الرئيسية / تحليلات تاريخية / الاتحاد السوفياتي / نضال تروتسكي من أجل تجديد شباب الحزب البلشفي

نضال تروتسكي من أجل تجديد شباب الحزب البلشفي

بعد أن أصيب لينين بالعجز بسبب سكتة دماغية، في مارس 1923، أخذ تروتسكي مشعل النضال من أجل تجديد شباب الحزب البلشفي. في هذا المقال، الذي نشر في العدد 44 من مجلتنا الأممية “الدفاع عن الماركسية”، ونشرنا ترجمته العربية في العدد 14 من مجلتنا “الحرية والشيوعية”، يشرح نيكلاس ألبين سفينسون كيف خرج الصراع بين المعارضة اليسارية المستقبلية ضد “الترويكا” (المكونة من ستالين وزينوفييف وكامينيف) لأول مرة إلى العلن، ويستخلص الدروس القيمة التي يتضمنها للشيوعيين اليوم.


شهد عام 1923 تحول الوضع السياسي في الاتحاد السوفياتي نحو الأسوء. لم يعد لينين قادرا على القيام بأي نشاط سياسي. صحيح أن السياسة الاقتصادية الجديدة كانت قد قدمت فترة استراحة مؤقتة من الدمار الاقتصادي الذي خلفته الحرب الأهلية، لكنها أثارت اضطرابات في المصانع، وانتشر عدد من الإضرابات في جميع أنحاء البلاد. وبدأ الخلاف يتطور بين العمال وبين الحزب البلشفي. وتفاقم ذلك بسبب تزايد قوة بيروقراطية الدولة بفعل السياسة الاقتصادية الجديدة.

كان تروتسكي ولينين يدركان جيدا أهمية النضال الذي كان عليهما خوضه لحماية الحزب من الاستسلام لضغوط بيروقراطية الدولة. وقد كانت مقالات ورسائل لينين الأخيرة موجهة على وجه التحديد ضد بيروقراطية الدولة وضد المدافعين عنها داخل الحزب البلشفي. لكن بعد أن أصيب لينين بالعجز، بسبب سكتة دماغية، في مارس 1923، وقعت على عاتق تروتسكي مهمة النضال من أجل الحفاظ على التقاليد الحقيقية للبلشفية.

انعقد أول مؤتمر للحزب البلشفي دون حضور لينين في أبريل 1923. ومن المؤسف أن لينين لم يتمكن أبدا من إلقاء “القنبلة” التي كان يعدها لذلك المؤتمر، وبالتالي فإن الصراع الحتمي بين المبادئ الحقيقية للينينية وبين البيروقراطية الناشئة داخل الحزب البلشفي بقي تحت السطح.

حدثت الشرارة المهمة في أكتوبر 1923، عندما كتب تروتسكي رسالة إلى اللجنة المركزية يحذر فيها من تبقرط [Bureaucratisation] الحزب، واحتمال حدوث أزمة اقتصادية وسياسية إذا لم يتم التعامل معها بوعي من قبل القيادة، وقال:

«لقد تطور تبقرط جهاز الحزب إلى أبعاد لم يسبق لها مثيل من خلال طريقة اختيار الأمانة العامة. لقد تم إنشاء شريحة واسعة جدا من موظفي الحزب، الذين يدخلون جهاز حكومة الحزب، والذين يتبرأون تماما من رأيهم الحزبي، أو على الأقل من التعبير العلني عنه، كما لو أنهم يفترضون أن التسلسل الهرمي للأمانة العامة هو الجهاز الذي يخلق الرأي الحزبي والقرارات الحزبية. وتحت هذه الشريحة، الممتنعة عن إبداء آرائها، توجد الكتلة العريضة من أعضاء الحزب، التي تصلها كل القرارات على شكل استدعاء أو أمر. ويوجد بين صفوف هذه القاعدة الجماهيرية للحزب قدر غير عادي من السخط…»[1].

هاجم تروتسكي، بكلمات حادة للغاية، عملية اختيار أمناء الحزب المحليين وكيف أن تلك الممارسة تخلق زمرة بيروقراطية في مركز الحزب. وأوضح أن ذلك يؤدي إلى السلبية من جانب القاعدة الواسعة لأعضاء الحزب والطبقة العاملة ككل، الذين لا تتاح لهم فرصة المشاركة في مناقشات الحزب وقراراته، بل يتلقون الصيغ الجاهزة كأوامر. وصارت مشاركتهم “شكلية أكثر فأكثر”[2].

أعقب هذه الرسالة “إعلان الـ46”، وهي رسالة موجهة إلى اللجنة المركزية من قبل مجموعة من البلاشفة البارزين، يطالبون فيها، من بين أمور أخرى، بإنهاء تعيينات الأمناء العامين من فوق.

استهدفت كلتا الرسالتين تعيينات الأمناء العامين، حيث كان لهذا دور سلبي بشكل خاص في ذلك الوقت. ومن خلال تعيين أمناء من فوق، تم خلق شريحة من الإداريين على جميع المستويات والذين لم يكونوا مسؤولين أمام الأعضاء بل أمام الجهاز. في الماضي، عندما كان الجهاز ما يزال سليما نسبيا، لم يكن لذلك الاختيار نفس التأثير على الإطلاق، وكان، كما أشار تروتسكي، محدودا في نطاقه. لكن الاختيار لاحقا صار يتم على أساس الولاء للجهاز، مما أدى إلى تسريع عملية تبقرط الحزب. وقد وصف تروتسكي ذلك لاحقا بأنها “مجموعة غير قانونية جيدة التنظيم داخل الحزب”، حيث كان يتم «اختيار مسؤولي الحزب والدولة بشكل منهجي وفقا لمعيار واحد: معاداة تروتسكي»[3].

أثارت رسائل أكتوبر أزمة تفاقمت بسبب فشل الشيوعيين الألمان في الاستيلاء على السلطة، مما أنهى الأمل في إمكانية مجيء الفرج من الغرب. أعدت الترويكا اجتماعا مفصلا على المقاس للجنة المركزية ولجنة المراقبة المركزية في نهاية أكتوبر، وهو الاجتماع الذي لم يتمكن تروتسكي من المشاركة فيه بسبب المرض الذي أدى إلى تقييد نشاطه السياسي بشدة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 1923.

كان القرار (“حول الوضع داخل الحزب”) الذي تم تمريره في الاجتماع متوافقا مع الخط السياسي الذي وضعه لينين وتروتسكي، ولكن فقط لكي يتم الانتقال إلى إدانة تروتسكي ومجموعة الـ 46 بسبب “سياسة الانقسام الفصائلي”. كانت الترويكا ما تزال تشعر بعدم الأمان في موقفها، لأسباب ليس أقلها عدم اليقين بخصوص صحة لينين، وشعرت بأنها مضطرة إلى تقديم تنازلات.

وانطلاقا من روح الديمقراطية الحزبية، التي زعمت الأغلبية في قيادة الحزب أنها تلتزم بها، قامت المعارضة بنقل النقاش إلى العلن في صحيفة برافدا. في البداية اقتصر النقاش على المسائل الاقتصادية، لكنه انتقل إلى المسائل الحزبية الداخلية. وفي نهاية نوفمبر، أطلق بريوبرازينسكي (أحد أعضاء مجموعة الـ 46 الذين وقفوا وراء رسالة أكتوبر) هجوما واسع النطاق ضد الحزب لأنه اتبع خطا غير صحيح بشأن نظام الحزب الداخلي. مما أدى إلى إشعال الصراع من جديد داخل الحزب.

شعرت الترويكا مرة أخرى بأنها ملزمة بمحاولة التوصل إلى اتفاق مع تروتسكي. أدى ذلك إلى صدور قرار الخامس من دجنبر، والذي تمت الموافقة عليه في جلسة مشتركة بين المكتب السياسي وهيئة رئاسة لجنة المراقبة المركزية.

من الناحية السياسية، كان قرار الخامس من دجنبر يردد موقف تروتسكي، في شرحه وتحليله للمشكلة والاتجاه العام الذي يحتاج الحزب أن يسير فيه. ومع ذلك، فقد أغفل الالتزام بشكل صريح بإلغاء نظام التعيين المركزي لأمناء الحزب وأيد القرار الذي اتخذته اللجنة المركزية في أكتوبر، والذي أدان “النزعة الانقسامية” لتروتسكي[4]، كما أيد «المسار الذي حدده المكتب السياسي للديمقراطية الداخلية للحزب»[5]. لم تكن تلك تنازلات حاسمة من جانب تروتسكي، لكنها كانت بلا شك الصيغ التي كانت الترويكا تبحث عنها بالضبط من أجل حماية نفسها من النقد وتعزيز سلطتها.

يتهم إ. هـ. كار، وغيره من المؤرخين غير الماركسيين، تروتسكي بأنه “ساذج”، لكن هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة. لقد كان تروتسكي يعرف، أفضل من أي شخص آخر، طبيعة الوحش الذي كان يتعامل معه، وتقديره الصحيح للمسألة هو بالضبط ما أجبره على المضي قدما بحذر.

على الرغم من القيود المفروضة عليه، شرع تروتسكي في محاولة استخدام القرار إلى أقصى حد. وفي سلسلة من الخطب والمقالات في دجنبر 1923 (نُشرت لاحقا تحت عنوان “المسار الجديد”) أوضح موقفه بشأن كيف ينبغي للحزب البلشفي أن يسير في “المسار الجديد” الذي وضع نفسه عليه.

أوضح تروتسكي أن البيروقراطية لم ترتكز على هذا الخطأ أو ذاك من جانب القيادة البلشفية. ومثله مثل لينين، أكد دائما أن البيروقراطية نشأت من الظروف المادية، وخاصة تخلف روسيا.

كان ضعف الطبقة العاملة في روسيا هو المصدر الحقيقي للمشكلة. فبعد أن أهلكتها الحرب العالمية والحرب الأهلية، أصبحت الآن مطالبة بإدارة شؤون الدولة. أدى ذلك إلى امتصاص أفضل العمال وكوادر الحزب في الدولة والأجهزة الاقتصادية. وقد كان ذلك طبيعيا لأن الحزب والطبقة العاملة كانا بحاجة إلى ممارسة السيطرة على الدولة:

«ما يزال يتعين علينا أن نتطلع إلى فترة طويلة جدا، سيشغل خلالها أعضاء الحزب الأكثر خبرة والأكثر نشاطا (بمن في ذلك، بطبيعة الحال، أولئك الذين هم من أصل بروليتاري) مناصب مختلفة في الدولة، والنقابات، والتعاونيات، والأجهزة الحزبية. وهذه الحقيقة في حد ذاتها تنطوي على خطر، لأنها أحد مصادر البيروقراطية»[6].

إن حقيقة أن الشيوعيين كانوا قد خاضوا الثورة وكان لهم تاريخ طويل في النضال داخل الحركة العمالية، لم تكن ضمانة ضد البيروقراطية. لقد رفض تروتسكي تلك الفكرة ووصفها بأنها “صنمية مبتذلة”[7]. وأوضح كذلك:

«إن الممارسة البيروقراطية اليومية للدولة السوفياتية برمتها تتسلل إلى جهاز الحزب وتُدخل البيروقراطية إليه. الحزب، كمجموعة، لا يشعر بقيادته، لأنه لا يدركها»[8].

في الأساس، كانت البيروقراطية تزحف على الحزب بشكل مستتر، ولهذا السبب لم يتمكن العديد من البلاشفة من رؤيتها في ذلك الوقت. في النهاية، لم يكن من الممكن حل تلك المشكلة إلا من خلال نجاح مسار الثورة في أوروبا والتطور الاقتصادي، «لكنه سيكون من الخطأً الرفض القدري لكل مسؤولية عن تلك العوامل الموضوعية»[9]. لقد كان من الضروري فضح تلك السيرورة حتى يتمكن الحزب من محاربتها بوعي. كان هذا هو جوهر “المسار الجديد” الذي اقترحه تروتسكي.

تحليل تروتسكي للوضع داخل الحزب البلشفي في ذلك الوقت له تطبيق أوسع بكثير. فمقالاته تشرح العلاقة بين القيادة والقواعد، بين المركزية والديمقراطية، وبين التقاليد والمبادرة. كما يوضح حاجة الحزب إلى إعادة توجيه نفسه، وتغيير طريقة عمله. وهذه هي المسائل التي سيكون لها صدى لدى الشيوعيين اليوم والأسئلة التي يواجهونها في بناء الحزب.

لقد أدرك كل من لينين وتروتسكي أن الشباب هم المفتاح لمستقبل الاتحاد السوفياتي. ومثلما تجد جميع المنظمات الثورية قواها وطاقتها في الشباب، فإنه يجب على البلاشفة الموجودين في السلطة أن يجدوا قواهم وطاقتهم في الشباب. وكان هذا السبب بالذات هو الذي جعل المعارضة تجد قاعدتها الأقوى بين الشباب.

كانت إحدى المسائل الرئيسية التي أكد عليها تروتسكي هي الحاجة إلى تشبيب الحزب من خلال فتح المجال لجيل جديد من أعضاء الحزب للانخراط في المسؤوليات داخل الحزب. وهذا يعني بطبيعة الحال تكريس الوقت والجهد لدمج الشباب ورفع مستواهم:

«لن يتمكن الحرس القديم من الحفاظ على نفسه كعامل ثوري إلا من خلال التعاون النشط المستمر مع الجيل الجديد، في إطار الديمقراطية. وإلا فإنه، بطبيعة الحال، قد يتحجر ويصبح عن غير قصد التعبير الأكثر اكتمالا عن البيروقراطية»[10].

لقد رسم هنا خيارا واضحا للجيل الأكبر سنا في الحزب. فإما أن يتعاونوا مع الجيل الجديد ويدمجوه، مما يتيح له المساحة للنمو. أو أنهم سيصبحون جزءا من المشكلة.

لقد اهتم تروتسكي بشكل خاص بكيفية تناوله لهذه المسألة، لأنه رأى كيف أن التكوين والتدريب أصبحا بالفعل شكليين وجافين، وبعيدين عن الحياة الواقعية. وهاجم “الطريقة التربوية الأستاذية البحتة”[11] لرفع المستوى الأيديولوجي. وقال إنه بدلا من ذلك على كل جيل أن يتملك النظرية بنفسه:

«ولهذا السبب فإن الوسائل التي يتم من خلالها نقل التقليد القتالي للجيش، أو التقليد الثوري للحزب، إلى الشباب لها أهمية كبيرة. فبدون توريث مستمر، وبالتالي بدون تقليد، لا يمكن أن يكون هناك تقدم مستقر. لكن التقليد ليس قانونا صارما أو كتاب وصفات رسمي؛ ولا يمكن حفظه عن ظهر قلب أو قبوله باعتباره إنجيلا؛ ليس كل ما يقوله الجيل القديم يمكن تصديقه بمجرد “كلمة الشرف”. بل على العكس من ذلك، يجب تملك التقليد، إذا جاز التعبير، عن طريق المخاض الداخلي؛ يجب أن يتم التوصل إليه بمجهود ذاتي وبطريقة نقدية، وبهذه الطريقة يتم استيعابه. وإلا فسيتم بناء الهيكل بأكمله على الرمال»[12].

لم تكن مقاومة الفئة الأكبر سنا من أعضاء الحزب ظاهرة جديدة، بل كانت نزعة توجب على لينين أن يحاربها مرارا وتكرارا، وكثيرا ما كان زينوفييف وكامينيف وستالين يظهرون على رأس تلك النزعة. كان لينين يسميهم “البلاشفة القدامى” أو “أعضاء اللجنة”. وقد لعب هؤلاء الأشخاص دورا محافظا في كل منعطف حاسم من منعطفات الثورة الروسية.

«تتمثل اللينينية في التحرر بشجاعة من النزعة المحافظة المتشبثة بالماضي، ومن التقيد بالسوابق والمرجعيات والاقتباسات الشكلية البحتة»[13].

كان الحرس القديم، في نضاله ضد لينين وتروتسكي، يلجأ باستمرار إلى “تقاليد الحزب البلشفي”. وقد هاجم تروتسكي اللجوء إلى التقاليد باعتباره نزعة معادية تماما للثورة. وقارن ذلك بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، الذي أصبح، خلال فترة الهدوء النسبي في الصراع الطبقي، موبوءا بشكل خاص بهذا المرض:

«هذا التقليد، الذي هو غريب تماما عنا، يحمل طابعا شبه تلقائي: فكل يوم هو استمرار “بشكل طبيعي” لليوم السابق، تماما كما أنه يحضر “بشكل طبيعي” لليوم الذي يليه. كانت المنظمة تنمو، وصحافة الحزب تتطور، وصندوقه يمتلئ…

في هذه التلقائية تشكل كل الجيل الذي جاء بعد بيبل: جيل من البيروقراطيين، والتافهين، والأغبياء الذين انكشفت شخصيتهم السياسية بالكامل في الساعات الأولى من الحرب الإمبريالية»[14].

عند المنعطفات الحاسمة في التاريخ، تصبح التقاليد التي تمت صياغتها في فترة سابقة عائقا هائلا أمام التطور المستقبلي للحزب. ليس غريبا حقا أنه يتوجب على أولئك الذين يريدون كسر القيود التي يفرضها المجتمع القديم على الاقتصاد، لكن أيضا على عقول وأفكار البشر، أن يناضلوا باستمرار لتحرير أنفسهم من الروتين والنزعة المحافظة.

«في كل مرة تتطلب الظروف الموضوعية منعطفا جديدا، وتحولا جريئا، ومبادرة إبداعية، تكشف المقاومة المحافظة عن ميل طبيعي لاستحضار “التقاليد القديمة” وما يسمى بالبلشفية القديمة، والتي ليست في الواقع إلا القشرة الفارغة لفترة صارت من الماضي»[15].

وصف تروتسكي كيف أنه خلال كل منعطف مرت منه الأممية الشيوعية حتى تلك اللحظة كان يستلزم دائما النضال ضد القوى القديمة، ضد العناصر المحافظة، بغض النظر عما إذا كان ذلك التحول تحولا إلى “اليسار”، إذا جاز التعبير، أو إلى “اليمين”.

يشرح تروتسكي كيف أن لينين في معركته ضد النزعة اليسراوية المتطرفة، في عام 1921، «قد أنقذ الأممية من الدمار والتحلل اللذان كانت مهددة بهما لو أنها سلكت طريق “اليسراوية” التلقائية وغير النقدية، والتي أصبحت، في فترة وجيزة من الزمن، بالفعل تقليدا متصلبا»[16].

إلا أن تكتيك الجبهة الموحدة الناجح الذي تم تبنيه بعد صراع عام 1921، أصبح عقبة في عام 1923. وكتب تروتسكي عنه أنه لعب “دورا خطيرا للغاية في أحداث النصف الأخير من عام 1923”. وبعبارة أخرى، فقد أدى إلى هزيمة الثورة الألمانية. وكانت هناك حاجة إلى منعطف جديد:

«لو أن الحزب الشيوعي غيّر وتيرة عمله بشكل مفاجئ واستفاد من الأشهر الخمسة أو الستة التي منحها له التاريخ للتحضير السياسي والتنظيمي والتقني المباشر للاستيلاء على السلطة، لكان من الممكن أن تكون نتيجة الأحداث مختلفة تماما عما شهدناه في نوفمبر»[17].

لقد وصف تروتسكي اللينينية بأنها “نظرية كفاحية حتى النخاع”[18]، وهو وصف جيد للغاية. إذ أنه في خضم النضال بالتحديد نختبر أفكارنا، ونحدد ما الذي يصلح وما الذي لا يصلح. نحن نتحقق من خططنا وخبرتنا ونظريتنا على محك الواقع:

«بمجرد انخراطك في النضال، لا تنشغل بشكل مفرط بالخطاطات والسوابق، بل انغمس في الواقع كما هو وابحث هناك عن القوى اللازمة لتحقيق النصر»[19].

إن مفتاح تطوير الخط السياسي الصحيح يبدأ من القيادة:

«الضمانة الأساسية، في هذه الحالة، هي القيادة الصحيحة، مع إيلاء الاهتمام المناسب لاحتياجات اللحظة التي تنعكس في الحزب، ومرونة الجهاز التي ينبغي ألا تشل مبادرة الحزب، بل تنظمها، والتي ينبغي ألا تخاف من النقد، ولا أن تخوف الحزب بفزاعة الفصائل»[20].

في ذلك الوقت، كان الحزب البلشفي قد بدأ يتصرف بطريقة معاكسة تماما. كانت الانتقادات توصف بأنها نزعة “فصائلية”، وتم خنق المبادرات، وكل ذلك باسم “الوحدة” والحفاظ على قيادة الحزب. لكن في الواقع، وكما أشار تروتسكي، لم تمنع مثل هذه التدابير تطور الفصائلية، بل على العكس من ذلك جعلتها أكثر حدة. لقد خدمت بشكل خاص الفصيل البيروقراطي، الذي ازدهر في المؤامرات خلف الكواليس بدلا من النقاش المفتوح.

«الديمقراطية والمركزية وجهان لتنظيم الحزب. والمهمة هي التوفيق بينهما على الوجه الأصح، أي على النحو الأمثل الذي يتناسب مع الوضع. خلال الفترة الماضية لم يكن هناك مثل هذا التوازن. مركز الثقل استقر بشكل خاطئ في الجهاز. تم تقليص مبادرة الحزب إلى الحد الأدنى. ومن ثم فإن عادات وإجراءات القيادة تتعارض بشكل أساسي مع روح المنظمة البروليتارية الثورية»[21].

ما يوضحه تروتسكي هو أن التوازن بين الديمقراطية والمركزية في المنظمة الثورية ليس ثابتا، بل يعتمد على الوضع. إن نتيجة الإفراط في المركزية هي حرمان قواعد الحزب من المبادرة والمشاركة. في ظل ظروف الحرب الأهلية، كان هذا بالطبع شرا لا بد منه، ولكن في ظل ظروف عام 1923، أصبح ذلك خطيرا.

لم تكن المشكلة مرتبطة بهذا “الانحراف المعزول” أو ذاك، بل بـ“السياسة العامة للجهاز، في ميله البيروقراطي”. لم تكن تلك مجرد مسألة تنظيمية، بل كانت ستؤدي حتما إلى التسبب في انحرافات سياسية:

«في مسار تطورها الطويل، يهدد التبقرط بفصل القادة عن الجماهير، وجعلهم يركزون اهتمامهم فقط على مسائل الإدارة، والتعيينات والتنقيلات، وتضيق أفقهم، وتضعف روحهم الثورية، أي تؤدي إلى انحطاط انتهازي إلى هذا الحد أو ذاك للحرس القديم، أو على الأقل لجزء كبير منه»[22].

يسلط تروتسكي هنا الضوء على وجه التحديد على المشاكل التي كانت ستعاني منها الأممية الشيوعية خلال العقود القادمة. وعلى الرغم من وجود فترات من الانحراف نحو اليسار المتطرف، فإن الانحراف في الأغلب كان نحو اليمين، وكانت العواقب وخيمة.

لم تلق نصيحة تروتسكي آذانا صاغية من قبل الترويكا وأنصارها. وفي مؤتمر الحزب في يناير 1924، وبينما كان لينين على فراش الموت، شرعوا بسرعة في إغلاق النقاش في برافدا، وقمع منظمة الشباب والمعارضة.

من الناحية السياسية، كانت البيروقراطية تعني إحياء النزعة المنشفية، على الرغم من أنها أصبحت الآن ترتدي ملابس “شيوعية” جديدة. لقد أحيت نظرية المراحل، وبدلا من عدم ثقة لينين في الليبراليين، دعت إلى التحالف مع “البرجوازية التقدمية”. وبطبيعة الحال، تم التخلي عن منظور الثورة العالمية لصالح “الاشتراكية في بلد واحد”، والتي كانت نقطة النهاية المنطقية لها هي سياسة “التعايش السلمي” المعادية للثورة التي تم اعتمادها في عهد خروتشوف. لقد عكست كل تلك الأفكار النظرة الضيقة للبيروقراطية الصاعدة، التي رأت في الحركات الثورية والمبادرة الثورية والروح الثورية تهديدا لها.

وضعت مقالات المسار الجديد الأساس النظري للمعارضة اليسارية ونضالها ضد البيروقراطية الصاعدة. لكن الأفكار الواردة في تلك الكتابات ليست ذات أهمية تاريخية فقط. إن الروح والأساليب الثورية التي دافع عنها تروتسكي هي الأساس الذي سيتم بناء الحزب الثوري العالمي المستقبلي عليه.

نيكلاس ألبين سفينسون

Trotsky’s struggle to rejuvenate the Bolshevik party


[1] L Trotsky, “First Letter to the CC”, The Challenge of The Left Opposition (1923-25), Pathfinder Press, 2019, pg 69

[2] ibid. pg 68

[3] L Trotsky, My Life, Wellred, 2018, pg 443

[4] R Gregor ed., “On the Intra-Party Situation”, Resolutions and Decisions of the Communist Party of the Soviet Union, Vol. 2, University of Toronto Press, 1974, pg 208

[5] E H Carr, The Interregnum 1923-24, The MacMillan Press, 1978, pg 307

[6] L Trotsky, The New Course, University of Michigan Press, 1965, pg 21

[7] ibid.

[8] ibid. pg 26

[9] ibid. pg 22

[10] ibid. pg 92

[11] ibid.

[12] ibid. pg 103

[13] ibid. pg 53

[14] ibid. pg 47

[15] ibid. pg 54

[16] ibid. pg 48

[17] ibid. pg 49

[18] ibid. pg 56

[19] ibid. pg 53

[20] ibid. pg 33

[21] ibid. pg 90

[22] ibid. pg 18