لقد تم طرد الشعب الفلسطيني قسرا من وطنه على يد الميليشيات الصهيونية المسلحة في عام 1948، عُرف ذلك الحدث، الذي ما يزال محفورا في ذاكرتهم التاريخية الجماعية، باسم: النكبة. لقد كان للمشروع الصهيوني تصوّر دائم لمثل هكذا حدث، بينما جميع الشيوعيين الثوريين الحقيقيين كانوا يعارضون باستمرار الأيديولوجية الصهيونية. فلماذا إذن تخلى ستالين عن موقف الدولة الواحدة للشعبين الفلسطيني واليهودي، وأعلن تأييده للتقسيم في عام 1947، وما تلا ذلك من إنشاء دولة يهودية منفصلة؟
عارض لينين الأيديولوجية الرجعية للصهيونية. لقد أدرك أن المشروع الصهيوني لا يمكن أن يتحقق إلا على حساب الشعب الفلسطيني. ففي المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية عام 1920، بيّنت الأطروحات حول المسائل القومية والاستعمارية، التي صاغها لينين، ما يلي:
“يمكن وصف المشروع الصهيوني في فلسطين بأنه مثال صارخ على الخداع الممارس على الطبقة العاملة في البلدان المضطهدة والخاضعة لقوى ائتلاف إمبرياليي وبرجوازيات تلك البلدان، حيث بذلت الصهيونية قصارى جهدها (من أجل إخضاع السكان الأصليين من الكادحين العرب أمام الاستغلال الإنكليزي، تحت ستار إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وذلك إسوة بالعمال اليهود الذين كانوا يشكلون نسبة لا تذكر من مجمل السكان).”
لذا لا بد لنا من طرح السؤال التالي : لماذا تبنى ستالين موقفا متعارضا تماما مع موقف لينين؟
لقد لعب ستالين في الواقع دورا رئيسيا في التصويت لقرار الأمم المتحدة المشؤوم لعام 1947، الذي أقر بتقسيم فلسطين، والذي تم تبنيه بأغلبية ثلثي الأعضاء المطلوبة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. إلا أن أنصار ستالين الحاليين يفضلون أن ندفن هذه الحقائق ونتجاهلها. إنهم يرغبون في التمسك بالأسطورة القائلة بأن الستالينيين عارضوا الصهيونية على الدوام. كما حاول آخرون إيجاد مبررات لخيانة ستالين لتلك المبادئ الأساسية التي تم تحديدها خلال المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية.
لكنه، ولسوء حظهم، من الصعب محو الحقائق التاريخية، فالحقيقة ملموسة. ولا يمكن لأي قدر من الحجج الملتوية أن يبرر بأي حال من الأحوال ما فعله ستالين.
دعونا ننظر كيف ولماذا حدث هذا التخلي الكامل عن موقف لينين، وكذلك كيف أثر ذلك الحدث المحوري على الأحزاب الشيوعية، وخاصة في الشرق الأوسط.
في السنوات التي سبقت ذلك، كان الموقف السوفياتي الرسمي ثابتا، حيث عارض إنشاء دولة يهودية في فلسطين. كما واصلت الحكومة السوفياتية طرح مشروع الدولة الواحدة لشعبين. وقامت الأحزاب الشيوعية في الشرق الأوسط، وفي جميع أنحاء العالم، بحملة علنية ضد المشروع الصهيوني.
وبالرغم من ذلك فقد أعرب دبلوماسيون سوفيات رفيعي المستوى، في أكثر من مناسبة عن دعمهم، أو على الأقل تعاطفهم مع مشروع إنشاء دولة يهودية في فلسطين، كان ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة في لقاءات مع شخصيات صهيونية بارزة. وقد بدا واضحا أن سياسة الحكومة السوفياتية كانت قد بدأت تتغير خلف الكواليس. حيث تشير السجلات إلى أنه في وقت مبكر من عام 1940، أي بعد فترة وجيزة من اتفاق هتلر-ستالين عام 1939، الذي تم بموجبه تقسيم بولندا بين ألمانيا والاتحاد السوفياتي، كان هناك شيء ما في الواجهة يتجه نحو التغيّر. ونظرا لوجود عدد كبير من السكان اليهود في بولندا، أصبح عدد كبير منهم وقتذاك تحت الحكم السوفياتي. ورأى القادة الصهاينة في ذلك فرصة لزيادة هجرة اليهود إلى فلسطين.
في كتابه مفاجأة موسكو: التحالف السوفياتي الإسرائيلي 1947-1949، يقدم لوران روكر باستخدام مواد أرشيفية من الاتحاد السوفياتي، تفاصيل مثيرة للاهتمام حول التواصل بين الدبلوماسيين السوفيات وشخصيات بارزة ضمن القيادة الصهيونية. تفاصيل هذا اللقاء صادرة عن “Sovetsko-Izrail “skie otnoshenia. سبورنيك دوكومينتوف 1941-1953 (SIO) (موسكفا: Mezhdunarodnye Otnoshenia، 2000)، المجلد الأول، الصفحات 15-17، وثائق رسمية تتعلق بالعلاقات السوفياتية الإسرائيلية.
كان اللقاء الذي عُقد في يناير 1941 بين حاييم وايزمن، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، وإيفان مايسكي السفير السوفياتي لدى المملكة المتحدة، فاضحا للغاية. ووفقا لروكر:
”… طرح وايزمان فكرته حول مستقبل فلسطين. بينما أشار مايسكي إلى أنه يجب أن يكون هناك تبادل للسكان في فلسطين من أجل توطين اليهود الوافدين من أوروبا. رد وايزمان أنه إذا أمكن نقل نصف مليون عربي، فيمكن وضع مليوني يهودي مكانهم. فلم تنتب مايسكي أي صدمة حيال هذه الفكرة“. [التشديد من عندي]
يتابع روكر:
“إن التغيّر الكارثي في موقف الاتحاد السوفياتي في أعقاب الغزو الألماني للاتحاد السوفياتي بعد خمسة أشهر فقط أتاح للصهاينة فرصة لتوسيع علاقاتهم. حيث بدأوا في السعي الحثيث لتحقيق هدفين رئيسيين :
(أولا) التوصل إلى اتفاق مع موسكو من شأنه أن يسمح لليهود البولنديين المقيمين في الاتحاد السوفياتي بالهجرة إلى فلسطين، و(ثانيا) إقناع القادة البلاشفة المناهضين للصهيونية بأن إنشاء دولة يهودية في فلسطين لن يتعارض مع مصالحهم”.
وأعقب ذلك اجتماع في لندن في أكتوبر 1941، بين مايسكي وديفيد بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية آنذاك، ومؤسس جيش الدفاع الإسرائيلي فيما بعد وأول رئيس وزراء إسرائيلي. وفي عام 1943، التقى مايسكي مرة أخرى مع وايزمان، وأكد له أن الحكومة السوفياتية تتفهم أهداف الصهاينة وأنها “ستقف بالتأكيد إلى جانبهم” (روكر). حتى أن مايسكي زار فلسطين والتقى بن غوريون، وأبدى بالغ إعجابه بما كان الصهاينة يشيدونه هناك.
وكما نرى فإن موسكو كانت تدرس بالفعل إمكانية دعم إقامة دولة يهودية في فلسطين، الأمر الذي سيتضمن بالضرورة إبعاد نصف مليون فلسطيني عن وطنهم، رغم أن ذلك لم يُعلن عنه. فقد ظل الموقف الرسمي هو معارضة دولة حَصريّة باليهود ودعم دولة موحدة ثنائية القومية. وفي عام 1943، قام ستالين بحل الأممية الشيوعية، حيث رأى أنه لا جدوى من وجودها، فهو كان قد تخلى منذ زمن بعيد عن منظورات الثورة العالمية. كما أن ذلك كان أيضا خطوة لإرضاء حلفائه في الغرب آنذاك، تشرشل وروزفلت، إبان الحرب العالمية الثانية.
تصرف نظام ستالين بنفس الطريقة فيما يتعلق بقضية فلسطين، حيث كانت السياسة الخارجية السوفياتية تدار بالكامل من وراء ظهر الأحزاب الشيوعية الوطنية. فقد كانت اللقاءات بين الدبلوماسيين السوفيات والشخصيات القيادية البارزة في الحركة الصهيونية مجهولة تماما سواء في صفوف تلك الأحزاب أو قياداتها.
خطاب غروميكو في الأمم المتحدة عام 1947
كانت فلسطين آنذاك تحت الانتداب البريطاني. لكن بريطانيا كانت تتراجع كقوة، وواجهت خسارة امبراطوريتها. ولم تعد قادرة على الحفاظ على وجودها في فلسطين، وكان ينظر إليها في الواقع على أنها عدو من قبل الصهاينة المحليين، الذين كان هدفهم المتمثل في إقامة دولة يهودية يتعارض مع مصالح الإمبريالية البريطانية في ذلك الوقت.
لقد أطلقت بريطانيا شائعات تم تداولها و تفسيرها على أنها وعد بفلسطين للعرب واليهود على حد سواء. وقد تماشى ذلك مع أسلوبها المجرب المتمثل في مقولة “فرق تسد”.
في واقع الأمر، عارضت الإمبريالية البريطانية إقامة دولة يهودية منفصلة، ولكن لم يكن هذا من باب المحبة للفلسطينيين، إنما كان همها الرئيسي إقامة علاقات ودية مع الأنظمة العربية الغنية بالنفط في المنطقة. لكن وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت سلطة تقرير مصير فلسطين في يد واشنطن -بدعم من موسكو- وليس لندن.
وهذا ما يفسر لماذا قررت حكومة المملكة المتحدة، في فبراير 1947، التخلي عن انتدابها، والتفويض فيما يتعلق بعملية تحديد الوضع المستقبلي للإقليم إلى الأمم المتحدة المنشأة حديثا.
وفي هذا السياق، ألقى أندريه غروميكو، ممثل الاتحاد السوفياتي في الأمم المتحدة خطابا حاسما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 ماي 1947، وجاء مضمونه بمثابة صدمة لملايين الشيوعيين الملتحقين بالأحزاب الشيوعية الرسمية في جميع أنحاء العالم. بيد أن الأمر كان صادما بشكل خاص لقواعد تلك الأحزاب في العالم العربي.
لقد كان خطابا متعلقا بإنشاء لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة بشأن فلسطين. تحدث غروميكو خلاله مطولا، وسلط الضوء على المحنة التي واجهتها جموع غفيرة من اليهود النازحين في أوروبا في نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن الواضح أنه كان يمهد الطريق لما سيأتي في وقت لاحق من ذاك العام.
أورد غروميكو في خطابه:
“حقيقة أنه لم تتمكن أي دولة في أوروبا الغربية من تقديم ضمانات تساهم في الدفاع عن الحقوق الأساسية للشعب اليهودي، وحمايته من بطش الجلادين الفاشيين، هذا ما يفسر تطلعات اليهود لإقامة دولتهم الخاصة بهم. وسيكون من المجحف عدم أخذ ذلك في عين الاعتبار لما فيه من إنكار لحق الشعب اليهودي في تحقيق هذا التطلع. وسيكون من غير المبرر حرمان الشعب اليهودي من هذا الحق، خاصة في ضوء ما تعرضوا له خلال الحرب العالمية الثانية“. [التشديد من عندي]
ثم انتقل بعد ذلك إلى سرد أربعة حلول متباينة وممكنة فيما يتعلق بهذه المسألة :
“1. إقامة دولة عربية يهودية موحدة تضمن الحقوق المتساوية للعرب واليهود.
2. تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، واحدة عربية والأخرى يهودية.
3. إقامة دولة عربية في فلسطين، دون مراعاة حقوق السكان اليهود
4. إقامة دولة يهودية في فلسطين، دون مراعاة حقوق السكان العرب”. [التشديد من عندي]
وفي ملاحظاته الختامية، ذكر أن “دولة عربية يهودية مستقلة ومزدوجة وديمقراطية ومتجانسة” ستكون الطريقة الوحيدة لضمان حقوق كل من السكان اليهود والفلسطينيين. من ناحية أخرى، أضاف أنه إذا ثبتت استحالة تطبيق ذلك، فلا بد من النظر آنذاك في مسألة “تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين تتمتعان بالحكم الذاتي، واحدة يهودية والأخرى عربية”.
لقد أظهرت الفترة التي أعقبت الخطاب أنه في الواقع كان مجرد تمهيد للطريق أمام الاتحاد السوفياتي لتقديم الدعم الكامل للمشروع الصهيوني المتمثل في طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم وإنشاء إسرائيل. فقد تمت المباشرة بتنفيذ ما ناقشه مايسكي مع كبار الصهاينة منذ بضع سنوات فقط. لكن الأهم من ذلك هو عندما تتطابق التصريحات مع الوقائع المُرة. إذ بين عامي 1947 و 1949، قدّم الاتحاد السوفياتي الدعم الكامل للصهاينة، من الناحية السياسية والعسكرية، وحتى من خلال تسهيل هجرة أكبر لليهود من أوروبا الشرقية إلى إسرائيل.
كما ألقى أحد أعضاء الوفد السوفياتي لدى الأمم المتحدة، سيميون تسارابكين، خطابا في الأمم المتحدة في 13 أكتوبر عام 1947، ذهب فيه إلى أبعد من غروميكو، حيث أعلن صراحةً وبشكل علني دعم الاتحاد السوفياتي لمشروع تقسيم فلسطين. وكما بين روكر فقد “أصبح الاتحاد السوفياتي مؤيدا متحمسا للقضية الصهيونية”.
تصويت الاتحاد السوفياتي لصالح إقامة دولة إسرائيل
في الشهر الذي أعقب خطاب تسارابكين، في 29 نوفمبر عام 1947، صوت الاتحاد السوفياتي لصالح قرار تقسيم فلسطين. وقد تمت الموافقة على القرار رقم 181 في الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ضمت 33 صوت مقابل 13 صوتوا ضد القرار وامتناع 10 أعضاء عن التصويت. ولم يرد الصهاينة من ستالين أكثر من ذلك !
يجب أن نتذكر هنا أنه لكي يكون قرار الأمم المتحدة ملزما قانونيا، كان من الضروري الحصول على أغلبية الثلثين في الجمعية العامة. كان ستالين يسيطر على بيلاروسيا، وأوكرانيا، وبولندا، وتشيكوسلوفاكيا، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي، وجميع تلك الدول كانت أعضاء في الأمم المتحدة وكانت تتمتع بحق التصويت في ذلك الوقت، وكلها صوتت لصالح التقسيم. ولو أن تلك الدول الخمس صوتت ضد قرار التقسيم، لأصبحت نتيجة التصويت على الشكل التالي 28 دولة تؤيد القرار، مقابل 18 ضده، وامتناع 10 عن التصويت، وبذلك يكون القرار قد سقط. هذه الحقيقة لا مهرب منها ولا يمكن الالتفاف عليها .
ما حدث بعد ذلك معروف للجميع. حيث رفضت البلدان العربية الاعتراف بقرار الأمم المتحدة ؛ وعليه فقد تبنّت القوات المسلحة الصهيونية سياسة سد الفراغ من خلال قيامها بشن حملة إرهابية ضد الفلسطينيين بهدف طردهم وإقامة دولة إسرائيل على أرضهم، ما أدى لاندلاع الحرب مع الدولة اليهودية الوليدة. وفي خضم هذه العملية، تعرّض 700 ألف فلسطيني لعملية “تطهير عرقي”، ويُعرّف هذا المصطلح بأنه إزالة ممنهجة قسرية ودموية لشعب بأكمله من وطنه. إن هجوم الإبادة الجماعية الذي تشنه إسرائيل على غزة حاليا يستمد جذوره من تلك الأحداث المأساوية.
ولم يقتصر الأمر على مساعدة الاتحاد السوفياتي للصهاينة من خلال التصويت لصالح قرار الأمم المتحدة. بل إنه وفّر الأسلحة لهم، ولو بشكل غير مباشر عبر أحد البلدان الدائرة في فلكه. ففي عام 1948، أذِن ستالين لتشيكوسلوفاكيا بإرسال شحنة أسلحة ثقيلة إلى الجيش الإسرائيلي الذي كان قد تأسس حديثا. ومن نهاية عام 1947 إلى نهاية عام 1948، اشترى الصهاينة والوكالة اليهودية في فلسطين من تشيكوسلوفاكيا أسلحة بقيمة 22 مليون دولار. وهو ما يعادل ربع مليار دولار في وقتنا الحالي. في نفس الوقت، منع الاتحاد السوفياتي الحكومة التشيكوسلوفاكية من المضي قدما في صفقات الأسلحة المقرر بيعها للعرب.
بعد عدة سنوات على ذلك، وبالتحديد عام 1968 أقر بن غوريون بالمساعدة التي قدمها الاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا، حينما أشار إلى ذلك قائلا:
“لقد أنقذت صفقة الأسلحة التشيكية دولتنا ؛ ليس لدي أي شك في ذلك. فقد كانت أعظم مساعدة حصلنا عليها في ذلك الوقت، لقد أنقذتنا، فمن دونها أشك إلى حد بعيد في قدرتنا على الاستمرار في البقاء خلال الأشهر الأولى”.[1]
وقد ساعدهم الاتحاد السوفياتي أيضا من خلال تسهيل هجرة اليهود من أوروبا الشرقية قبل عام 1948، حيث جاءت أعداد كبيرة من بولندا والمجر ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا. كانت الروابط التي أقيمت مع الصهاينة قوية للغاية لدرجة أن الاتحاد السوفياتي كان أول بلد يعترف قانونيا بدولة إسرائيل بعد أن أعلن بن غوريون الدولة الجديدة في مايو من عام 1948. وفي برقية أرسلها مولوتوف (وزير الخارجية السوفياتي والحليف الأكثر قربا من ستالين) إلى وزير خارجية الحكومة المؤقتة لإسرائيل، شيرتوك، في 17 ماي 1948:
“أريد إبلاغكم بأن حكومة الاتحاد السوفياتي قررت الاعتراف رسميا بدولة إسرائيل وحكومتها المؤقتة. تعتقد الحكومة السوفياتية أن إنشاء الشعب اليهودي لدولته ذات السيادة سيخدم قضية تعزيز السلام والأمن في فلسطين والشرق الأوسط، وتعرب عن ثقتها في أن العلاقات الودية بين الاتحاد السوفياتي ودولة إسرائيل سوف تتطور بنجاح”. [التشديد من عندي]
“الأمن والسلام” كانا آخر ما يمكن أن يوفره قيام دولة إسرائيل أو يضمن تنفيذهما. بل وإن استخفاف ستالين بالأمر ذهب إلى أبعد من ذلك ففي دجنبر عام 1948 عندما تم تقديم القرار رقم 194III- إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي نص على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم أو الحصول على تعويض عن الخسارة أو الضرر الذي لحق بممتلكاتهم. قام الاتحاد السوفياتي والدول التابعة له في أوروبا الشرقية بالتصويت ضده، بينما صوّت الإمبرياليون الأمريكيون والبريطانيون لصالحه!
وبطبيعة الحال، لم يتم على الإطلاق القيام بأي إجراءات ملموسة لتنفيذ القرار من جانب أي من القوى التي صوتت لصالحه. وعندما سُمح لإسرائيل أخيرا بأن تصبح عضوا في الأمم المتحدة في عام 1948، كان أحد الشروط هو وجوب موافقتها على تنفيذ القرار 194، وقد وافق أحد ممثلي إسرائيل شفهيا على القرار، وبعد ذلك استمروا في تجاهله، بحجة أن الأشخاص الذين فروا وتركوا ممتلكاتهم ليس لهم أي حق في التعويض، وقاموا في عام 1950 بتطبيق “قانون أملاك الغائبين” سيء السمعة، لشرعنة عمليات سلب منازل الفلسطينيين النازحين، في انتهاك مباشر لقرار الأمم المتحدة. كان الاتحاد السوفياتي ملتزما للغاية بموقفه المؤيد للصهيونية لدرجة أنه رفض حتى تأييد التوصيات والمقترحات التي تدعم حقوق اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا بشكل وحشي وعنيف من وطنهم.
لماذا دعم ستالين قرار التقسيم
كل ما ذُكر أعلاه يندرج في سياق الحقائق. لكن السؤال الذي علينا طرحه على أنفسنا هو: لماذا تبنى ستالين مثل هذه السياسة؟ لا يمكننا أن نبدأ بالإجابة على هذا السؤال إلا إذا فهمنا أن ستالين لم يكن يسترشد بمصالح الطبقة العاملة العالمية. لم تكن قراراته محددة بمنظور ثوري للإطاحة بالنظام الرأسمالي. ولم تكن تصرفاته محددة بما قد يعتقد أنه أفضل لتعزيز الثورة الاشتراكية عالميا والنهوض بها. إنما كانت اهتماماته أضيق من ذلك بكثير.
لقد كان تفكيره محصورا في المصالح الوطنية الضيقة للبيروقراطية التي اغتصبت السلطة من الطبقة العاملة في الاتحاد السوفياتي، وعليه فقد مثلت الدعامة الأساسية التي ارتكز عليها نظام ستالين. إن هذه السيرورة في انحطاط الثورة -بسبب عزلتها في بلد واحد متخلف- قد أوضحها تروتسكي بصورة جيدة للغاية في نصه الكلاسيكي “الثورة المغدورة“.
وهذا ما يفسر المبدأ الذي اتبعه الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين، والذي تمخض عنه عام 1947 التحالف مع كلٍ من الإمبريالية الأمريكية والصهاينة. ومن جانبها فقد كانت الولايات المتحدة حريصة على السماح بنشوء دولة إسرائيل اليهودية، لأنها رأت في ذلك وسيلة لطرد البريطانيين من الشرق الأوسط، واستبدالهم بقوة تهيمن من خلالها على هذه المنطقة الهامة والغنية بالنفط. كما وقد رأى ستالين بأن الوجود اليهودي في فلسطين وسيلة ناجعة من أجل إضعاف الإمبريالية البريطانية هناك ،حيث كان يأمل وقتئذ في إنشاء مركز دعم للاتحاد السوفياتي على سواحل البحر الأبيض المتوسط.
وقد تم تقديم ستالين على أنه قائد استراتيجي عظيم من قبل مناصريه الذين شكلوا جزءا من الحركة الشيوعية والتي حاولت تبرير سياسته في فلسطين آنذاك، وقاموا بذلك من خلال محاولة إظهار أن هناك نوعا من الخطة الذكية وراء كل هذا. لكن الحقيقة هي أنه لم يكن لديه منظور للتحويل الاشتراكي في الشرق الأوسط، إذ أفضل ما كان من الممكن أن يتوصل إليه هو احتمال قيام دولة يهودية صديقة للاتحاد السوفياتي في إسرائيل، أي دولة رأسمالية ذات علاقات ودية مع الاتحاد السوفياتي.
لم يكن هناك ما يدل على الذكاء من هذا الأمر كله. ففي مقال نشر في مجلة التاريخ الدبلوماسي عام 1949، بعنوان: الاستخبارات والتجسس وأصول الحرب الباردة، يوضح جون لويس غاديس ما يلي:
“غالبا ما يُنسى بشأن ستالين أنه أراد، بأسلوبه، أن يبقي على ‘صداقته’ مع الأمريكيين والبريطانيين: كان هدفه ضمان أمن نظامه والدولة التي يحكمها، وليس تحقيق الثورة البروليتارية العالمية التي طال انتظارها؛ وكان يأمل في القيام بذلك من خلال الوسائل الممكنة ماعدا الحرب، ويفضل أن يكون ذلك بالتعاون الغربي”. [التشديد من عندي]
يُعتبر غاديس خبيرا في تاريخ الحرب الباردة، علما أنه يكتب من وجهة نظر مصالح الإمبريالية الأمريكية. و تقييمه لستالين يؤكد فهمنا لتوجهات هذا الرجل. فمنذ أن تبنى نظرية “الاشتراكية في بلد واحد”، بعد وقت قصير من وفاة لينين عام 1924، أصبحت حساباته تنطلق من مصالح البيروقراطية المحافظة، وليس من مصالح الطبقة العاملة العالمية. فضلا عن أن البيروقراطية حينها كانت مكونة من العديد من العناصر غير الشيوعية، والعديد من الأشخاص الذين انضموا إلى الحزب، اعتبروه وسيلة لتعزيز موقعهم الوظيفي. لقد حصلوا على امتيازات مادية من هذه العملية، كما أرادوا العيش حياة هادئة يمكنهم فيها الاستمتاع بتلك الامتيازات. وآخر ما اكترثوا بشأنه هو الثورة العالمية.
كما أن نظرية “الاشتراكية في بلد واحد” جاءت متناغمة مع النظرة القومية المتنامية للبيروقراطية الروسية الشوفينية. لقد نظروا إلى الاتحاد السوفياتي واقتصاده المخطط ليس باعتباره قاعدة أمامية للثورة البروليتارية العالمية، بل كوسيلة للحفاظ على مصالحهم المادية الخاصة كفئة ضيقة. لقد عرّفوا “المصالح الوطنية” لروسيا بمصطلحات قومية ضيقة وربطوها مع مصالحهم الخاصة، وليس مع النضال من أجل مجتمع اشتراكي عالمي جديد، والذي كان البلاشفة في عهد لينين يطمحون إلى بنائه. وبالتالي كانت سياسة الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط محددة طبقا لتلك المصالح.
اعتقد ستالين في بادئ الأمر أن بإمكانه التوصل والحفاظ على اتفاق بينه و بين القوى العظمى، حيث يكون لكل منها مجال نفوذه، وتحترم كل دولة مصالح الدول الأخرى. وضمن هذا السياق، رأى أن إسرائيل من الممكن أن تصبح حليفا للاتحاد السوفياتي. وهذا كله يبرز مدى “عبقرية” ستالين في السياسة !
وخلال فترة وجيزة، أصبح من الواضح تماما كيف أن إسرائيل أصبحت حليفا رئيسيا للإمبريالية الأمريكية في المنطقة.
ارتدى الكثير من مؤسسي إسرائيل ملابس “اشتراكية”، وكان بن غوريون مثالا واضحا على ذلك. في الأيام الأولى لقيام دولة إسرائيل، لعبت الدولة، وحتى اتحاد نقابات عمال الهستدروت، الذي كان على صلة بالدولة، دورا رئيسيا في توطيد أركان الطبقة الرأسمالية الإسرائيلية، وتنمية اقتصادها وتعزيزها، بعد أن كانت ضعيفة في البداية .جرى كل هذا لنشر الأسطورة القائلة بأن إسرائيل كانت إلى حد ما جزءا من “التجربة الاشتراكية”. لقد كانت لدى يهود أوروبا الشرقية عادات اشتراكية متأصلة فيهم، والعديد ممن هاجروا إلى إسرائيل كانوا من تلك الخلفية. تم تقديم الكيبوتسات -المستوطنات التي أقيمت حول المزارع الجماعية- كأمثلة عن التنظيم الاشتراكي. وفي ذروتها، كانت تنتج نسبة كبيرة من الإنتاج الزراعي وحتى الإنتاج الصناعي بمساهمة مئات مصانع الكيبوتس.
إن اعتبار إسرائيل “تجربة اشتراكية” موقف يتجاهل حقيقة أن الكيبوتسات كانت في كثير من الأحيان بؤرا استيطانية مسلحة لإسرائيل، لعبت من خلالها دورا كبيرا في استعمار الأراضي التي كانت في السابق ملكا للفلسطينيين. وكما وصفها البعض، كانت “اشتراكية لليهود فقط، وليس للعرب”.
حقيقة، لا يمكن بناء الاشتراكية بهذه الطريقة. فالاشتراكية إما أن تأتي من حركة موحدة للطبقة العاملة بأكملها -في حالتنا هذه، اليهود والفلسطينيين على حد سواء- أو أنها سوف تتحول إلى مجرد غطاء ومساعدة في اضطهاد شريحة محددة من المجتمع من قبل الشريحة الأخرى، وفق ما يخدم مصالح الطبقة الرأسمالية في النهاية. إن ما تم بناؤه فعليا كان الرأسمالية، وبسبب عزلتها وطبيعتها القمعية، سرعان ما أصبحت قاعدة راسخة للإمبريالية في الشرق الأوسط. وهذا يفسر أيضا لماذا لم يكن لدى أقوى دولة إمبريالية على هذا الكوكب مشكلة مع ذلك النوع من “الاشتراكية”.
الآثار السلبية على الأحزاب الشيوعية في الشرق الأوسط
وكما هو متوقعا، فقد كان لقرار ستالين بدعم تقسيم فلسطين وإنشاء إسرائيل، تأثير مدمر على الأحزاب الشيوعية في المنطقة. وكما أوضح الأستاذ الهندي، محمد شافي أغواني، في كتابه “الشيوعية في المشرق العربي”[2]:
“كان لذلك القرار المتهور الذي اتخذه الاتحاد السوفياتي بدعم التقسيم، تأثير كارثي مدمر على الشيوعيين الفلسطينيين… إن التغيير الجذري في الموقف السوفياتي -من إدانة الصهيونية باعتبارها “مؤامرة إمبريالية” إلى الخضوع لمطلبها الأساسي- كان بمثابة صدمة حادة ألمت ليس فقط بالشيوعيين الفلسطينيين، بل بجميع العرب. (…)
“مهما كان سبب التقلبات السوفياتية في المواقف، فهي أيضا لم تكن مهمة سهلة بالنسبة للشيوعيين حتى أكثرهم حذقا في دعمهم لها أيديولوجيا. وبمجرد أن أعلن الاتحاد السوفياتي موقفه بعبارات لا لبس فيها، لم يعد أمام الشيوعيين خيار سوى إجراء تعديلات”.
كما أدى الانحطاط البيروقراطي الستاليني في الاتحاد السوفياتي -وهي السيرورة التي بدأت في منتصف وأواخر العشرينيات من القرن الماضي، والتي تم تعزيزها في الثلاثينيات من خلال عمليات التطهير الستالينية- إلى تحول الأممية الشيوعية نفسها من كونها منظمة مخلصة بشكل حقيقي للثورة العالمية، إلى منظمة مسيطر عليها بالكامل من قبل الحكومة السوفياتية. لقد أملت الأخيرة شروطها وفرضت مسارها، بكل ما فيه من تعرجات غير مبررة، والذي حددته الاحتياجات اللحظية للبيروقراطية في الاتحاد السوفياتي.
كان ذلك يعني أن كل مظاهر الديمقراطية الداخلية الأصيلة للأممية الشيوعية، التي كانت سائدة في فترة المؤتمرات الأربعة الأولى، قد تم سحقها. ولم يعد هناك تساهل مع المعارضة. لقد تم وضع اتفاق، وكان لا بد من الالتزام به وتطبيقه. وهكذا، بمجرد أن صوت الاتحاد السوفياتي لصالح تقسيم فلسطين، كان على الأحزاب الشيوعية في المنطقة أن تدافع عن الموقف الجديد للاتحاد السوفياتي. لكن وكما أوضح أغواني:
“… واجه الشيوعيون العرب صعوبة بالغة في شرح الأسباب الكامنة وراء الموقف السوفياتي لأنصارهم. (…) خرج الشيوعيون من البيان الختامي للمأساة الفلسطينية متضررين ومعطوبين، أخلاقيا وسياسيا. وكان هناك ارتباك حاد في صفوفهم”.
لقد أدى ذلك إلى وضع مأساوي، حيث انتهى الأمر بالشيوعيين اليهود والفلسطينيين إلى الوقوف على طرفي النقيض خلال الحرب التي أعقبت تشكيل إسرائيل، حيث دعم الطرف الأول فعليا “الحرب الدفاعية” الإسرائيلية. وفي العراق، قام الشيوعيون المحليون الملتزمون بالمبادئ الستالينية، بتنظيم مظاهرات لدعم قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة، ودعوا إلى التعاون مع “القوى الديمقراطية” في إسرائيل! ومن ناحية أخرى، انضم الشيوعيون العرب، الذين كانت لديهم الشجاعة لمعارضة خط ستالين، إلى الحرب ضد إسرائيل. وهكذا انتهى الأمر بالشيوعيين بأن تمترسوا في جانبين متعارضين، ضمن صراع مسلح حقيقي.
في أوائل عام 1944، بعد وقت قصير من تفكيك الأممية الشيوعية رسميا عام 1943، انقسم الحزب الشيوعي الفلسطيني على أسس اثنية، حيث انشق عن الحزب بعض أعضائه الفلسطينيين، وأسسوا “عصبة التحرر الوطني” العربية.
في بادئ الأمر عارضت عصبة التحرر الوطني تقسيم فلسطين، لكنها أيدت منح الجنسية الفلسطينية لليهود الذين هاجروا إلى فلسطين. كتب إميل توما أحد مؤسسي عصبة التحرر الوطني رسالة إلى موسكو، بعد وقت قصير من إلقاء غروميكو خطابه المُخزي في ماي 1947، منتقدا الموقف الداعم للتقسيم. وأوضح ما يلي:
“…أثار هذا الخطاب في العالم العربي الشك وعدم الثقة في صفوف الجماهير العربية العريضة، وقد توجه الرجعيون العرب للتشكيك في موقف الاتحاد السوفياتي من القضية الفلسطينية، التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من القضايا العربية في الشرق الأوسط. (…)
“أثار تصريح غروميكو تكهنات كثيرة بين الشيوعيين. وقد استقبلته الجماهير العربية بشكل سيء، وتوضيحها من شأنه أن يعطي الأمل ليس للشيوعيين فحسب، بل لجميع الشعوب العربية في الشرق الأوسط. لا يمكن تجاهل الإمكانات الثورية الموجودة في البلدان العربية إزاء الوضع العالمي الراهن”.
كما انتقد توما غروميكو لأنه: “… تجاهل تماما الشعب العربي في فلسطين وأهمل تطلعاته وحركته الوطنية المناهضة للإمبريالية وروابطه وتقاليده المشتركة مع الشعب العربي في الشرق الأوسط”.
إلا أن أشد الانتقادات التي وجهها توما لخطاب غروميكو كانت موجهة ضد دعمه الصريح للقضية الصهيونية. وأوضح بأنه:
“لقد ناضلنا دائماً ضد المفهوم الصهيوني واعتبرنا الصهيونية مشروعا إمبرياليا توجهه الإمبريالية البريطانية من أجل إنشاء حصان طروادة في الشرق الأوسط. وبالتالي، فقد دأبنا على دحض مزاعم الصهيونية التاريخية باعتبارها رجعية، ولم نقبل بالجذور التاريخية لليهود باعتبارها ذرائع لوجودها (…).
“لقد عزز الرفيق غروميكو من خلاله تصريحه الأيديولوجية الصهيونية وأحكم القبضة الصهيونية على الجماهير اليهودية. إن مثل هذا التعزيز سيساعد الإمبريالية على الاستمرار في استخدام الجماهير اليهودية كأدوات في معارضتها لحركات التحرر في الشرق الأوسط العربي”[3].
وما أن حدث التقسيم، حتى قامت عصبة التحرر الوطني بحملة من أجل إنشاء دولة فلسطينية وفقا لقرار التقسيم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1947 .
إلا أن ذلك لم يتحقق أبدا، إذ كانت نتيجة الحرب عام 1949 هي إلحاق ما يعرف اليوم بالضفة الغربية بالإدارة الأردنية، في حين تم إخضاع قطاع غزة للإدارة المصرية. وقد احتلت إسرائيل فيما بعد هذه الأراضي في عام 1967، ومازالت محتلة منذ ذلك الحين. وهنا نرى كيف أن “الدولتين المستقلتين”، اللتين أعلن عنهما غروميكو، ليستا في الحقيقة سوى دولة يهودية قوية، مقابل إنكار أي شكل لإقامة دولة للفلسطينيين. ما تحقق في الواقع هو الخيار الرابع الذي طرحه -أي دولة يهودية واحدة دون أي اعتبار لحقوق الفلسطينيين. لقد كانت تلك خيانة للشعب الفلسطيني بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وعلينا أن نوضح ذلك هنا أن دعم ستالين لإنشاء إسرائيل قد خلق وضعا كارثيا للشيوعيين في فلسطين وللأحزاب الشيوعية في العالم العربي كله. لقد اتضح أنها انتكاسة هائلة وضربة قوية للأفكار الشيوعية في جميع أنحاء المنطقة.
ولم تكن مجرد انتكاسة أيديولوجية. فقد جرت بالفعل هجمات على مقرات الحزب الشيوعي في مدن مثل حلب ودمشق، واستُهدفت البعثات الدبلوماسية السوفياتية. كما استغلت السلطات في لبنان وسوريا المزاج العام لحظر المنظمات الشيوعية قانونيا.
كل ذلك أدى إلى إضعاف الأحزاب الشيوعية، ليس فقط من حيث نفوذها السياسي والمعنوي، بل أيضا من حيث قوتها الفعلية على الأرض. بين غشت1947 ويونيو1949، انخفضت عضوية الحزب الشيوعي اللبناني من 12000 عضو إلى 3500عضو، بينما انخفضت العضوية في سوريا من 8400 عضو إلى 4500 عضو. وهكذا جرى تقليص نفوذ تلك الأحزاب بما يتراوح بين الثلثين والنصف.
وفي العراق، شهد النصف الأول من عام 1948 موجة ثورية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي. وقد استغلت السلطات إعلان دولة إسرائيل والاعتراف بها من قبل الاتحاد السوفياتي في ماي لإعلان الأحكام العرفية، وسحق الحركة، وعزل الحزب الشيوعي العراقي سياسيا، حيث تم اعتقال قادته والحكم على بعضهم بالإعدام وتنفيذ الحكم في فبراير عام 1949. هذه هي النتيجة المأساوية لـ”استراتيجية ستالين الذكية”.
واستمر تأثير سياسة ستالين لسنوات في المنطقة. لكنها أثرت أيضا على الأحزاب الشيوعية في العديد من البلدان الأخرى. ففي كل مكان، كانت لدى الشيوعيين سياسة معارضة لتقسيم فلسطين، لكن عندما صوت الاتحاد السوفياتي لصالح التقسيم، في نهاية عام 1947، زرع ذلك الأمر الارتباك بين صفوفهم.
التحول الانتهازي للأحزاب الشيوعية في الغرب
قامت دوروثي زيلنر (وهي ابنة لأبوين “كانا مهاجرين يهوديين علمانيين وغير صهيونيين وكانا طوال حياتهم أنصار للاتحاد السوفياتي”) بوصف آثار ذلك التحول على الحزب الشيوعي في الولايات المتحدة، حيث نشرت عام 2021 في مجلة ” Jewish Currents” قائلة: “كان اليسار الشيوعي الأمريكي مذهولا”. وتصف كيف اندلع ارتباك عام بين الشيوعيين الأمريكيين في ذلك الوقت.
ولنأخذ حالة أخرى، فقد أعلن الحزب الشيوعي الإيطالي عن دعمه العلني لقرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين. ومن المفارقات أن الحكومة الديمقراطية المسيحية، برئاسة ألشيدي دي غاسبيري في ذلك الوقت، حافظت على موقف غامض بشأن ما إذا كانت ستعترف رسميا بدولة إسرائيل أم لا، ولم ترغب في الإضرار بالعلاقات مع الأنظمة العربية. وكما هو الحال في بريطانيا، فقد كانت الطبقة السائدة الإيطالية مهتمة بشكل أساسي بإمدادات النفط، التي كانت ضرورية لمصالحها الاقتصادية الخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت أيضا تسعى في محاولة أخيرة للاحتفاظ بالمستعمرات التي كانت لديها قبل الحرب العالمية الثانية، ولبلوغ تلك الغاية، أملت في الحصول على الدعم العربي في الأمم المتحدة. ولذلك السبب بالذات، لم تعترف الحكومة الإيطالية بدولة إسرائيل رسميا حتى فبراير 1949.
أما الحزب الشيوعي الإيطالي من جهته فقد قدم دعمه الكامل لإسرائيل، بما يتماشى تماما مع الموقف الذي تبناه الاتحاد السوفياتي. إن الأطروحة التي قدمتها هيئة تحرير صحيفة (L’Unità) في الأعوام بين 1946- 1948 تكشف الكثير عن مواقفهم الحقيقية. فقد صورت الصهاينة على أنهم يخوضون صراعا مناهضا للإمبريالية من أجل الاستقلال الوطني ضد الإمبريالية البريطانية. وفي أحد أعدادها، بتاريخ 29 ماي 1948، يشير بيان غير موقع -على الرغم من أنه تمت صياغته على الأرجح من قبل رئيس تحرير الصحيفة آنذاك، بيترو إنغراو- إلى “المقاومة البطولية لليهود” (“L’eroica resistenza degli ebrei”)، في حين أن ما كان يحدث بالفعل هو تطهير عرقي واسع النطاق بحق الفلسطينيين على يد الإرهاب الصهيوني .
في افتتاحية صحيفة L’Unità، في 29 ماي 1948، انتقد بيترو إنغراو الحكومة الإيطالية لعدم اعترافها بدولة إسرائيل المؤسسة حديثا. وقبل يومين فقط، في 27 ماي، نشرت قيادة الحزب بيانا رسميا دعت فيه إلى الاعتراف الفوري بإسرائيل باعتبارها “مظهرا من مظاهر العدالة الدولية وحركة التضامن مع شعب يدافع ببطولة عن وجوده، لقد تم تهديده بالأمس القريب من قبل النازيين، واليوم من قبل زعماء الديمقراطيات الغربية” .
في بريطانيا قبل عام 1947، كان الحزب الشيوعي يدافع عن دولة واحدة في فلسطين، بحقوق متساوية لمختلف المجموعات الاثنية، التي تعيش سوية، كجزء من اتحاد عربي. لكن وبمجرد أن أعلنت الحكومة السوفياتية تأييدها للتقسيم، غير الحزب موقفه.
في عام 1948، أعلنت صحيفة “Daily Worker” التابعة للحزب الشيوعي في بريطانيا، عن دعمها لإنشاء دولة يهودية. ودعت إلى تنفيذ قرار الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين. وفي ماي 1948، رأت في إنشاء إسرائيل “خطوة كبيرة نحو تحقيق حق تقرير المصير لشعب فلسطين” و”مؤشرا عظيما في هذا الزمن”[4]. كما أعلنوا أن الميليشيات اليهودية المسلحة في فلسطين، التي كانت تقاتل ضد القوات البريطانية، تمثل كفاحا مسلحا مناهضا للإمبريالية، مشيرين إلى أن “أيام الإمبريالية أصبحت معدودة”[5].
وعندما تم إنشاء إسرائيل أخيرا، قالوا إن جميع “القوى التقدمية” يجب أن تدعمها. وعندما قامت البلدان العربية بمهاجمة إسرائيل، استنكرت صحيفة Daily Worker ذلك ووصفته بأنه عدوان إمبريالي! ودعا ويليام غالاغير، عضو البرلمان عن الحزب الشيوعي عن منطقة وست فايف، إلى الاعتراف بإسرائيل وأوصى بالوقف الفوري للمساعدات العسكرية للعرب.
ثم تغير كل ذلك بمجرد أن تغير موقف الاتحاد السوفياتي مجددا. حيث صرنا نجد أن قيادة الحزب الشيوعي الإيطالي تصف إسرائيل بأنها مجرد موطئ قدم للإمبريالية الغربية في العالم العربي، وذلك بعد بضع سنوات فقط من تصريحاتهم المعاكسة، كما أن الحزب الشيوعي البريطاني اكتشف فجأة أن إسرائيل كانت دائما أداة في يد الإمبريالية الأمريكية.
وكان كل ذلك يتماشى مع السياسة السوفياتية، التي مرت في أوائل الخمسينيات بمنعطف آخر جعلها تنحرف 180 درجة، لتصبح معادية للصهيونية. وفي فبراير 1953، انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفياتي وإسرائيل، بعد قيام “مؤامرة الأطباء” سيئة السمعة، والتي هي حملة معادية للسامية انطلقت في الاتحاد السوفياتي، عندما تم اتهام مجموعة من الأطباء، معظمهم من اليهود، بالتآمر لاغتيال القادة السوفيات.
وكما نرى، كانت “مبادئ” ستالين مرنة للغاية في مثل تلك الأمور! نفس الشيء يقال عن “مبادئ” قادة الأحزاب الشيوعية في جميع أنحاء العالم، حيث كانت مختزلة في عبارة: “قل وافعل ما يطلب منك ستالين أن تفعله”، على الرغم من أنه قد يكون من الصعب التصرف بسرعة دون سابق إنذار. فعندما كان ستالين يؤيد إنشاء إسرائيل، فإنهم ببساطة تماشوا مع وجهة نظره. وعندما استدار تماما في الاتجاه المعاكس، بدلوا مواقفهم مجددا بناء على ذلك.
العودة إلى لينين!
تلك الأساليب ليست أساليب لينين، وليست أساليب الأممية الشيوعية في مؤتمراتها الأربعة الأولى، عندما وصفها تروتسكي بأنها “مدرسة للاستراتيجية الثورية”. بل إنها أساليب البيروقراطية التي تخلت عن منظور الثورة العالمية وسَعَت فقط لتحقيق مصالحها القومية الضيقة. إلا أنهم بقيامهم بذلك، أضعفوا الأحزاب الشيوعية لعدة عقود قادمة، ولطخوا راية الشيوعية في نظر الجماهير العاملة في هذه المنطقة وفي جميع أنحاء العالم.
وهذا يفسر جزئيا كيف تمكنت الحركات القومية الراديكالية العربية من السيطرة على الحركات الثورية التي انفجرت بعد الحرب العالمية الثانية في العديد من بلدان المنطقة. كما أنه يفسر جزئيا ظهور ظواهر مثل “اشتراكية البعث” وما إلى ذلك.
عندما أصبحت الجماهير العربية أكثر جذرية بفعل نضالها ضد الإمبريالية، انعكس ذلك في عدد من البلدان، بما في ذلك العراق ومصر وسوريا، على شكل دعم جماهيري، نشط تارة وسلبي تارة أخرى، للإجراءات الثورية المناهضة للإمبريالية التي اتخذتها فئة المثقفين الراديكاليين، وحتى فئة من ضباط الجيش، الذين أعلنوا تلك الأفكار القومية “اليسارية”.
إن فكرة التخطيط الاقتصادي المركزي، وملكية الدولة لوسائل الإنتاج، قد جذبت بعض العناصر الأكثر راديكالية بين تلك الفئات البرجوازية الصغيرة. لقد رأوا كيف أن الاقتصاد المخطط في الاتحاد السوفياتي، على الرغم من تشوهات البيروقراطية، سمح له بالتطور إلى قوة صناعية حديثة. يجب أن نضيف أنهم انجذبوا أيضاً إلى حقيقة أن بيروقراطية ذات امتيازات خاصة كانت تتولى السلطة في الاتحاد السوفياتي.
ولكن من عجيب المفارقات أنه بينما كان كل ذلك يتكشف، كان الشيوعيون المحليون يتعرضون لقمع شديد في العديد من البلدان، مثل مصر وسوريا على سبيل المثال.
ولو كان الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية في الشرق الأوسط قد حافظوا على موقف ثابت في الدفاع عن فكرة الدولة الواحدة لشعبين، ولو لم يخونوا قضية الشعب الفلسطيني، لكان بإمكان تلك الأحزاب أن تلعب دورا رئيسيا في المنطقة، وتتولى قيادة الجماهير العاملة والشباب.
تثبت هذه الحادثة المأساوية في التاريخ أن الأفكار التي يدافع عنها حزب ما، والطريقة التي يتصرف بها الحزب، والمواقف التي يتبناها بشأن القضايا الرئيسية، يمكن أن تجعله قويا أو تضعفه. يمكن أن يعني هذا حرفيا الفرق بين بناء أو تدمير قدرات الحزب. فقد أدت سياسة ستالين في الفترة ما بين 1947 و1949 في الشرق الأوسط إلى إضعاف الأحزاب الشيوعية بشكل كبير، وبالتالي مهدت الطريق لهزائم الحركات الثورية وصعود الرجعية.
ومع ذلك، فقد كان في تلك الفترة من التاريخ، شيوعيون آخرون من نوع مختلف -يمكننا أن نسميهم بالشيوعيين الحقيقيين- والذين على الرغم من القمع الستاليني الوحشي، استمروا في الالتزام بأساليب وأفكار لينين. وكان هؤلاء أنصار ليون تروتسكي. في بريطانيا تنظموا في الحزب الشيوعي الثوري. وعبروا عن موقف مبدئي من خلال صحيفتهم، Socialist Appeal. كنا قد نشرنا، تحت عنوان: “رايتنا طاهرة: التروتسكيون البريطانيون عارضوا تقسيم فلسطين عام 1948“، مقالتين صدرتا في النداء الاشتراكي “Socialist Appeal” في نوفمبر ودجنبر من عام 1947، مباشرة بعد اعتماد الأمم المتحدة لقرار التقسيم. وحذرت المقالتان من عواقب التقسيم، وخلصتا إلى ما يلي:
“إن تقسيم فلسطين هو أمر رجعي من جميع النواحي، فليست لليهود ولا للجماهير العربية أية مصلحة فيه. إنه يضع اليهودي في مواجهة العربي، ويحول النضال ضد الإمبريالية إلى صراع بين أولئك الذين تتمثل مصلحتهم المشتركة في النضال ضد الإمبريالية. إنه يصب في مصلحة ملاك الأراضي والرأسماليين العرب من خلال تحويل انتباه الفلاحين والعمال العرب عن مستغليهم. إن الحل الوحيد لمشكلة فلسطين والشرق الأوسط هو إلغاء خطط التقسيم الإمبريالية، والانسحاب الفوري والكامل لجميع القوات الإمبريالية من فلسطين والشرق الأوسط. لا يمكن أن يكون هناك أي استقلال حقيقي أو أمان لليهود أو للعرب في فلسطين المقسمة”.
لقد أثبت التاريخ، مرارا وتكرارا طيلة السنوات الستة والسبعين اللاحقة، أن هؤلاء الرفاق كانوا على حق. نشهد منذ عام 1948 تاريخا من الصراعات الدموية التي يتلو أحدهما الآخر. ومنذ ذلك الحين، حُرم الفلسطينيون من وطنهم، في حين أثبتت إسرائيل أنها ليست ملاذا آمنا لليهود.
إننا نستند اليوم إلى التراث الذي خلفه رفاقنا في الحزب الشيوعي الثوري في أعوام 1947- 1948، في الدعوة إلى وطن لكلا الشعبين، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا في شكل دولة اشتراكية عبر كامل فلسطين التاريخية، ضمن فيدرالية اشتراكية للشرق الأوسط. حيث يمكن لليهود والفلسطينيين أن يعيشوا بسلام على أساس الاقتصاد الاشتراكي.
فريد ويستون
26 يوليو/تموز 2024
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:
Stalin’s responsibility in the creation of Israel and its disastrous consequences
الهوامش:
[1] Uri Bialer, Between East and West: Israel’s Foreign Policy Orientation, 1948-1956, Cambridge University Press, 1990
[2] Communism in the Arab East (London, 1969)
[3] Moscow’s Surprise: The Soviet-Israeli Alliance of 1947-1949
[4] Daily Worker, 15 May 1948
[5] Daily Worker, 22 May 1948