كُتب هذا المقال في الأصل على شكل عرض خلال حلقة للدراسة الماركسية خُصصت للرد على واحدة من الافتراءات التي نشرتها إحدى العصب (تُسمى الخط الأمامي) ضدنا. ونعيد نشره هنا لتوضيح موقفنا للشباب الثوري الباحث عن بديل ماركسي ثوري من قضية مهمة وهي موقف الماركسيين من جهاز الجيش والشرطة البرجوازي.
بينما نحن، التيار الماركسي الأممي، منشغلون بالعمل الجدي لبناء أممية شيوعية ثورية، من خلال تكوين الكوادر والدفاع عن الماركسية ونشر الفكر الثوري في منطقتنا ودعوة الشباب الباحث عن بديل ثوري إلى الالتحاق بنا، في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ منطقتنا والعالم، هناك من هم منشغلون بنا.
هذا طبيعي، فنحن نحقق النجاحات تلو النجاحات، بينما هم يغرقون أكثر فأكثر في الأزمات، من تيهان إلى آخر ومن انشقاق إلى آخر…
مجموعة من العصب اليائسة المعزولة المنخرطة في صراع ديكة فيما بينها، لا ينتهي إلا لكي يبدأ مجددا.
عادة نحن لا نلتفت إليهم، ولا نعير هجماتهم اهتماما ولا نرد عليهم، فهم أصلا عصب معزولة قليلة العدد ميؤوس منها، ولأن توجهنا الرئيسي هو نحو الشباب الثوري الباحث عن بديل شيوعي جدي.
وكذلك لأن النقاش معهم صعب جدا، إذ يكتفون بتلفيق الاتهامات بدون دليل ويرمونها في وجهنا، في حين نضطر نحن لأن نرد على كل تهمة بالاستشهاد مطولا بكتاباتنا وكتابات المعلمين الكبار (ماركس، إنجلز، لينين، تروتسكي) وتقديم معطيات من الواقع وتجارب تاريخية وما إلى ذلك، وهذا ما ستلاحظونه في هذا العرض نفسه، والذي كتبناه للرد على اتهام واحد صاغوه ضدنا في ما لا يتجاوز فقرة واحدة كتبوها بصياغة ركيكة، فجاء أكبر حجما من كل مقالهم المذكور. ما بالك بأن نرد على كل الاتهامات الأخرى التي امتدت من الافتراء على موقفنا من الثورة البوليفارية إلى تحريف معطيات تاريخية إلى الهجوم على موقفنا من القضية الفلسطينية، وغيرها كثير. صحيح إن أحمقا واحدا قادر على طرح إشكالات يعجز مائة حكيم عن الرد عليها.
لكننا رغم ذلك، وفي بعض الأحيان، عندما نرى أنه من المفيد لقضية الدفاع عن الماركسية وتطوير المستوى النظري لكوادرنا والمتعاطفين معنا، أن نوضح بعض النقاط، نعمل على أخذ عينة من تلك الهجمات الكثيرة لكي نناقشها ونرد عليها ونوضح مواقفنا أكثر[1].
وفي هذا السياق يأتي نقاشنا لإحدى تلك العصب، الذين يطلقون على أنفسهم اسم: “الخط الأمامي” !!! [بجدية هذا هو اسمهم نحن لا نختلق التسمية]. والذين شنوا مؤخرا هجوما علينا بمقال عنوانه: “هل أنت شيوعي؟ إذن دعونا نتحدث عنIMT”.
وسوف نركز هنا على مسألتين مهمتين: المنهج المعتمد في النقاش، والرد على واحد من الافتراءات التي شنوها ضدنا. لكن قبل ذلك دعونا نوضح أولا ما الذي نقصده عندما نشير إليهم بكونهم عصبويون.
ما الذي نعنيه بالعصبوية؟
يقول تروتسكي، في مقاله: العصبوية، الوسطية والأممية الرابعة (1935):
“قد يبدو للعقل السطحي أن كلمات مثل العصبويين والوسطيين وما إلى ذلك، هي مجرد تعبيرات جدالية يتبادلها الخصوم لعدم وجود نعوت أخرى أكثر ملاءمة. لكن مفهوم العصبوية، وكذلك مفهوم الوسطية، لهما معنى دقيق في القاموس الماركسي”.
نقصد بالعصبويين تلك المجموعات الصغيرة المتناثرة على هامش الحركة العمالية. لكن هذا التعريف غير كاف، في حد ذاته، لفهم العصبوية. فحتى المنظمة الماركسية تبدأ حياتها مجموعة صغيرة على هامش الحركة العمالية، هكذا كان حال حتى البلاشفة أنفسهم في بداية الأمر. إن الفرق الذي يميز المجموعة الماركسية عن المجموعات العصبوية ليس كميا مرتبطا بالحجم، بل نوعي.
العصبوية هي نزعة بدائية ترتبط بـ”طفولة” الحركة العمالية. وهذا ما يؤكده تروتسكي في نفس المقال المشار إليه أعلاه، حيث يقول: “إن كل حزب من أحزاب الطبقة العاملة، وكل فصيل من فصائلها، يمر في مراحله الأولى بمرحلة دعاية خالصة، أي مرحلة تدريب كوادره. إن فترة الوجود كحلقة ماركسية تغرس دائما عادات المقاربة المجردة لمشاكل الحركة العمالية. ومن لا يستطيع أن يتخطى حدود هذا الوجود المحدود يتحول إلى عصبوي محافظ”.
وتظهر التيارات العصبوية بشكل حتمي في مرحلة الحلقات الصغرى، ويكون لها آنذاك ما يبررها، لكنها عند نقطة معينة تفقد مبررها التاريخي وتصير رجعية ويتوجب القطع معها وإلا فإنها ستسبب فوضى عارمة. وهذا ما شرحه ماركس في رسالة كتبها إلى فريدريك بلوخ، سنة 1871، حيث قال:
“تأسست الأممية من أجل استبدال العصب الاشتراكية، أو شبه الاشتراكية، بتنظيم حقيقي للطبقة العاملة من أجل النضال […] لم يكن بوسع الأمميين الحفاظ على أنفسهم لو لم يكن مسار التاريخ قد حطم بالفعل النظام العصبوي. إن تطور نظام العصب الاشتراكية ونظام الحركة العمالية الحقيقية يقفان دائما في علاقة تناقض فيما بينهما. وطالما كان للعصب ما يبررها (تاريخيا)، فإن الطبقة العاملة لا تكون قد نضجت بعد لتصير حركة تاريخية مستقلة. لكن بمجرد وصولها إلى ذلك النضج، تصبح جميع العصب رجعية بشكل أساسي.
ومع ذلك فإن ما أثبته التاريخ في كل مكان تكرر داخل الأممية. إذ أن القديم يحاول إعادة تأسيس نفسه والحفاظ على نفسه ضمن الشكل الذي تم تحقيقه حديثا”.
ومن ميزات العصبوي الجوهرية هو أنه، على حد تعبير تروتسكي في نفس المقال المشار إليه:
“ينظر إلى المجتمع وكأنه مدرسة كبيرة، هو من يحتل فيها منصب المدرس […] وبالرغم من كونه يحلف بالماركسية في كل جملة، فإن العصبوي هو النفي المباشر للمادية الديالكتيكية، التي تأخذ التجربة كنقطة انطلاق وتعود إليها دائما. إن العصبوي لا يفهم علاقة التأثير والتأثر الديالكتيكية الموجودة بين البرنامج المكتمل وبين النضال الحي للجماهير -أي الناقص والغير مكتمل-… إن العصبوي عدو للديالكتيك (ليس بالأقوال بل بالأفعال) إذ يدير ظهره لتطور الطبقة العاملة الواقعي”.
وعليه فإن النزعة الأستاذية المتعالية عن الجماهير وعن الواقع، إضافة إلى العداء للديالكتيك هما أبرز صفات العصبويين. وهذا ما نجده واضحا في مقال تلك المجموعة التي هاجمتنا مؤخرا، كما سنرى ذلك بعد قليل. وهي صفات شديدة الضرر على الحركة العمالية وعلى التيار الماركسي في نفس الآن، لذا يضع الماركسيون على عاتقهم مهمة النضال ضدها وهو النضال الذي بطبيعته مستمر بسبب كونها ظاهرة متجددة، لا تختفي إلا لكي تعود في شكل آخر…
المنهج الماركسي والمنهج العصبوي في النقاش
ما يميز أغلب التيارات العصبوية كذلك، هو الافتراءات واعتبار النقاش النظري فرصة لتسجيل النقاط الرخيصة، باستعمال “تقنية رجل القش”، وهي التقنية التي حولها أصدقائنا الحاليين إلى فن.
النقاش النظري بالنسبة للماركسيين فرصة للرفع من المستوى النظري للمشاركين فيه، وتصحيح الأخطاء والتمكن من فهم الواقع بشكل أفضل من أجل التدخل فيه لتغييره. ولذلك فإنهم يحرصون على التعامل بنزاهة مع ما يقوله خصومهم ويردون عليهم بنزاهة…
هذا ما كنا قد شرحناه في مقال بعنوان “ما هي المواقف الحقيقية للتيار الماركسي الأممي – رد على اللومبرتيين“، خصصناه للرد على عصبة أخرى، والتي رغم اختلافها مع أصدقائنا الحاليين في الاسم، فهي تشبههم في كل شيء جوهري وفي طريقة النقاش وتلفيق الافتراءات، ، حيث قلنا ما يلي:
“نحن نعتقد أنه لكي يستفيد المناضلون داخل الحركة العمالية من أي تبادل للأفكار، يتوجب على المشاركين في الجدال أن يلتزموا على الأقل بالصدق حول ما يقوله وما يكتبه خصومهم.
“ليس هناك في العالم ما هو أسهل من أن توقف دمية قش ثم تطيح بها. إن تزييف موقف الخصم من أجل السخرية منه لا يخدم أي غرض ذي معنى. مثل هذا السلوك لا يساعد العمال والشباب على فهم القضايا المطروحة حقا على المحك. قد يمنح ذلك الكاتب شعورا بالرضا عن النفس، لكنه بالتأكيد لا يعزز مكانته داخل الحركة العمالية الأوسع. إننا نفضل أن يكون هناك نقاش نزيه حول ما نمثله ونجيب على أي انتقادات لمواقفنا الحقيقية.
“أبدا لم يكن ليتبادر لذهن إنجلز تزييف حجج دوهرينغ من أجل تسجيل نقاط رخيصة عليه. نرى في جميع جدالات ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي أقصى أنواع النزاهة تجاه اقتباس ما يقوله خصومهم. هذا هو السبب في أنهم كانوا دائما يقتبسون مقاطع مطولة من كتابات خصومهم، ولا يقتطعون عبارات معزولة خارج السياق من أجل تشويه المواقف التي كانوا يردون عليها. والسبب في ذلك بسيط للغاية: فبالنسبة للتيار الماركسي الحقيقي، ليس الهدف من وراء الجدال تسجيل النقاط ولا إهانة الطرف الآخر، بل رفع المستوى النظري للكوادر.
“إن الأساليب غير النزيهة في الجدال لا ترفع المستوى النظري للكوادر، بل تحط منه في الواقع. لم تكن هذه طريقة الحزب البلشفي بقيادة لينين وتروتسكي، بل كانت الطريقة المشينة لزينوفييف وستالين، التي دمرت الحزب البلشفي والأممية الشيوعية […]”.
الافتراءات في المقال الذي كتبه “الخط الأمامي” ضدنا كثيرة ولا يمكن الرد عليها جميعها في حلقة نقاش واحدة. لذا سوف نركز في هذه المرة على توضيح الموقف الماركسي من الشرطة والجيش. حيث أنهم هاجمونا في هذه النقطة معتقدين أنهم قبضوا علينا متلبسين بالجرم المشهود.
في الموقف من الشرطة والجيش
طبعا، ومثل كل مرة، لم يستشهدوا بأي من مقالاتنا ولا كتاباتنا ولا عشرات الفيديوهات التي نشرح فيها بالتفصيل موقفنا من الدولة وجهاز البوليس، بل اكتفوا بتلفيق التهمة في بضعة أسطر وانتقلوا إلى افتراءات أخرى.
يقولون في مقالهم:
“[…] على سبيل المثال، دافع التيار الماركسي الأممي دائمًا عن نقابات الشرطة والبوليس، مدعيًا أنها ستجذب الشرطة إلى الحركة العمالية و”تقوض قدرة الدولة الرأسمالية على قمع الطبقة العاملة”. ومع ذلك، فإن الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع في حركة “حياة السود مهمة” في عام 2020 أدركوا أن النقابات البوليسية إنما هي مؤسسات رجعية تمامًا ويجب طردها من حركتنا العمالية.
“وبهدف التكيف مع هذا الوعي الجديد ولكن جوهريا دون التخلي عن موقفه القديم، انتهى الأمر بالتيار الماركسي الأممي IMT الآن إلى صياغة مشوشة بشكل يائس بشأن الموقف من نقابات الشرطة. إذ بات يقول إنه يتبع “نهج معارضة تصرفات نقابات الشرطة التي تأتي على حساب الطبقة العاملة الأوسع، ولكنها تدعم تلك الإجراءات التي تفيد العمال وتقرب ضباط الشرطة من الحركة العمالية”. في خدعة وسطية نموذجية، إذ يمكن أن تعني هذه الجملة إما الدعم الكامل لنقابات الشرطة أو الرفض الكامل، انموذج واضح لانتهازية فاقعة لقيادة هذا التيار. وصل الأمر بالتيار الماركسي الأممي IMT للقول أن نقابات الشرطة في الولايات المتحدة هي رجعية بشكل لا يمكن إصلاحه ولكنها تقدمية في كندا أو بقية العالم!”.
من أين نبدأ لنرد على كل هذه الافتراءات؟ متى وأين قلنا إن “نقابات الشرطة تقدمية في كندا أو بقية العالم”؟ لا أحد يدري، وليس بالضرورة أن يدري، المهم أنها تهمة “قوية” تخدم بشكل جيد الهدف المطلوب والذي هو تسجيل النقاط الرخيصة.
بغض النظر عن هذا الافتراء الفاضح الذي لا يساوي الحبر الذي كتب به، سنحاول أن نستخلص الفكرة الجوهرية في نقدهم لموقفنا من الشرطة ونقاباتهم لكي نؤسس لنقاش جدي:
إنهم يظنون أنهم قبضوا علينا متلبسين بالتناقض التالي في موقفنا: كوننا دافعنا دائمًا عن نقابات الشرطة والبوليس، مدعين أنها ستجذب الشرطة إلى الحركة العمالية وتقوض قدرة الدولة الرأسمالية على قمع الطبقة العاملة.
لكن عندما أدرك المحتجون في حركة حياة السود مهمة “أن النقابات البوليسية إنما هي مؤسسات رجعية تمامًا ويجب طردها من حركتنا العمالية”، اضطررنا إلى التكيف مع هذا الوعي الجديد ولكن جوهريا دون التخلي عن موقفنا القديم..
وبتنا نقول إننا نتبع نهج معارضة تصرفات نقابات الشرطة التي تأتي على حساب الطبقة العاملة الأوسع، ولكننا ندعم تلك الإجراءات التي تفيد العمال وتقرب ضباط الشرطة من الحركة العمالية. في خدعة وسطية نموذجية، إذ يمكن أن تعني هذه الجملة إما الدعم الكامل لنقابات الشرطة أو الرفض الكامل.
وهم عندما يهاجموننا في هذه النقطة يعتقدون أنهم أصابونا في مقتل. ويعتبرون أن ذلك هو أمضى سلاح في ترسانتهم.
نحن، حسب هذا الاتهام، مجموعة من “محبي البوليس”. لكن إذا كان ذلك صحيحا فلا بد أنه حب من طرف واحد، لأنه يبدو أن البوليس لا يبادلنا الحب، إذ نتعرض باستمرار للقمع ليس فقط في بلدان منطقتنا، حيث نحن محرومون من أبسط حقوق التنظيم والاجتماع والتعبير، أو في باكستان، حيث تعرض رفاقنا مرارا للقمع والاعتقال وحتى الاختطاف، بل حتى في فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، ومؤخرا في النمسا على خلفية النضال التضامني مع الشعب الفلسطيني…
وطبعا لكي يلصقوا لنا هذه التهمة عليهم ألا يستشهدوا بأي شيء نكتبه أو نقوله، فذلك سيفسد، في آخر المطاف، جمالية روايتهم وقدرتها على الاقناع.
لكن دعونا نحن نقوم عوضا عنهم بتلك العملية التي يعتبرونها “مقززة”، أي الاستشهاد بما نكتبه ونقوله قبل أن يردوا علينا:
لقد حرصنا دائما، في جميع كتاباتنا الكثيرة حول الدولة، سواء كتبا أو مقالات، أو محاضرات (الكثير منها مبثوثة على قنواتنا في يوتيوب)، على أن نوضح موقفنا من الدولة والذي هو نفس الموقف الماركسي من الدولة. وفي هذا الصدد سأقتطف من مقالتنا الماركسية والدولة، على سبيل المثال، حيث نقول:
“تكتسي مسألة الدولة في المجتمع الرأسمالي أهمية كبرى بالنسبة للماركسيين، نحن لا نعتبرها حكما محايدا فوق المجتمع. إن الاساس الجوهري لكل دولة، مع هيئة الرجال المسلحين (البوليس والجيش والمحاكم)، وغيرهم هو أن تخدم مصالح طبقة واحدة في المجتمع، والتي هي في المجتمع الرأسمالي الطبقة الرأسمالية”.
بدون هذه الأجهزة القمعية لا يمكن للرأسماليين أن يحافظوا على السلطة ولو ليوم واحد.
إنهم يحتاجون إلى قوة خاصة لديها سلطات خاصة وامتيازات خاصة، بما في ذلك الحق في استعمال العنف والقتل لضبط الأغلبية. ويشكل البوليس جزءا من تلك الهيئة ومهمتها حماية الملكية الخاصة ومصالح الطبقة الرأسمالية.
وقلنا في مقال للرفاق الأمريكيين بعنوان: “حركة احتلوا وول ستريت والبوليس“:
“البوليس جزء من الدولة السائدة، هيئة من الرجال المسلحين يتم استعمالهم ضد العمال والطلاب لكسر الاضرابات ومنع الاعتصامات والمسيرات وارهاب الاقليات والفقراء، لخدمة مصالح الملكية الخاصة للأغنياء”.
البوليس هم التجسيد الحي للدولة وقمعها واضطهادها، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك فسادهم وهمجيتهم وعنصريتهم…
وعليه لا يمكننا نهائيا أن ندعو إلى الثقة في هذا الجهاز أو اعتباره محايدا أو الدعوة إلى الاعتماد عليه لحماية مصالح العمال…
كما يمكنكم أن تجدوا في مداخلة الرفيق بن كلينيسكي: البوليس الدولة والثورة، مثلا:
“البوليس، مثله مثل بقية أجهزة الدولة البرجوازية، لا يمكن اصلاحه ليتوقف عن أن يكون سلاحا في يد البرجوازية، في يد الطبقة الرأسمالية، ويتحول إلى شيء يدافع عن مصالح الطبقة العاملة… إنهم سلاح في يد الطبقة الرأسمالية ضد الطبقة العاملة”.
هذه هي نقطة الانطلاق والأساس المبدئي الذي نقف عليه.
لكن الواقع معقد ومتحرك ويتضمن التناقض، ويقتضي المنهج الديالكتيكي في التحليل وليس المنطق الميتافيزيقي.
المنهج الديالكتيكي الماركسي ينظر إلى الأشياء كما هي موجودة بتناقضاتها وحركيتها وصيرورتها. بينما المنطق الميتافيزيقي، الذي هو منطق العصبويين، ينظر إلى الواقع من منظور الجمود والثبات ومنطق “إما هكذا أو ذاك”. عالمهم مشكل من لونين فقط الأسود والأبيض، لكن إذا ظهر أن الواقع لا ينضبط لهذه التصنيفات الجامدة، فتلك مشكلة الواقع وليست مشكلتهم.
يعيش العصبويون، على حد تعبير تروتسكي في عالم من الصيغ الجاهزة. بمنطقهم علينا إما أن ندعم أو لا ندعم. وفي سياقنا الحالي وعلى حد تعبيرهم: علينا “إما الدعم الكامل لنقابات الشرطة أو الرفض الكامل”، كما كتبوا في مقالهم. لا وجود لأي موقف ممكن آخر. لكن الواقع لا ينضبط لتصنيفات وخطاطات العصبويين الميتة.
تلك هي الطريقة العصبوية، أما نحن الماركسيون فنخضع موقفنا للتحليل الملموس، عندما نتعاطى مع أي مسألة حتى بالنسبة للحركة العمالية، والحركات الجماهيرية الأخرى.
بالنسبة للعصبوي وتصنيفاته الجاهزة، نحن دائما ندعم العمال، ودائما لا ندعم الفئات الأخرى (الشرطة في سياقنا الحالي). لكن الواقع شيء آخر.
صحيح أننا مناضلون عماليون، لكننا حتى نضالات العمال نخضعها للتحليل الملموس. نحن لا ندعم دائما كل ما يمكن أن ينبع عنها. فإذا حدث، على سبيل المثال، إضراب ضد العمال المهاجرين سنقف بالتأكيد ضده، وقد وقفنا ضد اضراب سائقي الشاحنات ضد ألييندي في التشيلي، ووقفنا ضد الحراك الذي شهدته كوبا السنة الماضية، الخ، الخ.
وفي المقابل يمكننا أن ندعم تحركات بعض الفئات غير العمالية، مثلما دعم لينين تحركات الطلاب (الذين كانوا آنذاك ينحدرون في الغالب من الأرستقراطية، ليس كما هو الحال الآن، حتى عندما كانت مطالبهم أكاديمية محضة). مثلما ندعم اليوم نضالات طلاب جامعات النخبة، في الولايات المتحدة وغيرها، التي تحتج ضد الجرائم الاسرائيلية في غزة…
وعليه فإن موقفنا من التحركات التي يمكن أن تصدر حتى عن الجيش والشرطة رهين بتحليلنا الملموس لتلك التحركات. السؤال الذي نطرحه هو هل تخدم تلك التحركات مصلحة تطوير الصراع الطبقي ومصالح الطبقة العاملة، أم لا؟ وعلى أساس ذلك نقرر…
فإذا حدث تمرد في صفوف تلك القوات ورفضوا قمع مظاهرة عمالية سوف نحيي ذلك الفعل ونحاول التدخل فيه لتطويره وتوسيعه وبث الوعي الثوري فيه…
هل علينا أن نقف على الحياد أو نعادي ذلك كما ينصحنا العصبويون؟ كلا شكرا لن نقوم بذلك…
إننا خلال كل نضال عمالي، وبالتأكيد خلال الثورة، ندعو العمال إلى تنظيم أنفسهم والدفاع عن أنفسهم ضد عنف الدولة البرجوازية (الجيش والبوليس والفاشيين..) بكل ما هو متوفر لهم. لسنا مسالمين ولسنا من دعاة “أدر لهم خدك الأيسر”.
وحتى إن كنا نراهن على حدوث تصدعات في صفوف الدولة البرجوازية على أسس طبقية، بحيث يبدأ صغار الجنود والشرطة في التردد ثم التعاطف مع مطالب الثورة، فإننا نعتبر أن ذلك سيتم بشكل أسرع كلما كانت القوى الثورية أكثر حزما في الدفاع عن نفسها وعبرت عن صرامة أكبر في الرد على كل قمع بقوة. وفي هذا الصدد يقول لينين:
“يجب ألا نتصور انتقال الجيش هذا عملا بسيطا ومنعزلا، ناجما عن الاقناع من جهة وعن يقظة الوعي من جهة أخرى. وانتفاضة موسكو تبين لنا بجلاء ما يتسم به هذا الرأي من رتابة وعقم”[2].
عندما تنهض الجماهير للنضال، ترسل البرجوازية كلاب حراستها: البوليس والجنود (وكذلك الأقلام المسمومة في وسائل الإعلام…)، لقمع الاحتجاجات واستعادة “القانون والنظام”.
وفي هذا الصدد يصف لينين ما حدث خلال الأحد الدامي (1905) قائلا:
“تم استدعاء القوات. هاجم الفرسان والقوزاق الحشود بالسيوف المسلولة. أطلقوا النار على العمال العزل، الذين كانوا جاثيين على ركبهم يتوسلون القوزاق للسماح لهم بالوصول إلى القيصر. وبحسب تقارير الشرطة قُتل أكثر من ألف شخص وجُرح أكثر من ألفين في ذلك اليوم”[3].
لكن سرعان ما تؤثر تلك الأحداث الكبرى بالتأكيد في صفوف الجنود. يقول آلان في مقاله: الماركسية والدولة: “الجنود لا يعيشون في فراغ، بل يتأثرون بأمزجة الجماهير”. وهذا ما نراهن عليه في ظل كل وضع ثوري.
نراهن على حدوث ذلك التصدع، بل إن انتصار الثورة سيكون مستحيلا إذا لم يحدث ذلك التصدع على أسس طبقية داخل صفوف الجيش والشرطة، وكسب جزء منهم إلى معسكر الثورة. إذ لا يتصور عاقل أنه سيتوجب على العمال لكي يحسموا السلطة أن يقاتلوا حتى إفناء كل القوات التي تمتلكها الدولة البرجوازية.
وفي هذا الصدد نشير إلى الرد الذي قاله تروتسكي عندما بدأ زينوفييف وكامينيف، المرعوبان، يحسبان عدد القوات المتوفرة للدولة البرجوازية، حيث رد عليهما قائلا:
“تبدو القائمة مهيبة، لكنها مجرد قائمة. فبما أن الجيش ككل نسخة من المجتمع، فعندما ينقسم المجتمع علنًا، يصير كلا الجيشين نسخا من المعسكرين المتحاربين. فجيش المالكين منخور بثقوب دودية من العزلة والانحلال”[4].
الأحداث الثورية تؤثر في جهاز الشرطة والجيش ويبدأ الغليان في صفوفه. هنا على الحزب الثوري أن يتدخل لتعميق تلك الأزمة وتوسيع الصدع وكسب هؤلاء الجنود والبوليس المتمردين، بل وحتى المترددين، إلى صفوف الثورة.
ماذا كان موقف لينين؟
فلنأخذ على سبيل المثال ما كتبه في مقاله “الجيش والثورة”[5]، والذي يستند إلى تجربة ثورة 1905. طبعا حرص لينين في ذلك المقال على أن يؤكد أن “الجيش النظامي أمسى في كل مكان أداة للرجعية وخادما للرأسمال في الصراع ضد العمل، وجلادا لحرية الشعب”[6]. كما حرص على توجيه العمال إلى تعلم استعمال الأسلحة والقنابل للرد على القوة بالقوة. وذلك لكي لا يترك أي وهم يحاول الاصلاحيون واللبراليون زرعه بين العمال حول حياد جهاز الجيش، والبوليس، أو امكانية الرهان عليه لحماية العمال.
لكنه يؤكد في المقال المذكور أعلاه أنه بفعل الأحداث الكبرى، ثورة 1905، حدث تطور كبير داخل نفس الجيش، ويقول:
“مضت تلك الأزمنة التي عمد فيها الجيش الروسي، كما كان الحال في عام 1849، إلى قمع الثورة خارج جدود روسيا، والآن انفصل الجيش عن الأوتوقراطية إلى غير رجعة. لم يصبح بعد كله ثوريا، ووعي الجنود والبحارة السياسي ما يزال منخفضا جدا. ولكن المهم هو أن الوعي قد استيقظ منذ حين، وأنه بدأت بين الجنود حركة منهم ولهم وأن روح الحرية تسربت إلى الثكنات في كل مكان […]
“إن جنود بيترسبورغ يريدون أن يتوصلوا إلى تحسين المأكل والألبسة والمساكن وزيادة الراتب وتخفيض مدة الخدمة وزمن التمارين اليومية، ولكن بين مطالبهم مطالب أخرى تشكل مكانا أكبر ولا يمكن أن يتقدم بها غير الجنود المواطنين: الحق في حضور جميع الاجتماعات بالزي العسكري والحق في قراءة جميع الجرائد وحرية الاعتقاد […]”
هل دعا لينين إلى رفض مطالب الجنود عندما طالبوا بتحسين ظروف عيشهم وبالمطالب الديمقراطية الخاصة بحرية التنظيم والمعتقد، الخ؟ كلا! لقد تعاطى معهم برفاقية وطرح لهم مطالب انتقالية تربط مطالبهم بمطالب الشعب الكادح، لكسبهم إلى معسكر الثورة باعتبار ذلك الحل لمشاكلهم هم أيضا.
كتب قائلا:
“إن مطالب الجنود المواطنين هي مطالب الاشتراكية الديمقراطية، مطالب جميع الأحزاب الثورية، مطالب العمال الواعين. إن الانضمام إلى صفوف أنصار الحرية، الانتقال إلى جانب الشعب سيؤمن انتصار قضية الحرية وتحقيق مطالب الجنود”[7].
لا بد أن صديقنا العصبوي الآن يضرب جمجمته الفارغة ويصرخ كيف أن لينين، الذي قال للتو إن “الجيش النظامي أمسى في كل مكان أداة للرجعية وخادما للرأسمال في الصراع ضد العمل، وجلادا لحرية الشعب”، ووصف الطريقة الوحشية التي كانوا يقمعون بها العمال العزل في يوم الأحد الدامي، وشرح، في مقاله “دروس انتفاضة موسكو”[8] كيف قام الجنود بـ”تسليط نيران المدفعية على المتاريس والبيوت والجمهور في الشوارع”، يسمح لنفسه أن يخاطبهم بهذا “الاسلوب اللطيف” ويدعوهم إلى “الانضمام إلى صفوف أنصار الحرية، والانتقال إلى جانب الشعب”؟ لكنا سنتركه لارتباكه ونواصل نقاشنا…
يقول لينين، في مقاله “دروس انتفاضة موسكو”:
“إن حيرة الجيش، المحتمة في كل حركة شعبية حقا، تقود، إذا ما اشتد النضال الثوري، إلى صراع حقيقي في سبيل الظفر بالجيش” (التشديد من عند لينين).
ويلوم القوى الثورية قائلا:
“ينبغي أن نتحلى بالشجاعة ونعترف بكل صراحة أننا في هذا الميدان [ميدان الصراع من أجل كسب الجيش] تركنا الحكومة تسبقنا، فلأجل الظفر بالجيش المتردد لم نعرف كيف نستغل القوى التي كانت تحت تصرفنا في نضال نشيط جريء مقدام هجومي كالصراع الذي شنته وخاضته الحكومة وسارت به إلى النهاية”.
ومن بين أهم النقاط التي يستهدفها العصبويون في موقفنا تجاه الجيش والشرطة هي دعوتنا إلى إعطائهم الحق في التنظيم والعمل السياسي وتمكينهم من مختلف الحريات بما في ذلك النقابة. ولا يعرفون أنهم بذلك إنما يدافعون عن حق البرجوازية في احتكار الحق في تكوينهم على أساس أفكارها وايديولوجيتها، بدون أي منافسة من جانب الطبقة العاملة وأحزابها ونقاباتها. لأنه لا يمكن أن يكونوا في الفراغ، فإما أن يتأثروا بالفكر البروليتاري الثوري أو يبقوا تحت تأثير الأفكار البرجوازية.
يقول لينين في نفس المقال:
“إن هذه المطالب تبين أن الخطابات المنافقة التي يتشدق بها أتباع الأوتوقراطية بصدد حياد الجيش وضرورة إبقاء الجيش في معزل عن السياسة وما إلى ذلك، لا يسعها أن تأمل في أقل تعاطف من جانب الجنود.
“لا يمكن للجيش ولا يجب عليه أن يكون محايدا، إن شعار عدم إشراك الجيش في السياسة، إنما هو شعار خدم البرجوازية والقيصرية المنافقين الذين أشركوا دائما بالفعل الجيش في السياسة الرجعية”.
ألا يرى أصدقاؤنا العصبويون أنهم يلتقون في هذه النقطة مع البرجوازية؟ هل ترفض البرجوازية تسييس الجيش والشرطة ومنحهم الحقوق النقابية لأنها تخاف من أن يؤثروا على النقابات العمالية ويحولوها إلى نقابات بوليسية، أم لأنها تخاف من أن يحدث العكس ويصير جنودها عرضة للتأثير “المخل بالأخلاق العامة” من طرف الثوريين والمناضلين العماليين الكفاحيين ودعايتهم وتحريضهم؟
الموقع الاجتماعي للشرطة[9]
إن ما يحدد الموقع إلى طبقة أو فئة اجتماعية هو العلاقة مع ملكية وسائل الإنتاج. وفي المجتمع الرأسمالية هناك طبقتان رئيسيتان:
- الرأسماليون الذين هم أقلية كبار مالكي وسائل الإنتاج الذين يستغلون قوة عمل العمال لإنتاج فائض القيمة.
- العمال وهم طبقة واسعة من غير المالكين، الذين لا يملكون سوى قوة عملهم (العضلية والذهنية) وعليهم أن يبيعوها للرأسماليين مقابل الأجر، لكي يعيشوا.
وإلى جانب هاتين الطبقتين هناك طبقات وفئات اجتماعية عديدة، هناك البرجوازية الصغيرة، أي هؤلاء الذين هم في نفس الوقت مضطرون لأن يشتغلوا بأنفسهم لكنهم يملكون وسائل الإنتاج الخاصة بهم، في ورشة أو مقاولة صغيرة أو ضيعة صغيرة الخ، ويستغلون قوة عمل الآخرين.. وهناك حثالة البروليتاريا، التي تتكون من متحللين طبقيا، لم تعد لهم أية علاقة واضحة مع الملكية ويعيشون عالة على المجتمع (النشالون والمتسولون وصغار المجرمين، الخ).
أين يوجد البوليس والجنود؟ إنهم لا يمتلكون وسائل الإنتاج، ولا يعملون لإنتاج فائض القيمة. والرأسماليون لا يوظفونهم لخلق الثروة، بل لحمايتها لمصلحة الرأسماليين. وهذا ما يجعلهم مختلفين ليس فقط عن العمال، بل وحتى عن بقية موظفي القطاع العام الآخرين (المعلمين، الممرضين…).
لكن ورغم أن مهمتهم هي حماية النظام الرأسمالي، فإن الجهاز الذي ينتمون إليه هرمي جدا. في الأعلى يقف القادة الذين هم أقرب إلى البرجوازية المتوسطة، على الأقل، وبعضهم من كبار الرأسماليين، وهؤلاء هم بطبيعة الحال مصالحهم هي الحفاظ على الوضع القائم… وفي القاع هناك صغار الضباط والجنود وهؤلاء (بغض النظر عن وعيهم) مصلحتهم تتقاطع مع مصلحة العمال، بل إنهم يحتاجون إلى العمال للدفاع عنهم (النضال ضد الهجوم الذي تشنه الدولة على صناديق التقاعد ورفع الدعم عن الخدمات الاجتماعية وتأخير سن التقاعد، الخ) ومصلحتهم الموضوعية في انتصار تلك النضالات.
صحيح أن العديد منهم ينسبون أنفسهم إلى النظام القائم، ويؤمنون بشعار “القانون والنظام”، لكن إذا نظرنا إلى ظروف عيشهم وعملهم نجد أنهم أقرب إلى الطبقة العاملة، فهم يسكنون أحياء الطبقة العاملة، ولديهم شركاء (زوجات أزواج) من الطبقة العاملة، ويرسلون أبنائهم إلى مدارس الطبقة العاملة، والعديد منهم ينحدرون من أسر عمالية (أو غالبا من الفلاحين). ويشتغلون للحصول على أجرة تعتمد عليها أسرهم لدفع الايجار وأداء الفواتير.
أغلب أعضاء جهاز الشرطة الصغار، التحقوا به ليس لأنهم مدافعون واعون مخلصون عن الطبقة الرأسمالية، وواعون بالدور الذي يقومون به موضوعيا، بل فقط ليحصلوا على عمل.
وعندما تطبق البرجوازية سياسة التقشف على التعليم والصحة وغيرها يتضررون مثلهم مثل بقية الفئات الأخرى، ولو أنهم يتمكنون، مؤقتا وإلى حد ما، من تفادي وطأة الهجمات من خلال الانخراط في الأنشطة الإجرامية والرشاوى والفساد. لكن ذلك لا يجعل منهم برجوازيين، ناهيك عن أن تلك “الامتيازات” مرتبطة بممارستهم للمهنة ولا تبقى ولا تورث.
وهم بهذه الحالة أقرب إلى ظروف عيش الطبقة العاملة، رغم أنهم (من وجهة نظر ماركسية) ليسوا جزءا من الطبقة العاملة ولا الحركة العمالية. الأمر محير للعقل العصبوي الجامد الذي يفكر بالصيغ والتصنيفات الميتة، والذي لا يمكن لعقله أن يستوعب الواقع في تعقيده، لكن دعونا منه ولنواصل نقاشنا…
سيصرخ العصبوي: “البوليسي سيبقى دائما بوليسيا ورجعيا”. لكن هذا منطق لا مادي ولا ماركسي. إن ما يحدد وعي الناس هو وضعهم الاجتماعي، والأحداث التاريخية الكبرى تحدث تغييرات عميقة في وعي الناس. صحيح أن الشرطة مقارنة بالجيش أكثر تخلفا. ومع ذلك، فإنها بدورها تتأثر بالأحداث التي يعيشها المجتمع.
فعلى سبيل المثال عندما اندلعت ثورة 1968 في فرنسا بدأت الشرطة في فرنسا “تغلي بالاستياء”، هل حد تعبير صحيفة التايمز، والتي أضافت:
“إنهم يشعرون بالاستياء بسبب معاملة الحكومة لهم، والفرع الذي يتعامل مع المعلومات الاستخبارية حول النشاط الطلابي يتعمد حرمان الحكومة من المعلومات حول القادة الطلابيين.
“كما أن الشرطة لم تتأثر بسلوك الحكومة منذ اندلاع الاضطرابات. وقال أحدهم: “إنهم خائفون من فقدان دعمنا لهم”.
“مثل هذا الاستياء هو أحد أسباب الخمول الواضح لشرطة باريس في الأيام القليلة الماضية. في الأسبوع الماضي، رفض رجال الشرطة في عدة مراكز محلية الذهاب إلى الخدمة في مفترقات الطرق وساحات العاصمة”[10].
ويضيف آلان في مقاله “الماركسية والدولة” في 13 ماي، أصدرت هيئة نقابية للشرطة تمثل 80% من الأفراد النظاميين إعلانًا بأنها: “… تعتبر تصريح رئيس الوزراء بمثابة اعتراف بأن الطلاب كانوا على حق، وتنصلا تاما من تصرفات قوات الشرطة التي أمرت بها الحكومة نفسها. ومن المستغرب في هذه الظروف عدم السعي إلى إجراء حوار فعال مع الطلاب قبل وقوع تلك المواجهات المؤسفة “[11].
في ظل هذه الظروف يكون موقف الماركسيين هو التدخل من أجل توسيع الصدع الذي حدث في بنية الدولة وجهازها القمعي بطرح مطالب انتقالية للشرطة العاديين. رفع مطلب الحق في العمل النقابي والرقابة الديمقراطية على جهاز البوليس من طرف المجتمع، الخ ويكون هدفنا شق صفوف الشرطة وكسر قبضة البرجوازية على جهازها، دون أن يكون لدينا أي وهم في امكانية استعماله لصالح الطبقة العاملة. إن موقفنا يبقى دائما تحطيم الدولة البرجوازية وليس استعمالها…
لكن إذا اتبعنا سياسة العصبويين سيكون علينا أن نقف على الحياد او ربما نعارض ذلك التمرد… كلا شكر لن نقوم بذلك.
طبعا سيرفع العصبوي في وجهنا هنا مقولة واضحة لتروتسكي وهي أن: “العامل الذي يصير شرطيا في خدمة الدولة الرأسمالية، هو شرطي برجوازي وليس عاملا”. لكن هذه العبارة التي جاءت في كراسه “What next” الذي كتبه سنة 1932، مقتطعة من سياقها، فهو كان آنذاك يناقش النضال ضد النازية في ألمانيا. وإذا قرأنا الكراس سنجده يتحدث فيه عن الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يمتنعون عن تعبئة العمال للنضال ضد الفاشيين ويدعونهم في المقابل إلى الثقة في الدولة البرجوازية والاعتماد على بوليسها للقيام بذلك…
كان هدف الاشتراكيين منع العمال من النضال ووضعهم ضمن حدود الدولة البرجوازية[12]..
طبعا موقفنا في هذا السياق هو تحذير العمال من الثقة في الدولة أو البوليس لحماية مصالحهم أو حمايتهم من الفاشية أو أي قوة أخرى، ودعوتهم إلى الاعتماد على أنفسهم ومنظماتهم فقط[13].
لكن تروتسكي لم يكن يناقش في ذلك المقال بوليسا في خضم وضع ثوري يقوم بتمرد ضد الدولة أو ضد قيادته الخ.
إلا أنه عندما ناقش البوليس في وضع ثوري (انظر: على سبيل المثال الكتابات العسكرية المجلد الخامس 1923- 1921)[14] قال ما يلي:
“لقد قمت للتو بتسمية القوات الأساسية للعدو، وهي قوات الرايخسفير التي يبلغ قوامها 100 ألف جندي، والتي حددت معاهدة فرساي حجمها. هذا جيش من المتطوعين، يتكون بشكل شبه حصري من الفلاحين، الذين تعرضوا للتدجين المناسب من قبل ضباطهم الفاشيين. وإلى حد ما، فإن قوة الشرطة التي يبلغ قوامها 135 ألف فرد هي أيضا سلاح في يد الجنرال سيكت. وهي تتألف بشكل رئيسي من عمال المناطق الحضرية، باستثناء بافاريا وفورتمبيرغ.
ففي حين يتألف الرايخسفير من شباب الريف، 95% منهم غير متزوجين، فإن رجال الشرطة هم من العمال، والأغلبية الساحقة منهم لديهم أسر، والذين اضطروا إلى الانضمام إلى قوات الشرطة بسبب البطالة وظروف أخرى.
وفي بروسيا براندنبورغ، تتألف قوة الشرطة هذه إلى حد كبير من العمال الاشتراكيين الديمقراطيين، وتشكل حراسة وزير الداخلية البروسي سيفيرينغ. يحظر القانون على رجال الشرطة الانتماء إلى أحزاب سياسية، لكنه يسمح لهم بالانتماء إلى النقابات العمالية، بحيث يكون رجال الشرطة في معظم الحالات أعضاء في النقابات العمالية الحرة (الاشتراكية الديمقراطية)
ويقدر الأشخاص المختصون أن ثلث رجال الشرطة هؤلاء سيقاتلون ضدنا بالتأكيد (خاصة في المناطق الريفية)، وثلثهم سيظلون على الحياد، وحوالي الثلث سيقاتلون إلى جانبنا، أو سيساعدوننا. وهكذا فإن الحساب الحسابي يظهر أن قوة الشرطة ستصاب بالشلل، وسيتم القضاء عليها كقوة مستقلة. هنا، بالطبع، كل شيء يعتمد على السياسة والتكتيكات والإستراتيجية التي نطورها. ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أننا لا ينبغي لنا أن ننظر إلى الرايخسفير والشرطة كشيء موحد ومتجانس. مثل هذا المفهوم خاطئ جذريا”.
وكما نرى من الاقتباس أعلاه، فإن تروتسكي لم يعامل الشرطة ككتلة رجعية متجانسة. ولم يدع إلى طرد الشرطة من النقابات العمالية الحرة (الاشتراكية الديمقراطية)، ولم يعتقد أنه لا يمكن أبدًا إقناع أي ضابط شرطة بالثورة. بل على العكس من ذلك، ففي الظروف المحددة التي كان يشير إليها، كان يعتقد أن “الثلث سيبقى على الحياد، ونحو الثلث سيقاتل إلى جانبنا، أو سيساعدنا”.
فمع تصاعد حدة الصراع الطبقي حتى جهاز البوليس يتأثر، ووعيهم يتأثر. وعلينا أن نتتبع كل مظاهر تطور الوعي عند جميع الفئات بدقة. فعندما يكون تحرك البوليس ونقاباتهم يخدم مصلحة العمال، علينا أن ندعم ذلك التطور.
العصبوي لا تهمه هذه التعقيدات فهو مكتف بصيغه وخطاطاته الميتة، إذ أنه أصلا غير معني بالممارسة في الواقع المعقد المتحرك المتناقض بطبيعته. لكننا نحن الماركسيون مهتمون بفهم الواقع في تناقضه وحركيته، لذا سندعه في عالمه، ونواصل نضالنا…
البلاشفة والجيوش الغازية
طبعا سيتفاجأ أصدقاؤنا العصبويون عندما سنخبرهم أن هذه السياسة، سياسة التدخل في الجيش بالدعاية والتحريض، يمكن (ويجب) استعمالها حتى مع الجيوش الغازية في حالة إرسال القوى الامبريالية لجيوشها لإسقاط الدولة العمالية. نعلم أن هذا أكثر مما يمكن للعصبوي استيعابه، لكن هذا ليس شأننا!
خلال الحرب العالمية الأولى، وعندما كانت الدولة السوفياتية محاصرة والإمبريالية الألمانية تحاول خنقها، تم افتتاح مفاوضات السلام في بريست ليتوفسك، يوم 22 دجنبر 1918. كان الوفد السوفياتي المفاوض برآسة تروتسكي، باعتباره آنذاك مفوض الشعب للشؤون الخارجية. بمجرد وصول الوفد إلى بيست ليتوفسك بدأ في توزيع الأدبيات الثورية على الجنود الألمان، الشيء الذي دق ناقوس الخطر بين الضباط والدبلوماسيين الألمان. وقد كان لتلك الدعاية والدعاية التي وجهها البلاشفة كذلك إلى الطبقة العاملة الألمانية تأثير بين صفوف الجنود وداخل ألمانيا نفسها[15].
وقد واصل البلاشفة هذه السياسة بشكل بارع خلال الحرب الأهلية، حيث نشروا بين الجنود الغازية الدعاية الثوري إلى الإخاء والتمرد ضد قادتهم ورفض مهاجمة الدولة العمالية.
ولإعطاء مثال عن تلك السياسة الأممية الثورية نورد ما جاء في منشور للحكومة البلشفية (بتوقيع من لينين وتشيتشيرين) إلى جنود الغزو البريطانية المحتلة لمورمانسك، بعنوان “لماذا أتيت إلى مورمانسك؟” (انظر ترجمة النص الكامل في الملحق). والذي من بين ما جاء فيه:
“لماذا أتيت إلى مورمانسك؟ […] لأي غرض؟ تخبرنا حكومتك أنها لا تنوي أي عداء تجاهنا. وأنها لا ترغب في احتلال أراضينا. وأنها لن تتدخل في شؤوننا الداخلية. وأنك أرسلت إلى هنا فقط لغرض الدفاع عن سكة حديد مورمانسك ضد الفنلنديين والألمان. يا رفيق، هذا غير صحيح!
[…]لقد تم إحضارك إلى هنا لاحتلال بلادنا لصالح رأسماليي الحلفاء.
لقد تم إحضاركم إلى هنا للإطاحة بثورتنا وإعادة حكم القيصرية!!!
[…]إنكم لن تقاتلوا ضد الأعداء بل ضد العمال من أمثالكم.
[…]نحن نسألكم: هل ستساعدون في سحقنا؟ هل ستساعدون في إعادة روسيا إلى ملاك الأراضي، والرأسماليين، والقيصر؟
لقد كنتم في نقاباتكم تقاتلون الرأسماليين، وأنتم تعلمون ما الذي يعنيه ذلك.
أيها الرفاق!
أيها الإنجليز!
أنتم الذين تفتخرون بحبكم للحرية!
أيها الرفاق! أحفاد الشارتيين العظماء! أنتم الذين عبرتم دائما عن تعاطفكم مع الثورة الروسية. هل ستساعدون في سحق الجهود الأولى للعمال لتحرير أنفسهم من قيودهم ومستغليهم؟”.
وقد حققت تلك الدعاية نتائج عظيمة وكان لها الدور الحاسم في انتصار الجيش الأحمر، بقيادة مؤسسه تروتسكي، على 21 جيشا غازيا من جميع الجهات.
ففي فبراير 1919، على سبيل المثال، رفض رجال فوج يوركشاير الزحف على سيليتسكوي. وتم اعتقال رقيبين، تم تفويضهما للتعبير عن رفض الكتيبة للقتال، وتم تقديمهما للمحاكمة العسكرية وحُكِم عليهما بالإعدام رميا بالرصاص. وانتشرت أنباء تمرد يوركشاير بسرعة بين القوات المتحالفة. وكانت الكتيبة الفرنسية في أرخانجيلسك أول من حذا حذوها، حيث رفضت العودة من الإجازة. وأمام انتشار عدوى التمرد في صفوف الجيوش الغازية اضطر القادة إلى سحب جيوشهم[16].
هذه هي السياسة البلشفية الحقيقية لكن ما حاجة العصبوي إلى دراسة هذه التجارب وفهمها، فهو أصلا لا يمارس، ولن يشارك في أي ثورة.
هكذا نجد أن البلاشفة خاطبوا جنود دولة إمبريالية غازية ارتكبت أفظع المجازر، بواسطة هؤلاء الجنود بالذات، في حق العمال والفلاحين، بصيغة “أيها الرفاق” ويا “أحفاد الشارتيين العظماء”…
نعلم أن العصبوي ضيق الأفق سيصرخ: “يا إلهي كيف يعقل هذا”!! لكن دعونا منه ولننتقل إلى تجربة حديثة هي تجربة الثورة السودانية.
عندما وصلت الثورة السودانية إلى ذروتها صار غالبية الجنود العاديين موالين للثورة ، وبدأت الانقسامات تظهر في المؤسسة العسكرية على أساس طبقي. وكما أشرنا في مقالنا السودان: سوط الثورة المضادة يحفز الثورة فقد خرج العديد من الجنود من الرتب الدنيا، بل وأيضا من الضباط، يقولون إن نظام المجلس العسكري لا يمثلهم. بل هناك تقارير عن تدخل جنود من القوات المسلحة السودانية لحماية المتظاهرين من رجال الميليشيات.”
ما الذي كان يجب القيام به لو توفر حزب بلشفي حقيقي آنذاك؟ لقد كتبنا في العديد من مقالاتنا إنه يجب تنظيم حملة منهجية في جميع المناطق للتواصل مع الجنود وكسبهم إلى صف الثورة، فدون شق صفوف الجيش على أسس طبقية، لا يمكن الحديث عن هزيمة الثورة المضادة”. وشرحنا أنه “في حين أن الجنرالات كلهم هم أعداء الثورة، فإن الجنود العاديين هم إخوة وأبناء نفس هؤلاء الذين يناضلون في الشوارع. بل إنهم، في الواقع، وقفوا خلال الأشهر الماضية، مرات عديدة ، إلى جانب الثورة ضد هجمات الميليشيات الرجعية. يجب انتخاب لجان للجنود الثوريين في كل الثكنات وربطها بلجان العمال والفلاحين والأحياء العمالية”[17].
لو أن قيادة الثورة أصدرت دعوة لإسقاط المجلس العسكري عبر إضراب عام شامل، مع توجيه نداءات إلى الجنود داخل الجيش، لكان ذلك تحقق ولكانت الثورة قد صارت مسلحة. لكن لم تصدر أي دعوة من هذا القبيل. فضاعت الفرصة واستعادة قوى الثورة المضادة سيطرتها على جهازها القمعي وانتقلت إلى الهجوم الدموي الذي ما يزال مستمرا لحد اللحظة.
طبعا لا نحمل المسؤولية في ذلك لأصدقائنا العصبويين، فهم أصلا لا وجود لهم، بل نحمل المسؤولية الكاملة لقيادة الحزب الشيوعي السوداني التي استمرت تدعوا للحفاظ على حياد الجيش وما إلى ذلك من الشعارات الخيانية. لكن تلك قصة أخرى!
بمثابة خلاصة
لكي نختم نقول إن موقفنا من جهازي الجيش والشرطة هو أنهما جهازان للدولة البرجوازية، مهمتهما هي القمع المسلح للشعب العامل من أجل الحفاظ على علاقات الإنتاج السائدة، وأنهما جهازان رجعيان بالمطلق.
نحن نرفض الفكرة القائلة بكونهما جهازان محايدان أو بإمكانية استعمالهما في خدمة الشعب العامل، لأنه من المستحيل على عبد أن يخدم سيدين متناقضي المصالح.
نحن نناضل من أجل استبدال الجيش البرجوازي والبوليس بالشعب المسلح، وفي وجه عنف الدولة الرجعي، نطالب بتشكيل ميليشيات العمال والفلاحين الفقراء والمضطهدين، منتخبة ديموقراطيا وموضوعة تحت رقابة مجالس العمال والفلاحين الفقراء والطلاب من أجل الدفاع عن الأحياء العمالية وأماكن العمل والجامعات والمظاهرات والاعتصامات، الخ.
لكننا في نفس الوقت نعتبر أن الجنود ورجال الشرطة هم أبناء الفلاحين والعمال والمضطهدين، يتوجب علينا، في الوضع الثوري، كسبهم إلى صفوفنا وندعوهم إلى المساهمة في نضالات آبائهم وإخوانهم وتوجيه أسلحتهم إلى صدور أعدائهم الحقيقيين: الطبقة الرأسمالية ونظامها المتعفن.
وكما أكد الرفاق الأمريكيون في مقالهم الماركسية ضد العصبوية فإننا:
“نؤكد على حقيقة أن وحشية الشرطة هي وظيفة مجتمع مقسم إلى طبقات، وليست مجرد مسألة أفراد معتلين اجتماعيا، على الرغم من أن الشرطة لديها الكثير جدا من هؤلاء الأشخاص.
نحن، قبل كل شيء، نؤكد على أن مسألة الشرطة لا يمكن حلها أبدا ضمن حدود الرأسمالية، ونوضح أنه لإنهاء وحشية الشرطة، يجب علينا إنهاء نظام الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي تجعل رجال الشرطة والدولة ضروريين. وهذا ما نناضل من أجله وما ناضلنا من أجله دائما، مهما حاول العصبويون زرع البلبلة عبر تشويه موقفنا الديالكتيكي”.
وعلى أي حال فإننا لا نطلب من الجميع أن يتفق معنا، وخاصة العصبويين، الذي نحن أصلا نفر منهم مثلما يفر الانسان السليم من الطاعون. لكننا نطلب ممن يختلف معنا أن يختلف معنا على أساس ما نقوله فعلا وما نفعله فعلا، وليس على أساس ما يلفقه لنا من افتراءات وتهم.
أما بالنسبة للذين يتفقون مع أفكارنا وتحاليلنا فإننا ندعوهم إلى الالتحاق بنا في نضالنا من أجل بناء أحزاب شيوعية ثورية حقيقية فروع للأممية الشيوعية الثورية، التي هي المنظمة الوحيدة في العالم اليوم التي تمثل تقاليد وأفكار ومنهج ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي في خيط لم ينقطع.
إلى الأمام من أجل بناء الأممية الشيوعية الثورية !
ملحق:
“جمهورية روسيا الاشتراكية الفدرالية السوفياتية.
لماذا أتيت إلى مورمانسك؟
لماذا أتيت إلى مورمانسك؟ لقد قيل لك في إنجلترا إن الطلب على الرجال على الجبهة الغربية أكبر من أي وقت مضى. أنت تعلم أن الرجال الذين يبلغون 45 عاما فأكثر في إنجلترا يتم استدعاؤهم للتجنيد بسبب الحاجة الملحة في جبهة فرنسا. ومع ذلك، تم إحضارك إلى هنا، في بحر القطب الشمالي، على بعد ألف ميل من جبهة القتال.
لأي غرض؟ تخبرنا حكومتك أنها لا تحمل أي نوايا عدائية تجاهنا. وأنها لا ترغب في احتلال أراضينا. وأنها لن تتدخل في شؤوننا الداخلية. وأنك أرسلت إلى هنا فقط لغرض الدفاع عن سكة حديد مورمانسك ضد الفنلنديين والألمان. أيها الرفيق، هذا غير صحيح!
عندما يعرض عليك أي كان أن يتكبد الكثير من المتاعب والنفقات نيابة عنك، دون أن يطلب منه ذلك، فإنك تشعر ببعض الشك في دوافعه. لم نطلب من حكومتك مساعدتنا في الدفاع عن بلدنا. نحن نعلم أن نواياهم مختلفة تماما عن تلك التي يعبرون عنها لنا.
إن خط السكة الحديدية المورماني ليس في خطر سواء من الألمان أو الفنلنديين. وإذا نظرت إلى الخريطة فسوف ترى أن خط السكة الحديدية والطرق من غرب فنلندا ينتهي على بعد مئات الأميال من خط السكة الحديدية المورماني. فإذا أراد الفنلنديون الاقتراب من حدودنا، عليهم أن يجتازوا مئات الأميال من أراضي الغابات المستنقعية، وأنت تعلم مدى صعوبة قيام أي جيش بذلك.
ولا يستطيع الألمان أيضا تهديد خط السكة الحديدية.
فإذا أراد الألمان مهاجمة خط السكة الحديدية المورماني، سيكون عليهم أولا الاستيلاء على بتروغراد، والسير عبر بلادنا مئات الأميال، من بتروغراد إلى بتروزافودسك. إننا لم نعد في حالة حرب مع ألمانيا. ولا يستطيع الألمان التقدم نحو بتروغراد دون إعلان الحرب علينا أولا. ولا يوجد احتمال لحدوث ذلك. إضافة إلى هذا فإنكم إذا أتيتم من الجنوب، فقد يستخدم الألمان ذلك كذريعة للتقدم إلى أبعد داخل بلادنا.
لذلك لستم مطالبين بالدفاع عنا. بل على العكس من ذلك، إن وجودكم هنا يزيد من الخطر علينا. لماذا إذن تم إحضارك إلى هنا؟ سنخبرك:
لقد تم جلبكم إلى هنا لاحتلال بلادنا لصالح الرأسماليين الحلفاء.
لقد تم جلبكم إلى هنا للإطاحة بثورتنا وإعادة حكم القيصرية!!!
لا يمكنك تصديق هذا. تقول إن الحكومة البريطانية لن تفعل مثل هذا الشيء أبدا. دع الحقائق تتحدث عن نفسها إذن.
تكتب الصحف الرأسمالية الإنجليزية تايمز ومورنينغ بوست وديلي تلغراف كل يوم عن إقامة حكومة قوية وحازمة في روسيا. هل تمثل هذه الصحف آراء الديمقراطية، أم أنها تمثل آراء أصحاب المال والرأسماليين والمستغلين أو إنجلترا. وتشير هذه الصحف باستمرار أيضا إلى ثروة الأخشاب الموجودة في أراضينا الشمالية، والتي يقولون إنها ستكون كافية لسداد القروض التي أعارها أصحاب المال والرأسماليون والمستغلون للنظام القيصري الفاسد والمستبد. إن الرأسماليين وأصحاب المال ليسوا أصدقاء العمال الإنجليز، ولا العمال الروس، ولا عمال أي بلد. من يسيطر على حكومة إنجلترا اليوم؟ العمال أم الأوليغارشية المالية؟ إنها الأوليغارشية المالية. إنهم يأمرون ويوجهون هبوطكم في مورمانسك. يتم استغلالكم لصالح المستغلين الذين يستفيدون من حياة وعمالة العمال.
إن حكومتكم تتدخل في شؤوننا الداخلية. لقد أرست سيطرتها الخاصة في المنطقة التي تحتلها. لقد قطعت اتصالاتنا التلغرافية مع الخارج. إنها تحاول إغراء مواطنينا بالقتال ضدنا. وفي كيم أطلقت حكومتكم النار على أربعة أعضاء من السوفيات المحليين.
تنكر حكومتكم أنها فعلت ذلك، لكن لدينا دليل قاطع على ذلك.
التشيكوسلوفاكيون!
إنكم تعلمون أن التشيكوسلوفاكيين على نهر الفولغا، في قلب بلادنا، يسعون علنا إلى سحق ثورتنا. لقد قالوا إنهم يريدون محاربة الألمان، ولكنهم بقوا هنا ويقاتلوننا. إنهم يقولون إنهم يقاتلون من أجل الحرية، ولكنهم يقاتلون من أجل إعادة النظام القيصري. إنهم يمتدون إلى سيبيريا، وحيثما ذهبوا يقمعون السوفييتات (مجالس مندوبي العمال)، ويشنقون أعضاءنا، ويضعون ضباط القيصر في مكانهم. إن هؤلاء التشيكوسلوفاكيين يجمعون حولهم ضباط النظام القيصري الفاسدين والرجعيين. إنهم نفس الغوغاء الذين خانوا كيتشنر، والذين باعوا البنادق والذخائر المصنعة في المصانع البريطانية للألمان، والذين زعزعوا تنظيم جيشنا، والذين كانوا على وشك بيع روسيا للألمان، عندما قمنا بثورتنا.
إن الهدف الوحيد للتشيكوسلوفاكيين، وهؤلاء الغوغاء، هو سحق ثورتنا وإعادة النظام القيصري. لقد أعلنوا رسميا أن هذا هو هدفهم. ولقد حظيت هذه الحركة بدعم صريح من حكومات الحلفاء.
إن حكومات الحلفاء والصحافة الحليفة تشيد بأعمال التشيكوسلوفاكيين. وقد ألقى القنصل الفرنسي كلمة هنأهم فيها على المهمة التي تولوها. وهم ممولون من طرف البعثة العسكرية الحليفة. ويدير عملياتهم ضباط فرنسيون.
إن هبوطكم في مورمانسك هو جزء من مخطط التعاون مع التشيكوسلوفاكيين.
إنكم لن تقاتلوا ضد الأعداء بل ضد العمال من أمثالكم.
لقد تمكن الشعب العامل لأول مرة في التاريخ من حكم بلاده. ويسعى عمال كل البلدان إلى تحقيق هذا الهدف. لقد نجحنا نحن في روسيا، وأسقطنا حكم القيصر، وملاك الأراضي، والرأسماليين. لكننا ما زلنا نواجه صعوبات هائلة يتعين علينا التغلب عليها. ولا نستطيع أن نبني مجتمعا جديدا في يوم واحد. ونتمنى أن نترك وشأننا.
نحن نسألكم: هل ستساعدون في سحقنا؟ هل ستساعدون في إعادة روسيا إلى ملاك الأراضي، والرأسماليين، والقيصر؟
لقد كنتم في نقاباتكم تقاتلون الرأسماليين، وأنتم تعلمون ما الذي يعنيه ذلك.
أيها الرفاق!
أيها الإنجليز!
أنتم الذين تفتخرون بحبكم للحرية!
أيها الرفاق! أحفاد الشارتيين العظماء! أنتم الذين عبرتم دائما عن تعاطفكم مع الثورة الروسية. هل ستساعدون في سحق الجهود الأولى للعمال لتحرير أنفسهم من قيودهم ومستغليهم؟
تذكروا هذا! إذا تم سحق الثورة الروسية، فإن قوة الرأسماليين ستتعزز بشكل هائل في جميع البلدان، وسيعود النضال من أجل الحرية الاقتصادية إلى الوراء مائة عام”.
ج. تشيتشرين، مفوض الشعب للشؤون الخارجية.
ن. لينين، رئيس مجلس مفوضي الشعب”.
هوامش:
[1] وبالمناسبة، رب ضارة نافعة ! فرغم أنه لا أهمية لتلك العصبة ولا لغيرها من المجموعات المجهرية الموجودة على هامش الحركة العمالية والحياة عموما، فإن النقاش معها نبهنا إلى ضرورة ترجمة وثيقة تاريخية في منتهى الأهمية عنوانها: “لماذا أتيت إلى مورمانسك؟”، بقلم لينين وتشيتشيرين، أصدرها البلاشفة خلال الحرب الأهلية، وتبين السياسة الماركسية للتدخل في الجيوش الغازية بالدعاية والتحريض الثوريين.
[2] لينين: دروس انتفاضة موسكو، المختارات، المجلد 3، دار التقدم، موسكو، 1976، ص: 52
[3] Lecture on the 1905 Revolution
[4] Trotsky, History of the Russian Revolution, p. 1042
[5] لينين: المجلد 3 المختارات، ص ص 30-33
[6] نفسه، ص 33
[7] نفسه ص: 31- 32.
[8] ص: 50
[9] لتفادي تكرار الاحالات نشير إلى أننا سنعتمد في هذا الفصل على مقال رفاقنا في الحزب الشيوعي الثوري في أمريكا، الماركسية ضد العصبوية.
[10] التايمز، 31/5/1968، نقلا عن آلان وودز: الماركسية والدولة، مصدر سابق.
[11] لوموند، 15 مايو/أيار 1968، نقلا عن آلان وودز: الماركسية والدولة، مصدر سابق.
[13] نفسه
[14] Trotsky: “The Present Situation and Our Tasks in Building The Army”
[15] Rob Sewell/ Alan Woods : In defence of Lenin, Volume II, p : 560.
[16] Why have you come to Mourmansk?
[17] السودان: الثورة المضادة ترفع رأسها، فلنحول الإضراب العام إلى انتفاضة!
هيئة تحرير ماركسي
24 يونيو/حزيران 2024