كان موقف لينين من المسألة القومية عاملا أساسيا في نجاح البلاشفة في الثورة الروسية. وتعتبر مقالته “حق الأمم في تقرير المصير“، التي نُشرت في أبريل ويونيو 1914، في سياق الجدال ضد روزا لوكسمبورغ وآخرين، واحدة من أبرز أعماله حول هذا الموضوع.
[سينظم التيار الماركسي الأممي، خلال الفترة الممتدة من 10 إلى 15 يونيو، الجامعة العالمية للشيوعية 2024، والتي سنعلن خلالها تأسيس أممية شيوعية ثورية جديدة. سيتضمن الأسبوع أكثر من 20 محاضرة تغطي جميع القضايا المركزية التي يحتاجها الشيوعيون للنضال من أجل الثورة اليوم، بما في ذلك محاضرة حول المسألة القومية. تسجل الآن!]
كانت الإمبراطورية الروسية تعرف باسم “سجن القوميات”، حيث اضطهَد النظام القيصري “الروسي العظيم” أكثر من 130 جنسية ومجموعة اثنية مختلفة. وكان هذا هو الحال بشكل خاص في المناطق الحدودية، حيث حُرمت أمم بأسرها، مثل الأوكرانيين والجورجيين والليتوانيين والفنلنديين وغيرهم الكثير، من الحقوق الديمقراطية الأساسية.
ولذلك كانت “المسألة القومية” -أي كفاح الأمم أو الشعوب من أجل تقرير شؤونها الخاصة، والتحرر من الاضطهاد- مسألة رئيسية بالنسبة للحركة الثورية الروسية.
الحق في تقرير المصير
في عام 1903، تبنى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (الذي كان البلاشفة فصيلا داخله)، في برنامجه “الفقرة التاسعة” الشهيرة بشأن المسألة القومية. وقد منح هذا “حق تقرير المصير لكل الأمم الموجودة في إطاره حدود الدولة”.
لم يكن هذا الموقف سوى تنفيذ لقرار بشأن المسألة القومية كان مؤتمر الأممية الثانية قد وافق عليه في عام 1896. لكن وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا البند كان موضوع نقاش مكثف في مناسبات عديدة خلال تاريخ البلاشفة.
ولعل أبرز تلك النقاشات كان مع الموقف الذي اتخذته روزا لوكسمبورغ. قالت لوكسمبورغ، في مقالة مطولة بعنوان “المسألة القومية والحكم الذاتي”، نشرت في 1908-1909، إن المطالبة بحق تقرير الأمم في تقرير مصيرها هي فكرة طوباوية في ظل الرأسمالية، إذ أن الأمم الصغيرة ستظل حتما تحت سيطرة الإمبريالية. في حين أنه في ظل الاشتراكية لن تكون هناك، حسب وجهة نظرها، حاجة لهذا الحق، حيث سيتم القضاء على أساس الاضطهاد القومي.
بعد سنوات قليلة، اجتاحت روسيا حركة جماهيرية للطبقة العاملة، وصلت بحلول عام 1914 إلى أبعاد ما قبل ثورية. وفي ذلك الوقت تعرض موقف البلاشفة من المسألة القومية للهجوم من قبل العديد من الانتهازيين داخل الحركة.
وإدراكا منه لأهمية هذه المسألة لنجاح الثورة، انتهز لينين الفرصة لمحاربة مختلف الأفكار المشوشة حول المسألة القومية، وذلك من خلال إعادة تأكيد الموقف الماركسي في سلسلة من المقالات، والتي كانت إحداها (حق الأمم في تقرير المصير)، ردا من طرفه على أفكار لوكسمبورغ، والتي ردد صداها مختلف أطياف الانتهازيين.
مسألة ملموسة
كان لينين متعاطفا مع حقيقة أن روزا لوكسمبورغ، باعتبارها عضوا في حزب الاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين (أي الماركسيين)، كانت منخرطة في النضال ضد ما كان يسمى بـ”الحزب الاشتراكي البولندي”، الذي كان يقوده في الواقع القوميون البرجوازيون.
لقد شنت لوكسمبورغ حملتها بشكل صحيح ضد مطلب الاستقلال الذي يرفعه القوميون البولنديون، الذين كانوا في نهاية المطاف لا يهتمون بهذا إلا من أجل الحصول على الامتيازات لأنفسهم بينما يقومون بتقسيم صفوف العمال البولنديين والروس.
لقد خشيت لوكسمبورغ من أن يتسبب الماركسيون الروس، من خلال دفاعهم عن حق الأمم في تقرير مصيرها، في تأجيج نيران القومية بين عمال القوميات المضطهَدة، ويدفعونهم إلى أحضان القوميين البرجوازيين.
ولذلك عارضت قيام البلاشفة بإدراج حق الأمم في تقرير مصيرها في برنامجهم. ومن خلال قيامها بذلك، حاولت دعم حجتها بانتقاد هذا الحق باعتباره مطلبا “مجردا”. وقالت إنه إذا لم يكن مدرجا في برنامج الماركسيين الألمان، فلماذا يجب إدراجه في مكان آخر؟
لكن الواقع هو أن لوكسمبورغ، كما أشار لينين، هي التي تعاملت مع المسألة القومية بشكل مجرد، أي منفصل عن الظروف الملموسة في روسيا التي أدت إلى ظهور حركات قومية مختلفة.
وأوضح لينين أن النضال من أجل إقامة الدول القومية ارتبط تاريخيا بالثورات الديمقراطية البرجوازية، وحاجة الرأسماليين إلى الأسواق الوطنية.
وفي حين أن هذه السيرورة كانت قد اكتملت إلى حد ما في أوروبا الغربية بحلول عام 1871 مع توحيد ألمانيا -وهذا هو ما يفسر غياب المطلب عن برنامجهم- فإنها كانت قد بدأت للتو في أوروبا الشرقية وآسيا مع الثورة الروسية عام 1905.
لذلك فقد كانت هناك عوامل قوية للغاية أدت إلى ظهور الحركات القومية البرجوازية في المناطق الحدودية للإمبراطورية الروسية، حيث كانت الرأسمالية تتطور في كثير من الحالات بشكل أسرع مما كانت عليه في المناطق الداخلية “الروسية العظمى”.
وإلى جانب ذلك، فقد كان إرث قرون من الاضطهاد القومي يدفع بالعديد من العمال والفلاحين إلى البحث عن حل لمشاكلهم. وكانت مسألة الهيمنة الإمبريالية في المستقبل أقل أهمية بالنسبة لهم من إزالة هيمنة مضطهِديهم الحاليين.
لذلك أوضح لينين أن المسألة القومية لا يمكن أن يتجاهلها الماركسيون الروس. لأنهم إذا تخلوا عن حق الأمم في تقرير مصيرها، سيتركون ميدان النضال فعليا في أيدي القوميين البرجوازيين.
وفي مقابل ذلك، جادلت روزا لوكسمبورغ بأن البند التاسع في برنامج الماركسيين الروس لم يقدم حلولا “عملية” للاضطهاد القومي للعمال والفلاحين. لكن لينين أجاب أنه بينما من الصحيح القول إنه أثناء مرحلة احتضار الرأسمالية، يتم انتزاع الحقوق الديمقراطية، ويتم تحطيم الإصلاحات، ويتم إخضاع الأمم المضطهَدة بشكل أكثر وحشية لهيمنة الإمبريالية، فإننا لا نطلب من العمال أن يجلسوا مكتوفي الأيدي وينتظروا الثورة لحل جميع مشاكلهم باعتبارها السبيل “العملي” الوحيد للخروج من وضعهم.
إن الثورة ليست ممكنة إلا على أساس النضال من أجل الحقوق الديمقراطية والإصلاحات، وكذلك من أجل التحرر الوطني، والدفع عبر الشرعية البرجوازية على طول الطريق نحو الثورة الاشتراكية. يتحدد مدى “عملية” أي مطلب من خلال النضال.
مقاربات مختلفة
في سياق تحليله للمسألة بشكل ملموس، رسم لينين تمييزا مهما بين النهج الذي يتبعه عمال الأمم المضطهَدة وعمال الأمم المضطهِدة تجاه المسألة القومية، والذين يشكلان وجهين لموقف أممي حازم.
بالنسبة للأمم المضطهَدة، من الضروري تحصين الطبقة العاملة ضد تأثير القوميين البرجوازيين، الذين يستخدمون القومية في نهاية المطاف لثلم نصل الصراع الطبقي، لخدمة الامتيازات الخاصة بهم. قال في هذا الصدد:
“لا فرق بالنسبة للعامل المأجور ما إذا كان مستغَلا بشكل رئيسي من قبل البرجوازية الروسية العظمى وليس من قبل البرجوازية غير الروسية، أو من قبل البرجوازية البولندية وليس من قبل البرجوازية اليهودية، إلخ
إن العامل المأجور الذي أصبح يفهم مصالحه الطبقية لا يبالي أيضا بامتيازات الدولة التي يتمتع بها الرأسماليون الروس العظماء، ولا وعود الرأسماليين البولنديين أو الأوكرانيين بإقامة جنة على الأرض عندما سيحصلون على امتيازات الدولة”.
وأضاف أنه:
“ليس من الصعب أن نفهم أن اعتراف ماركسيي روسيا بأكملها، وعلى رأسهم “الروس العظماء”، بحق الأمم في الانفصال، لا يمنع بأي حال من الأحوال أن يقوم الماركسيون في أمة مضطهَدة معينة بالتحريض ضد الانفصال ، مثلما أن الاعتراف بالحق في الطلاق لا يمنع من التحريض ضد الطلاق في حالة معينة”.
مسألة أن يطالب عمال الأمة المضطهَدة بمطلب الانفصال أم لا، تعتمد على مجموعة كاملة من العوامل. وقد اقتبس لينين بغزارة من ماركس وإنجلز ومقاربتهما لمختلف الحركات القومية لكي يوضح الموقف الماركسي. العامل الأكثر أهمية هو التأثير الذي ستحدثه حركة الاستقلال هذه على الصراع الطبقي وتطور الثورة العالمية.
إلا أن لينين شدد على أنه من الواجب على عمال الأمة المضطهِدة أن يقفوا للدفاع عن الحقوق الديمقراطية الأساسية للأمم المضطهَدة، بما في ذلك حقها في الانفصال. وهذا في المقام الأول مطلب سلبي، ضد الاخضاع القسري لأمة من قبل أمة أخرى. يدافع الشيوعيون عن أقصى قدر ممكن من الديمقراطية، التي يشكل هذا الحق جزءا لا يتجزأ منها.
وقد كان ذلك ضروريا لأجل التغلب على قرون من الاضطهاد، الذي ترك إرثا من عدم الثقة تجاه الأمة المضطهِدة من جانب الأمة المضطهَدة.
ولذلك قال لينين إن قيام الماركسيين الروس بإزالة حق الأمم في تقرير مصيرها من برنامجهم -مثلما كانت لوكسمبورغ تطالب- من شأنه أن يصب في الواقع في مصلحة القوميين البرجوازيين. وليس هذا فحسب، بل إنه سيضفي طابع القدسية على امتيازات الطبقة السائدة الروسية العظمى، وسيضر بمهمة تثقيف العمال الروس بروح الأممية.
ولذلك فإن موقف لينين من المسألة أبعد ما يكون عن تأجيج نيران القومية، بل كان يهدف إلى القيام بالعكس تماما. كان البلاشفة واضحين في أنهم إذا وصلوا إلى السلطة، فلن تكون لديهم مصلحة في مواصلة اضطهاد القوميات المختلفة. وقد ساعد ذلك في تعزيز وحدة العمال والفلاحين الفقراء من مختلف الأمم، وكذلك سحب البساط من تحت أقدام القوميين البرجوازيين.
الثورة الروسية
في الواقع، بمجرد أن استولى البلاشفة على السلطة في ثورة أكتوبر، أكدوا على الفور موقفهم بشأن المسألة القومية، فضلا عن منح الأراضي للفلاحين.
بعد أيام قليلة على انتصار ثورة أكتوبر أصدروا إعلان حقوق جميع شعوب روسيا، الذي منح جميع الأمم الحق في تقرير مصيرها، وألغى أي امتيازات أو قيود على أي جنسية.
لم يكن هذا الحق مجرد قصاصة من الورق. إذ أن البلاشفة اعترفوا، في الواقع، خلال السنوات الأولى للثورة، باستقلال خمس دول قومية جديدة.
وفي الوقت نفسه، تم إنشاء 17 جمهورية قومية مستقلة، تحت مظلة جمهورية روسيا الفدرالية الاشتراكية السوفياتية الجديدة. وتم إلغاء الممارسة القيصرية المتمثلة في التعامل مع اللغة الروسية باعتبارها “لغة الدولة”، وألزمت المدارس بتقديم التعليم للأطفال بلغتهم الأم.
وبعبارة أخرى فقد أثبت البلاشفة عمليا أنهم جادون في سعيهم لإنهاء اضطهاد القوميات المختلفة. ومن خلال قيامهم بذلك، استقطبوا دعما هائلا للثورة.
كانت سياسة البلاشفة بخصوص المسألة القومية عاملا مهما في توحيد صفوف الطبقة العاملة والفقراء من مختلف الأمم بعيدا. لكن الأهم من ذلك هو أن برنامج البلاشفة لتحويل المجتمع، أصبح ممكنا من خلال وضع السلطة في أيدي العمال والفلاحين: أي المسألة الطبقية.
اليوم
ما يزال موقف لينين بشأن المسألة القومية يحتفظ بكامل راهنيته حتى اليوم. فمع الأزمة التي تمر بها الرأسمالية في مختلف أنحاء العالم، صارت القضايا القومية، التي بدت وكأنها قد تم حلها في السابق، تعود الآن إلى الظهور مرة أخرى.
وهذا هو الحال على سبيل المثال في اسكتلندا وكتالونيا، حيث يتطلع العديد من العمال والشباب إلى الاستقلال كوسيلة للهروب من سياسات التقشف التي تفرضها عليهم الحكومتان في لندن ومدريد على التوالي.
وفي أماكن أخرى، تتفاقم العديد من القضايا القومية التي لم يتم حلها قط بسبب الافلاس الكامل للرأسمالية. وهذا هو الحال على سبيل المثال بالنسبة للكورد، وبالطبع للفلسطينيين.
إن أحد الدروس الرئيسية المستفادة من كتاب لينين “حق الأمم في تقرير المصير” هو أنه لا يوجد مخطط واحد يناسب الجميع يمكن تطبيقه على مختلف القضايا القومية المتنوعة.
ففي حين أنه من الضروري على الطبقة العاملة في الأمة المضطهِدة أن تكتب على رايتها حق الأمم في تقرير المصير، فإن مسألة ما إذا كان ينبغي دعم كفاح معين من أجل الاستقلال يجب أن تعالج بشكل ملموس من وجهة نظر ما الذي يمكن أن يخدم على أفضل وجه مصالح الطبقة العاملة والثورة العالمية.
وفي الحالات التي يتعين فيها دعم حركة معينة من أجل الانفصال، يجب على الطبقة العاملة ألا تلعب دور المشجع للقوميين البرجوازيين، بل يجب أن تتخذ موقفا طبقيا مستقلا.
ومثلما خلص لينين فإن:
“المساواة الكاملة في الحقوق لجميع الأمم؛ حق الأمم في تقرير مصيرها؛ وحدة عمال جميع الأمم: هذا هو البرنامج القومي الذي تعلمه للعمال الماركسية، وتجربة العالم أجمع، وتجربة روسيا”.
عنوان ومصدر النص الأصلي:
How Lenin fought for workers’ unity in the ‘prison house of nations’