الأذان الصماء. وكلما لقوا تلك الآذان الصماء والتعنت صعد الأهالي في أشكالهم ووتيرة نضالهم.
شهدت تماسينت، وفي إطار تنوع أشكال النضال وكذا الخط التصاعدي الذي اتخذته طريقا لخوض الصراع ضد الدولة، إضرابات عامة في البلدة، وغالبا ما تكون الاستجابة جماعية وطوعية لقرار الإضراب العام. فبجانب هاته الإضرابات العامة شهدت بلدة تماسينت معتصما بالجماعة وصل، يوم 5 مارس، إلى 45 يوما، وقد كان يوم 5 مارس يوم إضراب عام ومسيرة جماهيرية حاشدة إلى إمزورن البعيدة حوالي 5 كلم عن تماسينت. بجانب المسيرات إلى إمزورن بين الفينة والأخرى قام الأهالي بمسيرتين إلى الحسيمة، البعيدة بحوالي 20 كلم، مشيا عن الأقدام، شارك فيها كل الأهالي تقريبا نساء ورجالا شيوخا وشبابا، وقد لقيت المظاهرات استقبالا رائعا من طرف المنتفضين في الحسيمة. بجانب كل هذا، ووفاء لذكرى 20 فبراير ذكرى حراك الشعب المغربي ضد القمع والفساد والاستبداد ومن أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، خلدت تماسينت الذكرى تحت شعار “تخليد ذكرى الشهداء”، خاصة وان منطقة الريف وعلى خلفية حراك 20 فبراير قدمت ستة شهداء. خمسة شهداء سقطوا بعدما تم إحراقهم في أحد الأبناك يوم 20 فبراير 2011 أما الشهيد السادس هو الرفيق الحساني فقد قتل على يد “بلطجي” بالسلاح الأبيض في آيت بوعياش.
دائما كان رد السلطة هو “الوعد والوعيد” والدعوة إلى حوارات لا تسمن ولا تغني من جوع من أجل الالتفاف على مطالب جماهير تماسينت. ما تجهله السلطة هو أن الجماهير وطيلة هاته المدة تعلمت بتجربتها الخاصة وممارستها النضالية الشيء الكثير. وبجانب مراكمات الدروس الغنية في معمعان النضال اكتسبت الثقة في طاقتها أكثر، وقدرت حجمها أحسن تقدير وعلمت أين يميل ميزان القوى ومن يمتلك مفتاح اللعبة. وحدة جماهير تماسينت كانت دائما حجرة صلبة أمام كل محاولات السلطة السيطرة على الاحتجاج وقمعه أو تحريف مجراه، وبهذه الوحدة الصلبة والإرادة والعزيمة القويتين تخوض جماهير تماسينت معركتها النضالية.
التصعيد:
أصدرت لجنة الحراك هذا البلاغ:
«تفعيلا لتوصية الاجتماع الموسع والجماهيري للجنة الحراك الشعبي بتماسينت ليوم أمس الاثنين 06/02/2017، والمتمثلة في إغلاق مقر جماعة إمرابطن ومقر القيادة بتماسينت لمدة يوم كامل احتجاجا على عدم تجاوب السلطات الإقليمية مع مطالب ساكنة بلدة تماسينت ﻭﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﻋﺪﻡ الاستجابة ﻟﻤﻄﺎﻟﺐ ﺍﻟﺴﺎﻛﻨﺔ ﺳﻴﻨﻘﻞ الاعتصام لإحدى ﺳﺎﺣﺎﺕ ﺇﻣﺰﻭﺭﻥ ﻟﻤﺪﺓ 24 ﺳﺎﻋﺔ ﻭﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﺇﺻﺮﺍﺭ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﻋﺪﻡ الاستجابة ﺳﻴﻨﻘﻞ ﺍﻟﻤﻌﺘﺼﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺴﻴﻤﺔ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ …
مرحبا بكم في الحسيمة “حكم الشعب نفسه بنفسه”.»
ما تم يوم 07 مارس هو تطبيق لخلاصات الجمع العام الديمقراطي وممارسة سلطة الجماهير ميدانيا بوحدتها النضالية الصلبة وبعزيمتها القوية. تم إغلاق مقر جماعة إمرابطن ومقر القيادة بتماسينت. لم يكن يوم 07 مارس يوما للنضال فقط، بل كان كرنفالا جماهيريا رائعا قامت به الجماهير. وفي هاته الأجواء النضالية المفعمة بالبطولة قامت الجماهير المنتفضة بمسيرة حاشدة إلى إمزورن مشيا على الأقدام من أجل خوض تجربة الاعتصام الليلي في إمزورن في أفق الاعتصام
مسيرة لأهالي تماسينت الى امزورن وبداية تنفيذ معتصم لمدة 24 ساعة في أفق اعتصام مفتوح بمدينة الحسيمة من اجل الاستجابة لملفهم المطلبي
المفتوح في الحسيمة. خيار التصعيد ليس خيار فرد أو أفراد في تماسينت، بل هو خيار وإيمان عام تتقاطع فيه كل الجماهير المحتجة والملتفة على الأشكال النضالية. وما السرعة في الاستجابة الجماعية والقوية لدعوات النضال باختلاف أشكالها إلا خير دليل على ذلك. لم تكن تماسينت قوية لولا وحدتها القوية والتي تشكلت عبر مسيرة النضال هاته، وإليها يعود الفضل في هاته الملحمة البطولية والنضالية للجماهير الكادحة في أحدى بلدات المغرب المنسي و”غير النافع”.
الآفاق:
تماسينت هي جزء لا يتجزأ من نضال منطقة الريف والتي هي في المحصلة جزء لا يتجزأ من نضال الشعب المغربي ضد عدوه الطبقي. تعيش منطقة الريف بشكل خاص على صفيح ساخن خاصة بعد حادثة استشهاد محسن فكري وما خلفه من موجة نضالية قوية عمت كل المغرب بشكل عام ومنطقة الريف بشكل خاص.
الحسيمة تعرف غليانا قويا وحراكا نضاليا ما زال يصمد ويمتد رغم كل محاولات القمع التي يتعرض لها والعسكرة واحتلال الساحات. لم تستطع العسكرة ولا القمع الحد من نضال الجماهير بالحسيمة، بل نراه عند كل تدخل قمعي ضده يقوى ويتجذر. للتجذر أشكال مختلفة ومتنوعة يمكن أن نلمسها في حراك الحسيمة في انفتاحها على فئات كانت إلى حدود الأمس القريب لا تبارح البيت. أن تخرج المرأة في الريف في مسيرة يستلزم ثورة، وأن تقود تلك المرأة مسيرة هي انتصار الثورة.
ليس بالشيء السهل أن تخرج المرأة الريفية في مسيرة حاشدة يوم 08 مارس بالحسيمة.. إن هذا الخروج تعبير عن زلزال عميق باطني يقع تحت تلك القشرة السطحية والتي تبدو للوهلة الأولى متماسكة وتوحي بأن الأمور عادية. ليست الأمور عادية في الحسيمة وكل الريف والمؤشر الثاني الذي يساق هنا هو المظاهرة التي تمت من أجل تخليد الذكرى الثالثة عشر لزلزال الحسيمة 2004. بالنسبة للنظام كان ذلك يوما عاديا، لا دعوات للتظاهر ولا أي شيء يوحي بأن هناك شيء ما سيحدث، وفجأة الآلاف من المحتجين في الشوارع.
ابتدأ العمل قبل نصف ساعة من الخروج للشارع بدعوات على “الواتساب” للاحتجاج وتخليد الذكرى، تعبئة بسيطة ولكن القابلية للاحتجاج كانت كبيرة تعكس مدى الغضب والرغبة في التغيير. هناك تحولات عميقة تحدث يجب أن نلتقطها ونعطيها مضمونها الحقيقي.
إضافة إلى بوكيدارن وايت بوعياش وامزورن وتارجيست مؤخرا دخلت على خط الاحتجاج “كتامة” وكانت البداية اعتصام. لقد أصبح طقس الاحتجاج في منطقة الريف شكلا يوميا. ولأنه شكل يومي ويعم كل المنطقة أصبح من اللازم ربطه ببعضه بعض.
إن التنسيق بين مواقع النضال ليس ترفا أو خيارا بين خيارات أخرى. إنه العمل الجاد الوحيد الذي يقدم لهذا الحراك.. ليس التنسيق فحسب، بل كذلك خلق آليات تنظيمية ديمقراطية مبنية قاعديا وتكون للجماهير سلطة عليها. كل مواقع المسؤولية يجب أن تكون منتخبة مع حق العزل. ما من أحد فوق النقد والتوجيه.
إن قوة الحركة يعكسها قوة التنظيم. ولكي نحصل على حراك قوي وتنظيم متين يجب أن نحصل على جماهير واعية ومقررة لكل أشكال النضال. الجماهير هي القائدة وهي المقررة وليس فقط المشاركة والتابعة. إن توحيد نضالات الريف خطوة آنية ومستعجلة من أجل الانتصار. قضية “الحكرة” لا تعني فقط سكان الريف بل كل المغرب، إنها قضية شعب يعيش تحت نير الديكتاتورية، والنظام لا يفرق في قمعه بين منطقة أو أخرى. كل محتج ضد الفساد في القمع متساوي.
سيدخل حراك الريف في منعطف نوعي إذا تمكن أهالي تماسينت من إقامة معتصمهم في الحسيمة. قد يشكل هذا المعتصم نقطة التقاء لكل الرافضين والمحتجين على سياسة النظام القائم، وقد يتحول إلى قبلة لكل حركات الاحتجاج بالمنطقة ونقطة ارتكاز لها.
كماركسيين نعطي أهمية خاصة للتجارب السابقة وندعوا مناضلينا وكل المتعاطفين معنا إلى تمحيصها ودراستها على محك التجربة التاريخية. تتولد الخبرات ليس فقط بالممارسة، بل كذلك بدراسة تجارب الشعوب التي سبقتنا في النضال والاستفادة منها عن طريق الوقوف على نقط القوة والضعف فيها. ليس هذا العمل أكاديميا، بل ضروري في مسار العملية النضالية لتجاوز الأخطاء السابقة وتقويم التجربة الحالية والدفع بها إلى الأمام.
مناسبة هذا الحديث هو ما خلفه درس مخيم “إكديم إيزيك” بالصحراء الغربية سنة 2010. لقد انطلق المخيم من مطالب تتعلق بالحق في العمل والتعويض عن البطالة، وعلى بعد 12 كلم من مدينة العيون نصبت الخيام ولم تتجاوز 30 خيمة في البداية.
ولأن المنطقة تعيش على وقع البطالة أصبح المخيم محجا وقبلة للمعتصمين حتى انه أصبح يضم قبل تفكيكه بالقوة أكثر من 6000 خيمة تحوي حوالي 7000 أسرة. من معتصم احتجاجي بسيط تحول إلى “مستوطنة” قائمة. ومن الحق في الشغل والتعويض عن البطالة، اتسع سقف المطالب وتداخلت المطالب الاجتماعية بالسياسية.
لم يكن نقص العزيمة ولا المبدئية في النضال ولا الصمود في المواجهة هي التي عجلت بتفكيك المخيم والقضاء عليه. بل كان المنظور الخاطئ هو الذي أوقع قيادة المعتصم في الفخ. في اللحظة التي كان يجب على قيادة المعتصم أن تطلق نداء تعميم معتصمات ومخيمات المهمشين والعاطلين عن العمل والمقهورين في كل مناطق المغرب، والعمل على توحيد النضال بين الشعبين من أجل هزم العدو المشترك، والدفع بنار الاحتجاج إلى أقصاه. عملت على عزله واعتباره شأنا خاصا يهم فقط ساكنة الصحراء الغربية وكأنها الوحيدة التي ترزح تحت نار الفاقة والبطالة والتهميش.
عكس كل هذا يجب أن يكون مخيم تماسينت بالحسيمة. يجب أن يستفاد من هذا الدرس العظيم ومن هاته الهزيمة، الجيوش المهزومة هي المستفيد الأول من دروس الحروب، كما كان نابليون يقول. في البداية يجب أن ينظم الحراك بآليات أكثر ديمقراطية ويتمركز في شعارات واضحة، وجنبا إلى جنب يجب الدعوة إلى فتح جبهات أخرى في كل المغرب.
كما قلنا سابقا “الحكرة” ليست سيفا مسلطا على منطقة دون غيرها، بل هي مسلطة على كل الشعب المغربي. والبطالة لا تسألك عن هويتك القومية أو اللغوية، بل هي مخطط طبقي مستقل عن مسألة الأعراق والأبعاد الإثنية.. مبدئيا منطقة الريف ستكون قاطرة الاحتجاجات في المغرب شريطة أن تتوفر “قيادتها” على منظور طبقي ذي أبعاد وطنية. عزل الحراك في الريف سيكون بداية نهايته ودرس “إيكديم إيزيك” مثال صارخ على ذلك.